الفصل الرابع

قصيدة النثر الرمزية بعد عام ١٨٨٦م

(١) ١٨٨٧–١٨٩١م: الاختلاف: أنصار الشعر التحرري يهجرون قصيدة النثر والشعراء الكلاسيكيون يحافظون عليها، وخاصة في بلجيكا. القصيدة الفنية والرمزية: ميخائيل، ج. تيلييه، القصيدة «المحتدمة»: فيرهارين.
(٢) قصيدة النثر بعد عام ١٨٩١م: الحقبة الفردانية، الجيل الثاني من الرمزيين والنزعات الجديدة، الفوضوية الاجتماعية والأدبية، المؤثرات: مالارميه، لوتريامون، رامبو.
  • (١)

    أفول القصيدة ذات الشكل الصارم، ب. لويس، النثر «الموزون» ينزع إلى العودة إلى النظم: بول فور.

    شكل أكثر مرونة (بودليري أو رمزي): ميريل، سارازان، لوتريك، لورميل.

  • (٢)

    تعددية الأشكال (١٨٩١–١٨٩٧م).

    قصيدة النثر تميل نحو صيغة أكثر حرية وتقترب من الأنواع المجاورة:
    • (أ)

      النوع السردي: الرواية الشعرية (ريتيه، شوب)، الحكاية–القصيدة (راشيلد، جورمون، ﻫ. دي رينييه)،

    • (ب)

      النوع الوصفي: ورثة الرمزيين (بروست)، كلوديل و«معرفة الشرق».

      رد الفعل ضد الرمزية، ج. رينار، روبيل.

***

يرجع تعقيد الفترة التي سندرسها الآن — بالتحديد — إلى أن الميول الخاصة لكل شخص، وقد انحلت روابط «المدرسة» بسرعة بالغة، ستقوده بقوة أشد، أحيانًا إلى البحث في قصيدة النثر عن شكل فني جديد، مبني وموسيقي، وأحيانًا إلى أن يرى فيها أداة تمرد فوضوي، ولا سيما أننا نرى تعادل تأثير فاجنر مع التأثير الفوضوي في الأدب، ومع ذلك، يمكننا القول — على نحو مبسط — أن قصيدة النثر «الفنية» ستقدم اعتبارًا من عام ١٨٩١م، روائعها الأدبية، وستنجز أزهى إنجازاتها، فعبر تعددية الأشكال في السنوات التالية، وكلما ضعف التأثير الرمزي، تم التوجه نحو صياغات أكثر حرية، وأكثر فردية.

وفي فجر هذه المرحلة، التي ستشهد انتصار النظريات الرمزية والانحلال المتسارع للتجمعات، لا بد من الإشارة أولًا إلى أن مرحلة أزمة حادة لقصيدة النثر ستبدأ مع تبني «الشعر الحر»، فأخيرًا، تم اكتشاف الأداة الشعرية المرنة بما يكفي للتكيف مع كل تموجات حلم اليقظة، وكل انتفاضات الوعي، أداة الشعر الجديد، الموسيقية والإيحائية قبل كل شيء! هذا الإبداع لعَروض جديد، مؤسس على «الإيقاع» لا على «البحر»، يحدد القطيعة مع تقليد شعري بكامله، ويمثل — في نفس الوقت — حصاد قرن من الجهود الرامية إلى تحرير الشكل، وفيما بعد، سيعتبره البعض أحد التجديدات الأكثر خصوبة للرمزية، القابلة للاستمرار حتى بعد أفول الحركة الرمزية.١
إذن، ما الذي ستئول إليه — بعد ذلك — قصيدة النثر «المتجاوزة»؟ إذا ما كنا — ببساطة — نعتبرها شكلًا انتقاليًّا، محاولة أولى لتحطيم قيود العروض الكلاسيكي، فقد انتهى مبرر وجودها بعد اكتشاف الصيغة الإيقاعية الجديدة، وتلك وجهة نظر كثيرين من الرمزيين، وبشكل خاص «جوستاف كان»: فكما سبق أن قلت،٢ إذا ما كان ما يزال يخلط — في «قصور هائمة» عام ١٨٨٧م — بين الأشعار الحرة وقصائد النثر؛ فذلك لأنه لم يخرج تمامًا من تلك المرحلة الانتقالية، التي سيتأكد بعدها اعتباره من شعراء الشعر الحر المتعصبين، الشعر الحر الذي يشعر إزاءه بمشاعر أبوية للغاية! إنه — مثلما يقول في «مقدمة» عام ١٨٩٧م — «حصاد قصيدة النثر»،٣ والشكل الذي ينبغي أن يحل محل كل الأشكال الأخرى من الآن فصاعدًا، وسيحدد موقفه في مقال حول قصيدة النثر، قدمه عام ١٨٩٦م أيضًا إلى «روفي بلانش» عن «الأناشيد الغنائية» ﻟ «بول فور»: كي نقول كل شيء، يبدو لي أن قصيدة النثر كانت أكثر ضرورية في زمن بودلير مما في زمننا، وأعتقد أن المهمة التي كانت مهيأة لها، إذا ما كان الشعر القديم قد ظل ثابتًا، تقع الآن على عاتق الشعر الحر، الذي تتوافق أساليبه وحدوده تمامًا مع كل هذا المجال»،٤ وبالفعل، لم تكن قصيدة النثر — بالنسبة ﻟ «كان» و«دوجاردان» و«لافورج» و«موكيل» — سوى شكل انتقالي، تمت المحاولة فيه بتردد، ولم يتمكن أيٌّ منهم أن يمنحها أعماله الأدبية الرفيعة: ولا بد من الإقرار بذلك تمامًا، فكل الإنتاج النثري (قصيدة نثر أو نثر موقَّع) لشباب الانحطاطيين، حوالي عام ١٨٨٥م و١٨٨٦م، بضعفه ومظهره الهجين، كان يبرر تمامًا تخليهم عن جهودهم في هذا الاتجاه، «وسرعان ما لوحظ أن المحاولة في نطاق النثر الموقع لا يمكن إلا أن تكون طريقًا يتم السعي إلى اجتيازه، لكنه يتم التخلي عنه، بعد الاشتباه في أنه بلا مخرج»، مثلما سيكتب «دورني» عام ١٩١٢م،٥ والواقع (وكي لا نسهب في الحديث عن الرطانة المزعجة التي تجعل هذا النثر غير قابل للقراءة اليوم) أن هناك الكثير من الأبيات الفطرية والذكريات الشعرية المبهمة إلى حدٍّ مفرط، حتى ليتولد الانطباع بشكل هجين قصير العمر: فالشكل الوحيد الممكن لقصيدة النثر هو بالفعل … النثر، وهو ما أكدته في الفصل السابق.

هل سنشهد — إذن اعتبارًا من عام ١٨٨٧م — أفول قصيدة النثر، وهي تهبط الأفق كلما صعد الشعر الحر السمت الشعري؟ ليس هذا حقيقيًّا إلا بصورة جزئية فحسب: أولًا؛ لأن الشعر الحر لم يحقق الانتصار على الفور، فحركة الشعر الحر، ومعها الموجِّه «كان»، لا تمثل الرمزية، وخاصة في البداية: ففي النزاع الذي نشب في الفترة بين عامي ١٨٨٧م و١٨٩١م، بين «الفيرلينيين»، نسبة إلى «فيرلين» و«المالارميين» (نسبة إلى «مالارميه»)، احتفظ الشعر الكلاسيكي بأتباعه المخلصين لجمالية «مالارميه»، وهؤلاء لم يكونوا محقين — بل على النقيض — في التخلي عن قصيدة النثر، ومن ناحية أخرى، ستبدأ مرحلة فردانية مفرطة عام ١٨٩١م، وبشكل موازٍ لجهود «الفوضويين» المناضلين من أجل تفجير المراتب الاجتماعية، ستنحو جهود الكتاب إلى وضع كل الأشكال، من نثر وآيات وشعر حر، على قدم المساواة على الصعيد الأدبي، ﻓ «الإيقاع الشخصي» للكاتب هو وحده الذي يتدخل في الاختيار، وإذا ما كان بريق الشعر الحر قد دفع قصيدة النثر إلى الشحوب لفترة من الزمن؛ فذلك لأن أكبر الشعراء قد اتجهوا إليه: «رينيه» و«فيرهارين» و«فيلييه–جريفان»، لكن النثر — الذي أُهمل فترة كشكل شعري — سيأخذ بثأره في نهاية القرن.

لنبحث — إذن، عن كثب أكثر — مصير قصيدة النثر خلال هاتين المرحلتين: مرحلة الجماعات، ومرحلة الفردية.

(١) قصيدة النثر من عام ١٨٨٧م إلى عام ١٨٩١م

ما إن نبدأ الحديث عن «المدرسة» الرمزية، بعد البيان المدوي ﻟ «موريسا» المنشور في اﻟ «فيجارو»، حتى تتشكل — بالفعل — جماعتان مختلفتان إن لم تكونا متضاربتين: جماعة الشعر الحر («كان» – «لافورج» – «موريا») ولسان حالها «لي سيمبوليست»، و«المدرسة الرمزية والهارمونية» بقيادة «رينيه غيل»، الذي عرض عليه «إ. ريمون» المدير السابق ﻟ «سكابان» إدارة مجلة «ديكادنس»، ومنذ العدد الأول، يفسر مقال لغيل هذا الانشقاق: «تحت العنوان الشامل: الانحطاطيون» — مثلما يقول «غيل» — «تعرقلت طموحات متضاربة إلى حدٍّ زائد، وثمة أستاذان صديقان، متعارضان في وجهات النظر والاتجاهات، يحلمان بالحركة التي يؤسسانها: إنهما ستيفان مالارميه وبول فيرلين»،٦ لقد أراد أتباع الشعر الحر — تحت تأثير «فيرلين»، وبالمبالغة في اجتراءاته مثلما يؤكد «غيل» — أن يخلقوا شكلًا جديدًا، متحررًا تمامًا من القواعد القديمة للنظم، وعلى النقيض، كان «الشعر الكلاسيكي هو الوحيد» بالنسبة لأتباع «مالارميه»، وهم يزعمون إثراءه ﺑ «التوزيع الأوركسترالي للأبيات والقصيدة» (الذي كان «بحث في الكلمة» قد طرح نظريته): «أن نجعل الحلم يسيطر بفعل الرمز، والنشيد بفعل التنشيط المتوالي للكلمات، في المعنى والإصاتة، تلك هي إرادة هذه المدرسة»، عندئذٍ، يرصد «غيل» أعضاء هذه المدرسة المذكورة: ميريل، موريس، ف. مارجريت، لي كاردونيل، دارزين، كويار، ليو دورفيه، ومع هذه النواة، التي حاول أن يضم إليها «هنري دي رينيه» و«فيليه–جريفان» بلا نجاح كبير، سيؤسس — في يناير ١٨٨٧م، بعد اختفاء «ديكادنس» العابرة — «كتابات للفن»، باعتبارها لسان حال الجماعة التي سيسميها — من الآن فصاعدًا — «رمزية وأوركسترالية»،٧ انتظارًا لأن تصبح «تطورية–أوركسترالية».
والواقع أن ذلك هو ما نشاهده: ففي المجلات التي سترحب بجماعة الشعر الحر، بعد انشقاق أكتوبر ١٨٨٦م (إذ إن وجود مجلة «سيمبوليست» كان مؤقتًا مثل «ديكادنس» …) ستأخذ المساحة المخصصة لقصيدة النثر في التناقص، وستتناقص الحصة عكسيًّا مع حصة الشعر الحر (المتزايدة دائمًا): فلا تحتوي «كرافاش» (١٨٨٨-١٨٨٩م) سوى على بضع قصائد نثر لفيرهارين، وستنشر «روفي اندبندانت»، أداة الربط بين الرمزية الناشئة وأدب الأمس»،٨ كثيرًا من الشعر الحر اعتبارًا من اللحظة التي سيستدعى فيها «كان» إلى هيئة التحرير، لكن بلا قصيدة نثر تقريبًا عدا بضع «نثريات» لرينييه،٩ وتبدأ «أنترتيان بوليتيك إيه ليترير»، التي ظهر عددها الأول عام ١٨٩٠م، بعرض لفيليه–جريفان حول الشعر الحر، دون أن تحتوي إلا على ما ندر منها.
وبالمقابل، ظلت المجلات المتشيعة لمبدأ النظم الكلاسيكي تقبل دائمًا الكثير من قصائد النثر، وهو ما لا يجب أن يدهشنا: فمن المنطقي بالفعل أن تظل قصيدة النثر — بالنسبة للشعراء الذين لا يعترفون بالشعر الحر — وسيلة للتحرر من القواعد الصارمة والأوزان المنتظمة، في كل مرة يريد الشاعر أن يوحي بحالات للروح هاربة أو معقدة بشكل زائد، إلى حد معاناة تقطيع البحر السكندري بلا إجحاف، أو، ببساطة، كأداة لتحقيق «شيء مختلف» غير النظم، والعثور — في شكل مختلف تمامًا — على مخرج للاحتياج الذي لا يقهر أحيانًا إلى التحدي الشعري، هكذا، سيكون لمجلة «غيل»، «لي إكري بور لارت» — التي تطرح بشكل تمهيدي مبدأ «أبيات كلاسيكية، وهارمونية، وأوركسترالية حسب الاستخدام البارع للكلمات»١٠ — أن تنشر، في عددها الأول، قصيدتي نثر ﻟ «ج. بونان» – «الزنابق» (مهداة إلى «مالارميه») و«زهور سيف الغراب»، وفي الأعداد التالية، تنشر «منوعات» ﻟ «ﻫ. دي رينيه»، وفي ٧ أبريل ستنشر قصيدة «المجد» لمالارميه — التي تشوهت عام ١٨٨٦م في مجلة «لي زوم دي جورودي» — بعد «أن صُححت فيها علامات الترقيم»،١١ أليس «مالارميه» هو الرب الوصي على «المدرسة»، والشعر الكلاسيكي وقصيدة النثر؟ فقصائد النثر الأوركسترالية هي — في أغلب الأحيان — «مالارميه» في المفردات، حتى بعد ارتدادة «غيل» الذي سيصف «مالارميه» ﺑ «ديليل» وسيحرق ما كان يعبده،١٢ هي، بالإضافة إلى ذلك … ذات نزعة أوركسترالية: فمن بين ناثري الجماعة، استخدم البعض ببساطة، مثل «ستيوارت ميريل»، السجع والمحارفة بكثرة،١٣ بينما ذهب البعض الآخر إلى حد تطبيق النظريات «العلمية» المطروحة في «بحث في الكلمة»: والأسهل — فيما نعرف — أن نُركِّب الحروف المتحركة مع الساكنة لتحقيق أوركسترالية لفظية بارعة، عندما لا تضايقنا قواعد البحور والبحث عن القافية … وها هي محاولة عجيبة — في قصائد حول «الجهات الأصلية» — ﻟ «تحقيق هارمونية» حرف A، الذي أصبح أحمر بعد أن كان أسود، حسب التصنيف الذي وضعه «غيل»،١٤ وبالتالي يوضح جيدًا استدعاء «الغرب» وغروب الشمس:

الغرب الهادئ يزفر. وفي الاحتدام الشرس الأرجواني، في المتعة القرمزية التي أترعت الروح بسخاء، وهي تختلج – في المرتفع (كذا) المرتفع، في غثيان العواطف عندئذٍ في السكينة المجاورة،

في الجاذبية الخضراء المزرقة للهاويات المقابلة، يغشى عليها.١٥
Ahanne يزفر، altime مرتفع، attenante المجاورة … فأن نجعل الصوت يسيطر هكذا على المعنى، فإننا نتورط في طريق يؤدي مباشرة إلى «إيزيدور إيزو»، ولا شك — في كل هذه الحالات — أن أنصار التوزيع الأوركسترالي، مع تنحية «ستيوارت ميريل» جانبًا، قد انقادوا، بروح النسق، إلى أبشع التفخيمات،١٦ ونستطيع القول، فضلًا عن ذلك، إن الشعراء ذوي المكانة قد تخلوا — بعد عام ١٨٩١م — عن «غيل» والمأزق الذي يورطهم فيه.
ونستطيع أن نذكر هنا اسم شاعرين «كلاسيكيين»، لكنهما ليسا من أنصار «التوزيع الأوركسترالي»، مارسا — إلى جانب الشعر الكلاسيكي — قصيدة النثر كشكل أكثر مرونة، وقابل أيضًا للمؤثرات الفنية، وثمة مصير مشترك يجمع أيضًا اسميهما، فميخائيل وجول تيلييه، اللذان توفيا في شبابهما، لم يتمكنا من إظهار قدراتهما، وأعمالهما (التي جُمعت في دواوين نشرت بعد وفاتهما) شاحبة كالأشباح، مثل اسميهما، بالنسبة لنا اليوم، ألا يراودنا الابتسام بريبة عندما نعلم أن «جيد» و«فاليري» قد وضعا «ميخائيل» على نفس مستوى «رامبو» و«مالارميه»؟١٧ فنثريات هذا الشاعر الرقيق (ما دامت هذه هي العبارة الشائعة …) السوداوي والمتصنع إلى حدٍّ ما، تكشف عن ميل رمزي للمشاهد المحملة بالمعنى، وﻟ «التوافقات البارعة التي تربط الروح بالعالم الخارجي»: ويكتب «ر. دي جورمون»، الذي كرس له «قناعًا»، أنه «منجذب بشكل خاص إلى الحكايات الدالة التي تكشف حالة «روح مبهمة»،١٨ ولا شك أن «ميخائيل» كان أصغر سنًّا من أن نرى في مؤلفاته عبور انعكاسات الأسماء الكبيرة والموضوعات الأدبية الكبرى لعصره: وتقدم «هالزارتير» شخصية «الموجِّه» التي تذكرنا ﺑ «فييه دي ليل–آدام»، وتعرض «المنعزل» سلسلةً من التنويعات حول موضوع «أي مكان خارج العالم»، المستعار من «بودلير»، و«الأسيرة»، الأميرة الباردة المحروسة بصورتها المنعكسة في مرآة، وأسيرة جمالها، هي قصيدة مالارميه تمامًا؛ لكن لهذا السبب بالتحديد، تعتبر بعض قصائد «ميخائيل»، «أثر سفينة» و«محل الألعاب»، نماذج مكتملة لقصائد النثر الرمزية، وتتخذ من الرمزية كل النزعات والموضوعات الأساسية، والبحث عن الموسيقية، والمثالية الهامسة، وصولًا إلى قطع الجمل وعادات المفردات. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن قصيدة مثل «أثر سفينة» تكشف عن أهمية تاريخية:

على يشب البحيرة، تشق سفينة شراعية من الأبنوس ذات أشرعة سوداء، مندفعة بلا مجذفين، أثرًا طويلًا من الجليد. نحو الغرب تمضي ببطء، آه! ببطءٍ إلى حد أن نكاد نسمع فيه رعشة أشرعتها الحزينة، ورغم … ففي الفتور الساكن لليل، ألتقط الآن صوتًا روحيًّا هو صرخة تطلقها روح السفينة الشراعية.

روح السفينة الشراعية تتأوه، و، في هذا التأوه الغريب، تتعرف روحي — مثلما تميز الحواس بين رائحتين مختلطتين — على الملل والهلع. إذ إن السفينة تشعر منذ ساعات بالسأم من أن ترى خلفها دائمًا هذا الأثر بلون الكفن، كانت تريد الهرب منه، لتستلقي هناك، بالقرب من القصور السحرية من النحاس الأحمر التي شيدتها الشمس الغاربة، أو أن تقف في صمت كي لا تصبح البحيرة حولها سوى سهل من الرخام.

لكن ريحًا قاهرة تنفخ بلا هوادة أشرعتها، وهي نفسها التي تحفر بغاطسها الثقيل الأثر الذي يثير مللها وهلعها.

عندئذٍ، يهمس في الفضاء البنفسجي لليل صوت غامض للغاية وحميم للغاية إلى حد أنني لا أعرف إن كان يأتي من السفينة الشراعية أم من روحي: «آه! لن أرى بعد ذلك أبدًا خلفي، على بحيرة الأبدية، الأثر الشرس للزمن».١٩
وثمة دراسة كاملة يمكن القيام بها حول «التقنية الرمزية» في هذه القصيدة: التكوين العام، مع حركة الانثناء هذه، هذه اﻟ «لكن» التي كثيرًا ما تعلن — في القصائد الرمزية — عن نهاية استسلامية، عن خيبة، وعن التحقق من أنه لا يمكن تغيير أي شيء في نظام الأشياء،٢٠ الذي يتوافق مع موقف عقلي في مواجهة الحياة، وتكوين الفقرة مع التكرارات: «تمضي ببطء – آه! ببطء إلى حد أن …»، «صرخة تطلقها روح السفينة الشراعية، روح السفينة الشراعية تتأوه، و، في هذا التأوه الغريب …» تكرارات ليس تأثيرها «موسيقيًّا» فحسب هنا، بل هو نفسي أيضًا (انطباع البطء، والانتظار الساكن، والوقوع في شرك «بحيرة الأبدية»)، وأخيرًا في الأسلوب، في البحث عن «التوافقات»: أحاسيس متزامنة (الفضاء البنفسجي لليل)، أو تداعيات الملموس والمجرد (رعشة أشرعتها الحزينة)، كل هذا من أجل استخدام الموضوع الرومانتيكي، العادي بالتأكيد، عن هروب الوقت، من خلال رمزية مصطنعة إلى حدٍّ بعيد: لم يعد ثمة أي واقع في هذه السفينة الشراعية «بلا مجذفين»، سوى في «الصوت المثالي» الذي يصدر منها، بحيث أن مركب «إلفير» كان أكثر صلابة، ويظل كل هذا لعبة ذهنية، فقاعة صابون بألوان قوس قزحية براقة نراها تصاعد في حجرة مغلقة جيدًا؛ إذ إن نفثة هواء باردة قادمة من الخارج يمكن أن تفضها: لكن مشاهدة الألوان شيء ممتع، والفقاعة منفوخة بالفن، نلمس هنا إتقان نوع (على جانب كبير من الدقة): ما من شائبة، ولا لغو، دراية بالتعبير عن المشاعر، وإيجاز في النغمة والأسلوب، وهما — رغم كل شيء — من علامات الكلاسيكية.
وشخصية «جول تلييه»، الأكثر نشاطًا، مختلفة إلى حدٍّ بعيد، إنها شخصية مدافع عنيد عن الفن الكلاسيكي٢١ (كان ينتمي إلى نفس «الكنيسة الأدبية» التي ينتمي إليها «موريا» و«مورا» و«باريه» و«ريمون دي لاتياد» …) وخطيب واعٍ بذلك: وقد وضع للوقائع التي يلقيها في «الحزب القومي» عنوان «يوميات خطيب»، والجمل المهيبة التي خصصها «باريه» ﻟ «النثريات المصقولة» — حيث خلط صاحب النزعة الإنسانية هذا، ذو الخمسة والعشرين عامًا «الذي أحب بشكل محموم الصداقة، والجمال، واليأس، في مادة رائعة، مجاملاته الثلاث»٢٢ — تسحق إلى حدٍّ ما — ربما — مهابة «تلييه» تحت المهابة البارية (نسبة إلى «باريه»)، لكنها تشكل — رغم هذا — علبة جواهر جديرة بهذه «الخطابات الحارة»، حيث يكتشف مؤلف «عن الدم، عن اللذة، عن الموت»، وبمحبة، «عظمة الموت»،٢٣ ويشبه «باريه» و«بول جيجو» (في «مدخل إلى ذخائر ج. تيلييه»)، هذا النثر الموزون بعظمة النثر الجيراني، لكننا لا نجد لدى «م. دي جيران» هذا الاستخدام القصدي لعلم البلاغة، الذي يستخدمه «تلييه» لمنح «قيمة غير مألوفة لأقل الكلمات واستخلاص بلاغة ما من الاستخدام المتكرر ﻟ لأن، ومثل، وقس على ذلك، التي يحكم بها جملته بقوة»،٢٤ وتعد الجملة الأخيرة من «سهول» نموذجًا لبنية بارعة، ولمسيرة محسوبة، تؤدي خاتمتها، المتراجعة والمرجأة دائمًا، إلى أن تفجر — في ختام القصيدة — شهاب الإيحاء المضيء:
… يذكرني بليلة من مراهقتي حيث كنت أمضي وحيدًا، عبر ثلوج صقيلة مجاورة لهارفلور، كنت أتقدم بلا رفيق على الطريق بلا عقبة، في الفراغ الممتد إلى الأمام كما إلى اليمين، إلى اليسار كما في الوراء … وفي السماء الغامضة، كانت هناك طرق بيضاء مثلما على الأرض: والغريب أن كوكب مارس الدامي كان يلتمع أمامي فيها وحيدًا أيضًا؛ ولأنه كان الشيء الوحيد المميز والمحدد أمام عيني هذا المساء؛ ولأنني حقًّا لم أكن أدرك أي هدف آخر سواه في هذه العزلة؛ وأيضًا لأن مسيرتي كانت أقل أرضية مما هي أثيرية، وأن قوامي كان شيئًا فريدًا معزولًا بين الأرض والسماء، لم يعد بمقدوري أن أتذكر ليلة مراهقتي دون انفعال حين أتيح لي لفترة طويلة أن أسلك طرقًا تنوء بالعزلة والجليد، ولم تكن تفضي إلى أي شيء آخر سوى كوكب مارس الأحمر …٢٥

وكما نرى، فالبلاغة هنا تخدم الشعر؛ لأن المنطق الذي ينظم هذه الجملة هو منطق شعري، مرهف للغموض الليلي وﻟ «الإشارات» السماوية الأثيرة لدى «م. دي جيران» و«إ. بو»، بقدر ما تسعفنا الذاكرة.

وينبغي أن نعترف بأن «تلييه» لم يكن دائمًا بهذا التوفيق، وأنه يلتزم أحيانًا بهم الكمال الشكلي الذي كثيرًا ما يقوده إلى العثور على صيغة قصيدة النثر ذات المقاطع، وإلى التماثلات المصطنعة غالبًا، ثمة شيء مصطنع في هذه الجمل المتناغمة من «ليلية»: «لأنه البحر المقدس، البحر الغامض … هو البحر الذي كانوا يمخرون فيه في سالف الأزمان … وهو أيضًا البحر …»،٢٦ وأكثر أيضًا في التماثلات البارعة في «هيسبيروس»: «خارج الظلمات، روحي، خارج الظلمات! … — خارج النور، روحي، خارج النور! … — …»٢٧ (يتوازى المقطعان الأولان حتى في التفاصيل، مع ثلاث علامات تعجب، وجزأين متماثلين: «خارج الظلمات الروحية … خارج الظلمات المادية»، «خارج النور الروحي … خارج العبارة»)، هكذا يصل «تلييه»، في عبادته لجمال مرمري، إلى صياغات ذات كمال جامد، نشعر به أحيانًا وهو مقيد بذكرياته الكلاسيكية، من هنا، يكمن المبتذل: «ظهرك، عندما تنحنين، مثل مائدة قد تكون مصنوعة من ورد وعاج»، في قصيدة تمثل — فضلًا عن ذلك — شرحًا لأحد نصوص «روتيليوس ناماتيانوس»٢٨  ،٢٩ وينوء بوطأة معرفته (إذ لا تمتلئ اﻟ «ليلية» على البحر بالرذاذ والطعم المالح للأمواج، بل بعذابات «عوليس»، وأناشيد «هوميروس»، وموت الإله «بان» العظيم …) وسيكون من الإجحاف أن نتعامل مع القصيدة بالمعنى الحرفي، لكنه لن يكون من المبالغة ربما أن نقتطع على سبيل البيان ما يقوله في «خطاب إلى المحبوبة»:

ورغم هذا جعلوني أدرس تحت إشراف أساتذة بارعين: لكن مع الأذن الموسيقية، أصبحت شاعرًا مملًّا، ومع طلاقة اللسان، خطيبًا رديئًا، ومع الذاكرة نحويًّا كريهًا.

أصبحت مهذبًا شيئًا فشيئًا، مثلما تحت ثقل خفي، وكبل أعضاء وروحي إرهاق غامض، وكنت أرى كل شيء في ضوء غسقي مبهم وحزين، مثلما في نهاية أصيل شتوي …٣٠

ورغم كماله وإيقاعه الباهر، يعود بنا هذا الشعر إلى الوراء، بل أكثر أيضًا من شعر «ميخائيل»: ففي عام ١٨٩٠م، حيث سينشر ديوان «بقايا ثمينة» (الصدفة الأخيرة والمؤثرة)، سيبدو هذا البحث عن الكمال الشكلي، وهذا الوزن، وهذا الابتعاد عن الحياة الحقيقية، كثمار لفن يفتقر إلى الحيوية، وتم تجاوزه.

(١-١) الانتعاش البلجيكي

وفي بلجيكا، في الفترة من عام ١٨٨٧م إلى ١٨٩١م، كانت قصيدة النثر هي الأكثر ازدهارًا: والواقع أن تأثير الرمزية لن يكون محسوسًا إلا متأخرًا (رغم نشاط بعض الرواد)، وسنشهد في المجموعات البارناسية، التي ظلت متعددة، تعاقب الشعر الكلاسيكي وقصيدة النثر، ويبدو أن كوكبة من الكتاب البلجيكيين الشبان قد وجدت في قصيدة النثر — أكثر مما في الشعر الحر، ربما — نمط التعبير الملائم لمزاج فني أكثر تصويرية من كونه موسيقيًّا،٣١ ويلائم الميل إلى الأشكال الراسخة أكثر من السلاسة الرمزية.
وسيكون لمجلة «جون بلجيك» — رغم اسمها — أن تجمع القوى الرجعية بعد عام ١٨٨٦م: فبعد أن أعلنت في عددها الأول، في ديسمبر ١٨٨١م، أنها لن تتبع «أية مدرسة»، بل بعد أن كانت لبعض الوقت ضمن طليعة الحركة الأدبية، فإنها لن تلبث أن تبدو أقرب إلى البارناسية من الرمزية. ولن يمنح مديروها — «أ. جيرو» و«جيليكان» و«فاليرجيل»، الذين يكتبون هم أنفسهم شعرًا كلاسيكيًّا — سوى مساحة محدودة، وبشكل عارض أيضًا (من عام ١٨٩٠م إلى ١٨٩٢م)، لشعراء الشعر الحر، وبالمقابل، سينددون — اعتبارًا من عام ١٨٩٣م، وبشكل صاخب — ﺑ «الرطانة الانحطاطية، والرمزية، والتطورية، والأوركسترالية»،٣٢ وسيوبخ جيرو «فيرهارين» لأنه تجرأ وكتب أن الشعراء المعاصرين «يبحثون عن شكل لهم بأنفسهم، ويشتقون نظامهم ولا يخضعون إلا لقواعد فردية»؛٣٣ ولأن النظم كان يعتبر شكلًا مقدسًا، ستمثل قصيدة النثر روح التجديد والحرية في «جون بلجيك»، رغم أن «جيرو» أعلن أنه غير متعصب لهذا الشكل «المخنث»، الذي «يخفي بسهولة مفرطة الطموحات العاجزة»، والذي أراد له أن يقتصر على معالجة موضوعات «لا تؤثر فيها موسيقى النظم»،٣٤ ورغم هذه القيود، أعادت «جون بلجيك» نشر عدة قصائد نثر مشهورة لمالارميه،٣٥ ونشرت مقالات حول نثريات «باربي دورفيي»،٣٦ و«فييه دي ليل–آدام»،٣٧ وفتحت أعمدتها لمقتطفات من النثر، ينتمي بعضها إلى «أشياء مرئية» أكثر من انتمائه للقصيدة،٣٨ وتسمى — فضلًا عن ذلك — «صور خاطفة»،٣٩ أو «تخطيطات»،٤٠ إلا إذا لم تتخذ سمة النقل عن اللوحات،٤١ وثمة مقتطفات أخرى موزونة في مقاطع من «أناشيد غنائية»، حسب صيغة «برتران»٤٢ وينحو بعض آخر، إذ مرت الرمزية من هنا، نحو مزيد من الغنائية،٤٣ أو الصورة الرمزية،٤٤ وربما خضع كثيرٌ من هؤلاء الشعراء الشبان — إلى حدٍّ مفرط — لتأثير الكتاب الفرنسيين الكبار الذين رفعوا من شأن قصيدة النثر: من هنا تكمن أحيانًا الذكريات المزعجة، حتى لو لم تكن سوى في «نبرة» بعض الجمل: عندما تذكرنا خاتمة تهكمية بقصيدتي «مباركة» و«الزمن الأنيق» لبودلير:
صديقة محبوبة وكريهة … لم أحب أبدًا سوى روحي الخارقة، روحي الشيطانية، روحي الغريبة والانتصارية!٤٥
بل تتحول إلى معارضة غير متعمدة، مثلما في بعض مقطوعات «ديزومبيو» على سبيل المثال، حيث لا نعثر فحسب على ديكور «مالارميه» بل على تعبيراته نفسها،٤٦ نقول ذلك عن «ديزومبيو» في «جون بلجيك»، ويمكننا أن نقوله عن الكثيرين غيره: «لقد قرأ كثيرًا، وحفظ، أحيانًا، إلى حدٍّ مفرط».٤٧
وأيًّا ما كان الأمر، يبدو افتعال قصيدة النثر في كل مرة يريد الكاتب الهرب من الروح البارناسية، ففي حديثه عن اللغة «السيالة والمرهفة» ﻟ «ﻫ. شينييه» في «روح الأشياء»،٤٨ يضيف «أرنولد جوفان»: «لا شك أننا سنجد في صفحات معينة، مثل تلك الشرعية المنتصرة لهذا الشكل الذي طالت مناقشته، لهذا الشكل الغامض لقصيدة النثر، الذي يتيح التحقق الأدبي لأحلام اليقظة المتماوجة هذه، التي يرفضها النظم الصارم والصريح إلى حدٍّ مفرط»،٤٩ وها هي — من هذا الديوان — مقطوعة مميزة للغاية (نُشرت في «مختارات» ريمون ويلدون)، ونُشرت في «جون بلجيك»، عدد مارس–أبريل ١٨٨٨م: وأوردها كمثال جيد للطريقة التي يتمثل بها الأدباء الشبان البلجيكون الاتجاهات الرمزية:

حلم المياه

تحلم المياه
تنزلق سمكةٌ كبيرة، تضيء الشمس ظهرها الحرشفي بالوميض الباهر، تنزلق مثل رغبة بطيئة، وعيناها الخضراوان تستكشفان بوداعة أعماق البحيرة، وتجوب زعانفها الوردية (البحيرة) بكس، إنها تنزلق مثل رغبة بطيئة للغاية.
تحلم المياه، وتحت وطأة الحلم الذي يعذبها تستلقي متعبةً من وجودها.
تمر عصفورة، وبجناحيها المبللين، تبذر في الفضاء لآلئ من نار. تقاطع أشعة ذهبية وها هي تختفي.
وتحت وطأة الحلم الذي يعذبها، تنظر إلى المياه، وهي مستلقية متعبة من وجودها، وتنظر إلى السحب اللامبالية في السماء.
«تعزَّوا، تقول لهم السحب، فما من روح يمكن أن تعلم حلمكم وتقتسم عذاباته، نحن نزور العوالم ولا نُفهم، تعزَّوا: جميعًا، نحن محكومون بأن نحمل وحدنا وطأة أحلامنا».

«حلم يقظة متماوجة»، إذا شئنا، لكن هذه القصيدة لا تقل عن ذلك «كلاسيكية»، ربما بتكوينها المقتصد، والتكرارات التي تؤكد البنية، والشكل المتقن والموجز، المفرط في إيجازه ربما، للإيحاء بتباطؤات حلم اليقظة، لا شيء هنا يذكر بمنحنيات الجملة البودليرية التي رأينا الرمزيين يستلهمونها بكثرة.

وتختلف عنها تمامًا رؤى «أرنولد جوفان»، المتأثرة بلا شك برامبو (ألا يستدعي العنوان نفسه اﻟ «إشراقة»؟) وﺑ «أناشيد مالدورو»، التي نشرت «جون بلجيك» مقتطفات منها:٥٠ هذيانات الرائي هذه، وهذه الجمل المجزأة التي تعذب اللغة، وتريد أن تستدعي «أقطارًا ملتبسة، متاخمة للجنون»،٥١ وتقوض أسس الواقع السوي: «إنها ذاتية إلى حد المغالاة»، مثلما سيقول «جيليكان» عن قصائد «جوفان»،٥٢ ولن نستطيع أن نقول ما هو أفضل من ذلك: وتتكشف لنا قصيدة النثر — هنا، بالتحديد — كرد فعل للفرد ضد المدرسة، للانفعال الذاتي ضد «البرود» البارناسي، وكفوضوية ضد القاعدة، ويمكننا أن ندرج، بالتوازي، ملحوظة «جيليكان» هذه وخاتمة المقال الذي نشرته «جون بلجيك» بعد موت «ميخائيل» لفيليه–جريفان الذي لا يخفي تفضيله لقصائد نثر «ميخائيل» على شعره البارناسي بإفراط، كان «ميخائيل» — الذي يثير ضيقه نظم الشعر — «يعبر عن نفسه أحيانًا بحرية أكبر في النثر»،٥٣ ويعود تاريخ المقال المشار إليه في نهاية عام ١٨٩٠م: هي الحقبة التي تنتصر فيها الرمزية في بلجيكا كما في فرنسا، ومعها حرية الشكل التي تتبدَّى من خلالها فردانية الشعراء.
وبديهي أن تكون مجلة «والوني» ﻟ «ألبير موكيل» هي لسان حال الرمزية في بلجيكا، من عام ١٨٨٧م إلى عام ١٨٩٢م (تاريخ اختفائها): رمزية انتقائية للغاية، ما دامت المجلة، المفتوحة على جماعة «كان»، تستضيف أيضًا المجموعة الأوركسترالية عام ١٨٨٧م، بعد غرق مجلة «إكري بور لار»، والواقع أننا نرى فيها، إلى جانب الشعر الحر لكان وموكيل وديلاروش … قصائد نثر لستيوارت ميريل على سبيل المثال،٥٤ لكننا نجد أيضًا في «والوني» — رغم الاتجاهات المتضاربة التي تتجلى في المجلتين — مجموعة «شعراء النثر المنتمين لمجلة «جون بلجيك»:٥٥ «ديتريه» و«ﻫ. شينييه» و«إ. جوفان»، وقد تضخمت ببضعة شعراء آخرين: «ديلشوفالوري»، و«ماك أولان» و«جاستون فيتال» (فموكيل نفسه سرعان ما توجه إلى الشعر الحر)،٥٦ وثمة كثير من قصائد النثر الوصفية في «والوني» مثلما في «جون بلجيك» («ألوان مائية» لجورج ديتريه،٥٧ و«مشاهد طبيعية صغيرة» لديلشوفالوري،٥٨ و«رؤى رمزية» لماك أولان)،٥٩ وبضع قصائد ذات مقاطع أيضًا،٦٠ لكن شعراء «والوني» الشبان كانوا متشبعين بشدة (وأحيانًا بشكل مبالغ فيه!) بالجمالية الرمزية: من هنا، يكمن ما نجده في قصائدهم من تفرد في الموضوعات والمفردات، وقد نقول عن طيب خاطر، في «المناخ»، إن نثريات «ماك أولان» و«ج. كيللر»٦١ و«ريفاكس»،٦٢ على سبيل المثال، رمزية صراحة، وستتيح نثرية صغيرة لديلشوفالوري، بعنوان «الغروب»، المستمدة من «تخطيطات صغيرة»،٦٣ التعرف على الطموحات الفنية والروحية المنتشرة، وأيضًا — للأسف — على التكلف الأخرق و«المنحط» اللذين ليسا، في هذه الفترة، وقفًا على الرمزيين البلجيكيين وحدهم:

يتذبذب الموقع وسط السلام الأزرق المسترخي لنهاية الأصيل، وفي الأفق، هناك عاليًا، الشمس شبه محجوبة بالأبخرة الشاحبة التي يطلقها فوق الفلفل الأخضر مرجان الأجمة، في هالتها الرخوة البرتقالية، قربان متوهج في وعاء قربان الغروب، صدقة محتضرة ومضيئة تحت كل رماديات السماء، وتصعد، نحو سر القربان المقدس الدامي، إلى هذه الأصابع غير المحسوسة التي تغيب، هنا على المذبح الحزين لقمم الشتاء — تصعد، في اندفاعة عفوية للغاية، في صلوات خشوع بيضاء، الأدخنة الباطلة للوادي الذي يحلم.

وينبغي، وسط هذا الفيض من قصائد النثر، أن ننحي جانبًا قصائد «فيرهارين» المنشورة في «سوسيتيه نوفيل» بين عامي ١٨٨٧م و١٨٩١م، وفي العدد الخاص عنه من «والوني» في مايو ١٨٩٠م،٦٤ ومن المهم أن نعلم أن حقبة قصائد النثر، في إنتاج «فيرهارين»، تتوافق مع الأزمة العصبية الحادة التي مر بها الشاعر بين عامي ١٨٨٥م و١٨٩٠م (التي دفع ثمنها قصائد «أمسيات» و«نكبات» و«المشاعل السوداء»)، ويبدو أن النثر كان بالنسبة له، في هذه الحالة المرضية من الاهتياج الذهني والمعنوي، مثل مادة قابلة للتشكل في كل الاتجاهات كي يخضعها للمسيرة المراوغة لذهنه، وأكثر أنماط التعبير أيضًا ملاءمة للتدفق الغنائي لنوع من البوح الجنوني، الذي يفور بالأفكار والصور، فمنذ عام ١٨٨٧م، عكست قصيدة «وحده تمامًا»، المنشورة في «سوسيتيه نوفيل»،٦٥ حالة روحية متشنجة بجملها العنيفة والمفككة:

عُقد ملتوية مثل عذابات، وابل من السهام مثل آلام، صلبان كبيرة مثل مكابدات، كماشات جبارة مثل الكروب، مسامير في الدم، أشواك في الجمجمة، آه! الآلام الشاملة عبر رغبتي في الصراخ، في البكاء، في العض، وفي الموت بالغيظ والحب والطيبة والرعب والغفران، الآلام الشاملة، في جسدي وروحي، ولا حتى الله، ولا السماء، ولا شيء — لاشيء! إن لم يكن سهلًا خاويًا، ببركه السرابية ذات الانعكاس والأشواك والمسامير والكماشات والصلبان والسهام وأنا نفسي، وحدي تمامًا للغاية، هناك!

وتدخلنا أيضًا أغلب القصائد المنشورة في «والوني» عام ١٨٩٠م في عالم داخلي مؤلم ومعذب: وسواء انطلق «فيرهارين» من منظر طبيعي حقيقي لإقامة التماثل مع «المنظر الطبيعي الذهني» لديه، مثلما في «عين بسكاي»،٦٦ أو أن يصور العالم وأفكاره — على النقيض — في شكل «مشهد رمزي يضم المشاعر والأشياء»، مثلما يكتب «ج. ميشو»،٦٧ فهي أيضًا خالقة لنثر آسر، يختلط فيه التجريدي بالتجسيدي في استعارات جريئة، وتختلج فيه المفردات وتركيب الجملة بنفس اختلاج الروح التي تعكسها، ويخضع الأسلوب لعذاب حقيقي، كما يكتب «إ. فونتين»، «كأنما من أجل ترجمة الأنا الغريبة للكاتب بطريقة ملائمة»،٦٨ وأدى تأثير «مالارميه» — الذي أعجب «فيرهارين» بنثره بصورة عمقة٦٩ — إلى حث الكاتب البلجيكي على زيادة تفكيك جملته، وترتيب الكلمات في نظام غير مألوف، ومضاعفة الإضمارات. وسندرك ذلك عند قراءة مطلع «كائنات مائية»:٧٠

هذا الكائن البحري الأخضر المزرق لأفكاري الذي يمثل الحلم الجميل والصامت، بين براعم بصلية، عائمة! كتلة من ماء ثقيل، ستنجلي عن حياة مفاجئة من الأضواء والأحجار، هل يتحرك الموج؟ — قل، إذن، أي اهتياج للمرايا في هذا الدولاب، حيث تبدو، النيران المنعكسة للثريات والمصابيح، منذ قرون — زبرجدات ضخمة — تنام في علب المجوهرات! نوم الجواهر والعيون مفتوحة، الزهور التي تشتعل، شمالية، أضواء مديدة تكتسي بغموض، بينما القاعة من بارود أبيض وذهب، يتربع، فوقه صيدها — ويسطع.

صافية وهاربة مثل حرائر وتوتياء أفكاري هذه التي تمضي بطيئة بطيئة، في هذه السيولة العائمة من الكريستال. وسط الحدائق الزمردية، على جوانب هشة من اللؤلؤ، في أعماق بيوت فجائية من الصدف، ما إن تُبنى حتى تتلاشى، إنه الوهم الذهبي، الفضي، القرمزي، القمري والشمسي، بالتأكيد! مع لا شيء في النهاية.

ويبدو أن هذا النثر المتنافر، والمتقطع، يترجم حالة السخط العقلي للشاعر بشكل أفضل من الأبيات التي كان «فيرهارين» يكتبها في نفس الحقبة، أيًّا كانت درجة قلقها أو عدم انتظامها. فمن ناحية أخرى، وبعد عام ١٨٩١م، العام الذي نحمن أنه شهد الشفاء التام لفيرهارين، كان عهد قصيدة النثر قد انتهى بالنسبة له: وسيقدم له الشعر الحر، فضلًا عن ذلك، شكلًا في التعبير مرنًا بما يكفي ليتابع «القوى الصاخبة» للحياة في كل اندفاعاتها،٧١ وسيختار، لنشرها في كتيب، بعضًا من أكثر قصائد النثر «وصفية»، بل سيخضعها — بهذا الهدف — للمسات خبيرة تكشف الأهمية التي يوليها لصنعة الشكل،٧٢ ثم سيبدو لا مباليًا تمامًا إزاء هذا النوع بالنسبة له،٧٣ إنه مثالٌ مميز لكاتب كانت قصيدة النثر بالنسبة له نمطًا في التعبير بامتياز عن حالة ذهنية فوضوية، خارج المعايير المألوفة، وفردانية محتدمة في آن: إذ يبدو أن «فيرهارين»، بعد عام ١٨٩٠م، وقد أصبح شاعرًا «اجتماعيًّا»،٧٤ وخرج من نفسه ليتبنى مباهج وآلام البشر، لم يعد بحاجة إلى ما كان، في الشكل المنثور، يسمح بسهولة للغاية بالتدفق الشخصي والبوح الغنائي.٧٥

هذا المظهر «الفرداني» لقصيدة النثر، الذي شهدناه لدى «فيرهارين»، وسبق أن لاحظناه أيضًا لدى «أرنولد جوفان»، يكشف — كلما تطورت الاتجاهات الفردانية — عن التخلي عن الأشكال الثابتة، ذات المقاطع أو اللازمات الغنائية، وتوجه النوع نحو أشكال أكثر شخصية بصورة صريحة، وأيضًا أكثر «نثرية» بوضوح، التي لن يسود فيها — بعد الآن — هم التقنية الفنية، بل — على النقيض — الإرادة الفوضوية في التحرر من التقنيات، وقد سبق أن قلت إننا كثيرًا ما كنا نجد — في نقطة انطلاق قصيدة النثر — فردانية فوضوية، تبحث عن تحطيم كل الأشكال المعروفة. لم يعد المقصود عندئذٍ إيجاد شكل يلائم الانفعال أو الفكرة الشعورية، مثلما في المساعي التي تقود إلى الشعر الحر: فتوتر كل قوى الفرد لمعارضة القوى المعيارية (التي تنطوي على طابع اجتماعي وجمالي في آن) ينحو لا نحو تحطيم حواجز الشعر فحسب، بل حواجز اللغة أيضًا، وإلى خلق شعر الرد المنعزل، شعر غير تواصلي، فمن توتر وفردانية من هذا النوع خرجت نثريات «رامبو» الوامضة، ومن جهد مماثل يسعى لتحطيم القواعد وتوسيع قدرات الفرد إلى الحد الأقصى، تنشأ — أيضًا — قصائد النثر ذات الطابع المفارق والأسلوب المتنافر غالبًا، الذي يكتب به، في فترة الأزمات، واحد من قبيل «فيرهارين» أو «جوفان». ولا شك أننا نلمس هنا «توليه أخيرة» لقصيدة النثر، ليس بعدها سوى الصمت، لكن دون التوغل إلى هذا الحد، يمكننا أن نكتشف — اعتبارًا من عام ١٨٩١م — أن الظروف الاجتماعية والثقافية ستساعد على مجيء أحد هذه العهود الأدبية التي تجرف فيها القوى الفردانية والفوضوية القوى المنظمة: وستعثر قصيدة النثر على حيويتها بمقاومة الامتثالية، و«النزعة الجمودية» الجمالية، والميول القطيعية لبعض الرمزيين.

ويمكننا القول إن قصائد نثر «ميخائيل» و«جول تلييه» — وهي كتيبات منشورة بلغة مؤثرة، في نفس العام (عام ١٨٩٠م مثلما رأينا) — «تغلق»، إذا صح القول، حقبة بأن تقدم مآل نوع من حيث التوازن الأدبي والكمال الشكلي، ويبدو أن قصيدة النثر قد بلغت حدود إمكانياتها عام ١٨٩٠م، وفي نفس العام، يشيد «ستيوارت ميريل» نصبًا تذكاريًّا حقيقيًّا بأن ينشر — في أمريكا — ترجمات للقصائد الأكثر «اكتمالًا» للثلاثة والعشرين كاتبًا فرنسيًّا، تحت عنوان «لوحات باستيل نثرية»،٧٦ وهكذا، ومع اقتسامه لهذه «الوليمة الأدبية التي تقدمها هذه الروائع الصغيرة من بلد آخر»،٧٧ في أمريكا، «حيث لم يكن هذا النوع قد زرع بعد»، مثلما يشير «م. ل. هنري»، فسيرسخ هذا «النوع» من قصيدة النثر التي اعتبر هو نفسه أستاذًا فيها.

لكن لحظة هذه «القمة» الخاصة بقصيدة النثر الفنية هي أيضًا اللحظة التي تشعر فيها أنها تتجمد وتجف (لأنه لم يعد بمقدورها أن تتطور فنيًّا)، وقد قُطعت نهائيًّا عن جذورها الحية، التمرد، والبحث، وروح المغامرة. ولا شك أن قصيدة النثر، المدركة كشكل أدبي صارم، دقيق، يسوده شاغل الفن والكمال الفني، ستواصل العثور على حرفيين، بل فنانين حتى، من أجل صياغة «روائع أدبية صغيرة»، ورغم هذا، يمكننا القول إنه اعتبارًا من عام ١٨٩١م، سيعود الجيل الثاني الرمزي إلى الموقف «الميتافيزيقي»، الذي كان موقف كبار الرواد (اعتبارًا من عام ١٨٨١م بالتحديد، سيبدأ نثر «مالارميه» و«لوتريامون» و«رامبو» في التأثير بعمق في الأذهان)، ولن يُنظر بعد ذلك إلى قصيدة النثر باعتبارها تمرينًا أدبيًّا، بل أداة جهد روحي، ومحاولة لتخطي الإمكانيات الطبيعية للتعبير من أجل خلق عالم شعري جديد، وعبر وفرة الأشكال التي تتفكك فيها قصيدة النثر (عودة ضرورية للفوضوية، التي ستجد فيها مبادئها الحيوية وإمكانية شيء آخر)، سننقاد إلى لقاء المحاولات التي قام بها — في اتجاهات مختلفة، من ناحية أخرى — بعض من أهم شخصيات العصر الشعري الجديد: «كلوديل» و«جيد» و«جاري»، على سبيل المثال.

(٢) قصيدة النثر بعد عام ١٨٩٠م

العصر الفرداني
اعتبارًا من عام ١٨٩١م، ستبدأ الرمزية في اتخاذ ملامح الحركة المعترف بها، بل المنتصرة، التي لم تعد أهميتها موضع مناقشة:٧٨ إقرار سجلته «وليمة» مجلة «بيلوران باسيونيه» حيث هلل مائتا فنان وشاعر، عبر «موريا»، للرمزية،٧٩ من خلال مقالات «برونتيير» و«أناتول فرانس»، وفي استقصاء «جول هوريه» حول «التطور الأدبي»، وسيتم الاعتراف بالشعر الحر في نفس الوقت، ويناقش ويسلم به — غالبًا — باعتباره شكلًا جديدًا لشعر جديد، ففي نوفمبر ١٨٩٠م، كان «برونتيير» يسخر من أشعار «كان» و«فيليه–جريفان»: «لا أعرف ما المعجزة الخارقة عندئذٍ في ألا يكون شعرًا أو نثرًا»، حسبما قال،٨٠ ومع ذلك، فقد سبق أن أقر أن «الرمزيين، باسم الشعر نفسه، قد عملوا من أجل تخليص الشاعر من القيود العبثية التي أوشكت أن تكون، وكانت — أكثر من مرة — عقبات أمام حرية التحرير»، وفي أبريل ١٨٩١م، وبعد أن اعترف بقيمة الشعراء الشبان، الذين ذكَّروا — بشكل مفيد — بأن «الرمز من جوهر الشعر»، أخذ يعلق بتعاطف على إصلاحاتهم في العَروض واللغة: ألا يسمح لهم على الأقل بمحاولة إصلاح اللغة الشعرية، مثلما حدث في حقب أخرى كثيرة؟٨١ غير أنه يحذرهم — رغم هذا — من مخاطر تعددية الأشكال التي تجازف بأن تؤدي إلى اللاشكلية: المراد ترويض الشكل وروحنته بلا حدود، فهل يمكن أن نجعله يتلاشى تمامًا؟ «ذلك ما لا يبدو لي مطلوبًا ولا ممكنًا»، حسبما يضيف بفطنة كافية، نتصور، رغم هذه الانتقادات، الثقل الذي يمكن أن يملكه الترحيب الذي أبداه واحد من قبيل «برونتيير»، في مجلة «روفي دي دوموند».
ومن جانبه، سيخصص «جول هوريه» جانبًا من استقصائه للشعر الحر، مُسجلًّا تصريحات «موريا» و«دي رينييه»، و«نظرية» الشعر الحر التي عرضها «كان» باستفاضة، وإذا ما حاول رباعي البارناسيين الأخير، بتهكمات أصبحت مبتذلة، أن يحطوا من شأن الشعر الحر المذكور إلى مستوى الشكل الهجين، الذي يتظاهرون بتفضيلهم النثر الخالص عليه،٨٢ فإننا — بالمقابل — نرى «أناتول فرانس» يساند المساعي الجديدة بسطوته: «فإلى جانب الشعر البارناسي، حسبما يتساءل، ألا يُسمح بالبحث عن شعر أكثر حرية ومرونة وأكثر حيوية؟»٨٣
وثمة واقعة أخرى، رسخت شهرة الرمزية، هي الميلاد المتزامن — تقريبًا — لعدة مجلات أدبية شابة لم تعد، هذه المرة، مجرد صفحات صغيرة عابرة وخصوصية، بل وسائل توزيع هامة: «بلوم»، التي تأسست عام ١٨٨٩م، و«إرميتاج» و«انترتيان بوليتيك إيه ليترير»، وبشكل خاص «ميركور دي فرانس»، عام ١٨٩٠م، هذه المجلات الصغيرة — التي يعلن «ميربو»، عام ١٨٩١م، أنها «أهم ما يمكن قراءته هنا حاليًّا»٨٤ — تضم طليعة المقاتلين، وتجتذب شباب المبتدئين في الأدب، وتنشر الأفكار الجديدة، والجمهور مهتم بالرمزية، بل يُفتتن بها إلى حد أننا سرعان ما سنقرأ — في مجلة «المناش دي باري باريزيان» — أن «أعلى مستويات الأناقة، لربة البيت، تتمثل في معرفة شاعر رمزي وتقديمه إلى ضيوفها».٨٥
ولا شك أن نجاحًا كهذا يمكن أن يسمح للرمزية بكل الآمال. غير أنه من المثير للقلق أن نشهد حركة — مؤسسة على التمرد والاستقلال — تصبح مدرسةً معترفًا بها رسميًّا، وتمتلك مقرًّا، ألن تتورط الاتجاهات الثورية للحركة، مع هذا الجناح، فتصبح تقريبًا بورجوازية؟ ثمة شيء رمزي في أن نرى «فيرلين»، البوهيمي والمتشرد، يستسلم للأعراف الاجتماعية، ويخصص — مثل «مالارميه» — يومًا للاستقبالات.٨٦
والواقع أنه — بعد عام ١٨٩١م، مثلما يذكر «ج. ميشو» — «تجمدت النظرية»،٨٧ ولا يعني ذلك أن الفوران قد اختفى من الأوساط الرمزية: ففي هذه المقار الثقافية، أي المجلات الصغيرة و(المقاهي)، تنطلق الاضطرابات والمناقشات الصارمة، لكن يبدو أن عبادة الجمال قد انحصرت — إلى حد ما — في مماحكات حول الأسلوب والتقنية، وفيما بعد، سيلوم «غيل» الرمزية — مفكرًا في تأثير «جوستاف كان» — «على قصر اهتمامهم تقريبًا على جمالية التعبير، و«الشكل» والعروض، والإيقاع للإيقاع»،٨٨ لكن «موكلير» يؤكد هذه الرؤية في ذكرياته: فبالنسبة للرمزيين في «انترتيان» أو «ميركور دي فرانس»، «سيطرت قضايا العَروض على كل شيء، آه! هذه المجادلات وأسواق عكاظ عن الشعر الحر، وحرف E الصامت، والسجع أو تعددية الأشكال! وكأننا وسط معلقين غنوصيين٨٩ أو قرآنيين مضجرين»،٩٠ تحول غريب للشعر الحر: شكل ولد من تحدي القوانين، ووجد نفسه الآن مقننًا ومنظمًا بفعل أكثر من «بوالو» يحملون أسماء «كان» أو «سوزا»، كان يمكن التنبؤ بذلك، إذا ما كان حقيقيًّا أن الحرية المطلقة في مجال النظم ليست سوى خديعة: ولا يقل عن ذلك حقيقة أن هذه المناقشات البيزنطية حول أمور التقنية نزعت — من ناحية — نحو تقليص الرمزية إلى محض نزعة جمالية،٩١ وخاطرت — من ناحية أخرى — بتأسيس امتثالية جديدة، ذات نظريات وتعاليم، و«طرق جاهزة»، ونشهد النثر — منذ ذلك الحين — في مظاهره المخلتفة، يواجه الشعر المسمى — بشكل تعسفي — «حرًّا»، باعتباره الشكل الوحيد الحر: ومثلما سيلاحظ «بليسيه» عام ١٨٩٨م، ليس الشاعر «سيد بيته»، مثلما يدَّعي «فيليه–جريفان»: «إنه النثري هو السيد على إيقاعه».٩٢
وينبغي أن نضيف أن الشعر الحر بدأ يعاني من اللوم الذي كان يوجه إلى شعر بعض شعراء الشعر الحر: شعر كان يعتبر — في بادئ الأمر — ذا جمالية «مغلقة» بشكل مفرط، ينعزل داخل ديكورات مصطنعة تعود إلى العصور الوسطى أو أسطورية، كي يزرع فيها حالات روح مرهفة وأحلامًا متلاشية، موليًا ظهره للحياة: هكذا الأمر لدى «كان» و«دوجاردان»، وحتى لدى «هنري دي رنييه»، ومن الطريف أن نكتشف أن «موريا» — بعد المبالغات الأدبية ﻟ «بيلوران باسيونيه» — قد أحس بالخطر منذ عام ١٨٩١م: فبعد ستة شهور من الوليمة الشهيرة، كتب في «فيجارو»: «لقد ماتت الرمزية التي لم تنَل سوى الاهتمام اللائق بالظاهرة الانتقالية، نحتاج إلى شعر صريح وقوي وجديد …»٩٣ (شعر أعتقد أنه موجود، مثلما نعلم، في «الحضارة الرومانية»). إن الشكل المتسق مع هذه الرهافات والتلاشيات و«ارتعاشات» الروح، قد استنفد في مساعٍ تتعلق بتنميقات ميلودية وظلال يمكن بالكاد إدراكها: هنا يكمن اللوم الثاني، الخاص بالتصنع، والغرابات اللغوية، وسوء استخدام الإصاتات «الإيحائية»، واختفاء الإيقاع في بعض الأبيات المكونة من ١٥ أو ١٧ جزءًا! وقد أعادت «لا بلوم» نشر مقطع «سعادة» — في ١٥ مايو ١٨٩١م — حيث يدين فيرلين «الألاعيب الحمقاء إلى حدٍّ ما» للأدباء الشبان، الذين يجعلون الجمهور يرتد للوراء.
وقد تلوَّى من الضحك المجنون أو تألم من الملل.

كان هذا قاسيًا حقًّا، لكن لنقرأ بعض إنتاج «كان» أو — الأسوأ — إنتاج بعض أتباعه!

وقد حدث أن شعراء الجيل الصاعد، المحبطين إلى حدٍّ ما من ركام القصائد الملتبسة والفاترة — حيث أصبح الشعر الحر مرادفًا للضعف الشعري، وحيث اضمحل الشكل (حسب تنبؤات «برونتيير») إلى حد الرغبة في تثبيت ما لا يمكن تحديده، وتحول البحث عن «الموسيقية الموحية» إلى نسق بحت — قد فضلوا على هذا الشعر الحر، الذي قدم القليل من الروائع الأدبية الأصيلة، الأشكال الأكثر صراحة وحدة: فبالنسبة للبعض (المجموعة الرومانية التي يجرها «موريا»)، هو الشعر القديم، الراسخ والموزون، وبالنسبة للبعض الآخر، مختلف أشكال النثر، التي تسمح لكل كاتب بأن يؤكد شخصيته بوضوح، وبأن يقاوم — عند الحاجة — الفيروس الرمزي، مثلما سيفعل «جول رونار» بطريقة مميزة في قلب مجلة «ميركور دي فرانس» نفسها.

وتتنوع الأشكال للغاية بعد عام ١٨٨٧م، ما دامت المفاتيح الشعرية تمتد من النثر إلى الشعر، الكلاسيكي إلى هذا الحد أو ذاك، مرورًا بكل أشكال الشعر الحر، وإذا ما تذكرنا أن بين النثر والنظم لا يوجد — بالنسبة للباحثين في جماليات الرمزية — سوى اختلاف في الدرجة، لا في الطبيعة، فإن هذا التعدد في المحاولات على كافة المستويات الوسيطة لا يتضمن ما يثير دهشتنا، حتى بعد انتصار الشعر الحر. لكن ينبغي أن نقول — بالإضافة إلى ذلك — إن تضارب الجهود الفردية، حيث يمكن لوحدة الرمزية أن تبدو مفككة (إذ من البديهي تمامًا أن هذه الاختلافات في الشكل تعكس اختلافات روحية أكثر عمقًا)، كان يكمن في واقع خط الحركة نفسه. كيف ننسى أنه في نفس المقال — المنشور في «انترتيان بوليتيك إيه ليترير» الذي لم يقدم أية قاعدة أخرى للشاعر سوى اقتفاء «إيقاعه الشخصي» بكل حرية٩٤ — احتفل «فيليه–جريفان»، عام ١٨٩٢م، ﺑ «هذه الفوضى الأدبية» التي من أجلها (مثلما قال) «كافحنا وها نحن نشهد فجرها».

(٢-١) الفوضوية الاجتماعية والأدبية

والواقع أن الفردانية الفوضوية كانت أساس الرمزية، التي اعتبرت تمردًا للروح سواء ضد الشكلانية الشعرية أو العقلانية الضيقة، وسيشير «ريمي دي جورمون» — عام ١٨٩٣م — إلى أن «الرمزية هي حرية وفوضى، وابنة النزعة المثالية، وهي تعني التطور التام والحر للفرد»،٩٥ موقف فرداني ينبغي — من ناحية أخرى (و«مالارميه» قد ذكر «جول هوريه» بذلك عام ١٨٩١م) — إعادة وضعه في سياقه التاريخي، وتفسيره بتقلقل اجتماعي متفاقم،٩٦ ولا يمكن فصل الكفاح من أجل تحرير الشعر الحر عن هذه الاتجاهات الفوضوية التي قادت جيل ما بعد عام ١٨٧٠م (اليائس من نظام اجتماعي وأدبي يخنق طموحاته، ولم يعد يؤمن بالقيم القديمة) إلى المطالبة بالحرية الكاملة في كافة المجالات، وقد حكى «أ. رينو» عن «تواطؤ الجماليين والرفاق الفوضويين»، وقد تناوبوا على الاجتماعات العامة أمام اجتماع «لم يستبقِ من هذه الخطب المشوشة سوى نقطة واحدة، هي مسألة هدم شيء ما»، ويهتف بالتناوب: «يحيا الشعر الحر!»، و: «تحيا الفوضوية!»٩٧
وبعد عام ١٨٩٢م وقضية «رافاشول»، لن تلبث الاتجاهات الفوضوية أن تتزايد في الوسط الثقافي، فخلال حملة جمع توقيعات «فنيون» و«برنار لازار» و«كيار» و«فردينان هيرو» و«ﻫ. دي رنييه» و«سان بول رو» و«فيرهارين» من أجل أبناء أحد شركاء «رافاشول» … شنت مجلة «انترتيان بوليتيك إيه ليترير» حملة صليبية من أجل الشعر الحر والفوضوية في آن، اللذين لا ينفصلان حتمًا،٩٨ وأصدرت مجلة «لا بلوم» — في الأول من مايو ١٨٩٦م — عددًا خاصًّا حول «الفوضوية»، ويؤسس «ب. ن. روانار» — البوهيمي والمتمرد — جريدة فوضوية (آن دينيور) التي اعتز «ستيوارت ميريل» بالمشاركة فيها،٩٩ وفي عام ١٨٩٤م، بلغ الفوران أوجه مع القضية الشهيرة التي تجاور فيها — في قفص الاتهام — مجرمون سياسيون وكتاب معروفون (مثل «فنيون»، الذي سيشهد «مالارميه» من أجله)،١٠٠ ويصعب أن نتخيل — اليوم — «هذا الاضطراب الثقافي، وكل هذا الغليان في الحروب الكلامية، والمفارقات، والسباب والأفكار»، الذي كان يملأ باريس كلها في هذه الحقبة،١٠١ ومن الطريف أن نعلم أن «مالارميه» نفسه، إذا ما كان خارج الخليط المشوش، إلا أنه كان يتحدث «بتعاطف» عن محاولات «رافاشول» و«فايان»،١٠٢ ويتعرف على نفسه — برحابة صدر — في شخصية «كاليكست أرمل» في «شمس الموتى»، حيث رسمه في ملامح فنان «محتج» و«ميال إلى الفوضوية».١٠٣
وكي ندرك معنى هذا الاضطراب كله، وهذا الغليان الذي امتد في الأوساط الأدبية مثلما في الأوساط السياسية، علينا أن نتأمل هذه العبارة التوجيهية لميربو التي وضعها «ليون ديشان» في صدر مقاله حول «الفوضوية» في «لا بلوم»، في الأول من يناير ١٨٩٤م: «الفوضوية هي استعادة الفرد»، وهي ليست صيغة معزولة، لكنها الفكرة الجوهرية التي يسترجعها كل الكتاب بلا كلل، وكل المنظِّرين، وكل المجادلين (ولا ينبغي أن ننسى العناوين التي يعطيها «باريه» لمؤلفاته التي سيكون صداها كبيرًا: «عبادة الأنا»، وهي ثلاثية نشرة بين عامي ١٨٨٨م و١٨٩١م، و«عدو القوانين»، عام ١٨٩٢م). لم تكن الفوضوية، مثلما أدركها كتاب هذه الحقبة، هي الفوضى والهدم بلا هدف، لكنها (في المجال الأدبي، مثلما في المجال السياسي) تمرد الفرد ضد نظام قائم يضطهده ويحذفه، وقد أوضحت في الفصل السابق أن هذا التمرد (الذي يتخذ شكل التمرد الميتافيزيقي لدى الفنان) يقود الكاتب إلى رفض العبوديات، سواء كانت عقلانية أو عروضية، والسعي إلى «الإبداع» بإبداع عالم جديد، غريب، يخضع له وحده ويستمد منه وحده قوانينه وتنظيمه الداخلي،١٠٤ وينبغي الإضافة — من الناحية التاريخية — أن ميول الكتاب الفوضوية، في الفترة بين عامي ١٨٩٢م و١٨٩٦م، دالة على حالة روحية، وعن نزوع «انفصالي» لن يلبث أن يتضاعف: فالكاتب سيصبح — أكثر فأكثر — طابعًا فردانيًّا، غير اجتماعي (وسينتهي هذا بالسرياليين إلى الحد الذي سيدمر فيه الأدب نفسه بنفسه، ويفنى في العدمية): فتاريخ الراهن — مثلما يقول «كامو» — «يجبرنا على القول إن التمرد هو أحد الأبعاد الأساسية للإنسان، إنه واقعنا التاريخي»،١٠٥ ومن هذا الواقع، ليس الأدب سوى أحد مظاهره.

ولأن التمرد والدعوى الفردانيين كانا في القلب من الرمزية نفسها، فسرعان سيبدأ كل شاعر طريقه الخاص، متخليًا عن كل علامة مدرسية، وما إن تحرر الشكل ذات مرة، بشكل نهائي، فلن يطيع سوى «إيقاعه الشخصي»، ومن بين شعراء الجيل الثاني الرمزي، سيصل البعض منهم إلى«صياغات» أدبية بسيطة، وبالنسبة لأفضلهم، لن تكون المساعي الشكلية سوى أداة غزو روحي.

(٢-٢) المؤثرات: مالارميه، لوتريامون، رامبو

هذه العودة إلى المغزى العميق، الإيكاري، لمحاولة تخطي «الأنواع» الأدبية، وإلى رفع القدرات الفردية للشاعر إلى أعلى مستوياتها في اللغة، تتزامن — ولا نملك سوى الاندهاش — مع إعادة طبع المؤلفات التي كان يصعب الوصول إليها حتى ذلك الحين (وقد اندفنت في المجلات الراكدة أو الطبعات المفقودة)، التي تكشف أنها — بالتحديد — أكثر محاولات «إعادة تنظيم» اللغة الشعرية إثارة للدهشة: قصائد نثر «مالارميه» و«لوتريامون» و«رامبو».

وثمة تواريخ كاشفة للغيب: ففي تاريخ قصيدة النثر، يعتبر عام ١٨٩١م أحدها؛ إذ شهد نشر هذه المؤلفات الثلاثة الكبرى لتطرح لأول مرة للجمهور العريض، ألا يمكننا أن نتأمل التوجهات الأدبية التي سترتسم؛ لأنه ذات يوم تصفحت يد ما — بشرود، في بادئ الأمر — الكتاب الذي تم شراؤه ثقة في بعض المقالات المنشورة في الصحف؟

وقد جمع ديوان «صفحات» — المنشور عام ١٨٩١م لدى «ديمان»، ولأول مرة — قصائد «مالارميه» النثر الاثنتي عشرة، المتناثرة حتى ذلك الحين في المجلات الصغيرة، وكانت فرصة للنقد كي يشير إليه ويدرس هذا النثر الفريد، كتب عنه «ب. كويار» في «ميركور»، و«فيليه–جريفان» في «انترتيان»، و«فيرهارين» في «أر موديرن»، التي خصصت له عدة مقالات. وقد أشار «هنري دي رينييه» — في «والوني» عدد شهري سبتمبر وأكتوبر — إلى جدة هذه اللغة «الإضمارية والمركبة» والجهد الذي بذله «مالارميه» في الجملة كي يمنح الكلمة قيمتها الكاملة: «إنه يعتني بفصل الكلمات التي وحدتها العادات السابقة، ولا يستخدمها إلا مصفَّاة ومستعدة للتنقيح عبر علاقات جديدة»، ولا شك أن «فيرهارين» قد توصل إلى الخلاصة الأعمق من قراءة هذه اﻟ «صفحات» عندما كتب: «تقديم المفهوم الجوهري للأشياء في عمقه من خلال العابر واليومي ليس سوى نتيجة لهذا الاتجاه الروحي في الكتابة القاطعة»،١٠٦ ونعلم أي تأثير هائل سيمارسه نثر «مالارميه» هذا، لا على «فيرهارين» فحسب، بل على الشعراء الشبان الذين كانوا يبدءُون وقتئذٍ الحياة الأدبية، ولن نستطيع أن نحصره في بضع عادات أسلوبية:١٠٧ لقد علَّم «مالارميه» الأدباء الشبان «إعادة النظر» في اللغة، سواء من خلال النموذج الذي قدمه نثره، أو التعليم الشفاهي المنتشر في شارع «روما»، كان — مثلما يقول «موكلير» — «نحويًّا رائعًا»١٠٨ بأسمى معاني الكلمة، ولا شك أن أفضل تعاليمه لم تكن في النصائح التقنية ﺑ «طريقة وزن»، ووضع، وترصيع الكلمة بطريقة تجعلها تعاليمه لم تكن في النصائح التقنية الخاصة ﺑ «طريقة وزن، ووضع، وترصيع الكلمة بطريقة تجعلها تبدو جوهرية لم يُسمع بها من قبل»، أو في «الإدغام الدقيق للجملة الاعتراضية»، بل في فكرة أن العالم — شأنه شأن تركيب الجملة — كل من علاقات، وأن على الكاتب — عبر توافقات كلماته وتنظيم جمله — أن يعيد، بمعنًى ما، إنتاج نظام وتركيب جملة الكون، وثمة كاتب شاب — على الأقل — كان عليه أن يستفيد من الفكرة المالارمية في كتابه النثري الأول، أعني «كلوديل» وكتابه «معرفة الشرق».
عام ١٨٩١م: هو نفس العام الذي شهد إعادة طبع «أناشيد مالدورور»، المنشورة في بلجكيا عام ١٨٧٤م، واختفت منذ ذلك الحين، وقد سبق هذه الطبعة الجديدة مقال مدوٍّ لليون بلوي، نُشر في «لا بلوم» في الأول من سبتمبر ١٨٩٠م، ألقى أضواءً مثيرة حول «الشاعر المجهول، المثير للجنون، والوحشي للغاية»، الذي انبثق من الظلام في اللحظة المحددة التي يمكن لتأثيره — مثلما لاحظ «بلوي» — أن يكون الأكثر فاعلية: «قصيدة النثر الرائعة هذه، التي كادت تصبح نادرة للغاية، ولا يعرفها سوى بعض الفنانين الذين يتناقلونها، بتوصيات مشددة، من يد ليد، ستكون — بالتحديد — محور التأمل الأكثر فاعلية للأرواح العميقة في نهاية هذه القرن»، والمقال،١٠٩ الطويل إلى حد ألا يمنح القراء فكرة عن «هذا الكتاب المتنافر والرائع»، يتضمن لمحات على صواب مضيء حول «السخرية الشيطانية» للقصيدة، و«الحنق الكبير للمؤلف ضد الله، وأهمية التحولات»، وثمة أشياء قليلة عن الشكل الأدبي، لكن هذا القليل أساسي: «إن أسلوب أناشيد مالدورور وفقًا لما يكتب «بلوي» — هو نوع من المبتذل المرسوم في شهوة هاذية لشخص مختل، وستكون أصالته بلا قيمة بدون الحدة الخاصة للغاية لنبرة معينة تثير دهشة بعض الشياطين، ولم أعثر عليها في أي أدب آخر»، هذه النبرة المجنونة، والضراوة الهدامة، المحطِّمة لكل الحواجز، المهتاجة ضد الأدب وضد الإنسان وضد الله: من هنا مثلما — من خلال جدة الصور١١٠ — كان لشعر «لوتريامون» الحاد والفوضوي أن يؤثر على الجيل الجديد، ومن المدهش أن نرى «أناشيد مالدورور» منذ عام ١٨٩٤م، تجرف وتفك قيود الشاب «جاري»، وهو ما يزال حينئذٍ في بداياته الأدبية.
وأخيرًا عام ١٨٩١م، الذي شهد نهاية خريفه (عندما كان «رامبو» يحتضر في مستشفى مارسيليا، حيث توفي في ١٠ نوفمبر)، أولًا صدور الطبعة الأولى من «أشعار»، ثم طبعة جديدة من «إشراقات» مصحوبة ﺑ «فصل في الجحيم»، المجهول حتى ذلك الحين، وتسبقها «لمحة» فيرلين،١١١ وكانت «لا فوج» قد أصدرت «إشراقات» لأول مرة في عدد محدود للغاية من النسخ، وستصل الطبعة الجديدة إلى كل الشعر الشاب وتثير اضطرابه، ولن ينتهي أبدًا إشعاع «رامبو»، الذي ستضاعفه أيضًا فتنة حياته الأدبية الخاطفة، وطريقته «المترفعة بلا تنازلات، كفوضوي في أعماق روحه»، مثلما سيقول «مالارميه»،١١٢ وسيتغلغل تأثيره — الذي ساهم بقوة في ميلاد الشعر الحر — في شعراء الجيل الثاني بعمق. ويبدو أن الحساسية لم تعد فقط إزاء الشكل الحر لنثره، وإنما لثراء شعره، وحيوية صوره، ودلالة تمرده بشكل خاص، الذي كان أكثر من تمرد أدبي، إن «رامبو» هو سيد الفوضوية والفردانية، والعالم الشعري الذي يبنيه مؤسس على انهيار المجتمع والقواعد، سواء الأخلاقية أو الأدبية، والمبادئ العقلانية، وحتى تلك الخاصة بمستويات المكان والزمان. فهو — بضربة واحدة — يحرر المعنى السحري وما فوق الطبيعي في الإنسان، ويضعه في حالة رؤيا، وأسلوبه نفسه، هذه اللغة المتنافرة، اللاهثة، والمفككة، التي تعرف — رغم هذا، دائمًا — إلى أين تتجه: درس رائع في الكثافة الغنائية، والحيوية، والهدم وإعادة بناء اللغة، لم يكن «رامبو» أستاذًا للجيل الثاني من الرمزيين فحسب، بل إلههم، مثلما يمكن أن تؤكده لنا شهادات «بول فور»١١٣ و«كلوديل»١١٤ و«فاليري»،١١٥ ومراسلات «جيد»،١١٦ وإذا ما كان تأثيره على البعض محسوسًا أو معترفًا به: «كلوديل»، «سان–بول رو»، «ل. ب. فارج»، على سبيل المثال، فيمكننا القول إنه أصبح مستحيلًا بعد عام ١٨٩١م كتابة قصائد نثر دون أن يكون ماثلًا في الروح نثر «إشراقات» الساطع ونبرتها التي لم تسمع من قبل.

«مالارميه»، «لوتريامون»، «رامبو»: ثلاثة أنبياء لعصر أدبي جديد، ثلاث رسائل مختلفة بلا شك، لكنها تتلاقى في نفس الفكرة الأساسية: إن الشعر ليس عملًا ترفيهيًّا، واكتمالًا شكليًّا، أو حتى موسيقى إيحائية فحسب، بل أيضًا مهمة روحية وخلق لعالم. إن رفض التعرض لإهانات النظم الكلاسيكي، واستخدام النثر لا ﮐ «صيغة» فنية قابلة لمؤثرات غير مسبوقة، وإنما كلغة جديدة، أكثر أصالة وصلاحية للفعل الروحي، يتأكد كموقف ميتافيزيقي، وبقدر ما سيستلهمون هذا التعيلم الرفيع، بقدر ما سيتخطى شعراء نثر الجيل الثاني من الرمزيين، المساعي الإيقاعية والتقنية لأجدادهم.

(٢-٣) قصيدة فنية ونثر فوضوي: الانشقاق

ويمكننا القول (على نحو عام للغاية) إننا نجد أنفسنا قد وصلنا، حوالي عام ١٨٩١م، إلى تقاطع طريقين: فقصيدة النثر «الفنية» ذات الشكل الصارم، وقصيدة النثر ذات الاتجاه الفوضوي والشكل الحر، بعد أن التقتا ونزعتا إلى الامتزاج في شكل وسيط (سيكون، عمومًا، قصيدة الرمزية «الموسيقية»، كشكل أكثر مرونة، وأكثر حرية من القصيدة البارناسية ذات المقاطع، لكنها — على المستوى الفني، رغم هذا — تُبنى على استعادات للموضوعات والإصاتات التي تستخدمها، والتي تجعل من «زمن» القصيدة — كما سبق أن قلت — «زمنًا» موسيقيًّا»)، ستتباعدان الآن أكثر فأكثر، محكومتين بتوجههما الخاصين نحو اتجاهات مختلفة تمامًا، واللافت للنظر أن كلًّا منهما ستميل إلى الاقتران بالشكل التعبيري الذي يتوافق مع الاتجاهات الأساسية: ستقترب قصيدة النثر الفنية — التي تضعف صيغتها — من قصيدة النظم، وستنتهي بالذوبان في الصيغة المنظومة، وستنحو قصيدة النثر الفوضوية — التي تتضاعف وتتنوع باستمرار، كلما ازداد الزخم الفرداني — إلى الذوبان في النثر الخالص، والعودة إلى أنواع كانت، في حالات معينة، منحدرة منها: الأقصوصة، التأملات، «الأشياء المرئية»، حالة «مندلية»١١٧ أدبية غريبة! ولكن بينما تعود بعض الأشكال إلى طابع القصيدة أو النثر «الخالص»، ستولد أشكال جديدة راسخة وقابلة للحياة، لكنها ستخضع لتأثير الفردانية الفوضوية، يرافقها تحول في مفهوم القصيدة: مفهوم لم يعد يتضمن تنظيمًا مفروضًا من الخارج، وإنما وحدة عضوية تتوافق مع رؤية متسقة وفردية للعالم، وبشكل أدق، لخلق عالم خاص بكل شاعر، فابتداءً من نهاية القرن، لم يعد الأمر يتعلق ﺑ «شعرنة» أو «موسقة» النثر، وإنما بتساميه.
وكي نوضح — بطريقة ملموسة أكثر — هذا الانشقاق الذي يفصل، حوالي عام ١٨٩١م، بين حاملي مباخر الجمال الشكلي والشعراء الذين يريدون أن يجعلوا من اللغة أداة غزو، واكتشاف، يمكننا أن نذكر مثالًا دالًّا: تلك الاختلافات التي ستباعد بين كاتبين شابين، ثم تضعهما على طرفي نقيض تمامًا، وكلاهما «شاعرا نثر» مبتدئان في هذه الحقبة، «بيير لووي» و«أندريه جيد»، «لووي»، البارناسي المتأخر الذي يرى مثاله في «الجمال» والكمال الشكلي، و«جيد» الذي لا يستطيع الاكتفاء بالمثال البارناسي،١١٨ والذي يرفض كل الحدود (والشكل واحد منهم)، ويطمح إلى اللانهائي وما لا يوصف، ومنذ يونيو ١٨٩٠م، يلمح «لووي» إلى «الهرطقة» الأدبية التي تجعل «جيد» يقول إن «الشكل ليس كل شيء في الأدب»،١١٩ فبالنسبة للووي، «مهما كان توهج الفكرة، فهي دائمًا في مرتبة أدنى من الشكل»، والواقع أن الشكل الكامل، بالنسبة له، هو ما يسميه «الشعر الحر غير المقفى»، وفي قول آخر، «النثر المثالي، الموقَّع مثل الشعر»،١٢٠ وينصح الكاتب المنمق المقبل لأغاني بيليتيس «جيد» بأن يجعل من الشعر «تمرينًا لا غنى عنه من أجل النثر»، ونراه — في الأول من سبتمبر ١٨٩٠م — يلوم صديقه على أنه يرص «الكلمات بلا وزن ولا إيقاع»، ويستدعي نص «بروتوس»: Etim in soluta oratione dum versum effugeres, modum tamen et numerum quemdam servari oportet،١٢١ وعلى النقيض يبحث «جيد» الذي يكتب في هذه الحقبة «كراسات أندريه والتر»، «لا عن توافق الكلمات بقدر بحثه عن موسيقى الأفكار»،١٢٢ وهو يتمرد ضد «الكمال الرصين، والمثالي والجامد»،١٢٣ الذي هو مثال «لووي»، بل ضد الصياغات المتصلبة لتركيب الجملة،١٢٤ ويجعل بطله يقول: «لقد صنعت لنفسي لغةً وفق مشيئتي، باللغة الفرنسية؟ لا، أريد أن أكتب بالموسيقى»،١٢٥ ولم يكن هذا التعارض الجمالي، فضلًا عن ذلك، سوى مظهر لتعارض أعمق كان «لووي» يعيه بوضوح عندما كتب في يوليو ١٨٩٠م إلى صديقه: «أنت تريد أن تشعر، وليس مهمًّا بماذا، أما أنا، فأريد أن أعبر، أن أعبر عن الجمال الوحيد»،١٢٦ وتتملكنا الدهشة من تأخر القطيعة (التي لم تصبح تامة إلا بعد «مستنقعات» عام ١٨٩٦م)، كل هذه السنوات بين كاتبين كان مزاجهما متناقضين للغاية، في حين أن «جيد» لم يكن يتحمل تشدد «لووي» الفني منذ فترة طويلة،١٢٧ وتكشف أعمالهما — على أية حال — عن مفهومين مختلفين لقصيدة النثر: المفهوم البارناسي، الذي سيؤدي إلى تحقيق «أغاني بيليتيس»،١٢٨ والمفهوم الأكثر حرية، إن لم يكن فوضويًّا، لشعر «تتفجر الجملة» فيه بفعل غنائيته، ولن يكف عن مطالبة كل أشكال النثر والآيات بإمكانيات تعبير متنوعة بلا حدود، وهو مفهوم سيقود «جيد» — صاحب «أندريه والتر» — إلى «قوت الأرض».

وينبغي على دراسة حول قصيدة النثر بين عامي ١٨٩١م و١٨٩٧م، أن تفسح مكانًا لكل من هذين التوجهين، لكن الوقائع سرعان ما ستثبت لنا أن القصيدة التشكيلية — شأنها شأن البارناسية نفسها — هي آثار عهد منصرم بأكثر من كونها صيغة للمستقبل، وفضلًا عن ذلك، فإن قصيدة النثر — باقترابها من النثر الخالص — ستثرى الآن (إلى حد المخاطرة بالفناء)، ومثل «أنتيه» الذي كان يستعيد قواه بلمسه «الأرض»، أمه، فإنها تستعيد الحيوية بالتماس مع الحقائق الجوهرية للغة.

(أ) أفول قصيدة النثر ذات الشكل الصارم

لم تعد قصيدة النثر ذات الشكل الصارم والمبنية على المقاطع — المنحدرة من «آلويزيوس برتران»، التي رعاها البارناسيون — سوى بقايا في الحقبة الرمزية، ولن يمارسها بعد ذلك سوى كتاب الترجمات المزعومة: وقد لاحظنا أن شكلًا بهذه الصرامة ومحدودًا إلى هذه الدرجة، غالبًا ما يستخدم في إخفاء الافتقار إلى الإلهام، ويدفع نحو الاصطناع، وأن «الروائع الأدبية الصغيرة» ليست — أحيانًا — سوى تحف مألوفة من أجل الأرفف، أو حلقات مناشف ملفوفة جيدًا.

وقد قادت الاتجاهات الرمزية وتأثير «بودلير» القصيدة «الفنية» إلى التحول، وإلى ترويضها، لكن الرغبة في «كتابة موسيقية» ستؤدي، مع ذلك، إلى استعادة نفس الأساليب، لقد استلهم البارناسيون الأغنية (الليد أو النشيد الغنائي)، واستلهم الرمزيون «فاجنر»: فاللازمة تُسمى — منذ ذلك الحين — موضوعًا رئيسيًّا leitmotif، والتكرار تصبح استعادات، ويتضاعف السجع والمحارفات: لكن الأمر يتعلق — عمومًا، دائمًا — بفرض تنظيم دائري على القصيدة، وتوليد «حاضر أبدي» عبر الإيقاع، ويمكننا أن نطبق على هذه القصائد «الدائرية» — وحدها — التمييز الذي طرحه «جوستاف كان» عام ١٨٩٨م: «ثمة صيغتان لقصيدة النثر: الأولى تشكيلية، موجزة، صارمة، أتى بها «لوي برتران»، والأخرى إنشادية، موسيقية، جددها «بودلير» في رائعته «محاسن القمر»،١٢٩ وبعض القصائد أيضًا — من بين القصائد موضع الدراسة — يصعب تصنيفها بسهولة في إحدى الفئتين، ويمكننا — رغم هذا — أن نتبنى تقسيم «كان»، الملائم إلى حدٍّ بعيد، لقصائد النثر «الفنية»: فمن ناحية، هناك القصائد التشكيلية أو البارناسية، ومن ناحية أخرى، ثمة القصائد الموسيقية، البودليرية–الرمزية.

«ب. لوري» والقصيدة البارناسية

والممثل الأكثر أصالة للشعر النثري «التشيكلي» و«البارناسي» هو «بيير لووي»، الذي أشرت — فيما سبق — إلى مثاله البارناسي عن الكمال الشكلي، ومن المثير للاهتمام أن نراه يبحث عن تحقيق هذا المثال في النثر لا في الشعر، وقد فسر نفسه هكذا عام ١٨٨٩م في مشروع خطاب:١٣٠ فطبقًا له «يجعل إيقاع الشعر — وقد بلغ كماله — القافية بلا قيمة»، و«الفقرة المكتملة» — من ناحية أخرى — ليست شيئًا آخر سوى «التتابع اللانهائي للشعر الحر (الذي لم يتناوله أحد بشكل جيد منذ «لافونتين»)، لكن «ما هو الشعر الحر غير المقفى، إن لم يكن النثر؟ والنثر المثالي، الموقَّع مثل الشعر …» وينتهي إلى «إنني أميل نحو هذا النثر، ولا أعتبر الأبيات التي سأكتبها إلا سلسلة من التمارين التمهيدية، التي لا يمكن الاستغناء عنها»، ونثر كهذا، «موقَّع مثل الشعر»، هو نثر «أغاني بيليتيس» المنشورة عام ١٨٩٤م.
وفي هذا «الأغاني»، التي فازت بإجماع النقاد في هذه الحقبة، نشهد مميزات وعثرات نوع كهذا، ولا شك أن اللغة مصفاة، مكثفة ومتناغمة: فلوري يعرف كيف يتجنب — في إعادة بنائه للحياة اليونانية — مخاطر المعرفة العلمية الواضحة للغاية، إنه يتجنب أيضًا الأساليب المفرطة في الميكانيكية والتكرارات أو «اللازمات»، عندما نكون قد قلنا كل ذلك وأعجبنا بالإتقان الشكلي لهذه القصائد الصغيرة، ﮐ «سوناتات نثر حقيقية»، حسب تعبير «ﻫ. دي رينييه»،١٣١ فسنكون قد قلنا تقريبًا كل شيء حول «أغاني بيليتيس»، وينبغي مقارنتها ﺑ «جاسبار الليلي» — على سبيل المثال — لنشعر بمدى ابتعاد مقاطع «لووي» عن إثارة الانفعال الشعري على النقيض من مقاطع «برتران»: فنحن مهتمون هنا بمتابعة حياة «بيليتيس» بنفس الاهتمام الذي تتطلبه قراءة رواية، وربما تلك هي البراعة الكبرى للووي في أنه عرض الحياة كما في رواية، تلك الحياة «التي تبدو من خلال مظاهر مألوفة أو عاطفية»،١٣٢ للعاهرة اليونانية الصغيرة: لوحات أنيقة، «أغنيات»، وحكايات متحفظة، حيث تختلط الحسية — في الكل — باستمتاع (في العمق) والطهارة (في الشكل)، وقد قيل الكثير عما كشفه «لووي» في هذه «الأغنيات» من حس يوناني للغاية بوزن الشعر والجمال، وهو ما أود أن يكون صحيحًا، لكن بشرط أن نفكر في يوناني من «إيونيا»،١٣٣ يتمتع برهافة أكثر من تمتعه بالقوة، ويبدو «وسيمًا» لا كبيرًا، وحتى في الإيقاع، فثمة شيء ضعيف إلى حدٍّ ما، فالفاصلات العديدة تقسم الجمل إلى شذرات قصيرة، ثمانية المقاطع غالبًا،١٣٤ تتجاوب بطريقة تماثلية،١٣٥ وثمة — بلا شك — أجزاء فاتنة في هذه «الأغنيات» تصلح كمختارات، ولكن كيف نشعر بالتأثير حقًّا من ترجمة مستعارة، نوع مصطنع للغاية بالضرورة، ما دمنا لا نستطيع هنا أن نشعر باهتزاز قلب يوناني حقيقي، ولا التواصل مع «الأنا» الأصيلة للشاعر — المهموم فحسب، من ناحية أخرى — «بالتعبير عن الجمال الوحيد»؟ لا ينبغي أن نخاف من تكرار أن الترجمة المستعارة (سواء قام بها «باري» أو «شاتوبريان» أو «بيير لووي») — هي نوع زائف، خاصة أن خطورته تكمن في سهولته الكبيرة، وأن روائعه ليست سوى روائع زائفة.١٣٦
وقد أظهر «مارسيل شووب»، بمعارضة الشاعر «هيرودا» (أو «هيروندا»)، تنوعًا وحرية وواقعية تصويرية أوفر، داخل نفس النوع: إن «إيماءات» — التي نشرت أيضًا عام ١٨٩٤م — هي، مثلما يقول لنا «ب. شامبيون»، «فانتازيا ساحرة تدخلنا إلى عالم آسيوي وهيلليني في آن، حيث تطيب نفس مارسيل شووب»،١٣٧ وثمة كثير من الصلات بين «شووب» و«لووي» فيما يتعلق بالإيقاع وصفاء اللغة،١٣٨ ومع ذلك، يضحي «شووب» بصورة أقل فيما يتعلق بالإيجاز والتخطيط الصارم للقصيدة (نعلم أن كل «أغاني بيليتيس» مكونة من أربعة مقاطع). ولكن ما يمايز بين الشاعرين هو أن «لووي» تشكيلي خالص، وبعبارة أخرى، يظل على سطح الأشياء ولا يتماس إلا مع العالم الخارجي، أما شعر «شووب» فهو ذو نزعة رمزية،١٣٩ بمعنى أنه يوحي عبر وسائل الظواهر المرئية بدلالات أكثر خفاءً، ويجعلنا نخمن مستوًى ثانيًا خلف الشخصيات الأفقية للوحة القديمة، وهو ما يمنح بعض القصائد عمقها، وكثافة مدلولها: وهكذا الأمر بالنسبة ﻟ «ثقوب الناي الستة»، أو المجاز الغريب المسمى «السباقات الثلاثة»،١٤٠ وينبغي أن نضيف أن بعض الموضوعات تمنح الكتاب — بإلحاحها — لونًا خاصًّا،: وبشكل خاص موضوع الموت، المختلط بموضوع النسيان (الذي يرمز له بماء «ليتيه» و«الخشخاش الحزين لحقل النعاس»،)١٤١ الذي يملأ القصائد الأخيرة من «خاتمة» هذا الكتاب «الذي يبدأ ببائعي السمك والنساء»، مثلما يقول «ب. شامبيون»، «ينتهي بأنهار جهنمية»،١٤٢ وسيكون بلا ضرورة أن نضيف أن «أغاني بيليتيس»، التي لا يتمتع خيالها بمذاق الرماد هذا، قد شهدت نجاحًا أكبر …
وبشكل عام، يدين المؤلفون الآخرون لقصيدة النثر ذات النمط التشكيلي والبارناسي، بميلهم إلى المقاطع والإيحاءات التصويرية، إلى «آلويزيوس برتران»: لنذكر «هنري مازيل» مدير «إرميتاج» الذي ملأ إنتاجه كل المجلات الصغيرة، بالإضافة إلى مجلته: وسيكفي أن نعيد نشر مقطع من «منتصف الليل في الجيتو»، كي تتبدَّى لنا — على الفور — صلة القرابة مع «اللحية المدببة»، على سبيل المثال (بما فيها من سجع):
Par les flaques et les cloaques, un beau jeune homme s’avance, non sans précauton; Pourtant sa capuche eat jaune et, ayant buté, il jurat trés haut par le Dieu d’Abraham et de Jacob.
عبر البرك والقاذورات، يتقدم شاب وسيم، ليس بلا حذر، غير أن قلنسوته صفراء، وإذ يتسم بالعناد سب جهارًا رب إبراهيم ويعقوب.١٤٣
ويقع «دانييل لانتراك» — هو أيضًا، مثلما يلاحظ «ج. كان» — «تحت تأثير «آلويزيوس برتران» بشكل كامل»،١٤٤ ونشعر ببزوغ المعارضة عندما نقرأ في «خيمياء»: «بطول الحوائط امتد ظل الأشجار القرنية والقماقم المصفوفة … وانهار الموقد في حسرة»،١٤٥ أو نرى هذا التعارض العنيف بين الظل والضوء، على طريقة أسلوب الرسم المطبوع:
كان زجاجي (الملون) المشقوق سائلًا من ضوء، وظل منضدتي يأكل رجلي.١٤٦

أما عن المحاولات الخاصة بالإصاتات، فالجملة التالية ستعطينا فكرةً عنها:

… les violons sifflent, les hasses essoufflées s’étouffent, les altos barytonnent, les petites flûtes s’élancent en trilles clairement roulés …
… تصفر الآت الكمان، تختنق الأوتار الغليظة اللاهثة، وتنفخ الكمانات الوسطى، وتندفع النايات الصغيرة في زغردات ملتوية بوضوح …١٤٧
لا يتعلق الأمر هنا سوى بتناغم قائم على المحاكاة، وهو أسلوب كثيرًا ما استخدمه «برتران»،١٤٨ ويستدعي — بشكل خاص — المحارفة، وليس «لانتراك» الوحيد الذي استخلص منه مؤثرات تصويرية،١٤٩ وعلى النقيض، يصبح السجع في النثر وسيلة فنية هامة للغاية، وسنرى أن استخدامه المنتظم — في نهاية مجموعة الكلمات — يتيح للشاعر خلق إيقاع ملحوظ بشكل أكبر، يقترب من إيقاع الشعر.

وقد سبق أن قلت إن المحارفة — شأنها شأن القافية — يمكن استخدامها كنسق إيقاعي، وإدخال توافقات وتقطيعات إلى أجزاء منتظمة في القصيدة، فما هي القافية، في واقع الأمر؟ لا شيء (على الأقل، بالنسبة للأذن) سوى سجع تسبقه أو تليه محارفة، تتم استعادتها في نهاية مجموعات المقاطع اللفظية ذات الطول الواحد، فلنلغِ تساوي المقاطع اللفظية للأبيات، ولنقلص القافية إلى سجع، فنحصل — بذلك — على الشعر الحر. والواقع أن أنصار الشعر الحر لم يتخلوا — أبدًا، تقريبًا — عن استخدام السجع، رغم إمكانهم التخلي عنه نظريًّا، وهو ما يمنح الأبيات بصمتها النهائية، ويسمح بتجميعها سواء بشكل زوجي أو بمقاطع (وذلك دون خسارة السجع الداخلي، المستمد مباشرة من تقنية قصيدة النثر)، ولنكتب الأبيات وراء بعضها بالتتالي، دون الالتزام بسطر الشعر الحر المسجوع، فلن نحصل على شيء يختلف كثيرًا عن هذه الفقرة ﻟ «ا. كلوار»، التي تشكل جزءًا من قصيدة نثر بعنوان «عذراء فاينس»، المنشورة في «إرميتاج» في أكتوبر ١٨٩٤م:

Hou! Le vent du norit hou! Hou! Ce berger sinistre et fou, éructant son rauque refrain, tord les chénes des ravins, la tignasse rouge des bruyères et flagelle de cinglantes lanières la fine ouate des moutons falots bondissant par les broussailles et les flots. Hou! Comme ce soir, il est bourru le gueux, ce soir!

هوو! ريح الشمال هوو! هذا الراعي الكئيب والمجنون، يتجشأ لحنه الأجش، يلوي سلاسل الأودية، الشَّعر الكث الأحمر لزهور الخَلَنْج وسوط قاسٍ من سيور الوبر المندوف الناعم للخراف المازحة، المتقافزة عبر الأدغال والأمواج. هوو!. مثل هذا المساء، إنه مشاكس، هذا الصعلوك، هذا المساء!

وأنحِّي هنا جانبًا — عن عمد — السجع الداخلي (وبشكل خاص السجع أو التناغم القائم على المحاكاة في rouge أحمر، وouate الوبر، وmoutons الخراف، وbroussailles الأدغال، وbourru مشاكس التي تنقل عويل الرياح): من الواضح أن تتابع المسجوعات التي أكدت عليها، الموجودة في نهاية مجموعة الكلمات والمجمعة بشكل زوجي (يمكن اعتبار «flagelle سوط» سجعًا داخليًّا) ينتج تأثيرًا إيقاعيًّا ويقطع النص إلى شعر حر حقيقي، ويكاد النثر أن يقتصر هنا على مجرد تنظيم طباعي.

ونصل — بذلك — إلى هذه النتيجة المميزة للغاية: في الوقت الذي يُروَّض فيه الشعر الحر، ويقترب من النثر، يعثر النثر «الفني» — بفعل البحث عن أوزان أوضح — على القافية، وينحو إلى الالتحاق بالشعر، لكن ثمة ما هو أفضل: فالنثر — وقد امتلأ بالسجع على هذا النحو — ينجح في الالتحاق لا بالشعر الحر فقط، بل ببيت الشعر المنتظم، بتجميع الأجزاء المقطعية المتشابهة بشكل زوجي، فكلوار نفسه ينشر — في «إرميتاج»، في ديسمبر ١٨٩١م — «نشيدًا غنائيًّا» نثريًّا (مع «مقطع أخير»)، بعنوان «من أجل عربات المسافرين القديمة»، ينتهي فيه كل مقطع بنفس الكلمات: «عربة المسافرين الجدة الطيبة، عربة المسافرين في القديم»، ونقرأ — على سبيل المثال — في نهاية أحد المقاطع:

(إنه دائمًا هو نفسه أيضا) البلد العذب الذي زرته عدة مرات، عربة المسافرين الجدة الطيبة، عربة المسافرين في القديم.

ولنحسب أجزاء الجملة: لدينا «بيتان» من ستة أجزاء، يعقبان بيتين من سبعة أجزاء (وسنلاحظ أن القافية — وقد أصبحت منذ ذلك الحين أقل ضرورة للإشارة إلى الوزن — يتم إهمالها في «عربة المسافرين الجدة الطيبة»)، بل لدينا إرجاء حتى (إرجاء مضاد، بشكل أدق)، وهو نفس البرهان على بيت لم يعد حرًّا، بل أصبح كلاسيكيًّا:

البلد العذب / الذي
زرته عدة مرات

وها هو النسق وقد دُفع به إلى أبعد من ذلك أيضًا، في مقاطع من «قصيدة نثر» مزعومة ﻟ «ي. رامبوسون»، منشورة في «إرميتاج» في يناير ١٨٩٥م:

تتراقص قذائف مائية على الأفق المجنون — إنه البعيد الغريب لروحي المتألمة.– وقلبي، قلبي مجنون بالحب!– لماذا روحي متألمة.– وقلبي، قلبي مجنون بالحب!– لماذا روحي متألمة؟

وصانعو قوالب الرخام في الأحراج– يبدون كأنهم يدعونني إلى بعض الحنان: — أية نايات في الأحراج — تنفث هذه الريح المترعة بالحنان؟

لست أنا من وضع هذه الشُّرط للفصل بين اﻟ «أبيات» (بيتان من عشرة مقاطع + بيتان من ثمانية مقاطع)، إنه «رامبوسون» نفسه على الأرجح كي لا يتعب نفسه بالعودة إلى أول السطر. وتتمثل اﻟ «قوافي» هنا في كلمات مكررة، مثلما فعل «فيرلين» — أحيانًا — الذي نشعر بتأثيره في المقطوعة كلها، لدينا هنا مقطوعة من أبيات كلاسيكية، كلاسيكية إلى حد أن بيت «قاطعي الرخام في الأحراج» يبدو لنا مفزعًا مثلما يفزعنا بيت مفتعل في قصيدة متسقة.

وثمة — أيضًا — مهارة أكبر، وتنوع إيقاعي أكبر في المقطوعات «المسجوعة» و«المنغَّمة» ﻟ «سان–بول–رو»، الذي لن يكف أبدًا (ربما تحت تأثير صديقه «بول فور») على مدى حياته الطويلة كشاعر نثر، عن المراوحة بين القصائد الحرة للغاية والمنثورة تمامًا، والقصائد المنغَّمة بشدة، حيث تخلق عودة الأسجاع لعبةً بارعةً من الإيقاعات: وقصيدة «اليمامة»،١٥٠ المؤرخة ﺑ «مايو ١٨٩٦م، غابة آردين»، تبدأ هكذا:
La colombe roucoule; écoute, un caillou roule en le souffle qui coule ou croule dans le joujou frêle de son cou.
Mon âme a la couleur de son baptême, et, mêmement qu’à Bethléem où le duvet des anges tenait lieu de langes, le bout rose d’un sein pâle dans ma bouche pose une goutte d’opale.
اليمامة التي تهدل، أنصت، حصاة تتدحرج من النثفة التي تنثال أو تنهال في اللعبة الهزيلة لعنقها.
لروحي لون تعميدها، و، أيضًا في بيت لحم حيث زغب الملائكة يقوم مقام الأقمطة، تضع الحلمة الوردية لثدي شاحب في فمي قطرة من عين الهر.
وإذا ما كان هدف اﻟ ou وr وl اللازمة: «اليمامة تهدل roucoule …»، هو خلق تناغم غريب قائم على المحاكاة (ينطلق من المحاكاة الصوتية ﻟ «roucoule — تهدل»)، فإن أسجاع المقطع، التي تتجاور اثنتين اثنتين، تجذب الانتباه إلى تجمع الأجزاء الإيقاعية، ذات الأطوال المختلفة والمركبة ببراعة.
لكن، إذا ما قمنا بخطوة أخرى، فستنغلق الدائرة التي تعدينا إلى أكثر الأبيات الكلاسيكية كلاسيكية، أعني البحر السكندري، وقد نشرت «لا بلوم»، في الأول من أبريل ١٨٩٢م، مقالًا عن «ريوتور»، «فتى المستقبل»، ونشرت له عدة «نثريات موقعة»، وسأنقل بدايةً واحدة منها، «القميص المتسخ»، التي كانوا — فيما يبدو — «يتحدثون عنها كثيرًا» في هذه الفترة (والقميص المذكور رمز للبؤس):

ألا أستطيع التخلي عن القميص المتسخ، الممتلئ شحمًا والكئب، بثنيات تفوح بروائح تخفي المَني، القميص المليء بهذا الطين المنفر لكل حرماتنا.

لقد ظل شاحبًا دائمًا على جسدي الطفل، يحتويه بخرقة ذات لون ثابت بشع، ورغم هذا دائمًا، فتحت القميص المتسخ، عثرت على جسدي الطاهر والغض مثل الزعتر …١٥١
ها نحن قد عدنا — هذه المرة — إلى كل فخامات وعبوديات البيت الكلاسيكي: القافية الغنية، بحروف التأكيد الصامتة (لكنها لا تشكل — مع ذلك — قافية بالنسبة للعين، ما دامت teint تصنع قافية مع thym)، والحساب الدقيق للمقاطع اللفظية، مع وقفة ثابتة تمامًا بين شطري البيت: ما من بيت ثلاثي المقاطع، فريوتور لا يمنح نفسه حتى الحريات التي اكتسبتها الرومانتيكية … وبطبيعة الحال، نرى عودة ظهور الإرجاء (القميص الممتلئ / بهذا الطين المنفر) وأكثر أنماط التعاكس كلاسيكية، لضرورة النظام الصارم: «يحتويه بخرقة ذات لون ثابت بشع».

لقد انغلقت دائرة قصيدة النثر البارناسية مرةً ثانية: لم يتبقَّ أي شيء من الحريات — ولا الإمكانيات — الخاصة بالنثر، وحدها الحيلة الطباعية هي التي تتيح وضع عنوان «نثر موقَّع» على أبيات «ريوتور».

بول فور

في النقطة التي وصلنا إليها، يبرز تلقائيًّا اسمه في الذهن: «بول فور»، فبعد الأمثلة التي ذكرتها، يمكن لشعر «بول فور» أن يبدو — في بادئ الأمر — لا كتجديد عبقري، وإنما كإنجاز ضروري للتطور الحتمي الذي يعيد قصيدة النثر «الفنية» — في مساعيها من أجل التماثل، والتوازن، والانتظام — إلى القوانين نفسها التي تحكم الشعر، وإذا ما تأملنا التواريخ، فسنلاحظ — بالفعل — أن دواوين «بول فور» الأولى — «ثمة صرخات هنا» و«الأصابع في المفاتيح تقريبًا»، عام ١٨٩٥م — لا تزال مكتوبة في أشعار حرة للغاية: ويلاحظ «إ. بيلون» — في «إرميتاج»، أبريل ١٨٩٥م — أنه «لا وجود هنا لأشعار، بل نثريات موقَّعة مزعجة، عيبها أنها نتاج موهبة»، وفي هذه الفترة، كانت «أشعار» بول فور تلام على أنها نثريات موقعة في واقع الأمر، واعتبارًا من عام ١٨٩٦م، سيكتب «أناشيد غنائية» في شكل نثر،١٥٢ وستُلام — آنئذٍ — على أنها أبيات في واقع الأمر،١٥٣ عندئذٍ، يُطرح السؤال: هل «بول فور» استكمالٌ عادي ﻟ «جلوار» و«ريوتور» … إلخ، تسبق «نثرياته النظمية» — إذا سمحت لنفسي بقول ذلك — نثرياتهم (بصرف النظر عن «منديس»؟)١٥٤ أم أنه خلق حقًّا «أسلوبًا جديدًا»، مثلما يؤكد «ب. لووي»؟١٥٥
ونحن نمتلك المعلومات الكافية من «بول فور» نفسه حول ما أراد تحقيقه، وقد صرح — عام ١٩٠٥م — أنه سعى إلى «أسلوب يمكن أن ينتقل، وفقًا لرغبتي — من النثر إلى الشعر، ومن الشعر إلى النثر: والنثر الموقَّع يمثل الانتقالة، وبذلك لا يصبح النثر، والنثر الموقَّع، والشعر الحر، سوى أداة واحدة متدرجة»،١٥٦ ولا تتمثل محاولة الشاعر إذن — وهي في ذلك مختلفة، مثلما نرى، عن المحاولات «البارناسية» — في طباعة الأبيات الموزونة على هيئة النثر، مثلما تكرر كثيرًا على سبيل التزوير، بل — بالأحرى — في استعادة محاولة الرمزيين الكبرى: انصهار الشعر والنثر في لغة شعرية واحدة، اللغة «الكلية» التي تنبأ بها «ش. موريس»،١٥٧ لكن، كيف نجد أسلوبًا «يمكنه أن يتوافق مع الشعر والنثر»؟ «لقد بحثت في النطق الطبيعي عن قانون إيقاعه، مثلما يقول «بول فور»، وحاولت التأكيد على تفوق الإيقاع على براعة العروض»، وبذلك، فلن يتدخل عدد المقاطع اللفظية في نظم الشعر، بل ما يسميه «كيفية الثقَل»، وهي كيفية «تتغير حسب المكان الذي تحتله الكلمة في الجملة»، ولكن، ربما يكون هنا ما هو أكثر أصالة في تقطيعات «الأناشيد الغنائية»: «بشكل عام، فإنني لا أحسب المقاطع اللفظية الصامتة في وزن البيت، إلا من أجل إحداث تأثير مطلوب، حسب ما يصرح الشاعر، إنني أمارس الإدغامات الطبيعية»،١٥٨ وتتطلب «الأناشيد الغنائية الفرنسية»، إذن — مثلما أكد «ب. لووي» منذ عام ١٨٩٧م — «لا الإلقاء الخاص بالشعر، بل إلقاء النثر الموقَّع»،١٥٩ فهل من الصواب أن نضيف، مثلما يفعل، أن «العودة الوحيدة، أحيانًا، إلى القافية أو السجع، تميز هذا الأسلوب عن النثر الغنائي؟» أعتقد أن الأكثر دقةً أن نرى فيه — بالتوافق مع نوايا الشاعر — نثرًا موقعًا إلى هذا الحد أو ذاك، حيث تختلط فيه — إلى حدٍّ بعيد — عدد كبير من عناصر الشعر «المتحرر»، ذلك ما أشار إليه جيدًا «ﻫ. دي رينييه» في دراسة غير مشهورة نشرتها «ميركور» عام ١٨٩٧م، وتعتبر من أفضل الدراسات التي لا تُحصى المنشورة حول «بول فور»:١٦٠
والنظم المتخفي، المتناثر، ينعشها، ويدعمها بالمحارفات والأسجاع، وهو يخلتط بمادتها، إنها قصائد بوضوح، وقد أرادوا النظر إليها باعتبارها «قصائد نثر»، وهو ما يعني، في اعتقادي، إساءة الظن بمقاصدها ونوعيتها، ففي التقنية البودليرية، على سبيل المثال، أتبين شاغلًا عكسيًّا هو الارتقاء بالنثر إلى مصاف الشعر دون صياغته، بينما يدخل الشعر هنا في مادة أوسع وأكثر سيولة، دون أن يندمج ويذوب وينساب فيها، مثل الطحلب اللين في التيار الذي يجعله يتماوج في شفافية هاربة.١٦١
لا شعر ولا نثر إذن،١٦٢ أو — بالأحرى — الاثنان معًا في آن، وقد أصبحا «أداةً واحدة متدرجة»، وكي أوضح الأمر، سأستشهد — لا كما يفعلون عادة، بقصيدة يسيطر عليها النزوع النظمي (كنزوع طبيعي إلى حد أن الأبيات تتولد أحيانًا عفويًّا في النثر الذي يريد الابتعاد تمامًا عن النظم)١٦٣ — ولكن ببداية قصيدة «كوسي–لو–شاتو» من ديوان «إيل دي فرانس»:١٦٤ وفيها نرى الفقرة الثالثة، الأكثر عادية، تعود إلى نثر يكاد يكون حرًّا:

قلتُ لنفسي، وسأرى سحبًا جميلة مستديرة، وأنا أعبر المدينة المفتوحة على زرقة السماء، وهي تولد الواحدة من الأخرى مثل فقاعات صابون، على سقف يصطف على قمته الحمام.

إلى اليمين، قلت لنفسي، في هدوء الجو، برج كنيسة متماوج اللون يناجي الوقت، إلى اليسار، ستضع امرأة مترهلة بأصابعها المجبولة من الورد إكليلها المصنوع من السهام على جبيني.

أنا قادم، هو ذا حقًّا، برج حمام، امرأة مترهلة، سُحب، لا شيء ينقص فيه. هيه! ها هي، قلت لنفسي، «كوسي–لو–شاتو»، وهذا السقف الذي يصطف على قمته الحمام، يئوي — لحسن حظي — فندقي.

ومن المناسب هنا الإشارة إلى أهمية «الإدغام الطبيعي»١٦٥ الذي يمنح الأسلوب مظهر اللغة الشفاهية، ويكفي لتمييزه عن الأسلوب «المنظوم» الذي استخدمه الكتَّاب الذين سبق ذكرهم: وهكذا سيكون لبيت «رامبوسون» الذي ذكرته: «وصانعو قوالب الرخام في الأحراج» لا عشر مقاطع لفظية — بلا شك — طبقًا لبول فور، بل تسعة، وبالمثل ينبغي أن نقرأ هنا: Je verrai, me disais-j(e), de beaux nuages ronds, en traversant la ville ouverte au bleu du ciel, naitre les uns des autr(es) des buil(es) de savon, sur un toit dont le faite align(e) des tourterelles = سأرى، ﻗﻟ(ت) لنفسي، سحبًا جميلة مستديرة، وأنا أعبر المدينة المفتوحة على زرقة السماء، وهي تولد الواحدة من الأخر(ى)، ﻣﺜ(ل) فقاعا(ت) صابون، على سقف ﻳﺼﻄ(ف) على قمته (الحمام)».١٦٦
فما هي — الآن — قيمة القصائد المكتوبة بهذا المنهج؟ يبدو أنه إذا ما كنا نذكر دائمًا أكثر قصائد «بول فور» اتساقًا؛ فذلك لأنها الأجمل، والأجمل بلا مثالب: فثمة شكل منغم يتجاوب — بشكل عام — في «أناشيد غنائية» مع إلهام رفيع، ومع حالة من التوتر الغنائي الكبير، لكن الأمر يتعلق — عندئذ — بأشعار حقيقية، حتى «الإدغام الطبيعي» لا يبدو لي في موضعه إلا في «الأغنيات ذات النمط الشعبي، الغزيرة فضلًا عن ذلك (يعرف الجميع اﻟ «دائرة» الشهيرة التي ينبغي نطقها هكذا: Si tout’ les fill’ du monde/voulaient s’donner la main,/tout autour de la terre/ell’ pourraient faire un’ ronde = إذا كنت فتيا تالعالم / يردن أن يشبكن أيديهن / حول الأرض كلها / يمكنهنأن يصنعن دائرة»،)١٦٧ وهو (الإدغام) يمكنه — في موضع آخر — أن يثير الشعور بالضيق، بتردد إيقاعي، لا يصنعه «بول فور» — بشكل خاص — دائمًا: فلماذا، في المقطوعة المذكورة، «nuages ronds = سحب مستديرة»، لا «naugc(es) = سحبمستديرة»؟ ولماذا — بشكل اكثر إزعاجًا أيضًا — هذا البحر السكندري في «سعادة»:١٦٨ «لدى الملائكة المتمردين دائمًا سرًّا»؟ لم يعد ثمة بيت شعر كلاسيكي، ولا بيت شعر شعبي، إنه شعرٌ غير موقَّع dérythmé، بلا اسم له في أي نظم للشعر.
أما مزج الشعر والنثر، فإنه يؤدي — مرةً أخرى — إلى تنافر النوعين: فعندما يتدخل النثر، ترتخي الأداة الشعرية، ونقع — عمومًا — في العادي أو في الثرثرة،١٦٩ وثمة حالة واحدة يبدو لي فيها هذا الأسلوب الهجين مستخدمًا على نحو موفق: في الرواية، كنوع أكثر حرية، شعري وسردي في آن، وربما استطاع «بول فور» — في «لويس الحادي عشر، رجل غريب» (وهي رواية تاريخية، من أوائل أعمال «بول فور»)، وفي «كوكز كومب» (وهي رواية سحرية وفلسفية في آن)، وفي «لوسيين» بعنوانها الفرعي: «رواية غنائية» — أن يخلط، بفانتازيا أكبر، الشعر الأكثر حرية — إلى هذا الحد أو ذاك — بالنثر الموقَّع إلى هذا الحد أو ذاك، دون أن يثير انزعاج القارئ، هنا يمكن للشاعر أن يتبع بحرية ما يبدو له أنه شعاره: «إنني أحلق على جناح الفانتازيا!»،١٧٠ ويخرج لسانه للنقاد.
لكن الناقد سيخلص — بعد كل حساب — إلى أن هذه الفانتازيا، وهذه التعددية في الأشكال التي لا تنتمي إلا إلى «بول فور»، لا يمكن لها أن تلائم آخرين. ويبدو أنه قد ثبت تمامًا استحالة صنع التركيبة من الشعر المنتظم وإيقاعات النثر حتى من باب التعريف، في الشعر الغنائي على الأقل، فالشعر الحر وحده ما استطاع — إلى حدٍّ ما — مثلما يلاحظ «ا. بونييه»، أن يستعير من النثر بعضًا من إيقاعاته.١٧١

وقد أرجأنا قليلًا بحث «أناشيد غنائية فرنسية» للشعراء «التشكيليين» و«البارناسيين»: والواقع أن «بول فور» ليس بارناسيًّا ولا رمزيًّا، ومن المستحيل حقًّا تصنيف شعره: فبحكم تاريخه، وبحكم إلهامه، سيرتبط هذا الشعر — أكثر — برد الفعل ضد الرمزية، وينبغي أن نضيف — من ناحية أخرى — أنه أكثر حرية في تنوعه (رغم عودته النسبية إلى المقطعية اللفظية) من المحاولات «الفنية» المسجلة في نشاط الرمزيين مثلما في نشاط البارناسيين، وهو ما سيتضح في الصفحات التالية.

قصيدة النثر «الموسيقية»، البودليرية والرمزية

وكما قلت، لا يكمن شاغل «الكتابة الموسيقية» — لدى الرمزيين — في الرغبة في جعل الأدب سلسًا، ومرنًا حيويًّا، كرد فعل على الجمود البارناسي: فالأفكار الخاصة بالتركيب والوحدة، التي تلاحق الرمزيين، تشكل محاولاتهم الفنية ذات المدى الأوسع إلى هذا الحد أو ذاك، ولا شيء يثير الدهشة إذن، إذا ما انتظمت قصائدهم النثرية في تكوينات صارمة وذات مظهر دائري (بلازمات، واستعادات للتعبيرات، و— في أغلب الأحيان — عودة للموضوع الأول في الخاتمة)، وهكذا يتمكنون، من خلال احترام الوحدة الشكلية، وسيادة نظام بنائي على الفردانية الفوضوية، من مقاربة التكوينات البارناسية الصارمة، التي يتميزون عنها — بشكل خاص — باستخدام الرمز، وبخصوصيات تركيب الجملة والمفردات، والميل إلى الإيحاء لا المباشرة، وفي أغلب الأحوال أيضًا — علينا أن نذكر ذلك — بانعدام البساطة، فكيف أعفي نفسي من ذكر «السمك الأحمر الصغير في حوضه الزجاجي»، أو «تشريح قصيدة نثر»؟ وهذه المعارضة — المنشورة في «ميركور» في أكتوبر ١٨٩٢م، بتوقيع «كازي» (اسم جماعي مستعار يشمل «ر. دي جورمون» و«الفريد فاليت» و«البير أورييه») — مفيدة أكثر في مظهرها الهزلي، «إنه نمطٌ مكتمل للمعارضة، يقلد، وينتقد، بل حتى وهو يكشف عن الالتواءات ويفكك النهايات، يشير ويفسر آلية هذه القطعة الدقيقة من صناعة الساعات، قصيدة النثر»، مثلما كتب «ديفو» و«دوفييي» عند نشرها في كتابهما «مختارات من المعارضات».١٧٢

السمك الأحمر الصغير في حوضه الزجاجي أو تشريح قصيدة النثر
I
الحوض الزجاجي

في النضارة الممزوجة بالأحلام، حوالي المساء الذي كان يعبر النافذة، كان يشحب، لبني اللون، وبراءته الشفافة كانت تبعث السرور في «الصديقة» الغامضة. سعادات المساء النائم، المفاجأ تمامًا بكونه صافيًا، والكثير من الأحلام التمعت في الحوض الزجاجي اللبني، حيث لم تمت الروح: عندئذٍ — كانت رؤًى ثرية عن سيرك بيزنطي مع تلويح بأعلام خضراء وزرقاء، لم تكن أسماك الشبوط خضراء ولا زرقاء: كانت حمراء ترتجف حبًّا في البراءة الشفافة التي كانت تبعث السرور في «الصديقة» الغامضة، «مجد الحلم»، المقرفص مثل أبي الهول بين الأجنحة، أجنحة المساء الكئيبة – مجد حزين مثل الأطياف؛ إذ إن الزعانف كانت تجوب في شكل مروحة من خفافيش فظة في احترام سعادات المساء النائم، ورأيت العينين الفائقتين للصديقة الغامضة ترتقي نحو نشوة الإحساس بالخوف.

II
السمك الأحمر

يدورون، يدورون في حوض فكرهم الزجاجي. يفكرون في فتات، فتات، فتات خبز، وليست لديهم فتاتة فكر – في حوض فكرهم الزجاجي.

يفتحون الفم — آه! الفم الجميل بشوارب الموظف الكبير — ولا يُنطَق بأي صوت والمخ أيضًا أبكم مثل فهمهم، — في حوض فكرهم الزجاجي.

يختلج ذيلهم، يختلج، يختلج، وما من حيوان منوي يخرج منه كي يخصب شبكة البيض الأنثوي؛ لأن أعضاءهم عقيمة وعبثًا يستمنون — في حوض فكرهم الزجاجي.

بطنهم بيضاء، بيضاء مثل الحساء الأبيض، ومنتفخة تمامًا بغرورٍ غير مؤذٍ من براز، ينفجر ها هي فقاعات، وعلى وجه الماء تنفجر الفقاعات، الفقاعات المولودة من البطن التافهة لسمك الشبوط — من حوض فكرهم الزجاجي.

زعنفتها سوداء، أصبحت رصاصية من السم الأرعن الذي يدوخهم، يجعلهم يدورون كحمير في طاحونة: دوري، دوري أيتها الأسماك الصغيرة التي لا تعض — في حوض فكركم الزجاجي.

أجنابهم حمراء، بالأحمر الكئيب لرخويات الخريف، وقلبهم المنزوف أكثر ارتخاءً من بيت شعر حر سيعطن خلال ثلاثة شهور ونصف كحوليات أمير «تروا–سيس» — في حوض فكره الزجاجي.

عينهم فيرونية١٧٣ تمامًا، خضراء، لا نعرف لمَ، أحيانًا، والسمكة الصغيرة تنظر لكم بعيونها الفيرونية، الفيرونية إلى حد أنها مؤثرة، السمكة الصغيرة التي تتحول إلى سمكة «فيرون» في حوض فكرها الزجاجي.

تدور، تدور، تدور، السمكة الحمراء الصغيرة في حوضها الزجاجي.

III
استعادة للحوض الزجاجي
(حسب المنهج الفاجنري – لكن مع التبسيط)

في الفتور الممزوج بالضحكات، حوالي الظهيرة التي كانت تعبر النافذة، كان يحمر: الوردي بحمرته الياقوتية، كان يبعث السرور في «الصديقة» الغامضة.

التي — بعد أن أفاقت من ذهولها — أخذت تتساءل:

– لماذا، أنا أيضًا، لست في حوض زجاجي؟

– سأدور في حوض فكري الزجاجي.

في حوض زجاجي، في حوض زجاجي.

هجاء لاذع، نقلته كاملًا؛ لأنه يكشف — أفضل من أي تعليق مطول — كل الأساليب التي يمكن أن توجد في الموضوعات الرئيسية، التكرارات، استعادة التعبيرات، والاسترجاع الختامي، أي كل هذه المجموعة من «الوصفات» التقنية، المولودة مع قصيدة النثر، التي تميز القصيدة المبنية بشكل دائري، مثل مقطوعة موسيقية، سواء استخدمنا المنهج الفاجنري أم لا.

ولن نرى — دون أن تتملكنا بعض الدهشة — وسط هذه القصائد ذات الصبغة الرمزية و«الفاجنرية» — من حيث البنية، إلى حدٍّ مقبول، في واقع الأمر — أربع «نثريات غنائية» كتبها الموسيقي الذي كان عليه — فيما بعد — أن يعارض الكتابة «الدائرية» بانطباعية متحررة من كل الأساليب الشكلية: أعني «كلود–آشيل ديبوسي»، وفي تلك الحقبة، التي كان يتردد فيها باستمرار على الوسط الرمزي لدى «فانييه»، كان «ديبوسي» ما يزال مشبعًا للغاية بالفاجنرية: فهل لهذا قرر — مثلما قرر «فاجنر» بالنسبة لأعماله الأوبرالية — أن يكتب بنفسه كلمات ألحانه الأربعة؟ يمكننا الاعتقاد أنه كان يبحث — بشكل خاص — عن تخليص اللحن من الصراع المحتوم بين إيقاع الشعر والإيقاع الموسيقي، إلى حد أنه كان يعتبر النثر أكثر ملاءمة ومرونة وأفضل توافقًا مع تغيرات مقام اللحن المغنَّى، لا سيما أنه يكتبه بنفسه.١٧٤
لكن ينبغي أن نسجل أن موسيقى هذه الألحان، إذا ما كانت الآن ديبوسية (نسبة إلى «ديبوسي») بطريقة ساحرة — بهذه المرونة للجملة، وهذه التعاويذ المتمهلة وهذه الوثبات المفاجئة، التي تبشر ﺑ «بيلياس» — فإن الكلمات ما تزال رمزية للغاية، بتنظيمها «الدائري»، وجمالها الانحطاطي، وتوليداتها، واستعاداتها للتعبيرات المصطنعة إلى هذا الحد أو ذاك، ونحس فيها بتأثير «الكتابة الفنية»، رغم بعض الاكتشافات الناجحة، مثلما في هذه العناوين الموفقة: «من حلم»، «من ساحل رملي»، «من ورد»، «من مساء»،١٧٥ ثمة مسعًى حقًّا لتكرار التعبيرات المطبقة في «من ساحل رملي» على السحب أو الأمواج: «حرائر بيضاء منسَّلة … حرائر خضراء قزحية … حرائر خضراء مجنونة … حرائر بيضاء هادئة»، وما الذي يمكن اعتقاده عن بداية «من ورد»، المتأثرة بلا شك ﺑ «مخالب حادة» لمايترلينك:

في الملل الأخضر بشكل يبعث على الأسى لمخلب الآلام، تحتضن الأزهار قلبي بسيقانها الشريرة …

وقد لاحظنا أن معارضة «كازي» كانت تستهدف أيضًا هذه «الكتابة الفنية» والرطانة على الطريقة الشائعة نحو عام ١٨٨٦م، والحق يقال إن الميل إلى التوليدات، والمزج المصطنع تمامًا بين المجرد والملموس، والتعبيرات المبهمة والرمزية بتكلف، لم يعد يعيث فسادًا سوى لدى بعض الشعراء من الدرجة الثانية (الذين يظل «ديبوسي» متميزًا عنهم بكثير): فسنرى — بتوقيع «جاستون دانفيل»، على سبيل المثال — «الذكرى الهزيلة … للعطور الكهنوتية بشكل غامض»،١٧٦ بينما يستدعي المدعو «ديكلاروي» «نزعات غريزية لا تذبل ومؤلمة»،١٧٧ يبدو أنها مستعارة — مباشرة — من «معجم بلويير».
وبعض الكلمات النادرة والغامضة أكثر خداعًا، وهي — بإصاتاتها الجميلة — تُسعد «ر. دي جورمون»، الذي أدان المؤثرات الضارة ﻟ «الهوس اللفظي»١٧٨ لدى الإنسان الذي التوت رأسه أحيانًا، «أية موسيقى، حسبما يصرخ، يمكن مقارنتها بالإصاتة الخالصة للكلمات الغامضة، آه زهرة بخور مريم! وأية رائحة لفيوضك العذراء، يا موقفة النزيف!»١٧٩ وهو يجمع — بمتعة عامل الفسيفساء، متبعًا أكثر الأساليب شيوعًا، أسماءً نادرة من قوائم «زهور الأقدمين»١٨٠ الطويلة (ثلاثة ثلاثة، مع لازمة في نهاية كل مجموعة)، من قبيل «البنطلة» و«الصاحل الخيمي» و«الوسن» و«الأرغامونيا» … إلخ، وأنجح قصيدة نثرية «رمزية» لجورمون هي «السعادات البدائية»، التي نستحسنها ونحن نتساءل بقلق ما إذا لم تكن تكتنفها النزعة اللفظية (عبادة الكلمات ستكون أكثر دقة بلا شك)، ومؤثرات أسلوبية خارجية تمامًا، أزهار جميلة لمخلب، لكنها مقطوعة، ولم يعد النسغ يسري فيها:

ما الذي تريده مني، ظل «السعادات» البدائية، ولماذا تعود لإزعاجي على مدى السنوات، في نفس الساعة، الأخيرة؟

عطور خزامى متناثرة وزيزفون، سحر زهور الأحواض في حداد، هدب الفيجيليا! برودة الجداول الصافية في ظل شجر المغث الغيور، نعناع لبدت فيه الضفدعة الملاك ذات العينين العذبتين!

– كل هذا، يقول «الظل»، كي أُذكرك أيضًا رائحة الشوكران، الشوكران السامي المقطوع في الخضرة الصباحية، كي أذكرك بالشوكران ورائحته الاستثنائية، المجرمة.١٨١
وعلى أية حال، فإن «ر. دي جورمون» — بالنسبة لمبالغات الرمزيين١٨٢ في «الكلام الملتبس»، والصياغات الفاجنرية — يمثل عودة إلى الوزن، إلى الكلاسيكية، وهو قد يقترب — بمعنًى ما، بعبادته للكلمة النادرة والصائتة، المحبوبة لذاتها خارج المعنى الذي تعبر عنه١٨٣ — من البارناسيين.١٨٤
ومن المفيد — بشكل خاص — أن نتابع، في مؤلفات الكاتب نفسه، التطور الذي أعاده من الرمزية إلى الكلاسيكية، وخاصة عندما لا يكون هذا الكاتب — فضلًا عن ذلك — سوى «ستيوارت ميريل»، أكثر شعراء النثر الرمزيين موهبة، وواحد من أكثر من تأمل هذا الفن المعقد الخاص بقصيدة النثر، ها هو ما قاله عنها في نوفمبر ١٨٩٣م في «إرميتاج»:

أريد من جانبي، أن تكون ذات إيقاع محسوس للغاية مع استعادات، ولازمات ومحارفات متعددة: شيء ما متموج ومتنوع مثل شعر العبرانيين، والموضوعات، أريدها منتقاة من بين أكثر الموضوعات ملاءمة لعظمة اللون والموسيقى، وفي رأيي الخاص، فإن قصيدة النثر، الأكثر حرية من الشعر الغنائي، والأقل خضوعًا من الخطاب المنطقي، وقد تثير الاضطراب بسحر ما مزدوج الجنس، متأرجحة دائمًا بين القاعدة والحرية.

وكما نرى، فإن «ميريل» — مع شعوره الحاد بأن قصيدة النثر تجذبها، في جوهرها، قوتان متعارضتان، «القاعدة» و«الحرية» — يعرفها، من جانبه، باعتبارها نوعًا مبنيًّا و«ذا إيقاع محسوس للغاية»، وقد أصبح من المتوقع — فضلًا عن ذلك — أن يؤدي ميله الواضح للغاية إلى المحارفة، والتناغم المقلد،١٨٥ وميله أيضًا إلى اللازمات والتكرارات (فلنقرأ أشعاره!) إلى استدراجه لكتابة قصائد نثر ذات إصاتات منتقاة موزونة للغاية ومبنية بقوة، لكننا نشهد الإلهام الشعري داخل هذه الصيغة الفنية الصارمة، واللغة التي تتشكل فيها في آن، وهي تمر بثلاث مراحل، كلما تخلصت من المبالغات الرمزية.
وأول نمط للقصيدة، الرمزية الخالصة، يكمن في ديكورات أسطورية ذات مجازات باذخة، تخدمها لغة متألقة تجري جملها بعظمة نهر: إنها حقبة «استعارة»١٨٦ و«دراما»١٨٧ و«بلد أنهار الدم»١٨٨ و«الغرقى»،١٨٩ وها هي الفقرة الأولى من القصيدة الأخيرة، الممثلة تمامًا لهذه الطريقة «الزخرفية»:
شقراءٌ في سيمارها١٩٠ البنفجسي المزخرف بأحصنة «قارن»١٩١ الذهبية، جاءت الأميرة، عبر هذا الغسق الكهنوتي الذي تخضبه بالدماء بيارق كل الأمواج، لتتكئ على سياج الجسر الذي يربط بقوس من الرخام، فوق «نهر الدموع»، ساحة الحيوانات الخرافية بسجن أسرى حبه.
هذه القصيدة ذات بنية ثلاثية واضحة،١٩٢ وكل فقرة تتكون من جملة واحدة طويلة، منظمة بشكل تناغمي، غنية بالكلمات الباهرة، ويعود استدعاء «السيمار البنفسجي المزخرف بأحصنة قارن الذهبية»، كي ينهي القصيدة، التي يتسم رمزها، والحق يقال، بالغموض الشديد، إلى حد أن يختفي تحت عظمة الاستدعاء. ونجد في «الأميرة التي تنتظر»١٩٣ (التي أشرت فيما سبق إلى تكوينها المتوازن للغاية، في مجموعتين من أربعة مقاطع) — استعارة أسهل في الإدراك، وعلى أية حال، تظل كل هذه الشخصيات الكهنوتية، وكل هذه الديكورات الخاصة بالأسطورة، تقليدية تمامًا، وغير واقعية بشكل بارد في عظمتها.
وستكشف لنا مرحلة ثانية، ما تزال رمزية، «ميريل» وهو يتطور نحو مزيد من البساطة، ونحو فن أكثر إنسانية، ألم يصرح، منذ عام ١٨٩٣م، أن المدرسة الرمزية «كانت مصابة بداء المبالغة»، وأنه «يمكن التعبير عن كل الأفكار الجديدة باللغة التي تكلم بها أجدادنا»؟١٩٤ وهو ما يعني أن لغة قصائده ستصبح أكثر بساطة ومباشرة، كما في «ملك يبكي»،١٩٥ على سبيل المثال:

أنا ملك على وديان معتمة، جالس على عرش من حديد، ورأسي بين يدي، وما معطفي سوى خرقة، وقد صدأ سيفي تحت المطر، ورميت صولجاني في نهر بلد بعيد.

وفيما بعد أيضًا، سيتخلى «ميريل» عن كل رمزية، وفي هذه المرحلة الثالثة، حتى آخر قصيدة له، ظلت غير مكتملة («تومي آتكيتر»، عام ١٩١٥م)، سيتفرغ للإلهام الغنائي ﻟ «قصائد حب صغيرة» و«قصائد غير منشورة» أو لم تكتمل،١٩٦ هذه المرة، يبحث الشاعر — دون أن يتخلى عن شاغل الإيقاع والإصاتة — عن تفجير الانفعال في شكل بسيط ومحبوك أكثر فأكثر، والقصيدة التي تبدأ ﺑ «أتذكرين اليوم الذي منحتيني فيه شفتيك؟ وعينيك ويديك؟» التي أعاد «م. ل. هنري» نشر مخطوطها المنقَّح،١٩٧ تتألف من بعض الموضوعات الكبرى البسيطة، متمحورة حول فكرة مركزية: تتحقق هذه البساطة في الأسلوب: فالتضحيات قائمة — بشكل خاص — على الحذف والتكثيف،١٩٨ فمن فرط الحذف المتعاقب، يصل «ستيوارت ميريل» في النهاية إلى الشكل الأنقى، والأكثر تجريدًا.

لكن كثيرًا من الشعراء الشبان — من بين من يسعون إلى إخضاع قصيدة النثر للقوانين «الموسيقية» — قد تخلوا مبكرًا جدًّا لا عن الجمالية الرمزية وعاداتها الأسلوبية فحسب، بل أيضًا عن الديكورات الأسطورية والشخصيات المجازية، والرموز الغامضة، وتتم العودة إلى الغنائية، ونعود إلى الطريق على خُطى «بودلير».

وهذه العودة إلى «بودلير» (التي تتوقف — مع ذلك — عند بناء القصيدة، الذي يظل صارمًا) تتضح لدى عدد من الشعراء الشبان:١٩٩ فعندما يكتب «ش. ميركي» في «على الماء»:٢٠٠ «انظر، يا قلبي، ها هو الوهم الأعظم للمساء … بالقرب منا، غابة من الصواري، زحام من المراكب والكائنات … إلخ»، يمكننا أن نحصي التأثيرات، وهناك كاتب آخر، «ر. شيفيه» — الذي سيشبهه «ب. آدام» ببودلير٢٠١ — يبدو أنه استعار من «بودلير»، وهو يؤلف «ظلال وسرابات»،٢٠٢ لا بعض الموضوعات فحسب، بل الرغبة في جملة سلسة، قادرة على تمثل «تموجات أحلام اليقظة»: فقصيدة الراقصة بالحلقات٢٠٣ («لكن إيقاع رقصتها هو ما يبهرني، وتذوي روحي مع الرشاقة الملتوية لجسدها الممشوق الذي يدور») إنما هي بودليرية من ناحيتين، بالإلهام والأسلوب. وفضلًا عن ذلك، فإن «شيفيه» أكثر توفيقًا هنا مما عندما يسعى إلى التماثل في القصائد القصيرة، حيث لا نرى — بشكل مفرط — كيف يمكن لبلاغة النوع أن تصبح مصطنعة …٢٠٤
و«ج. سارازان» بودليري آخر، وهو ليس مؤلف «سنتور» فحسب، وإنما مؤلف قصائد نثر مهملة ظلمًا: مقطوعات كتبت بين عامي ١٨٩٠م و١٩٠٠م، وجُمعت عام ١٩١١م في «أغنية الشاعر الشارد»، والمقدمة — التي يصف فيها الإيقاع الشعري للنثر — تذكرنا فعلًا ﺑ مقدمة «سأم باريس»: «تخلق الروح في حركتها — غريزيًّا — تعبيرها الموسيقي، وتعرضه بحرية تامة، وتنوعه حسب رغبتها وحسب التحويرات الخاصة بها، تمده أو تسرعه»، وقصائده المكتوبة من كل مكان (من هنا يكمن العنوان)، وفي فترات مختلفة، متنوعة إلى حدٍّ بعيد في النغمة والشكل: فإذا ما بدا أن القصائد الأولى تشير إلى جهد واضح في الإيقاع والنباء الدقيق (إيجاز، ومقاطع مماثلة، ولازمات)، فإن الأخيرة تميل — بالأحرى — إلى التأمل الأخلاقي والفلسفي، وسأورد قصيدة «ليلة صيف»٢٠٥ كاملة، إذ يبدو لي اقترابها من الكمال في هذا النوع الصعب الذي يتمثل في البناء القائم على الموضوع، في شكل عذب وموزون ﻟ «كلٍّ» شعري تتواصل فيه العناصر الصوفية والعناصر الغنائية وتتوازن بتناغم، محتلة مكانها في الأرابيسك الكلي، مثل الألوان في لوحة، ومثل نغمة في مقطوعة موسيقية.

الوقت متأخر وعذب في الليل، الوقت متأخر وعذب على البحر، ترفرف النسمة وتصدر الحفيف مثل الجناح، تنسل وسط الصمت، إنه ليل الصمت والنسيم، في المدينة الصغيرة القديمة البحرية.

ترن خطوتي عبر شوارع الظلام والقمر، عبر الشوارع القديمة الخرافية: بالقرب من أمواج البحر الناعس، وعلى الأسوار القديمة التي تجعلها (الامواج) مثل المخمل، بأية عذوبة مفرحة تسترخي أشعة القمر …

أسيجئ إذن يوم لن أكون فيه، ولن أعود أشعر فيه بهذه الأنفاس القطيفية تلمسني، حيث ستكون عيناي مغلقتين في ليالي الظلام والقمر … في المدن الصغيرة القديمة البحرية؟

وسنلاحظ أن الفن لا يتمثل — هنا — في البحث عن الأوزان المنتظمة (يمكننا — مع ذلك — أن نلتقط عدة بحور سكندرية، وتماثلات ثنائية٢٠٦ أو ثلاثية،)٢٠٧ أو المحارفات البليغة («frôle à la façon d’une aile = تصدر الحفيف مثل الجناح» … إلخ) أو الإصاتات التي تتجاوب مع بعضها البعض («avec quelle douceur bienheureuse les rayons de la lune reposent = بأية عذوبة مفرحة تسترخي أشعة القمر»)، وإنما في ترتيب الكلمات (التي اختيرت لبساطتها الشديدة) بحيث تخلق، مثلما يقال في التصوير الزيتي، صبغة عامة، مثل استعادات للنغمات: سواء بالتكرارات البسيطة (هكذا تقارب «ليل الصمت والنسمة» وتربط اللفظتين الموجودتين في الجملة السابقة، منفصلتين وموضوعين في الطرفين)، أو باستعادات أكثر براعة (doux = عذب استعادة لعذوبة douceur، velouter = يصبح قطيفيًّا استعادة ﻟ souffles de velours أنفاس قطيفية، frôle = تمس استعادة لتلمسني = effleurer التي تحمل نفس المعنى والإصاتة)، وهي ليست استعادة للكلمات فحسب، وإنما للأفكار أيضًا (أي الأفكار الشعرية)، التي تم تناولها، لتخدمني — هذه المرة — في مقارنة موسيقية، مثل «تيمات» تظهر ثم تعاود الظهور في شكل آخر، أو تولِّد تيمة أخرى ستتطور بدورها: فهكذا يستطيع المقطع الثالث ويوحد — على النمط الغنائي — موضوعي النسمة (اللذين كانا في البدء وصفيين) التي «ترفرف وتصدر الحفيف» (في المقطع الأول) و«شوارع الظلام والقمر» (في المقطع الثاني)، وسنلاحظ أيضًا كيف تقود أفكار عن الظلام والشيخوخة («مدينة قديمة، شوارع قديمة، متاريس قديمة») إلى تطوير أخير — بطبيعة الحال — عن الموت.
وفي قصيدة كهذه، نشعر بتأثير مزدوج لكل من «برتران» و«بودلير» يتوحد بتناغم لإنتاج الشكل الأكثر كمالًا لفن تركيبي وموسيقي، فالتركيب المقطعي يتحقق — هنا — بتأثير «بودلير»، والعصر الغنائي يجرف التصويري، وبالعكس، فإن هذا النثر الغنائي — بلا مغالاة، الذي «يتوافق» فيه الشعور الحميم مع المشهد الطبيعي، والذي يدين بالكثير إلى «بودلير»، وربما «هايني»٢٠٨ — منظم فنيًّا من خلال «البلورة» الفنية التي تجعل منه كلًّا ملتحمًا بلا تصدع. وهكذا نصل إلى كلاسيكية حقيقية، إذا ما قصدنا من ذلك نظامًا مؤسسًا بعناية، تتجمد فيه كل الاندفاعات في أشكال فنية، متسلسلة في سبيل المجموع.
ويثير الانتباه أيضًا أن نرى كيف يستوعب مدير «في ليترير»، «لويس لورميل»٢٠٩ — ربما لفقدان الموهبة الشخصية الحقيقية — الاتجاهات المتعاقبة في عهده ويغزي بها قصائد نثر ذات مفهوم «كلاسيكي» للغاية، كتبها بين عامي ١٨٨٧م و١٩٠٨م، فوفقًا لتأثير اللحظة، ستكون «لوحات روح»٢١٠ أوركسترالية (مثلما في «تناغمات» التي يرجع تاريخها إلى عام ١٨٨٨م، ومقطوعات «صباح» و«ناي ومزمار» و«ظهيرة»،)،٢١١ ورمزية، مثلما في «كائنات بحرية»، المنشورة في أبريل ١٨٩٣م في «في ليترير»،٢١٢ ورامبوية … لكن كل هذه النزعات خاضعة للانضباط الصارم لبنية منظمة، يسودها الاعتدال في المشاعر والأسلوب، وها هي مقطوعة صغيرة ناجحة للغاية، تختلط فيها — بنجاح — تأثيرات من «بودلير»٢١٣ و«رامبو»٢١٤ و«مالارميه»:٢١٥ «رؤيا الليل، المنشورة في «آر ليترير»، في أبريل ١٨٩٣م:

كان يمر من هنا: قابلته، محييةً ومبتسمة، مالت رأسه إلى الجانب قليلًا، هكذا حتى، في الغسق، كان شعره ذهبيًّا فاتحًا. وسياج الجسر، العجوز للغاية، يلتمع في الشمس الغاربة.

طرفة عينين، قبضة يد، قليل من الكلام، كان يبدو حزينًا، بعيدًا عن العامة المنهمكة، لا يمضي إلى أي مكان، مشغولًا في غباء بلا شيء، والشمس في الأفق كانت تغرب بعنف.

وا أسفاه! وسط نفس المارة واللامبالين، تزدهر الشمس العجوز دائمًا، لكن هذه البسمة … هل كانت حلمًا؟

كان يمر من هنا، أمام السياج الذي يلتمع.

لدينا هنا — في إيجازها البارع — قصيدة «أحزان أوليمبوس» مصغرة، في حالة ميدالية «من لحم of meat»، كما كان «هويسمان» سيقول، لكن «هويسمان» كان سيعثر — حسبما أعتقد — على الرسم التخطيطي إلى حدٍّ ما في صفائه التجريدي، فالبحث عن الكلاسيكية لا يتحقق بدون التضحيات: التضحية بالتعقيد من أجل الصفاء، والتضحية أيضًا بالانفعال الذي لا يمكن أن يدوم إلا نقيًّا، وتحت السيطرة، وثمة المخاطرة بالانتهاء لا إلى تبسيطية معينة فحسب، بل إلى نوع من تجميد الانفعال الأولي.
وما ينبغي قوله — بشكل خاص — هو أن هذا الشعر السكوني، المتوازن بتناغم، ليس أفضل ما يلائم «الأجيال الأليمة أسيرة الرؤى»٢١٦ في نهاية القرن التاسع عشر، فقصيدة «النثر» الفنية — التي يخضع فيها الانفعال للسيطرة، محكومًا بأن يصبح عنصرًا جماليًّا، ويذعن تركيبه للقوانين الدائرية الكبرى للعالم المدرَك «في شكله الأبدي» — هي نوع من الانحراف الزمني بنفس طريقة الأشكال المتسلسلة للنظم المنتظم، ففي حقبة تزعزعت فيها كل الأبنية الاجتماعية والأدبية أيضًا، وكان المرء فيها قد رفض الاندماج في العالم الموجود سلفًا، ليطالب باستقلاله الخاص بإرادته الفوضوية، لم يكن من الممكن للشعر أن يظل خارج هذا الاضطراب وهذا الجهد التحرري، وقد تحققت خطوة حاسمة، مع الشعر الحر، في طريق التمرد الفوضوي الذي يمثل استعادة للفردية في نفس الوقت: لقد بدأ تمرد شعري لا يمكن لأي شيء أن يغير من اتجاهه، ولم يعد الجيل الثاني من الرمزيين يريد الاستماع إلى أي حديث عن مدرسة، أو قيود شكلية من أي نوع، ولم يعد ممكنًا لقصيدة النثر — حتى في شكلها الفني والتركيبي — أن ترضي أتباع «رامبو» و«لوتريامون»، وسيقودهم السعي من أجل صيغة فردية إلى النثر في بادئ الأمر «الحل السهل oratio soluto»، الأكثر حرية في شكله والأكثر تنوعًا في إمكانياته في آن، ومنذ عام ١٨٩١م حتى عام ١٨٩٧م، ستكون تعددية الأشكال هي قانون الأدب الشعري.

(ب) تعددية الأشكال (١٨٩١–١٨٩٧م)

لا أنوي — هنا — بحث كل مظاهر هذه التعددية الأدبية بالتفصيل، أو توضيح كيف بعثرت الميول الفردانية، وبالتالي الانفصالية والمتباعدة، التي امتدت من عام ١٨٩١م حتى عام ١٨٩٧م، محاولات الأدباء الشبان في كل الاتجاهات التي يقدمها النثر،٢١٧ فما ينبغي تسجيله هو أن النثر — في كل أشكاله — يطمح إلى أن يصبح قابلًا للنشر: ففي عام ١٨٨٦م، ذكر «ت. دي ويزيوا» كلًّا من «ميشليه» و«رينان» و«فرانس»،٢١٨ باعتبارهم من «موسيقيي الكلمات»، وسرعان ما سيقوم «مالارميه» بتعريف «القصيدة النقدية»،٢١٩ ويتصادف هذا التوسيع لمفهوم الشعر مع انهيار صيغة قصيدة النثر «الفنية» ذات الشكل الثابت، وأيضًا مع المظاهر الجديدة لقصيدة النثر، الأكثر حريةً وتنوعًا، التي تقربها من النثر الحقيقي الرغبة في اتخاذ «إيقاعات الفكر»٢٢٠ بدلًا من تنسيق الجمل لغرض جمالي شكلي.
وهكذا نرى تزايد ظاهرة التأثير المتبادل بين الشعر والنثر التي قد تكون، مثلما تم الاعتقاد، العلامة الفارقة للأدب الحديث:٢٢١ فقد سبق للشعر الحر — في اقترابه من إيقاعات النثر — أن قدم تجليًا واضحًا لها، والآن، سنرى (في الاتجاه المعاكس) الأنواع المقصورة حتى ذلك الحين على النثر وهي ترتقي حثيثًا إلى المستوى الشعري، فلم يعد الأمر يتعلق — إذا جاز القول — بكتابة قصائد نثر، بل — بالأحرى — بكتابة النثر في قصائد، فالثورة الأدبية، التي بدأت في وضع كل الكلمات على قدم المساواة الشعرية (إنه تصريح «هوجو» الشهير: «لم تعد ثمة كلمات عامية …»)٢٢٢ قد استمرت بإقرار المساواة الشعرية بين كل أشكال التعبير (وهو إعلان «مالارميه» الذي لا يقل إثارة: «الشعر في اللغة حيث يكون ثمة إيقاع، والحقيقة أنه لا وجود للنثر: هناك حروف الأبجدية، ثم أبيات مكثفة إلى هذا الحد أو ذاك، مسهبة إلى هذا الحد أو ذاك …»)،٢٢٣ وتنتهي حاليًّا بالمساواة الشعرية بين الأنواع الأدبية (من هنا تكمن تصريحات من قبيل تصريح «ر. دي جورمون»: الرواية قصيدة، وكل روايةٍ ليست بقصيدةٍ فلا وجود لها»).٢٢٤
سيُقال إنها فوضوية رهيبة، والحقيقة أن مفهوم قصيدة النثر يخفت ويتلاشى في هذا الخلط للأنواع، حيث الروايات، وحكايات راشيلد،٢٢٥ و«القصص» (الطبيعية أو غيرها) ﻟ «ج. رينار»،٢٢٦ تُسمى جميعًا قصائد، وإذا ما كانت «قصيدة النثر» — في فترة ١٨٩١–١٨٩٧م — تميل إلى التخلي عن الصيغة «الفنية» والدائرية، فلم يعد وجود — ألا نادرًا — لصيغة «القصيدة–الإشراقة»، التي قدم «رامبو» تجليات باهرة لها، ليس ذلك لأن الرسالة الرامبوية قد ضاعت، فهي — على النقيض، كما أشرت سابقًا — ستتغلغل في أعماق الجيل الثاني من الرمزيين، لكن كان ينبغي الانتظار فترة أخرى قبل أن تُظهر الأعمال تأثيرها (إلا بطريقة متفرقة) بوجه آخر غير الرغبة في القطيعة مع الأشكال الشعرية المسلَّم بها حتى ذلك الحين، وسنرى الكُتَّاب، حتى عام ١٨٩٥م، وهم يلتفتون بشكل خاص نحو النوعين اللذين يملكان أكثر صفات القرابة مع قصيدة النثر: النوع السردي والنوع الوصفي (الموسَّع غالبًا في اتجاه الغنائية أو الفلسفة)، ومعالجتهما كأنواع شعرية: مما ينطوي — في آن — على فكرة الشعر وفكرة الشكل الفني.
فلماذا لا نتجاهل — عن عمد — محاولات توصلت، في الحقيقة، إلى أنواع جديدة في النثر الشعري أكثر مما في قصيدة النثر؟ أولًا؛ لأننا — في هذا التوسيع لمفهوم قصيدة النثر — يمكنننا أن نكشف عن البذور الخصبة للتجديد، وأن نلاحظ علاقات جديدة أتت من أنواع أخرى، استوعبتها قصيدة النثر فيما بعد، وأيضًا لأن في هذه الحصة من المقطوعات — الموجزة و«الشعرية» إلى هذا الحد أو ذاك — تتبدى، هنا وهناك، قصائد أصيلة لم تعد الآن مجرد محاولات لتجاوز النثر، لكنها إنجازات (واسم «كلوديل» وحده يكفي ليضمن لنا ذلك)، ولا ينبغي أن ننسى أن نوع «قصيدة النثر» ليس نوعًا منغلقًا مانعًا، بل هو — على النقيض — نوع متعدد الأشكال في جوهره، يتبدى، في اختياره ﻟ «النغمات» و«الموضوعات»، قريبًا — في أغلب الأحيان — من أنواع أخرى مثل الرواية أو التأمل الغنائي،٢٢٧ نوعان انحدر تاريخيًّا منهما، من ناحية أخرى: فلم يكتب «ماكفرسون» و«سينانكور» و«نودييه» قصائد نثر: لكنهم مع ذلك جعلوا فكرة شعر من النثر ممكنة.

(١) النوع السردي

الرواية الشعرية

أخذ النوع السردي ينحو — بلا شك — بعد عام ١٨٩١م (وسيستمر هذا التطور، مع بعض فترات توقف، حتى الآن)٢٢٨ إلى أن يصبح نوعًا شعريًّا، وقد سبق أن تحدثت٢٢٩ عن وجود أصناف كثيرة من الروايات «الشعرية»، سواء من ناحية الموضوع والنغمة (الرواية السوداء، ورواية الجان أو الرواية الخرافية، والرواية الرمزية، والرواية الغنائية)، أو من ناحية بنية الموضوع والموسيقى (روايات توماس مان)، ومع ذلك، فلا تستطيع الرواية أن تنحو حقًّا نحو القصيدة إلا باكتساب صفتي الإنجاز والتكثيف اللتين يمكن أن تبدوا — للوهلة الأولى — غريبتين، بل متعارضتين مع طبيعتيهما، ما دامت الرواية تنتظم في الزمان، في الصيرورة، وهناك وسيلتان تبدوان ممكنتين نظريًّا، تتمثل الأولى في تركيز السرد وحصره حول نواة شعرية، لزيادة الوحدة وتكثيف التأثير — ومن هنا — تتحقق — في النهاية — الرواية مثلما حلم بها «هويسمان»، «مركزة في صفحة أو صفحتين»،٢٣٠ وتتمثل الوسيلة الأخرى في تفجير السرد في فصول، أو مقاطع، يشكل كل منها كلًّا مستقلًّا يستمد قيمته من نفسه: بذلك، ستتكون الرواية من سلسلة من قصائد النثر القصيرة، مثلما كانت حالة «أناشيد مالدورور» من قبل.
وعمليًّا، نلاحظ أن رواية «مركزة» في صفحة أو صفحتين لم تعد رواية على الإطلاق: فثمة تناقض في المصطلحات، فحتى «سنتور» موريس دي جيران، أو بعض «حكايات» فييه دي ليل–آدام، التي يمكن أن تمنحنا فكرة عن «لذة الطعم هذه المتطورة والمصغرة في قطرة»٢٣١ هي أطول بوضوح من ذلك، وإذا ما ارتضينا كحد فاصل «السنتور» — الذي يعتبر أيضًا قصيدة نثر بتجانسه الأقصى، ووحدته «الدائرية» وثرائه الرمزي، وأيضًا لوجود «نغمة» شعرية ما، لكنه المقارب للرواية، بفعل «التسلسل» في الزمن لوجود ما — فيمكننا أن نطرح مبدئيًّا أنه لا وجود لأي عمل نثري، أيًّا ما كانت شعريته،٢٣٢ يتجاوز أبعاد «السنتور»، يمكن أن يُسمى قصيدة نثر، وبالعكس، لا يمكن لأي عمل يظل دون هذه الأبعاد، حتى لو كان الزمن المقدَّم طويلًا للغاية (مثلما في «حيوات» لرامبو، على سبيل المثال) أن يكون رواية في ذاته، وبالعكس، سنشهد فيما بعد بقليل، أنه يمكن العبور من القصة أو الحكاية إلى القصيدة بانتقالات غير محسوسة.
وبالمقابل، تبددت الصيغة الثانية خصبة للغاية، والأمثلة عديدة بعد عام ١٨٩٠م على هذه الروايات المكونة من مقاطع يرسم تجمعها سردًا موحيًا لا حكائيًّا: ومثلما يربط ذهننا سلسلة من النقاط المضيئة بمنحنًى خيالي تمامًا، فإننا نربط اللوحات المختلفة المتتالية بخيط الزمن اللامرئي–المختفي في «الفراغات» التي تفصل بينها، هكذا يتصرف «ب. لووي» ببراعة في «أغاني بيليتيس» التي أشرت إلى طابعها الروائي،٢٣٣ وعندما ينشر «جاري» ضمن «دقائق الرمل التذكاري» — عام ١٨٩٤م — مسرحيته «هالدرنايلو»٢٣٤ المصحوبة ﺑ «مقدمات» و«أشياء غير مذكورة Parallpomènes»، فإنه يستخدم، هو أيضًا البناء في مقاطع، وإن يكن بحرية أكبر، وتستلهم تقنيته — بوضوح — «أناشيد مالدورور»، والجزء الثاني من «أشياء غير مذكورة Paralipomènes» مكون — بشكل خاص — من عدة مقاطع نستطيع أن نرى فيها، إذا شئنا،«رواية هالديرن»،٢٣٥ «تبدو» — مثلما لاحظ «جراب» — ﮐ «جهد مبذول من أجل المنافسة مع لوتريامون»:٢٣٦ فعنف النغمة، والميل إلى الصور المفاجئة،٢٣٧ وتجمهر الحيوانات المنفرة أو الكئيبة (الضفدع، والبومة، والبومة الصمعاء، ومصاص الدماء) يخلقون مناخًا شعريًّا مشابهًا تمامًا لمناخ «أناشيد مالدورور»، لكنه أيضًا استخدام تقنية شعرية مماثلة (انقطاع، وتفكيك الوقائع، وعرض «انفعالي»)، بما يسمح بمقاربة هذا النص من القصيدة التي تنهي رابع «أناشيد مالدورور» بوجه خاص.٢٣٨
ونرى — من خلال مثال «هالديرنايلو» — أن «الرواية» التي أتحدث عنها هنا تنطوي على رد فعل عنيف إزاء الرواية الواقعية ورواية التحليل النفسي:٢٣٩ فمن أجل كتابة «روايات قصائد»، يضع الكاتب نفسه روحيًّا في عالم الحلم (أو الكابوس)، ويستثير في نفسه أحيانًا هذيانًا إراديًّا، هكذا يصف «ريتيه» — في عامي ١٨٩٠-١٨٩١م، في «ثوليه دي بروم»، «الوجود غير السوي والمتفاقم» لروح تلجأ إلى عالم خيالي، وتتغذى برؤًى غريبة، وتزيد جنونها بالمثيرات، وفي نهاية الكتاب، يودع الشاعر «ومضات كابوس ميت»،٢٤٠ وأيًّا ما كانت غريبة هذه الهذيانات، التي تمثل «تنويعات على موضوعات صنعها الحشيش»، مثلما تشير مجلة «فالوني» — التي تنشر في يوليو ١٨٩٠م مقطوعات متعددة منها — فإن الكتاب، الذي تؤطره مقدمة وخاتمة من الشعر، يشكل متتاليةً، وتلاحقًا للموضوعات متأثرًا — فضلًا عن ذلك — بنسق المسرحيات الفاجنرية،٢٤١ وكان تأثير «ثوليه دي بروم» كبيرًا في هذه الحقبة، ولا شك أن «ريتيه»، وقد تأثر هو نفسه ﺑ «إشراقات» رامبو، قد فتح حواجز الأدب الساخط على مصاريعها، نحو الرؤى ونصوص الأحلام، وهكذا، يجتهد «فيكتور ريموشان» — الذي يعلن في بداية ديوانه «الأمنيات»: «ماتت روحي على الأرض … واخترت كي تزدهر فيها خرافاتي، الكآبة الملائكية النجمية»٢٤٢ — لخلق «أزهار إعجازية»، و«ثلوج من يجمع لا توصف» و«ومواكب رؤى عظيمة»،٢٤٣ والحق يقال أنه لا يحقق ذلك سوى بشكل رديء؛ لأنه يستخدم لغة مجردة للغاية، لكن ذلك لا يمنع «ستيورات ميريل» من أن يمتدح هذه القصائد، ومن ملاحظة أنها تشكل «رواية روحية»، ونرى إلى أي حدٍّ يتسع مفهوم الرواية و«يصبح شعريًّا» في اللحظة التي يكف الشاعر إراديًّا عن التعامل مع الواقعي، وينوي استعارة عناصر السرد من توهمات خياله وحده، كي يدور السرد بكامله في مجالات الفانتازيا والرمز، ولنذكر هنا أن «جيد» سينادي، بصدد مؤلفه «رحلة الإيرياني» المنشور عام ١٨٩٢م، بمعادل ﻟ «المشهد الطبيعي» و«الانفعال»،٢٤٤ مدمجًا بطريقة رمزية للغاية المعطيات الملموسة المجبولة من الواقع والمعطيات الذاتية والحيوية للمشهد الداخلي، «إن بحارتي، بلا سمات، يصبحون بالتناوب الإنسانية جمعاء، أو ينحصرون في ذاتي»، مثلما يضيف،٢٤٥ لقد تلاشت فكرة إضفاء الطابع الموضوعي الروائي لهذه «الرحلات» على «المحيط الشجي» أو غيرها، الأقرب — فضلًا عن ذلك — من النثر الشعري لا من قصيدة النثر، وبنفس القصد، سبق للكاتب «بواكتوفان»،٢٤٦ الذي مجده الرمزيون الأوائل، أن أدمج الانطباعات والانفعالات في روايته (أحلام، مزدوج)،٢٤٧ حيث ينبغي بدلًا من البحث عن فعل متتالٍ أن نبحث عن لوحات موجزة: أحلام، رؤى، مشاهد طبيعية مشوشة وغير ثابتة مثلما في حلم، يملك بعضها الكثافة والوميض غير المألوف لقصيدة النثر.٢٤٨
ولن أذكر رواية «إيبيس» التي نشرها «ب. لوكليرك» عام ١٨٩٣م، وهي خليط من النظم وقصائد من النثر، من الغنائية والنثرية الهزيلة إلى هذا الحد أو ذاك (ألم يفكر «ب. لوكليرك» في تكريس قصيدة نثر ﻟ «رءوس العجول»؟ والحق يقال إن «هويسمان» سبق أن كتب «قصيدة نثر اللحوم المطبوخة في الفرن» …) إلا كي أشير إلى عاقبة خلط النغمات والأنواع، القاتلة أيضًا للشعر ولاتساق الديوان. وبالمقابل، لا يتخلى «كتاب مونيل» — الذي ينطوي على «غموض، وضوء معتم، وأحاديث هامسة»٢٤٩ — عن البقعة الحالمة للتجليات والرموز، وقد أرادوا، مع ذلك، تشبيهه ﺑ «قوت الأرض»، بدعوى أن الجزء الأول (أحاديث يونيل) يقترح تعليم كراهية القيم الثابتة والأوضاع المكتسبة،٢٥٠ ولكن ثمة اختلافًا لا يمكن اختزاله بين التعليمية الكتبية لهذه «الأحاديث» والحمية والغنائية الشخصية ﻟ «قوت الأرض»، وهذا الجزء الأول ليس الأساس ولا أفضل ما في الكتاب،٢٥١ فالحكايات التي تشكل الجزء الأكبر من «كتاب مونيل»، مثلما أوضح «ي. دافيه» في توضيحه للموضوع، لا نستطيع إنها حكايات رمزية»،٢٥٢ و«جيد» نفسه، في مقارنته بين مؤلفه «الكتاب الوحشي» و«الكتاب الرقيق» لشووب، تمكن من تقرير: «كنت متأثرًا بشكل خاص، في «مونيل»، بما كان ما يزال يبعدها عن الحياة، ووجدتها — على روعتها — باهتة إلى حدٍّ ما، وما قدمته من نصوص في اﻟ «قوت» أكثر واقعية وأكثر مباشرة في التماس مع الحياة (…) وكان ذلك أكثر ما اختلف فيه كتابي عن كتاب شووب»،٢٥٣ وعلى أية حال، يتميز عنصر «السرد» في الحكايات الرمزية والشعرية ﻟ «كتاب مونيل» بالضعف إلى حد السقم التام أحيانًا، فليس ثمة أي اختلاف بين بعض قصائد النثر الرمزية ومثل هذه الخرافات (المصحوبة بالحكمة) التي وجد فيها «موكلير» شيئًا من التكلف اللذيذ والمرعب»٢٥٤ (هذه اﻟ «مقدورة»،٢٥٥ على سبيل المثال، التي تستخدم الموضوع الرمزي للمزدوج مختلطًا بموضوع المرآة)، وإذا ما كنت قد صنفت هذا الكتاب ضمن الروايات؛ فذلك لأن شخصية «مونيل» (التي وجد نموذجها الهش والصبياني في الواقع)٢٥٦ تمنح الديوان وحدةً وأيضًا ما يمكن تسميته بالمتعة الروائية، لكننا هنا أقرب إلى الحكاية مما إلى الرواية: والواقع أننا سنرى أنه لا يوجد بين الحكاية والقصيدة حد مرسوم بوضوح، على الأقل في هذه الحقبة.

الحكاية والمجاز، أنواع شعرية

في أغسطس من عام ١٨٩٢م، نشرت «ميركور دي فرانس» نصًّا لم يسبق نشره لبو حول «الحكاية والقصيدة»، حيث أمكن لقراء «بودلير» أن يعثروا فيه على الأفكار الخاصة بالحكاية (أو الأقصوصة) والرواية، التي تم ابتذالها في «ملاحظات جديدة حول إ. بو»:٢٥٧ الحكاية أرقى من الرواية؛ فلأنها أقصر، يمكن قراءتها على نفس واحد، ولا تنهدم فيها وحدة الانطباع وكلية التأثير، ولنفس الأسباب، وبنفس المصطلحات، أعلن «بو» تفوق القصيدة القصيرة على القصيدة الطويلة،٢٥٨ وبناءً عليه يُعامل الحكاية كنوع من قصيدة، مع الاعتراف للنثر، من ناحية أخرى، ﺑ «تنوع أنماطه وتغير الأفكار والتعبيرات» التي لن تستطيع القصيدة المنظومة التمتع بها»،٢٥٩ والخلاصة أنه يتحدث عن الحكاية تقريبًا مثلما يمكننا الحديث عن قصيدة النثر، وإنه لدالٌّ أن نرى هذا النص منشورًا في المجلة الرمزية الكبرى في الفترة التي جرى لمفهوم الحكاية نفس التوسيع الذي تلقاه مفهوم الرواية: وهو ما تثبته لنا — على سبيل المثال — شكاوى ناقد «صفائي» وهو يحلل، عام ١٨٩٤م، عشرة كتب من «حكايات» مزعومة (من بينها «إيبيس» و«مذابح الانبثاق» و«حكايات إلى النفس» لدي رينييه)، مكتشفًا أن القليل منها هو الذي يستحق هذه التسمية، مما يقوده إلى أن ينتهي قائلًا: «ألم نعد نكتب حكايات؟».٢٦٠
ولا شك أن نقاء النوع يضيع، لكن ينتج عنه أحيانًا ثراء شعري تنحو الحكاية بفضله نحو قصيدة النثر، وأحيانًا ما تصبح قصيدة نثر عندما يتحقق شرطا الإيجاز والكثافة الضروريان — مثلما رأينا — لقصيدة النثر، وهما شرطان أقل غرابة بكثير عن طبيعة الحكاية مما عن طبيعة الرواية. ومن ناحية أخرى، ألا تنحو كل حكاية، بدءًا بمفهومها، إلى تشييد عالم خيالي صغير، يهرب من قوانين العالم الحقيقي، حيث كل شيء فيه إشارة ورمز؟ علينا ألا نندهش إذن أن نرى — عندما تتأكد الجماليات الرمزية عن التماثلات، والتجاوبات الخفية، والرموز الموحية — كثيرًا من الكتاب يكتبون «حكايات» تقارب القصيدة (وأحيانًا «قصائد نثر» ليست سوى حكايات،).٢٦١ وقد نشرت مجلة «فالوني»، منذ عام ١٨٨٧م، حكايات رمزية (من بينها «البجعة» لموكيل، وهي مجاز في شكل وسيط بين النثر والشعر الحر)، وجاء الازدهار بعد عام ١٨٩١م: ففي عام ١٨٩٣م فحسب، نشرت «ميركور دي فرانس» حكايات شعرية ﻟ «راشيلد»٢٦٢ و«ر. دي جورمون»٢٦٣ و«مينار»٢٦٤ و«ﻫ. دي رينييه»٢٦٥ وهلم جرًّا.
ولدينا هنا مثال مدهش عن ظاهرة التأثير المتبادل الذي يحقق التواصل وقتئذٍ بين الأنواع المسماة «شعرية» والأنواع الأخرى. ومن ناحية أخرى، فالنصوص التي ذكرتها لتوي تنال بلا تمييز اسم «حكايات» و«قصائد»، وفي عرضه لديوان راشيلد «شيطان العبث»، يصف «قطاف عنب سدوم» و«الفهد» بأنها «قصائد نثر ثرية»،٢٦٦ ويبدي إعجابه ﺑ «الفتنة الكئيبة للدم، والرعب الجبار للمشاهد الطبيعية … والإصاتة الفاتنة للكلمات والإيقاع»: سمات تخص النثر الشعري، لكننا نعرف أن مصطلحي «نثر شعري» و«قصيدة نثر» قابلان للتبادل بالنسبة للرمزيين … ومع «ر. دي جورمون» — الذي كرر مرات عديدة أن الرواية قصيدة، وأن الحكاية قصيدة أيضًا إذا ما توفرت على إيقاع، «حيث الإيقاع أساسي»٢٦٧ — سنتوفر على محاولة استيعاب أكثر تطورًا: ويقدم لنا «جورمون» — كمثال على ذلك (وهو كاتب قصائد نثر،٢٦٨ فضلًا عن ذلك) — نموذجًا جيدًا لحكاية–قصيدة في «أخبار الجزر المنكوبة»: أي إنه يطبق على عنصر السرد بالتحديد تقنية قصيدة النثر «الفنية» مع التكرارات، والموضوعات الرئيسية، والسعي المتطور إلى حدٍّ بعيد إلى الموسيقية في الأسلوب، ففي البداية، على سبيل المثال:
كان بلدًا عذبًا، حزينًا وأخضر، كأنه يتأمل نكبةً قديمة، سهل فسيح مكروب ومنقاد. وأنا مأخوذ بممر ضيق بين سياجين من أشواك بلا زهور، أشواك نائحة مثيرة للشفقة بدا أنها تبكي قسوة مصيرها، وبعد أن سرت ساعات في سجن الأشواك النائحة المثيرة للشفقة، أوقفني حاجز يرتفع منتصبًا مثل حاجز مياه عبثي بيني وبين اللانهائي.٢٦٩
سنلاحظ تكرار الصفة «نائحة»، التي ستعود فيما بعد، ولا سيما التداعي «عذبًا، حزينًا وأخضر» الذي سيتستعيده «ر. دي جورمون» بعد قليل بإلحاح: «حديقة عذبة، حزينة وخضراء، حيث نمت، طازجة وكالتفاحة، حزينة، رقيقة وخضراء، الخضراوات …» مطبقًا بذلك — بطريقة آلية تمامًا — هجاء النسق نفسه الذي يستخدمه (لا شيء أفضل من أن تكون الخضراوات رقيقة وخضراء، لكن حزينة!) وينبغي القول إن كل هذه «الاستعادات» الموسيقية لموضوع الخضراوات الذي يصبح رمزًا للحيوانية (لهذا تصبح عينا المرأة «بلون الخس الطازج، الرقيق، والأخضر» …) تمنح المقطوعة كلها نغمة محاكاة ساخرة إلى حدٍّ بعيد: محاكاة ساخرة لقصيدة النثر، وللحكايات الرمزية، وديكوراتها المتلاشية، و«فتور» الأسلوب فيها. والواقع أننا نجد أيضًا — في هذه الفترة — كتَّابًا يتخيلون «شعرية» كالنثر بافتعالات غريبة في الأسلوب: هكذا يكتب «ر. تارديفو»، الذي لم يلبث أن وقع باسم «رينيه بويليسف»، نصوصًا شبه غنائية، وشبه رمزية، نعثر فيها على لطافات من هذا القبيل: «رغبتي الكبرى تكمن في التحليقات، حبي للأرواح الذاهبة في الممرات، عطشي للأماكن الأخرى المشتهاة، بدا لي أنهم على وشك إرضائكم …»،٢٧٠ والحق أن «إرميتاج» قد آوت — عام ١٨٩١م — محاولات كهذه،٢٧١ وسرعان ما سنرى «إرميتاج»، فيما بعد، تنشر «حكايات» تنحو إلى الشعر بأساليب أقل افتعالًا: أحيانًا باللجوء إلى مهابة ماضٍ تاريخي وأسطوري، يتكلل بهالة الشعر بقدر ما يجعلنا نحلق عبر المكان والزمن: وهي — بالنسة للنثريات الوصفية — حالة «هنري مازيل»، في «الساحرة» و«برج المثابرة» و«الجازيات»،٢٧٢ أو الاستدعاءات القديمة ومجازات «برنار لازار»،٢٧٣ الذي نلومه على كتابته المفرطة في البارناسية،٢٧٤ وأحيانًا بتدخل الخرافي (بتأثير «بو» ولا شك) الذي يدرج في السرد عنصرًا شعريًّا خاصًّا بالاغتراب (كما في حكاية ﻟ «فان ليربرغه»، حيث بساطة في الأسلوب لا تؤدي إلا لتفاقم انطباع الغرابة،٢٧٥ أو في «دكان التاريخ الطبيعي» ﻟ «ش. مركي»، التي تنزلق من «الأشياء المرئية» إلى الهلوسة)،٢٧٦ وتارة — أخيرًا — من خلال القيمة الشعرية لرمز يكفي للتسامي بالحكاية وتحويلها إلى قصيدة: لقد جمعت خرافات «وايلد» وتُرجمت عام ١٩٠٦م تحت عنوان «قصائد نثر»،٢٧٧ واعتُبرت حكايات «ﻫ. دي رينييه»، التي نشرها وقتئذٍ عدة مجلات، شكلًا انتقاليًّا بين قصائده والروايات التي سيكتبها فيما بعد،٢٧٨ والواقع أن حكايات «رينييه» هذه، التي جُمعت في «حكايات إلى النفس» (١٨٩٣م)، وفي «السباتي الأسود» (١٨٩٥م)،٢٧٩ تقارب القصيدة، لا «بمعجزة إيقاع بارع، رصين ومتناغم»٢٨٠ فحسب، وإنما — بالذات — بالاستخدام الشعائري المتحقق «للسيوف، والمرايا، والحلي، والفساتين، وكئوس الكريستال، والقناديل»،٢٨١ وباللعب البارع بالتوافقات التي تربط — في ديكور حلم يقظة — «هذه الظلال الخفية والفادحة، والبيوت التي تسكنها، والأشياء التي تؤرجحها بأيديها المظلمة»،٢٨٢ وأحيانًا عندما ينحصر الشكل وتصبح الفكرة أكثر عمومية، فإننا ننتقل من حكاية «هير تولي» أو «دير ماجور» أو «دير موكرات» إلى قصيدة النثر الجميلة هذه، التي تحمل اسم «الكأس المفاجئة».٢٨٣

أيها العابر، تقبل مني هذه الكأس. فالكريستال فيها من النقاء حتى أنها تبدو كأنها مصنوعة من الماء نفسه الذي تحتويه. اشرب منهاء سواء ببطء أو بسرعة، حسب عطشك. النهار كان حارًّا، إذ يظل الغروب فاترًا إلى أن نعتقد أن النهار لم يمت.

… الآن حل الغروب (…) أيتها الرمال! الرمال، رمال «ستيكس»، الرمال السوداء من سواحل رملية أبدية، ستغطين بعد قليل نومي عندما أهبط إلى ضفافكم التي أسمع فيها الآن تحت قدمي صوت الأعمال المشئوم.

إنها قصيدة النوم، والرغبة المكتشفة بعد فوات الأوان، والغروب الذي يهبط على يوم وعلى حياة إنسانية، موضوع أكثر عادية من أن يؤثر في إحساسنا بشكل مباشر، ويثير فينا متعةً لا روائية وإنما ذاتية وشعرية،٢٨٤ وكما نرى، ننتقل — في نفس الوقت — من الفعل إلى التأمل، من المتتالي إلى الأبدي، فبمظهرها السكوني والتركيبي تقترب الحكاية من القصيدة، أكثر بكثير من اقترابها من الأقصوصة؛٢٨٥ ولهذا، فإن أكثر «اللحظات» شعرية في الروايات هي التي تتوقف فيها الحركة، كي تفسح المكان لحلم اليقظة، والدفقة الغنائية، والتأمل، أو — ببساطة — الوصف: ﻓ «الحكايات الشعرية الخاصلة» لبو، التي يشير إليها «بودلير»،٢٨٦ هي التي يحل فيها الانتظار محل الفعل، والتي يريد فيها الكاتب أن يخلق مناخًا لا حكْي حكاية: «ظل»، أو «جزيرة الساحرة».٢٨٧
فما أكثر الأوصاف — من ناحية أخرى — ما أكثر «اللوحات»، و«الأشياء المرئية» التي قد تندرج ضمن جرد لقصيدة النثر! وسنجد فيها الأسوأ والأفضل، أيًّا ما كان الموضوع المختار: فعندما ننظر إلى الأشياء بعين الشاعر، «يتكشف عمق الحياة كاملًا في المشهد، ذلك الذي تحت أعيننا، مهما كان عاديًّا»،٢٨٨ وقد رأينا إلى أي حدٍّ كانت «اللوحة الباريسية» نوعًا مزدهرًا، في أعقاب «بودلير»، وسنرى الآن النوع الوصفي يتسع ويتنوع، في حقبة تتعايش فيها أكثر الاتجاهات تنوعًا.

(٢) النوع الوصفي

ورثة الرمزيين

في عام ١٩٠٠م، كان على «بروست» أن يكتب عن «روسكين»: «الواقع الذي يتوجب على الفنان أن يسجله هو — في آنٍ — مادي وثقافي، والمادة حقيقية؛ لأنها تعبير عن الروح»،٢٨٩ ويلخص مثل هذا التصريح (الذي يتخذ نفس اتجاه جملة «بودلير» السابق ذكرها، وإن كان يغامر إلى ما هو أبعد منها بكثير) فكرة رئيسية في الرمزية، ويسمح لنا بفهم الموقف الذي سيتناه الكتاب، بعد عام ١٨٩٠م، إزاء الواقع الخارجي: سيرى فيه البعض المعادل لواقع داخلي، فينتقلون من لوحات مرئية بشكل مادي إلى «لوحات الروح»٢٩٠ وإلى مشاهد طبيعية استبطالية، والآخرون، الذين سيوسعون زوايا الرؤيا، سيعثرون في هذا الواقع الخارجي على اتساق ومغزًى روحي. ويمتلك الاتجاهان فرصهما الشعرية، بشرط مقاومة الوقوع في التحليل النفسي من ناحية، وفي الفلسفة من ناحية أخرى.
ويواصل كثير من الكتاب، حوالي عام ١٨٩٤م، وقد ظلوا مشبعين بالرمزية، إقامة المعادلات بين المشاهد الطبيعية وحالات الروح، وفي تذويب وإرهاف حس المادة، وهكذا تحتوي ديكورات «ش. ديلشيفالوري» على ثلاثين «مشهدًا طبيعيًّا»، كل منها، مثلما يقول «موكيل»، «يستدعي موقفًا أخلاقيًّا متوافقًا»،٢٩١ ونفس الاتجاه تعكسه المشاهد الطبيعية ﻟ «ف. جريج»،٢٩٢ و«تارديفو–بويليسف»٢٩٣ و«بواكتوفان» في دواوينهم الأخيرة،٢٩٤ ففي أغلب الأحيان، تم التخلي عن الديكورات الأسطورية للرمزية (قصور الأحلام، والغابات الغامضة، والبحار البعيدة …) دون التخلي عن فكرة «التجاوب» بين المادة والروح، ويدور البحث عن «مغزى» المشاهد الطبيعية، ومعادلها في كلمات روحية، وربما هي فرصة لنذكر بنص غير مشهور لبول فاليري،٢٩٥ رغم أنه سابق للسياق إلى حدٍّ ما، وعنوانه «دراما خالصة»، نُشر في «انترتيان بوليتيك إيه ليترير» في مارس ١٨٩٢م (فيما يبدو قبل الحقبة التي كان «فاليري» فيها «سيعدم الأدب داخليًّا» بفترة وجيزة)،٢٩٦ في قصيدة النثر هذه التي لا تزال رمزية،٢٩٧ لكنها ربما كانت مالارمية أساسًا، يصف «فاليري» مشهدًا طبيعيًّا صيفيًّا يشبه — إلى حدٍّ بعيد — مشهد «بعد ظهيرة إله الريف»، فيصف مستنقعًا («زبَد،– سُحب مغامرة تلمسها ريشة، بقطراتٍ، في الماء الذي يتملاهم)، بوص، و«بين سيقان العشب الطويلة مع أفضال أمطار متألقة، أحيانًا الوجه الإنساني العذب الهائم»، ويضيف: «كل هذه البقايا الجميلة لحقيقة اختفت مبكرًا بفعل الصاعقة، يميزها «الشاعر» مبكرًا، ليضع فيها البريق المطهر لعين نقية»،٢٩٨ ومع ذلك، نرى — في هذه القصيدة — ريبة فاليرية للغاية ترتسم من الآن إزاء الحساسية، ورغبة في النقاء تقوده إلى أن ينتزع من هذه الصور «الفاسدة»، حسبما يقول، «بفعل يقين عناصرها»، العنصر الوحيد النقي، الحركة، وأرابيسك الخطوط، ليصل بذلك إلى مفهوم «الدراما الخالصة» ﻟ «الخط»، الذي «لا يوجد إلا في حركة جميلة»،٢٩٩ لدينا هنا لحظة هامة في تطور «فاليري»، تسبق مباشرة مرحلة الأزمة التي ستفضي إلى «السيد تيست».
كان «فاليري» في الحادية والعشرين عندما كتب «درامات خالصة»، وكان «بروست» — في نفس السن، وتقريبًا في نفس الحقبة٣٠٠ — يرسل إلى «روفي بلانش» و«بانكيه» تجارب سنجدها، عام ١٨٩٦م، منشورة «ضمن أحلام يقظة لون الزمن» التي تشكل جزءًا من ديوان «الملذات والأيام»، الذي جرى العرف على اعتباره من عمل الصبا، وبلا أهمية، ومع ذلك، فبروست — شأنه شأن «فاليري» — هو الآن نفسه حقًّا في كتاباته الأولى،٣٠١ وتشير عناوين من قبيل «غروب شمس داخلية» أو «مثلما على ضوء القمر»، إلى دَينه من «التوافقات» الرمزية بين المادة والروح في كتابة استبطانات شعرية («ها هي، مثلما على ضوء القمر، كل سعاداتي المنتهية، وكل أحزاني المتعافية ترقبني وتصمت …»)٣٠٢ ومن بين هذه اللوحات الصغيرة، هناك ما يصل إلى غنائية وتكثيف القصيدة (مثل «ريح بحر في الريف»)،٣٠٣ لكن أغلب هذه النصوص («ضفاف النسيان»، على سبيل المثال)٣٠٤ تسترعي انتباهنا هنا بفعل رهافة التحليل النفسي، المدعوم والمغتني بتألق الانطباعات والاستعارات: فهي تعلن عن روائي، لا عن شاعر خالص.

كلوديل و«معرفة الشرق»

وإذا ما وضعنا الآن — في مواجهة الكتَّاب الذين ينطلقون من المشهد الخارجي لوصف «المشهد الداخلي» الذي يخصهم، ويستمدون منه الاستعارات والمجازات القابلة لإثراء وإضاءة استبطانهم — الكتَّاب الذين ينطلقون من نفس المشهد كي يعثروا على تفسير للعالم، فسيقفز إلى ذهننا — على الفور — اسم: «كلوديل»، وأعلم تمامًا إلى أي حدٍّ هو مصطنع أن نصنف بين «ورثة الرمزيين شاعرًا يفجر كل الأطر، ومن لم تتمكن الروائح الفاسدة المزعجة للرمزية من أن تضعف — أبدًا، لديه — حبه البالغ للواقع، لكن الأمر يتعلق هنا فقط بمقابلة «كلوديل» بهؤلاء الماديين (الفلاسفة الميكانيكيين، والكتاب الطبيعيين)٣٠٥ الذين كرههم دائمًا، والإشارة إلى أن شعره، مثل شعر الرمزيين، يستهدف التغلغل في قلب الأشياء، كي ينتزع منها سرها، والحقيقة العميقة التي تنطوي عليها، وتلك هي غايته منذ نثريات «معرفة الشرق».
ويرجع تاريخ الطبعة الأولى من «معرفة الشرق» إلى عام ١٩٠٠م،٣٠٦ لكن الكثير من هذه النصوص سبق أن نُشر في «مريكور دي فرانس» أو «روفي بلانش» حوالي عام ١٨٩٧م، تحت عناوين من قبيل «مشاهد طبيعية من الصين»، و«قصائد صغيرة»، و«محاولات»،٣٠٧ وفي ديسمبر ١٨٩٥م كتب «كلوديل» إلى «مالارميه»:
رغم نفوري من الوصف، فقد كتبت أو أنني الآن بصد كتابة سلسلة من الملاحظات عناوينها «باجود» و«حدائق» و«مدينة» و«الليل».٣٠٨
ملاحظات سَفَر، انطباعات من الصين التي نزل فيها عام ١٨٩٥م. وقد نصدقه، إذا ما قرأنا لدى النقاد تقديرات من هذا النوع: «مجموعة من الصفحات مكتوبة بشكل جيد ومعتنًى به تصف أشياء تمثل — في أغلب الأحوال — كائنات ومشاهد طبيعية من الشرق (…) أشياء طيبة حول جوز الهند، والتين البنغالي، والصنبور»،٣٠٩ هيا! ها هو قنصل مجهز بريشة جميلة صغيرة!
لكن المقصود في واقع الأمر شيء مغاير تمامًا، وقد أوضح ذلك «كلوديل» نفسه مرارًا: في بادئ الأمر، عندما صرح ﻟ «ف. لوفيفر»: «إنه ليس مجموعة من الانطباعات، بل من التفسيرات، من التعريفات، ومن التوضيحات»،٣١٠ ثم عندما أقر أن «معرفة الشرق» كان أكثر كتبه «مالارمية»،٣١١ وتصبح هذه الملاحظة مضيئة عندما نقرنها بجملة «كلوديل» الشهيرة عن «مالارميه»: «عاش الأدب طوال قرن منذ بلزاك، وصولًا إلى مالارميه، على الرصد والوصف: فلوبير، زولا، لوتي، وهويسمان، ومالارميه هو أول من وقف أمام الخارجي، لا كما أمام مشهد، ولا كموضوع للواجبات الفرنسية، وإنما مثلما أمام نص، مع هذا السؤال: «ما معنى هذا؟»٣١٢ إنها — بالتحديد — هذه الرغبة في الفهم٣١٣ والتفسير (كان «مالارميه» يقول إن «التفسير الأورفي للأرض» هو «الواجب الوحيد للشاعر»)،٣١٤ التي تقارب — فضلًا عن ذلك — بين شاعرين متعارضين للغاية، ولا شك أن «كلوديل» سرعان ما سيشعر بأنه بعيد للغاية عن شاعر يلومه على أنه لا يقدمه لنا كتفسير إلا ما هو «عبث مزدوج» لهذا العالم المادي،٣١٥ ولا يلاحظ أي شيء أبعد من «الآلة الناسخة للمظاهر»٣١٦ — في حين أن العالم — بالنسبة لكلوديل — يحدثنا «عن غيابه الخاص، لكن أيضًا عن الوجود الأبدي لآخر، هو خالقه»،٣١٧ ورغم هذا، فلا شك أنه في الحقبة التي كتب فيها «معرفة الشرق»، كان «كلوديل» يدين بشيء ما لمالارميه: ليس فقط موقفه تجاه هذا «النص» الذي يمثل العالم الخارجي، بل أيضًا موقفه إزاء هذا العالم الذي ينبغي خلقه، ذلك المؤلَّف الواجب إنجازه.
إن تأثير تركيب الجملة لمالارميه، على هذا المؤلف النثري الأول لكاتب تأملها وأعجب بها،٣١٨ ظاهر إلى حد أن يدهش «ج. ريفيير»، الذي كتب إلى «آلان فورنيه»، بعد أن قرأ «معرفة الشرق»: «إن تأثير مالارميه ظاهر، ولكن من زاوية تركيب الجملة فحسب (…) فتركيب جملة مالارميه هو جهد كبير نحو التعبير الطبيعي والوضوح؛ إذ يسعى إلى تطبيق نظام الكلمات على نظام الأفكار، وينحو إلى إعادة إنتاج الاستمرارية الحقيقية للفكرة، و«كلوديل» — الذي كان يسعى إلى إيجاد هذه الوحدة العميقة فيما وراء كل هذه التقسيمات — قد استولى بشكل غريزي على هذا السلاح»،٣١٩ والواقع أنه يمكننا الاعتقاد أن «كلوديل» قد حفظ درس «مالارميه»، عندما اجتهد كي «يطبق نظام الكلمات على نظام الأفكار» بدلًا من أن يتبع نظامًا نحويًّا مفروضًا من الخارج: وعندما يكتب، على سبيل المثال: «فليكن هذا الشقاء مطرودًا لأنه سمع بها أو تلفظها، كلمة»،٣٢٠ أو «أيتها الحواف المحيطة بي للكأس!»،٣٢١ ندرك أنه يرفض فصل الألفاظ التي تشكل كلًّا في ذهنه، مثلما فعل «مالارميه» عندما كتب:
اضطراب احتفالي عبر الهواء
من كلمات٣٢٢
أو: «العقدة الأكثر شرعية للأحزمة، بحلقة من الماس»،٣٢٣ لكن ينبغي تخطي فكرة إعادة البناء هذه — النفسية الخالصة — للجملة التي تنزع إلى إيجاد الوحدة العميقة للفكر، فهي تنزع — قبل كل شيء — إلى إيجاد الوحدة العميقة للأشياء، لصنع تركيب معقد من الجملة لا تسلسلًا خطيًّا مثل العالم الذي تريد إعادة إنتاجه، الذي يثابر من أجله «كلوديل» على خطى «مالارميه»، من هنا، تكمن الجمل «المتشابكة» إراديًّا، والغنية بالجمل الاعتراضية،٣٢٤ وأحيانًا — مثلما لدى «مالارميه»٣٢٥ — المبنية في العمق، على عدة «مستويات»، للوصول إلى تركيب قوي، فمقابل النمط المالارمي:٣٢٦
احتجت اللجوء إلى البراعة
كي لا أسبب شرودًا بوجودي.
سنحصل على نظيرها لدى «كلوديل»:٣٢٧

الفرنسي أو الإنجليزي البشع، يبني كوخه بهمجية بفظاظة، في أي مكان، بلا رحمة بالأرض التي يشوهها، مهمومًا فحسب بأن يمد بصره إلى مسافة أبعد إن لم توجد يداه الشرهتان.

من هنا — أيضًا — تكمن وفرة وأهمية الاستعارات، التي تقيم روابط لا بين الأشياء المدركة (التي يتم تناولها بشكل زوجي فحسب)، وإنما بشكل أوسع بين الملموس والمجرد، بين الطبيعة والإنسان، فثمة مساحات واسعة من الاستعارات تختفي وتنطوي ضمن وحدة مجموعات وأشياء أو أفكار متنوعة، ويجدر بنا أن ندرس عن كثب كيف يبني «مالارميه» و«كلوديل» تطورات معقدة انطلاقًا من «خلية استعارية» أولية «ذهب–شمس»: «مالارميه» في «ذهب»، حيث نرى الذهب–المعدن والذهب الشمسي يندمجان في «سيولة كنز»،٣٢٨ ثم يعاودان الظهور وقد تحولا إلى موهبة «لدى الكاتب، في مراكمة الوضوح المشع بكلمات ينطق بها»،٣٢٩ و«كلوديل» في «الساعة الصفراء»، وهي واحدة من أقصر القصائد وأكثرها «كمالًا» في «معرفة الشرق»؛ ولهذا السبب المزدوج أوردها كاملة:
ها هي الساعة الأكثر اصفرارًا من العام كله! ومثل المزارع يجمع في نهاية المواسم ثمار عمله ويقطف منه الثمن، يأتي الوقت من ذهب ليصبح كل شيء متحولًا، في السماء وعلى الأرض. أتقدم حتى العنق في فجوة الحصاد، أضع الذقن على المنضدة التي تضيء الشمس طرفها، ومن الحقل، مارًّا عبر الجبال، أتغلب على بحر الحبوب. وبين ضفافه من العشب، الشعلة الجافة الهائلة للون الممدود للنهار، أين الأرض القديمة المظلمة؟ تحولت المياه إلى نبيذ، والبرتقال يشتعل على غصن الشجرة الصامت. كل شيء ناضج، حبوب وقش، والفاكهة مع ورق الشجر. إنه ذهب حقًّا، مكتمل تمامًا، أرى أن كل شيء حقيقي. في العمل المتوقد للعام الذي بخَّر كل لون، فجأة يصبح العالم شمسًا في عيني! أنا! ألَّا أموت قبل أكثر الساعات اصفرارًا.٣٣٠
يتيح لنا هذا النص أن نستشف — في آن — تشابه «كلوديل» مع «مالارميه» في إرادة التكثيف الاستعاري، والإيجاز والدلالة التي لا تخشى الغموض ولا التبديل المفاجئ في بناء العبارة («يأتي الوقت من ذهب ليصبح كل شيء متحولًا، في السماء وعلى الأرض»)٣٣١ وما يتميز به عنه أيضًا من حبٍّ حسي للألوان والأشكال، مستندًا إلى يقين بأن «كل شيء طيب»،٣٣٢ ما دام الله قد خلقه، وبينما «تقرض» الاستعارة الأشياء،٣٣٣ بالنسبة لمالارميه، وتدمر الغلاف الواقعي للأشياء كي لا تترك منها سوى «الفكرة» المجردة، فإنها — لدى «كلوديل» — لا تفعل سوى التأكيد على التوافق بين عناصر العالم الحقيقي، على السيمفونية الكونية، «إن رسوخ هذا العالم — مثلما يقول الجوَّال — هو مادة سعادتي البالغة».٣٣٤
وبذلك، سيكتفي الشعر بأن يكون «إحصاءً مبهجًا»،٣٣٥ وأن يستدعي الأشياء المخلوقة، ولونها ورائحتها («ها هو أريج الحبوب، ها هي رائحة الحصاد»)،٣٣٦ وسنعثر على نفس الحسية في ختيار الإصاتات، والإيقاعات المفعمة والثرية: «توزيع أوركسترالي لفظي مدهش للغاية — مثلما سيكتب «ف. دي ميوماندر» — إلى حد أنه من المستحيل أن يكون المرء موسيقيًّا أكثر من ذلك مع المقاطع اللفظية لقواميسنا»،٣٣٧ وكثيرًا ما يذكر نقاد هذه الفترة هذه الجملة التي يجدونها «جيدية» (نسبة إلى «جيد») تقريبًا:
سأتذكرك يا سيلان! وأوراق أشجارك وفاكهتك، وناسك ذوي العيون العذبة الذين يمضون عبر دروبك عرايا بلون لحم المانجو، وهذه الزهور الوردية الطويلة التي وضعها الرجل الذي كان يصحبني على ركبتي في النهاية، عندما كنت أتدحرج تحت سمائك الممطرة، وأنا ألوك ورقة شجر الكافور.٣٣٨
علينا التمسك هنا لا بالرغبة «الفنية»، لا بالرغبة في إظهار روعة الواقعي، من خلال نكهة الكلمات، وإذا ما كانت «شجر الكافور» تجعل الزهور «الرمزية» تخطر ببالنا، فسنجد — في موضع آخر من الحقول — «فاصولياء، وقرعًا، وخيارًا وقصبًا»،٣٣٩ وسيبقى على الخنزير، «المرتج على قوائه الأربع السمينة والقصيرة»،٣٤٠ أن يعلمنا أنه «لا الجسد يكتفي بنفسه، ولا النظرية التي يعلمها لنا ليست عبثية»،٣٤١ فكلوديل يحب الصين حتى بقذاراتها وروائحها النفاذة،٣٤٢ هو الذي يعلن عن أنه «يأنف من الحضارة الحديثة»، وهو يزدهر «في وسط من الشحاذين والمتشنجين، في فوضى النقالات والحمالين والمحفات»، في هذا البلد العريق، المتلبد والفطري، حيث يبدو له كل شيء «طبيعيًّا وعاديًّا»،٣٤٣ وهكذا شعره، الذي يمثل إعادة بناء للواقع، هو تمجيد للواقع في نفس الوقت.
فكيف لا نذكر هنا أن «بيان الجامية»٣٤٤ الشهير: «كل الأشياء صالحة للوصف عندما تكون طبيعية»، قد نشر في «ميركور دي فرانس» في مارس ١٨٩٧م؟ وأن رواية «قوت الأرض» يرجع تاريخها إلى عام ١٨٩٧م نفسه؟ وسنعود مرة أخرى — في الفصل التالي — إلى هذه التوجهات الجديدة «الطبيعية» و«الجامية» والمعادية للرمزية بشكل عام، ولنقل — منذ الآن — إن ديوان «كلوديل» هو، في آن، مواصلة لمسعى الرمزية من أجل ضم الإنسان والكون في «وحدة» واحدة (ذلك بقدر ما نرى فيه، مثلما يقول «ريفيير»، «الروح وهي تزدهر في عالم» و«الكون بكل تعقيده السحري يتركز في روح»)،٣٤٥ ورد فعل ضد الفيروس الرمزي، ضد «هذا الشر الحديث للروح التي تتأمل نفسها، وتبحث عن الأفضل، وتعلم نفسها أحلام يقظتها»،٣٤٦ وفضلًا عن ذلك، ففي الفترة التي كتب فيها «كلوديل» المقطوعات الأولى من ديوانه (١٨٩٥م)، كانت الرمزية في اكتمال عنفوانها، رغم وضوح الاتجاهات المتضاربة، وفي الوقت الذي نشره (١٩٠٠م)، كان قد تم اتخاذ خطوة، تبعد الأجيال الشابة نهائيًّا عن أحلام اليقظة والتعاويذ الرمزية لكي تقربهم من الواقع الحي.

رد الفعل ضد الرمزية

تنبغي الإشارة — رغم هذا — إلى أن الرمزية، رغم أنها كانت في أوج ازدهارها حوالي عام ١٨٩٥م، قد تلقت بعض الصدمات القاسية، بالتحديد بفعل ظهور مؤثرات جديدة: «لوتريامون» و«رامبو» و«ويتمان» أيضًا و«نيتشه» من قبل، فمنذ سبتمبر ١٨٩٣م، أخذ «روبيل» يشن هجومًا بارع الأسلوب في «إرميتاج» ضد الرمزية وكوادرها «المختلفة والسحرية»، و«خرافاتها» وأميراتها «الكهنوتيات»،٣٤٧ وفي أغسطس ١٨٩٤م، يتحدث «إ. سينيوريه» — في «لا بلوم» — عن الكتَّاب الشبان، «الأكثر كمالًا وعفوية» من أجدادهم الذين «كانوا أحيانًا ما يخافون الحياة»، والذين كان شعرهم «المحروم من الأساطير، والذي يحتقر التقاليد والرموز»، يأمل في التعبير «بشكل مباشر عن «الحياة» نفسها»،٣٤٨ وفيما تتم المطالبة بضرورة معارضة أساليب الكتابة الرمزية، يدور الحديث بهلع عن «هذا الهراء الذي عاث وباؤه فسادًا حوالي عام ١٨٨٥م».٣٤٩
وستلهم هذه الرغبة في التعبير المباشر عن الحياة، وتحقيق الاتصال بالواقع المباشر، اكتشاف شكل أدبي وصفي جديد، سيسعى — هذه المرة — لا إلى البحث في كل شيء عن رمز لشيء آخر، بل إلى السعي لعزله، وإدراكه في طبيعته الحميمة: وهو ما سيكون مسعى «جول رونار» على نحو خاص. واللافت للنظر أن هذا المسعى — من ناحية أخرى — «أنجزه رونار لا في أوج ازدهار الرمزية فحسب، وإنما محاطًا أيضًا برفاق وأصدقاء كانوا على رأس الحركة الرمزية»،٣٥٠ وفي المجلة نفسها التي تأكدت على صفحاتها هذه الحركة: «ميركور دي فرانس»، مثلما لاحظ «جيشار»،٣٥١ فالكاتب الذي يدَّعي أنه «فخور تمامًا لأن عصفور القاوند ظنه شجرة»،٣٥٢ والذي سيسجل في «مذكراﺗ» ﻪ: «أنظر إلى الطبيعة إلى أن يبدو لي كل شيء يترعرع داخلي»،٣٥٣ يمكن اعتباره رائدًا للنزعة الطبيعية، وهو يعارض — في نفس الوقت — تصنُّع بعض الرمزيين، وما استمر من «الرطانة» الانحطاطية، ويسجل — عن رضًى — في «مذكرات»: «لم أستخدم بعد كلمة coruscation = تلألؤ»،٣٥٤ ويعارض تقعيدات تركيب الجملة، «لقد أثارت أعمال رونار إعجاب الكثيرين من الكتاب لصراحتها ووضوحها، وإعجاب كلوديل الذي كان ج. رونار يمثل — بالنسبة له، في حوالي عام ١٨٩٢م — «الذوق الفرنسي»، مثلما يقول «ل. جيشار».٣٥٥
فهل كان «رونار» يقصد كتابة «قصائد نثر» في مؤلفيه «حكايات طبيعية» و«قصائد ريفية»؟٣٥٦ ليس ذلك مؤكدًا (رغم أنه قال عن «جوريس»: «لا ينقصه سوى أن يكون قد كتب بعض قصائد النثر، ومن خلال هذا العمل المرهف، كان سيتعلم أن يتحدى إسهابه»،)٣٥٧ مما يمكن أن يشير إلى صلة ما بهذا الموضوع، غير أننا نرصد — عدة مرات — في «حكايات طبيعية» أنساقًا «شعرية» في التكوين: بناء في مقاطع تبدأ كلها بنفس الطريقة: «يمكن للديك أن يتباهى بأنه صرع كل منافسيه … يطلق الديك صرخات على صرخات … الديك يتبختر … يجمع الديك دجاجاته … إلخ»،٣٥٨ واستعارة ممتدة (الخراف) أو صورة ختامية يتسع عليها إيقاع الجملة (البقرة، الخفاش)، والاستعادة، لا سيما في نهاية النص، للجملة الأولى (ما يسميه «ل. جيشار» تكوين الروندو،)٣٥٩ وهو نسق شائع للغاية، كما رأينا، لدى كتاب قصيدة النثر «الدائرية»: مثلما في «دجاج سندي»:
إنها حدباء ساحتي. لا تحلم إلَّا بجراح بسبب حدبتها … إنها تتدحرج في التراب، مثل حدباء.٣٦٠
وبالمثل، ففي «قصائد ريفية»، نجد الرصد في شكل قائمة طويلة في قصيدة «المطبخ» («والباب ذو الركن الذي قرضته الفئران،– والمصفاة المجدورة … ولوح الزجاج المحطم … وهذا البلاط الصابوني،– وهذا الكرسي القش …»)،٣٦١ ومؤثرات الاستعادة:
الغابة الصغيرة في كولوس. أمنحها له.
أمنح له ملذاتها.
أمنحك دربها الضيق الذي لا يمكن اقتناؤه إلَّا بقدم واحدة، وأمنحك، مثل خدم، أشجارها الرشيقة.٣٦٢
ورغم كل هذا، أخشى حقًّا ألَّا نشعر بالانفعال الشعري عند القراءة، إلا بشكل ضعيف أو نادر، ومن المشروع بلا شك — كرد فعل ضد مبالغات الرمزية — تلك الرغبة في «تسمية الأشياء بأسمائها، ومنحها شكلها الحقيقي، ولونها الحقيقي، وحصرها في معناها الحقيقي»،٣٦٣ وهو ما يتطلب أيضًا أن نشعر بعمق بشِعر الأشياء، وأن نجرب الشعور بالحياة الكونية، مثل «م. دي جيران»، ونستسلم بنشوة للملذات المحسوسة، مثل «جيد»، أو الانتقال — مثلما سيفعل «بونج» — إلى قلب الأشياء بدلًا من مراقبتها من الخارج. لكن «رونار» يبدو عاجزًا عن اختراق الواقع: «فاللبن — بالنسبة له — أبيض بشكل مزعج؛ لأنه ليس سوى ما يبدو»،٣٦٤ مثلما يقول «سارتر»، الذي كتب صفحات قاسية، لكنها صائبة، عن هذا الكاتب «المقيَّد» بمواهبه في الملاحظة، وهو مطارد بالرغبة في تحقيق الجيد والمتفرد: وذلك سبب هذه الحذلقات والتشخيصات ذات الذوق الرديء (تستقبل الوردة دودة الفراش؛ ولأنها «توقعت أن يكون الجو باردًا هذه الليلة، فقد طاب لها أن تضع ثعبان أصلة حول الرقبة»،٣٦٥ والديك «لا يخرج أبدًا بدون مظلته»،٣٦٦ وهلم جرًّا)، هذا الميل المحزن إلى أكثر أنواع التلاعب بالألفاظ إثارةً للأسف: ففي أفضل «قصيدة» من «حكايات طبيعية»، قصيدة «الخراف»، لم يستطع «ج. رونار» مقاومة إغراء إثرائها — في طبعة عا ١٩٠٩م — بهذا الملحق:
Les moutons.- Mée … Mée … Mée …
Le chien de berger.- Il n’y a pas de mais!
الخراف.– مييه … مييه … مييه …
كلب الراعي.– لا توجد لكن!٣٦٧،٣٦٨

فما إن تظهر صورة شعرية نوعًا ما، حتى يحمله شيطانه الداخلي على تدميرها: البجعة «تنهك نفسها في اصطياد ومضات وهمية، وربما ستموت، ضحية هذا الوهم، قبل أن تمسك بقطعة سحابة واحدة». وفورًا يثور «تريبولد بونوميه» النائم في «رونار»: «لكن ماذا أقول؟ فكل مرة تغطس فيها، تقب بمنقارها في الإناء المغذي وتعود بدودة.

إنها تسمن مثل إوزة».٣٦٩
هكذا نتأرجح بين رفض الغنائية والبحث عن أسلوب، بين كراهية الفصاحة والرغبة في التفرد: وذلك سبب هذا الأسلوب الرصدي الجاف القاطع، وهذه «الكلمات الغنية في جملة فقيرة» التي يتحدث عنها «سارتر»:٣٧٠ الدجاجة «منتصبة في قبعتها التي تشبه حشرة جارة الحطب، عينها يقظة، وحوصلتها نافعة»٣٧١ والطاوس «في زي احتفالي»،٣٧٢ والصرصار «أسود وملتصق مثل ثقب قفل»،٣٧٣ «أسلوب أفقي، متألق، ومتقن»، مثلما قال بنفسه:٣٧٤ لكنه أيضًا بلا هالة شعرية، وبلا قدرة عميقة على إثارة الانفعال رغم كماله الشكلي، وربما يكون أقسى الآراء ما ذكره بنفسه عن نفسه، عندما قال: «الكمال دائمًا رديء إلى حدٍّ ما».٣٧٥ ففن «رونار» الدقيق والمرهف «كامل» في نوعه، أي محدود.
وربما تكون المبالغة في الصنعة، والبحث الدائم عن التعبير الموجز والمدهش، هي التي تمنح أسلوبه ملمح الاجتهاد، والمجاهدة:٣٧٦ إننا نشعر بالجهد الكبير المبذول فيه، ولا شك أن ذلك هو ما دفع «ل. بلوم» إلى أن يرصد — من بين أفضل مقطوعات «ج. رونار» — لا نصوص «حكايات طبيعية»، وإنما «البرسيم»، وLe Toiton، و«عاصفة الأوراق»، كنماذج مكتملة في التكوين الشعري» والاستعاري،٣٧٧ وربما لهذا السبب نجد أحيانًا شعرًا أكثر في «قصائد ريفية»، حيث الابتكار أكثر تلقائية وقوة الأسلوب الصدامية أقل وطأة: «غابة كولوس الصغيرة»، و«الثلوج»، و«مؤثرات القمر»!
فنان — أو ربما حرفي بشكل خاص — لا شاعر: يظل «جول رونار» كاتبًا «تمثيليًّا représentatif» في جميع الحالات، مثلما يقول «ل. جيشار»، سواء بفعل رغبته الواضحة في العودة إلى الواقع الملموس (وبشكل خاص الواقع الأرضي والفلاحي) أو بفعل «الطريقة التي يطوق التعبير بها الفكرة لديه، من خلال أسلوب يتجرد من الزخرف أكثر فأكثر، إلى حد العُري»،٣٧٨ لقد قام بعملية إزالة الأنقاض بطريقته، وأعد القارئ كي يتغذى لا بالصوفيات الغامضة، وإنما بقوت الأرض، «بالصور، والأصوات، والروائح».٣٧٩
ومع «هوج روبيل»، يتخذ رد الفعل المعادي للرمزية مظهرًا مغايرًا إلى حدٍّ ما: لم يعد الأمر يتعلق هذه المرة بالوصف بالأسلوب اللاذع، وإنما بالمقاطع الحماسية التي تعبر بغنائية عن الشغف بالحياة والفعل، والتي نشعر بتأثرها العميق بويتمان ونيتشه بشكل خاص، فروبيل من أوائل من يعود إليهم شرف ترجمة «نيتشه»، عام ١٨٩٣م،٣٨٠ وفي العام التالي، مرت في «أناشيد المطر والشمس»٣٨١ نفس «أبواق الدعوة والغضب»،٣٨٢ والاندفاعات العاصفة التي أذهلته في «زرادشت»، لقد «اخترت — كوسيلة من التعبير — نثرًا ذا إيقاع خاص، أكثر غنائية من النثر العادي، ولا يملك — مع ذلك — الشكل المحدد والموسيقي لشعرنا»، حسبما يقول «روبيل» في خاتمته،٣٨٣ والواقع أن الشكل يمتد من النثر المقسم إلى مقاطع طويلة إلى هذا الحد أو ذاك، إلى المقاطع القصيرة للغاية، المكونة من جملة واحدة وإلى أبيات حرة حقيقية، لكن الأسلوب دائمًا ديناميكي مكثف، موقَّع بقوة، مثلما لدى «نيتشه» نفسه: وسبق أن قدمت مثالًا لذلك،٣٨٤ «كتاب صاخب، هادر، يعطي الانطباع بمحطة قطار ضخمة، تمتلئ بعربات القطار، والصفير، وصرخات وقبلات الوداع أو الاستقبال»، مثلما سيكتب عن حق — إلى حدٍّ بعيد — «ر. دي جورمون» في واحد من «أقنعة».٣٨٥
ومع موت «روبيل»، اعتبره صديقه «مازيل» — الذي خصص له مقالًا في «ميركور دي فرانس» — كاتب «أفكار» بشكل خاص، معتبرًا أسلوبه «بعيدًا عن بلوغ أسلوب الأساتذة الكبار أو أنه مجرد الكتابة الفنية لصغار الكتاب»:٣٨٦ لكن «روبيل» بالذات هو الرجل الذي «أنهك» — مع ذلك — «الفنان الكامل» فلوبير، مثلما أنهك الأخوين «جونكور»،٣٨٧ أستاذي الكتابة الفنية والإحساس النادر،٣٨٨ إنه يرفض — عن عمد — العهود الجميلة، والمؤثرات الموسيقية، ويسعى دائمًا لأن يكون تعبيريًّا لا نغميًّا، والدال أن نراه يلوم «فلوبير» على أسلوبه «المكتوب» بشكل مفرط، «حيث كل شيء على نفس المستوى»،٣٨٩ أما «روبيل»، فكان يقول بكبرياء، مثل «نيتشه»: «إنني دائمًا ما أمنح العمل نفسي كاملة، وما هو حي في نفسي»،٣٩٠ ومثل «نيتشه» أيضًا،٣٩١ يرفض الفترات الطويلة المتزنة للغاية، والأوزان المتسعة، ويفضل عليها هذا الأسلوب الديناميكي، المتقطع، واللاهث إلى حدٍّ ما، الذي نشعر فيه بطَرقات الإيقاع المتعجل لحقبتنا.
إنه — بلا شك — ليس كاتبًا كبيرًا، ولا «فنانًا» بشكل خاص: فلنقل إنه — بالأحرى — كاتب طليعي، بفعل حملاته المتقدة الحماسية ضد الرمزية، والنشاط الذي لا يقل عنه حماسًا في تمجيده للوثنية، والعنف، ونشوة الحياة. إنني أختم هذا الفصل بروبيل، وكان يمكن أن أبدأ به الفصل التالي، وفي فترة ١٨٩٤م هذه، حيث لا تزال الأذهان الحائرة تتردد بلا يقين بين نفوذ الرمزية الذي لا يزال قويًّا والدعوات الأولى للمعارضة لصالح الطبيعية والطبيعي، ترن «أناشيد المطر والشمس» مثل النغمات الأولى لهذه الترتيلة التي سرعان ما سينشدها الشعراء الشبان على شرف «الحياة»، لكننا لا نستطيع أن نضع حاجزًا فاصلًا في الأدب، فنثر «بروست» عام ١٨٩٦م، ونثر «فونتينا»،٣٩٢ أو البعض الآخر فيما بعد، سيظل دائمًا مغرقًا في الرمزية، وبالعكس، فإذا ما استطعنا تأريخ التجديد «الطبيعي» بعام ١٨٩٦م، بناءً على الحملات المدوية، فبإمكاننا العثور عليه، قبل عدة سنوات، لدى كاتب مثل «روبيل»، ذي مزاج أكثر عنفوانًا من أن يريد — مثل الرمزيين — الفرار من الحياة بدلًا من الانغماس فيها لاستنفاد مباهجها المجيدة.
١  قارن — على سبيل المثال — ﺑ Mauclaire, L’Art en silence, Ollendorf, 1901: «ما الذي سيبقى من الرمزية؟ تأثير أخلاقي وعروضي جديد» (ص١٩٩).
٢  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثاني.
٣  Premiers poèmes, Mercure de France, 1897, Préface sur le vers libre.
٤  Les Poèmes, Revue Blanche, 15 Mars 1897, t. XII, p. 405.
٥  La sensibilité dans la poésie française (1885–1912), Fayard, 1912, p. 79.
٦  La Décadence, numéro 1, 1er Octobre 1886.
٧  حول هذه النزعات الداخلية، يمكن الاطلاع على كتاب Michaud, Message poétique du Symbolisme, Nizet, 1947, t. II, p. 344 et sq..
٨  Mauclaire, Servitude et Grandeur littéraires, Ollendorff, 1922, p. 18، ومنذ نهاية عام ١٨٨٦م، بدأ «دوجاردان» في منح «روفي اندبندانت» طابعًا رمزيًّا بشكل واضح، وفي عام ١٨٨٨م، أصبح تأثير «كان» غالبًا، ما دام قد أصبح رئيس تحرير، يحرر — فضلًا عن ذلك — «كرونيك دي ليتر إيه دي لار».
٩  تحت العنوان العام «أمسيات حميمة واجتماعية»، وينبغي أن نضيف إلى ذلك قصيدة «القسيس» لمالارميه، تحت عنوان «راهنة»، التي لم تكن قد نشرت إلا في إحدى مجلات «توران» عام ١٨٨٦م، وأعادت «روفي اندبندانت» نشرها في عدد أبريل ١٨٨٨م (قارن بما سبق، الفصل الرابع من القسم الأول).
١٠  Ecrits pour l’Art, n° 1, Janvier 1887.
١١  نعلم أن «مالارميه» قد سلم هذه القصيدة النثرية، التي لم يسبق نشرها، إلى «فيرلين»، من أجل Notice التي سنتشر في «لي زوم دو جوردوي» لفانييه.
١٢  انظر Ecrits pour l’Art, 3 Août 1889، وتفسيرات Ghil, Les Dates et les Œuvres, Crés, 1923, p. 114، هذه المقالة النقدية المقذعة ضد «مالارميه» لم تكن عملًا سيئًا فحسب، بل أسوأ الأخطاء.
١٣  قارن بما سيلي، الفصل الرابع من القسم الأول.
١٤  انظر — في هذا الصدد — التصحيح المنشور في La Wallonie, 15 Septembre 1887, p. 294، ويفترض أن كل أنصار التوزيع الأوركسترالي قد «رأوا»، فورًا وبانقياد، حرف A يغير لونه، هذا اﻟ A اﻟ «قرمزي» كان يتوافق — من الآن فصاعدًا — مع السلسلة الرفيعة لآلات الساكسفون ومع «الأمجاد والعواصف».
١٥  O. Gary de Faviès, dans les Ecrits pour l’Art (nouvelle série, Décembre 1892).
١٦  وعلى أية حال، لم يسلم أنصار التوزيع الأوركسترالي من المزاح، فغيل نفسه يذكر كلمة «سودي» من أنه عندما يفهم بضع جمل — هنا وهناك، من قصيدته — يقول لنفسه: «هذا انحطاطي»، وعندما لا يفهم أي شيءٍ تقريبًا، يقول: «إنه رمزي»، وعندما لا يمكنه فهم أي شيء مطلقًا، يقول: «إنه تطوري – من أنصار التوزيع الأوركسترالي» (Les Dates et les Œuvres, Crés, 1923, p. 157).
١٧  ذكره L. Pierre-Quint, André Gide, Stock, 1952, p. 427.
١٨  Mercure de France, Mars 1898.
١٩  Michaël, Œuvres, Lemerre, 1890, pp. 134-135، ويعود تاريخ قصيدة «أثر السفينة» إلى عام ١٨٨٥م: ينبغي أن نكون في غاية الامتنان لميخائيل؛ لأنه لم يفتتن ﺑ «رطانة» العصر.
٢٠  قدم «بودلير» نموذجًا لهذه البنية الثلاثية — (لوحة تحدد موقع المشهد، – اندفاعة – خيبة) — في قصيدة «المجنون وفينوس»: «لكن فينوس قاسية القلب تنظر للبعيد دون أن نعرف ماذا بعينيها الرخاميتين»، ويستخدمها «ميريل»، على سبيل المثال، في «الغرقى»: «لكنها، هادئة الأعصاب تحت وطأة جواهرها … إلخ» (La Plume, 15 Octobre 1891).
٢١  وذلك ما يمنح Nos Poètes (Dupret, 1888) مظهرًا متحيزًا إلى حدٍّ ما، وأحيانًا — (يجب أن نقول ذلك) — رجعيًّا.
٢٢  Sur la mort de l’ami à qui ce livre est dédié, dans Du Sang, de la Volupté et de la Mort, Plon, 1909, p. 19 (premiére édition, 1894).
٢٣  المصدر السابق، ص٢٠.
٢٤  Introduction aux Reliques de J. Tellier, Evreux, 1890, p. XXXVII.
٢٥  Plaines, Reliques, p. 22 (daté d’Avril 1889).
٢٦  Nocturne, Reliques, p. 18 (daté de 1885)، (يعود تاريخها إلى عام ١٨٨٥م)، ولنلاحظ الطريقة المعروفة جيدًا في استعادة الجملة الأولى في الخاتمة، مستدعيًا سفينة «انطلقت من مارسيليا، في مساءٍ خريفي، مع هبوط الليل.
٢٧  Hespérus, Reliques, p. 11 (daté de Septembre 1887)؛ «هسبيروس بقايا» (يعود تاريخها إلى سبتمبر ١٨٨٧م).
٢٨  شاعر لاتيني، وحاكم روما عام ٤١٤م، ومؤلف «مسار الرحلة»، وهي قصيدة تتكون من نشيدين حول عودته إلى وطنه.
٢٩  Rerum Pulcherrima Roma, p. 14 (يعود تاريخها إلى أكتوبر ١٨٨٨م).
٣٠  Discours à la Bien-Almée, Reliques, p. 3، تعارض بداية هذا «الخطاب» (عن غير قصد؟) «صلاة في الأكروبول» لرينان: «لقد ولدت، أيا محبوبتي، يوم جمعة الثالث عشر من شهر شتوي، في بلد ضبابي على ضفاف بحر شمالي …» (ولد «تلييه» في مدينة «هافر»)، ولنسجل أيضًا أن «تلييه» تميز ﺑ «قراءات ضخمة» و«ذاكرة مذهلة» — مثلما يقول لنا صديقه «جيجو» — ربما أضرتا به في نهاية الأمر.
٣١  قارن ﺑ Préface à l’Anthologie des Ecrivains Belges, par Dumont-Wilden, Crés, 1917.
٣٢  Jeune Belgique, Janvier 1893, p. 10.
٣٣  Jeune Belgique, Juillet 1893, p. 287.
٣٤  ديسمبر ١٨٩١م، ص٤٤٢، والطريف أن نعلم أن «جيرو» يذكر — كنماذج للنوع — «جاسبار الليلي» و«قصائد نثر صغيرة» لبودلير، و«صفحات» الذي ظهر في نفس العام لدى «ديمان» في بروكسيل، واحتوى على الاثنتي عشرة قصيدة نثر لمالارميه.
٣٥  La Déclaration Foraine, Février 1890; Réminiscence, Juin 1890; Pauvre enfant pâle, Mars-Avril 1891.
٣٦  مقال ﻟ «بيلادان»، أغسطس ١٨٨٥م.
٣٧  مقال ﻟ «ج. ديتريه»، يناير ١٨٨٨م، الذي يرى في «صوت الشعب» «قصيدة نثر ذات كمال مطلق» (ص٢٨).
٣٨  فلنشر هنا إلى أن «جون بلجيك» قد أعلنت — في يوليو ١٨٨٧م — عن نشر «أشياء مرئية» لفيكتور هوجو.
٣٩  Instantanés, de Vurgey, Octobre 1886 et Janvier 1887.
٤٠  Croquis Bruxellois de Maubel, Janvier 1885, Croquis de Delattre, Mars 1889.
٤١  في «متغيرات»، المأخوذ عن اللوحات أو الطباعة اليابانية (في ديسمبر ١٨٨٨م)، أراد «جول ديتريه» أن يبتكر «متحفًا» ما، «مجموعة من الأصداء والذكريات الفنية».
٤٢  «نشيد غنائي نثري» لديتريه، مايو ويوليو ١٨٨٦م، سبق أن نشر «ماكس والر»، في مايو ١٨٨٥م، «أناشيد غنائية في الحنين للوطن»، تتكون من ثلاثة مقاطع ومقطع ختامي.
٤٣  Proses lyriques de Goffin, en 1887 et 1888.
٤٤  مثل نثريات «شينييه» (قارن بالصفحة التالية).
٤٥  إنها خاتمة «نثرية غنائية» ﻟ «ديلزير موريه» المنشورة في يونيو ١٨٩٠م.
٤٦  هكذا، يستعير «ديزومبيو» من قصيدة «ارتعاشات شتاء» — من أجل قصيدته «ارتعاشة» — إشارات إلى ساعة الحائط، والمرآة، ونسيج العنكبوت، ومن أجل قصيدة «هدوء» يستعير جملًا مثل «سنعيش بين كتبنا، وصورنا المحفورة، وأثاثنا، وسنتحدث عن الأشياء البالية … على ركبتيك، يا أختاه، سأضع رأسي الحزين» (مارس ١٨٨٩م، ص١٤٠-١٤١).
٤٧  العبارة لجورج ديتريه، Jeune Belgique, Juin 1888.
٤٨  هذا الديوان المنشور عام ١٨٩٠م، هو المؤلف الوحيد البارز لهكتور شينييه، وقد نشرت أجزاء النصوص التي يتكون منها في «جون بلجيك».
٤٩  Jeune Belgique, Juin 1890, p. 248.
٥٠  «واقعة العائلة»، في «النشيد الأول»، المنشورة في ٥ أكتوبر ١٨٨٥م، وإحدى «نثريات غنائية» لجوفان، مارس-أبريل ١٨٩١م، تحمل عنوان «مالدورور» بالتحديد.
٥١  «لقد سكنت دومًا هذه المناطق الملتبسة، المتاخمة للجنون — بلاد اللامبالاة الثقيلة، والأبخرة الفاسدة الخادعة، والحمى المضنية والفاتنة رغم هذا، متحملًا بأوهام فاترة ومفسدة»، ذلك ما يقوله «جوفان» (Jeune Belgique, Mars-Avril 1888)، الذي لم يكن باستطاعته — رغم ذلك — أن يعرف «خيمياء الكلمة».
٥٢  Jeune Belgique, Juillet 1888، «يهرب مني العالم الموضوعي»، مثلما يقول «جيلكان» بنفسه في أحد أعماله، «Proses lyriques نثريات غنائية».
٥٣  Jeune Belgique, Décembre 1890, p. 445.
٥٤  «استعارة»، ٢٠ أكتوبر ١٨٨٧م، «مشاهد طبيعية ووجوه» عام ١٨٨٩م، «دراما»، مارس–أبريل ١٨٩١م، «الأميرة التي تنتظر»، يوليو-أغسطس ١٨٩٢م.
٥٥  وقد كتب «موكيل» في «فالوني» عام ١٨٨٧م، مبديًا تعاطفه مع «البير جيرو»: «لا علاقة لنا بجون بلجيك» (ص٦٠)، وقد ردت مجلة «جون بلجيك» في أغسطس، بقلم «أ. جيرو»: «لسنا معجبين بغيل ولا بكان».
٥٦  قارن بما سبق، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٥٧  ومن بينها قصيدة «الاحتفال الشعبي الفلمندي»، الغنية بالألوان التي تسير تمامًا على خطٍّ واحد مع «كوستير» أو «ليمونييه» (٢٠ نوفمبر ١٨٨٧م).
٥٨  وبشكل خاص، سلسلة «تخطيطات صغيرة»، في عامي ١٨٩١-١٨٩٢م.
٥٩  انظر — بشكل خاص — العدد الاستثنائي المخصص لماك أولان، في فبراير.
٦٠  «أنشودة غنائية عن أوجاع الكتابة» لديتريه، ١٥ مايو ١٨٨٧م، «استعارة» لميريل، ٢٠ أكتوبر ١٨٨٧م … إلخ.
٦١  ومنها «في الحلم» التي تعرض لنا «سكينات تسبح شفيفة في ذروة الألق» (1888, p. 340).
٦٢  قارن ﺑ «موجة» و«ملاحقة» في ١٥ أغسطس ١٨٨٧م، ونشير إلى أن «فالوني» قد أفردت أعدادًا خاصة إلى «ريتيه» (أغسطس ١٨٩٠م)، و«برنار لازار» (نوفمبر ١٨٩١م)، و«أندريه جيد» (مايو-يونيو ١٨٩٢م)، مع مقتطفات من «رحلة أوريان».
٦٣  عدد مارس–أبريل ١٨٩١م، ص١٥٦.
٦٤  أعيد نشر أغلب هذه النثريات في «Impressions  انطباعات» لفيرهارين (Mercure de France, 1826, 1er série)، ويحتوي العدد الخاص من «فالوني» على أربع قصائد نثر: «نزهة» و«يقظة» و«كائنات مائية» و«عين بيسكاي»، حول نثر «فيرهارين»، انظر Fontaine, Verhaeren et son œuvres (Mercure de France 1929), chapitre IV: L’œuvres en prose.
٦٥  جمعت في Impressions, 1er série, p. 89، ويبدو أن صورة الصلب قد تسلطت على «فيرهارين» في هذه الحقبة، ونجدها مرة أخرى في نثرية «مسيح»، المنشورة في La Cravache, le 22 Décembre 1888.
٦٦  La Wallonie, Mai 1890, recueilli dans Impressions, 1er série, p. 107، «أبقار كبيرة صهباء، مربوطة بمجر العجل، تهبط الجبل، وعبر قلبي تمر الصرخة المتوسلة للعجلات، والأخاديد المضغوطة بشدة، على قلبي الكئيب للغاية، الرمادي من مطر الذكريات مثل المشهد الذي يبكي فيه الضباب دموع ماء حزينة للغاية، بائسة للغاية، ورتيبة للغاية …» مثلما يكتب «فيرهارين».
٦٧  Message du Symbolisme, Nizet, 1947, t. II, p. 298.
٦٨  Verhaeren et son œuvres (Mercure de France 1929), p. 145.
٦٩  عندما ستنشر «صفحات» — عام ١٨٩١م — سيعرب «فيرهارين»، في مقال نشر في L’Art Moderne, le 17 Mai 1891، (وجمع في Impressions, 3° série) — عن إعجابه بقصائد نثر «مالارميه»، وسيشير إلى السمة المبهمة لأحدث القصائد، وسيحلل منهج «مالارميه» في التطور «الرمزي»، وفيما يتعلق بتكوين الجملة، لن يعجز أي قارئ لمالارميه عن أن يرى في «كائنات مائية» شبه معارضة للنثر البالغ الخصوصية في «هذيانات».
٧٠  La Wallonie, Mai 1890؛ جمعت في Impressions, 1er série, pp. 110–112.
٧١  Les Forces Tumultueuses, Mercure de France, 1902.
٧٢  ها هو — على سبيل المثال — تصحيح الصفحة الأخيرة من «شماليات»، القصيدة المنشورة في Société Nouvelle, 1891، ثم أصبحت «هناك في الشمال»: يحل «فيرهارين» تشبيهًا جميلًا إلى حدٍّ بعيد محل صورة غير موفقة إلى حدٍّ ما، ويلغي صفةً تنتمي للذائقة الرمزية، غير مفيدة وموظفة بشكل غير موفق: «آه! أنت، هذه الحياة على حافة رصيف الميناء، طوال الأسبوع! مع النهر في المقدمة والجلبة مثل نقرات موسيقية في الهواء، هذه الحياة، طوال الأسبوع، ثم سلام مساء الأحد بانتظام فوق هذا كله، متدللًا»، تصبح: «آه! هذا الوجود على حافة رصيف الميناء، أمام البحر، مع النهر جارفًا قطعان مراكب، نحو الأبراج الكبيرة، الشبيهة بالرعاة! آه! هذه الأصوات، هذا الضجيج، هذه الحمى، هذا الجنون، وهذه العذابات، من الفجر حتى مساء كل يوم، وصمت يوم الأحد فوق كل هذا!» وهي جملة موقعة أكثر وأكثر تعبيرية.
٧٣  لكنه سيكتب في L’Art Moderne, Avril 1897، عن نثريات فاندبوت (Heures Harmonieuses).
٧٤  في حقبة «الحقول الهاذية» (١٨٩٣م) و«مدن ذات مخالب» (١٨٩٥م)، قارن ﺑ Michaud, Message du Symbolisme, Nizet, 1947, t. III, pp. 459–465.
٧٥  ثمة — في «انطباعات»، السلسلة الأولى — نثرية غريبة، «كلمة»، أقرب إلى الاعتراف أو الحكاية الكئيبة — على طريقة «بو» — من «القصيدة»، وهي تصف حالة هلوسة لفظية تذكرنا ﺑ «شيطان التماثل» لمالارميه.
٧٦  نشرت «لوحات باستيل نثرية» عام ١٨٩٠م، لدى Harper and Brothers في نيويورك، ونجد فيها — بالإضافة إلى قصائد «برتران» و«بودلير» و«هويسمان» … إلخ — عدة قصائد كتبها، خصيصى من أجل هذه المختارات، عدد من الكتاب الرمزيين: «ميخائيل» و«كويار» و«هنري دي رينييه».
٧٧  M.-L. Henry, Stuart Merrill, Champion, 1927, p. 65.
٧٨  انظر — بهذا الصدد — Michaud, Message du Symbolisme, Nizet, 1947, t. II, La Consécration, pp. 393–339, et E. Raynaud, La Mélée Symboliste, Renaissance du Livre, t. II, chap. 1er; L’âge du Symbolisme.
٧٩  انظر E. Raynaud, La Mélée Symboliste, Renaissance du Livre, t. II, pp. 12-13.
٨٠  Revue des Deux Mondes, Novembre 1890: Le Symbolisme et Décadents, pp. 213–226.
٨١  Revue de Deux Mondes, 1er Avril 1891: Le Symbolisme contemporain.
٨٢  وهكذا يقول «لو كونت دي ليل»: «سيكون أسهل للغاية كتابة نثر فرنسي جميل، ما داموا يطلبونه كثيرًا في الشعر!» Enquête sur l’Evolution littéraire, Charpentier, 1913, p. 280 (Enquête faite par J. Huret et publiée dans l’Echo de Paris de Mars à Juillet 1891)، انظر أيضًا إجابة «هيريديا» المذكورة فيما سبق، الفصل الثاني من القسم الثاني.
٨٣  Enquête sur l’Evolution littéraire, p. 6.
٨٤  المرجع السابق، ص٢١٣.
٨٥  ذكره E. Raynaud, La Mélée Symboliste, Renaissance du Livre, t. II, pp. 14-15.
٨٦  Verlaine, Confessions, cité par E. Raynaud, La Mélée Symboliste, Renaissance du Livre, t. II, pp. 14-15.
٨٧  Message du Symbolisme, Nizet, 1947, t. III, pp. 478–481.
٨٨  Les Dates et les Œuvres, Crés, 1923, p. 166.
٨٩  الغنوصية: نزعة فلسفية دينية تهدف إلى إدراك كنه الأسرار الربانية.
٩٠  Servitude et grandeur littéraire, Ollendorff, 1922, p. 45.
٩١  مثلما أثبت «ميشو» في Message du Symbolisme, Nizet, 1947, t. III, p. 479، وذو دلالة أيضًا الهوس الذي وصفه «موكلير» بالعبارات التوجيهية، في الطبعات غير المخصصة للتوزيع التجاري من «ورق غريب» (مرجع سابق، ص٤٦).
٩٢  Pellissier, Etudes de littérature contemporaine, 1er série, Perrin, 1898, p. 179.
٩٣  Le Figaro, 14 Septembre 1891, cité par Michaud, op. cit., t. III, p. 428.
٩٤  ها هي الجمل التي ظلت شهيرة من إعلان الحرية هذا: «لم يعد هناك أي شكل ثابت يمكن اعتباره ضروريًّا للتعبير عن أية فكرة شعرية، فالشاعر — من الآن فصاعدًا، وكما هو دائمًا، ولكن حرًّا هذه المرة عن وعي — سيطيع الإيقاع الشخصي الذي يدين له بوجوده» (Entretiens politiques et littéraires, Mai 1892, t. IV, p. 217).
٩٥  ذكره Michaud, Message du Symbolisme, Nizet, 1947, t. III, p. 479.
٩٦  «في مجتمع بلا استقرار، وبلا وحدة، لا يمكن إبداع فن مستقر، فن محدد، من هذا التنظيم الاجتماعي غير المتحقق، الذي يفسر — في آن — قلق النفوس، تنشأ الحاجة غير القابلة للتفسير إلى الردانية، التي تعتبر التجليات الأدبية الراهنة الانعكاس المباشر لها»، مثلما يقول «مالارميه» عن الشعر الحر Réponse à l’Enquête de J. Huret sur l’Évolution Littéraire, Mallarmé, Œuvres, Pléiade, pp. 866-867.
٩٧  E. Raynaud, La Mélée Symboliste, Renaissance du Livre, t. II, pp. 7-8 (voir aussi, pp. 51–57).
٩٨  انظر — في هذا الموضوع — H. Mazei, Aux beaux temps du Symbolisme (Mercure de France, 1943, p. 29).
٩٩  حول الحوادث المزعجة ﻟ «زو داكسا»، مدير «آن ديهور»، الذي لاحقه البوليس، انظر مقال «ريتيه» في مجلة La Plume, 15–31 Janvier 1896، ويمكن أن نلوم رسالة «ميشو» حول Message du Symbolisme, Nizet, 1947 على أنها مرت مرور الكرام على هذا الغليان الفوضوي: «لن نستطيع كتابة تاريخ الرمزية دون الحديث عن الفوضوية»، ذلك ما يعلنه — رغم ذلك — مؤرخان للفوضوية Manevy et Ph. Diole (Sous les plis du drapeau noir, Domat, 1949, p. 69).
١٠٠  انظر Mondor, Vie de Mallarmé (N.R.F., 1941, p. 683).
١٠١  Manevy et Ph. Diole, Sous les plis du drapeau noir, Domat, 1949, p. 72.
١٠٢  مثلما يبلغنا Mauclaire, Mallarmé chez lui, Grasset, 1935, p. 141.
١٠٣  انظر — في هذا الصدد — A. Lebois, Les tendances du Symbolisme, à travers l’œuvre d’Elémir Bourges, L’Amitié par le Livre, 1950, chapitre 3: L’historien devant la politique: de l’anarchisme à G. Sorel, p. 106 et sq.، ويوضح «ا. لوبوا» جيدًا انتشار الاتجاهات الميالة للفوضوية في هذه الحقبة، وصولًا إلى صالون «مالارميه» الذي يرى — من ناحية أخرى — أنه أقل لا مبالاة إزاء الاضطراب السياسي لعهده مما يمكن الاعتقاد.
١٠٤  رجال يمثلون «التمرد الميتافيزيقي»، يقول «كامي» إن «جميعهم قد أكدوا — في موقفهم ضد الوضع وخالقه — على عزلة الكائن الحي، وانعدام الأخلاق»، غير أنهم — في نفس الوقت — «انقادوا منطقيًّا — كخصوم للخالق — إلى إعادة الخلق لحسابهم الخاص (L’homme révolte, N.R.F., 1951, p. 128).
١٠٥  L’homme révolte, p. 35.
١٠٦  Verhaeren, article sur Pages, Art Moderne, 17 Mai 1891, reproduit dans Impressions, 3° série, p. 87.
١٠٧  مثلما كان الحال بالنسبة لفيرهارين، كما سبق أن قلت، وأيضًا بالنسبة لفونتينا، الذي كان شابًّا وقتئذٍ، وكان نثره يبدو — أحيانًا — معارضة حقيقية (انظر — على سبيل المثال — Symphonie, dans La Plume du 1er Septembre 1900).
١٠٨  Mauclaire, Servitude et grandeur littéraire, Ollendorff, 1922, p. 28.
١٠٩  وقد أدرجه «بلوي» — فيما بعد — Belluaires et Prochers, Stock, 1905.
١١٠  لقد رأى «ر. دي جورمون» — الذي اهتم مبكرًا بلوتريامون، وخصه بمقالٍ نشر في Mercure de France, 1891 (وأعيد نشره في Masques, 1896) — أن قيمة «أناشيد مالدورور» ترجع إلى «جدة وأصالة الصور والاستعارات» (Livres des Masques, Mercure de France, 1914, p. 141).
١١١  تحمل الطبعة التي نشرها «فانييه» من «إشراقات» في نهاية عام ١٨٩١م، تاريخ عام ١٨٩١م على صفحة العنوان، وعام ١٨٩٢م على الغلاف، مثلما لاحظ «بويان دي لاكوست» في طبعته المحققة من «إشراقات» (Mercure de France, 1949).
١١٢  Rimbaud, article paru en Mai 1896 dans le Chap Book, Œuvres de Mallarmé, p. 519.
١١٣  «أنا وأصدقائي، رمزيي الجيل الثاني، لم يمتعنا سوى أربعة قديسين: فيرلين ومالارميه وفييه دي ليل–آدام ولوتريامون، لكن رامبو كان إلهنا — الإله المعلون — إله الشعر، والحياة الشعرية الحقيقية (Poésie 41, Numéro spécial sur Rimbaud, Oct.-Novembre 1941)، وسأشير — بلا إلحاح — إلى أن من بين الشعراء الأربعة الآخرين المذكورين، لا يوجد من لم يجرب الشعر المنثور، ويمكن اعتبار «فيه دي ليل–آدام» و«لوتريامون» ناثرين فحسب.
١١٤  الذي ظهر «رامبو» — بالنسبة له، منذ عام ١٨٨٦م — مثل باب مفتوح على كل ما هو خارق، وطريق للهروب خارج العالم العقلاني الكيره، قارن ﺑ Ma Conversion.
١١٥  الذي وزع إعجابه — حوالي عام ١٨٩٢م — بين «مالارميه» و«رامبو»، قارن بما يلي، الفصل الخامس من القسم الثاني.
١١٦  قارن بما سيلي، الفصل الخامس من القسم الثاني.
١١٧  نسبة إلى «مندل»، مؤسس علم الوراثة.
١١٨  «إن النموذج البارناسي، مثلما يكتب «جيد»، لم يكن مثاليًّا، ولم يكن «لووي» ولا «هيرولد» يتذوقان المثال البارناسي» (Si le grain ne meurt, Gallimard, 1933, p. 320).
١١٩  Iseler, Les débuts d’André Gide vus par Pierre Louÿs, Le Sagittaire, 1937, p. 68.
١٢٠  P. Louÿs, Projet de lettre à X, 29 Décembre 1889, reproduit dans la Nouvelle Revue Française, Décembre 1929, p. 793.
١٢١  Iseler, op. cit., p. 97.
١٢٢  في Notes التي يزعم «أن أندريه والتر أخذها من أجل تأليف روايته آلان»؛ André Walter, éd. des Œuvres Représentatives, 1930, p. 110 (1er édition 1891).
١٢٣  إنه البطل (أي «جيد» نفسه) الذي يتحدث بهذه الطريقة عن «بيير ك.» («بيير كريزيس»، الاسم المستعار الأول ﻟ «لووي»): إن كتابته ذاته كمال رصين، منزه، وجامد — وهي محبطة؛ لأنني كنت أشعر إزاءها بأن لغتي أكثر سلاسة كأنها بلا حدود، كنت أريد حصرها في أشكال إيقاعية — لكن الانفعال يفجر دائمًا جملتي، ولا يتبقى منها سوى الحطام» (ص٧٤).
١٢٤  قارن ﺑ «أندريه والتر»، ص١٧٤ كلها، وبشكل خاص «عندما يحتج تركيب الجملة، فينبغي إخضاعه، هذا الحرون».
١٢٥  André Walter, p. 110.
١٢٦  ذكره «ب. إيزليه»، ص١٢٧.
١٢٧  ونعلم من Journal de Gide وSi le grain ne meurt عن هذه الصداقة، «في فترة «أندريه والتر»، بذلت جهدًا مضنيًّا في الانفصال، وقد أصابني التعب، دون قطيعة»، مثلما يكتب «جيد» في Journal le 9 Juin 1928 ويحكي — في Si le grain ne meurt — أنه قد لجأ إلى أطرافٍ بحيرة «أنيس» كي يتمكن من الكتابة بهدوء ويحمي آراءه «المهانة حتى ذلك الحين» (Si le grain ne meurt, Gallimard, 1933, pp. 245-246).
١٢٨  قارن بالصفحة السابقة.
١٢٩  La Revue Blanche, Juin 1898 (à propos de L’Imagier du Soir et de l’Ombre, de D. Lantrac)، ويصنف «كان» بالطبع — مثل أغلب الرمزيين — في الفئة «الموسيقية»، ونشير إلى أن «محاسن القمر» قصيدة ذات بنية صارمة وتماثلية بدقة، وهي — فضلًا عن ذلك، حسب «كان» — النجاح الحقيقي الوحيد لبودلير في قصيدة النثر (قارن بمقدمة Premiers poèmes de Khan, Mercure de France, 1897, p. 20).
١٣٠  P. Louÿs, Projet de lettre à X, 29 Décembre 1889, reproduit dans la Nouvelle Revue Française, Décembre 1929.
١٣١  Mercure de France, Décembre 1897.
١٣٢  Mauclaire, Mercure de France, Avril 1895: «في تكوين دقيق بشكل مطلق، والأكثر عذوبة في اللغة، والأكثر إيجازًا، والأكثر شفافية في الأحاسيس الحادة، تدور الحياة التي تتجلى في مظاهر مألوفة أو عاطفية للعاهرة اليونانية الصغيرة»، وحكاية القراء الذين اعتقدوا أن «بيليتيس» قد وجدت حقًّا، وأن الأمر يتعلق بترجمة أصيلة، مشهورة تمامًا إلى حد أنني لن ألح عليها هنا.
١٣٣  «كان بيير لووي «إيونيًّا» للغاية، وأنا «دورينيًّا» بشكل مفرط، أكثر من أن يمكن لنا أن نتفاهم»، كما كتب «جيد» في Journal, 1907 (éd. de la Pléiade, p. 232).
١٣٤  قارن — على سبيل المثال — ﺑ «القمر ذو العينين الزرقاوين»:

كنت قد جدلت لهم/تيجانًا وأكاليل، مقطوعة من سعف النخيل/ونزعت اللوتس من الماء».

أو: «كآبة مبهمة»:

أنا أرتعد، الليل بارد، والغابة كلها مبلولة، لماذا قدتِني إلى هنا؟ أليس سريري الكبير أكثر رقة من هذا الطحلب المبذور بالحجارة؟»

إن «لووي» يتجنب بعناية الجملة «الخطابية» التي تتقدم وهي تتعاظم.
١٣٥  «تحممني أمي في الغموض، وتكسوني في وضح الشمس، وتمشط شعري في الضوء» (كلمات أمومية) — مثال جميل ﻟ «النوافذ المموهة» –؛ «غنوا الأغنية الزفافية، والناياتت أيضًا غنت» (Les Noces).
١٣٦  والطريف أن نرى السيدة «بيرتيروي» قد ترجمت نظمًا ستًّا من «أغاني بيليتيس» عام ١٨٩٦م في Revue pour les Jeunes Filles.
١٣٧  Œuvres complètes de Marcel Schwob, publiées par P. Champion, t. IV, Bernouard, 1928, p. 182.
١٣٨  «نستطيع إلقاء قصائده، فما من خطأ إيقاعي فيها»، مثلما يقول «ب. شامبيون» عن «شووب» في Introduction (t. 1, p. XXXIV)، وتبدأ سلسلة «إيماءات» في الظهور في Echo de Paris، في ديسمبر، قبل اﻟ «أغاني» بكثير.
١٣٩  في عام ١٨٩٤م، كتب شووب «كتاب مونيل»، المتأثر باللغة الرمزية.
١٤٠  Mimes, XI et XIII.
١٤١  Mimes, XX, p. 125، «تأكل الظلمات النوم وتشرب النسيان»، مثلما يقول «شووب» في نفس القصيدة (المتوافقة، فضلًا عن ذلك، مع التقليد القديم)، «إن ذكرى حياتي الأرضية هي فرحة حياتي السرية»، فيما يقول — على النقيض — ظل بيليتيس (Dernièr Épitaphe): تعارض دال.
١٤٢  Marcel Schwob et son temps, Grasset, 1927, p. 265.
١٤٣  منشور في Essais d’Art libre, Mai 1892، انظر أيضًا «قصائد نثر صغيرة للغاية»، التي نشرتها «إرميتاج» في فبراير وأبريل ومايو ١٨٩١م، وبعد القصائد «الصغيرة»، القصائد «الأصغر»: لقد أخذت طموحات وأحجام النوع تتقلص أكثر فأكثر …
١٤٤  Revue Blanche, Juin 1898.
١٤٥  L’Imagier du Soir et de l’Ombre, Mercure de France, 1898, p. 97، نتعرف على «الخيميائي» لبرتران.
١٤٦  Alchimie, L’Imagier du Soir et de l’Ombre, p. 98.
١٤٧  Le Concert, op. cit., p. 69, Cf. Le début de la Viole de Gambe dans Gaspard de la Nuit.
١٤٨  قارن بما سبق، مدخل القسم الأول.
١٤٩  ها هو مثال مأخوذ من مقطوعة «بالمثل، بسرعة» ﻟ «أدريان ميرل»، المكونة من مقاطع:
Tara ta ta! ta! ta! dans un tourbillon de poussière, trompettes sonnantes, s’éloigne au grand trot de son escorte, etc … = تارا تا تا! تا! تا! في زوبعة تراب، أبواق رنانة، تتناءى بركضٍ كبير من حرسه … إلخ.
إنه — بالضبط — «تاراتانتارا taratantara» لإنيوس.
١٥٠  La Colombe, Les Reposoirs de la Procession, t. II, De la Colomba au Corbeau par le Paon, Mercure de France, 1904 (مقطوعة يعود تاريخها إلى ما بين عامي ١٨٨٥م و١٩٠٤م)، وحول تقنية «سان–بول–رو»، انظر الدراسة الشاملة فيما سيلي، الفصل الخامس من القسم الثاني.
١٥١  La Plume, 1er Avril 1892, p. 158.
١٥٢  تحمل «الأناشيد الغنائية» المنشورة في «ميركور»، بتاريخ ١٨٩٦م، عنوانًا فرعيًّا: «قصائد نثر».
١٥٣  هكذا يصنف «أبري» و«أوديك» و«جروزيه» — في كتابهم Histoire de la littérature française (Didier, 1939) — «بول فور» ضمن شعراء النظم («يملك بول فور الدلال لطباعته — نثرًا — أبياتًا رائعة وكلاسيكية»)، بينما يستبعده «م. شابلان» من مختارات من قصيدة النثر.
١٥٤  حول «ليدات منديس»، انظر ما سبق، الفصل الأول من القسم الثاني، وكان «ب. لووي» قد شبه «ب. فور» ﺑ «منديس» في Préface aux Ballades Françaises (Mercure de France, 1897, p. X).
١٥٥  Préface aux Ballades Françaises, p. X.
١٥٦  Réponse à l’Enquête de Le Gardonnel et Vallay sur la Littérature contemporaine (Mercure de France, 1905, p. 268).
١٥٧  انظر ما سبق، الفصل الثاني من القسم الثاني.
١٥٨  Réponse à l’Enquête de Le Gardonnel et Vallay sur la Littérature contemporaine (Mercure de France, 1905, p. 268).
١٥٩  Préface aux Ballades Françaises (Mercure de France, 1897, p. X).
١٦٠  دراسات جمعت أغلبها في نهاية Anthologie des Ballades Françaises (Mercure de France, 1925) (ولا نجد فيها دراسة «رينيه»).
١٦١  Mercure de France, Mai 1897 (انظر أيضًا مقالًا لنفس المؤلف في ديسمبر ١٨٩٦م).
١٦٢  إن «الأناشيد الغنائية»، مثلما يقول «ب. فور» — بغرابة — «نظم نثر» أو «نثريات نظم»، كيفما نشاء (Mes Mémoires, Flammarion, 1944, p. 80).
١٦٣  قارن بكتاب Brémond, Les deux musiques de la prose, Corréard, 1924.
١٦٤  Edition définitive des Ballades, Flammarion, 1924, t. III, p. 51.
١٦٥  الذي يستخدمه «فيليه–جريفان» هو أيضًا، أحيانًا في أشعاره الحرة، قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٦٦  هل الإدغام «طبيعي» حقًّا بعد حرفين ساكنين، في نهاية autres وalignes على سبيل المثال (وفي نهاية marbre)؟ يبدو «بول فور» متناقضًا هنا مع قوانين النطق الطبيعي.
١٦٧  Ballades Françaises, Flammarion, 1922, t. I, p. 15.
١٦٨  Naissaince du Printemps à la Férté-Milon, dans Ile de France.
١٦٩  ملاحظة ذكرها G.-A. Masson (Paul Fort, éd. du Carnet Critique, p. 38)، ويبدو أن «بول فور» قد تنبه لذلك بالفعل، وأنه أخذ يستعيد — أكثر فأكثر — الأجزاء «المنثورة» من قصائده (انظر — على سبيل المثال — القصائد غير المنشورة، المتضمنة في Mémoires, Flammarion, 1944).
١٧٠  Coxcomb, I.
١٧١  يقول «ا. بونييه»، متحدثًا عن «ب. فور»، إن استخدام الشعر الحر كان يمكن أن «يسمح له»، وحده، ﺑ «تحقيق التقارب الذي يأمل فيه بين النثر والشعر؛ لأن إيقاع الحر لا يتأسس على عدد المقاطع الفنية في الجملة، وإنما على نوعيتها، فنبرتها هي من نفس نبرة النثر» (Paul Fort, dans La Poésie nouvelle, Mercure de France, 1902, p. 364).
١٧٢  Anthologie du Pastiche, Crés, 1926, t. I, p. 80، وهذا — بطبيعة الحال — لا يعني سوى قصيدة النثر «الفنية».
١٧٣  نسبة إلى «فيرون»، من أنواع سمك الشبوط الصغير، ويعيش في المجاري.
١٧٤  فضلًا عن ذلك، فالمقصود — بالأحرى — الآيات لا النثر بحصر المعنى، وحول «التناغم الإيقاعي» بين النظم والموسيقى، وحول الطريقة التي سيحل بها «ديبوسي» هذا التنافر — في «أغنيات بيليتيس»، وفي «بلياس» — باستخدام نصوص من النثر الإيقاعي، قارن — بالتحديد — باستخدام الفصل الذي يحمل عنوان «تنافر إيقاعي»، ص٩٤ وما يليها من كتاب M. Beaufils, Musique du son, Musique du verbe, P.U.F., 1954، كان «ديبوسي» يعتبر الموسيقى «أكثر حرية» مع النثر الموقع مما مع النظم (Réponse à une enquête de Musica, Correspondance de Debussy et P. Louÿs, Corti, 1945, p. 198).
١٧٥  نشرت «Proses Lyriques نثريات غنائية» لديبوسي في Entretiens politiques et littéraires, Décembre 1892.
١٧٦  «من بيمول» En Bémol, Mercure de France, Avril 1891: مقطوعة مكونة من مقاطع صغيرة، يستعاد الثاني منها جزئيًّا في الخاتمة، قارن ﺑ «جان كور» — في نفس النوع — «أغنية كاميي»، المكونة من ثلاثة أجزاء: «كاميي ذات العينين الصادمتين»، «كاميي ذات العينين الحزينتين»، «كاميي ذات العينين الميتتين» (Mercure de France, Janvier 1892).
١٧٧  Les Heures bleues, Ermitage, Février et Octobre 1893.
١٧٨  L’Ivresse verbale, Ermitage, 15 Févreir 1892، إنه «ر. دي جورمون» الذي ذكر في Prose pour un poète (Mercure de France, Octobre 1891, recueillie dans les Proses moroses, Mercure de France, 1894)، شاعرًا مفتونًا — حرفيًّا — ببحر سكندري، يطارده في وجود عشيقته العجوز: «أحذر من التخلي عن الزنابق العجوز الوحيدة»، ونتساءل عما إذا لم يكن «ر. دي جورمون» قد لعب دور النموذج لهذا الكاتب الذي يريه لنا «جيد» — في «مستنقعات» — وهو يتلذذ بترديد الكلمات: «طريق محاط بالنباتات المتعرشة …».
١٧٩  L’Ivresse verbale, Ermitage, 15 Février 1892.
١٨٠  Mercure de France, Juin 1893.
١٨١  Proses moroses, Mercure de France, 1894, p. 85.
١٨٢  «هذا الكلام الملتبس الذي انتشر وباؤه حوالي عام ١٨٨٥م»، مثلما سيكتب «ديلاروش» في Ermitage، مايو ١٨٩٥م.
١٨٣  إنه يحب الكلمات «في ذاتها، لجماليتها الذاتية التي تعتبر ندرتها أحد عناصرها، — والإصاتة هي العنصر الآخر»، مثلما يقول «ج. لوت» عن حقٍّ تمامًا في La Poétique de Symbolisme, Revue des Cours et Conférences, 1924, t. II, p. 723.
١٨٤  نعرف جملة «ت. جوتييه» الشهيرة في Notice عن «بودلير»، في مقدمة «أزهار الشر»: «تملك الكلمات بالسنبة للشاعر، جمالًا وقيمة خاصين بها، في ذاتها وخارج المعنى الذي تعبر عنه، مثل أحجار كريمة لم تصقل بعد وتركب في أساور وعقود وخواتم …»
١٨٥  تمكن «ميريل»، الحواري المتحمس لغيل، من التأثر أيضًا بالشعر الإنجليزي، الذي يمتلئ للغاية بالمحارفات (انظر M.-L. Henry, Stuart Merril, Champion, 1927, pp. 57–59).
١٨٦  تتكون «Allégorie  استعارة»، وهي إحدى قصائد نثر «ميريل» الأولى، والمنشورة في Wallonie عام ١٨٨٧م، من آيات قصيرة، وتضم أمثلةً ملفتة للنظر في المحارفات: «roses sous le baiser de la brises = ورود تحت دغدغة النسيم»، «sentit un souffle d’horreur l’effleurer = أحس بهبة هول تمسه»، «le lamentable cadavre = الجثة المثيرة للرثاء» … إلخ.
١٨٧  La Wallonie, Mars-Avril 1891.
١٨٨  Ermitage, Décembre 1891.
١٨٩  La Plume, 15 Octobre 1891، أعيد نشر كل هذه القصائد — بعد الوفاة — في Proses et Vers, Messein, 1925.
١٩٠  ثوب نسائي فضفاض.
١٩١  حيوان أسطوري له جسم حصان، كان القدماء يفترضون له قرنًا وسط جبهته.
١٩٢  قارن بما سبق، الفصل الرابع من القسم الثاني.
١٩٣  La Wallonie, Septembre-Octobre 1891، وحول أسلوب وتكوين هذه القصيدة، انظر ما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٩٤  Ermitage, Juin 1893، ويتصادف ذلك مع الحقبة التي يقل فيها تعامل «ميريل» مع الفوضويين (انظر ما سبق، الفصل الرابع من القسم الثاني).
١٩٥  نشرت في مجلة Vers et Proses, 1905.
١٩٦  المجموعة عام ١٩٢٥م في الديوان المنشور بعد الوفاة «Vers et Proses  نثر ونظم».
١٩٧  صفحة أعيد نشرها خارج النص (أمام صفحة رقم ٨٠ من كتاب «ستيوارت ميريل»)، انظر أيضًا التصحيحات التي أجريت على «Tommy Atkins تومي أتكينز»، ص٢٦١.
١٩٨  على سبيل المثال: «عيناك في عيني إلى حد أنني لم أعد أرى مجد الشمس»، تصبح «عيناك كانتا الشمس كلها لي»، وجملة «لم يكن هناك أي شيء في العالم هذا اليوم سوى حبنا المقبول في النهاية»، تصبح «لم يكن أي شيء في هذا العالم سوى أنت وأنا»، و«ميريل»، الذي كتب عبارات سريعة، يلغي الخمس كلمات الأخيرة (لتوضيح فكرته الرئيسية: لم يكن هناك شيء في العالم سوى أنت وأنا): «كانت أوهامًا في حلم من البهجة».
١٩٩  تأثير لم ينتهِ أبدًا، من ناحية أخرى، لكنه سيتجلى بشكل أكثر مباشرة في الاتجاه الغنائي واختيار الموضوعات، هكذا يكتب «بيير ليرميت» في بداية إحدى «الوقائع»: «كتب المعلم «دعوة إلى السفر»، فمن ذا الذي سيكتب دعوة إلى الإجازات؟» قبل أن يجمع سلسلة من صور الإجازات تحت عنوان «أغسطس، قصائد نثر صغيرة» (Ermitage, Août 1890).
٢٠٠  في Proses de décor (Ermitage, Juillet 1891).
٢٠١  Mercure de France, Mai 1897، انظر أيضًا مقال «روفي بلانش»، حيث يطري «كان» في (١٥ يوليو ١٨٩٩م) هذه القصائد «ذات الجمل القصيرة والموسيقية».
٢٠٢  طبعة La Nouvelle Revue, 1892.
٢٠٣  Poéme XCIV, pp. 178-179.
٢٠٤  هذا على سبيل المثال (القصيدة رقم ٢٤، ص٤٧-٤٨):
أريد أن أكون ضريحًا ليزدهر ترابي من حبك.
أريد أن أكون الليل لأتحول إلى نهار من فرط ما أحبك.
أريد أن أكون أبديًّا لأموت كل مساء بحبك وأولد من جديد كل صباح.
أريد أن أكون العدم لأصبح عالمًا بسبب حبك.
ونشعر بتأثير القصائد الصينية و«التوازي» العبراني، ولكن كم كل ذلك مصطنع وظاهري.
٢٠٥  La Chanson du poète errant, Perrin, 1911, p. 53.
٢٠٦  مثل المقطعين الثمانيين في البداية، مع التكرار: «الوقت متأخر وعذب، الوقت متأخر وعذب على البحر» — وهي جملة، فلنلاحظ ذلك، تستخدم لمجرد تقديم موضوعي الليل والبحر، إذ تشكل — بصورة واضحة — حشوًا من حيث المعنى.
٢٠٧  «إنه الليل/الصمت/والنسمة»: ثلاثة عناصر نحوية يتألف كل منها من ثلاثة مقاطع لفظية.
٢٠٨  يبدو تأثير «هايني» محسوسًا بشكل كافٍ على «سارازان» الذي كان قد سافر إلى ألمانيا، فضلًا عن ذلك (انظر «أناشيد هايدلبرج» في «أغنية الشعر الشارد»)، وكمثال آخر على القصيدة المبنية والغنائية في آن، التي يتحقق فيها إيجاز وبساطة «هايني»، انظر Le jour pâlit, p. 19.
٢٠٩  حول «لويس لورميل»، مثمن الأحصنة الحكومي، الذي نال فرصة نشر الأعمال الأولى ﻟ «فارج» و«جاري» في Art Littéraire، انظر ذكريات Fargue, Portraits de famille, Janin, 1947, p. 147.
٢١٠  نشرها «سانسو» عام ١٩٠٨م، وقد وضع «باري» «لوحات روح» — حسبما يقول «كان» — إلى جانب «جاسبار الليلي» (Silhouettes Littéraires, Montaigne, 1925, p. 115).
٢١١  التي تختتم هكذا: «إنها الظهيرة السوداء الذهبية والقيثارات المهيبة يتردد صداها» (Tableaux d’Ame, Sansot, 1908, p. 126).
٢١٢  ويمكننا مقارنتها بشكل مفيد مع «كائنات مائية» للافورج (La Vogue, 1886).
٢١٣  A une Passante .
٢١٤  قارن بالبيت الوارد في «المركب النشوان»: «أتحسر على «أوروبا» ذات المتاريس القديمة!»
٢١٥  قارن ﺑ «ظاهرة مستقبلية» لمالارميه، حيث الشمس تحت الماء «تغوص في يأس صرخة».
٢١٦  خطاب «رامبو» إلى «دوميني»، ١٥ مايو ١٨٧١م (Œuvres de Rimbaud, éd. de la Pléiade, p. 236).
٢١٧  اتجاهات متعارضة، بالتالي، مع الاتجاهات «المتضاربة» التي تنحو إلى إعادة النظم والنثر الموقع إلى شكل فريد خاضع لمثال مشترك وقواعد شكلية متماثلة، في المحاولات المذكورة سابقًا.
٢١٨  انظر ما سبق، الفصل الثاني من القسم الثاني.
٢١٩  قبل أن يتحدث عن القصيدة النقدية في معرض تناوله لمقالاته في «روفي بلانش» عام ١٨٩٦م، (انظر Bibliographie des Divagation, Œuvres, p. 1569)، كان «مالارميه» قد استخدم هذا التعبير منذ عام ١٨٩٤م بصدد كتاب «موكيل»، «أحاديث أدبية» (قارن بالمقطع المأخوذ من الخطاب المذكور في Propos sur la poésie, recueillis par Mondor, Monaco, 1953, p. 188).
٢٢٠  العبارة لمالارميه، فيما يتعلق — تحديدًا — بهذه «القصائد النقدية» التي تسمح بأن تكشف، «في هيئة أجزاء مفهومة ومختصرة»، «إيقاعات الفكر المباشرة وهي تنتظم عروضيًّا» (Œuvres, p. 1570).
٢٢١  انظر Thibaudet, Histoire de la Littérature française depuis 1870, Stock, 1943, 50 partie, chap. 4, p. 557.
٢٢٢  Réponse à un acte d’accusation, dans les Contemplations, livre 1er.
٢٢٣  Réponse à l’Enquête de J. Huret sur l’Evolution littéraire, en 1891, Œuvres, p. 867.
٢٢٤  Mercure de France, Avril 1893, p. 374 (فيما يتعلق ﺑ «ج. دانو نزيو»).
٢٢٥  انظر ما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٢٢٦  انظر ما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٢٢٧  في عام ١٩١٢م، اختتم «غيون» مقالًا حول قصيدة النثر بهذه الكلمات: «ألا أستطيع انتهاز الفرصة للإشارة إلى الروابط التي تربط بين قصيدة النثر والبحث من ناحية والرواية من ناحية أخرى؟» (Nouvelle Revue Française, Août 1912, p. 345).
٢٢٨  حول «الروايات الغنائية» في نهاية القرن، انظر ما سيلي، الفصل الأول من القسم الثالث، وحول جيل عام ١٩١٤م، لاحظ «تيبوديه» أن الشعر، الذي ينزع إلى بث أريجه في كل الأنواع الأدبية، «قد فاض بشكل خاص على الرواية»، ويضرب مثلًا ﺑ «جيرودو» و«آلان فورنييه» (Histoire de la Littérature française depuis 1870, Stock, 1943, p. 557)، ولا تزال الرواية الشعرية تحتل مركزًا رفيعًا في وقتنا الراهن (قارن بروايات «جوليان جراك»).
٢٢٩  قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٢٣٠  A Rebours, Œuvres complètes, t. VII, p. 302.
٢٣١  Huysmans, A Rebours, Œuvres complètes, t. VII, p. 302.
٢٣٢  على سبيل المثال، «الساحر المتعفن» لأبوللينير.
٢٣٣  قارن بما سبق، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٢٣٤  نشرت في البدء في Mercure de France, Juillet 1894، وجمعت في Minutes de Sable Mémorial، في ديسمبر.
٢٣٥  وفضلًا عن ذلك، يجعل «جاري» بطله «هالديرن» يقول: «حطم بمادتك ريشتي الحديدية، أيها الضفدع الخادم الطيب، كي أسكب نصًّا من جبيني، لمن يقرءُونه» (Minutes de Sable Mémorial, Nouvelle édition, Fasquelle, 1932, p. 118).
٢٣٦  L’influence d’I. Ducasse sur les début littéraire de A. Garry, Revue d’Histoire littéraire de la France, 1935, t. II, p. 440.
٢٣٧  «شعلة شعركم المجبول من الهلع»، «الضفدع ذو الجلد الملائكي» … إلخ.
٢٣٨  قصيدة يتذكر فيها «مالدورور» قتل «فلامير»، مثلما يتأمل «هالديرن» هنا أمام جثة «أبللو» الذي قتله، ولا يجدي التأكيد على القرابة العميقة التي توحد بين «لوتريامون» و«جاري»: فكلاهما يتصارعان في أعماق نفس الكابوس، والاستحواذ الجنسي الذي يلامس سطح أسلوبهما في صور متماثلة: انظر — في هذا الصدد — Blanchot, Lautréamont et Sade, éd. de Minuit, 1949, et A. Mezei, Genèse de la Pensée Moderne, Corréa, 1950, pp. 149–151.
٢٣٩  لقد وبخ «فيرلين» — قبل السيرياليين بكثير — رواية التحليل «مع الوقائع الضرورية وعلم النفس الذي لا غنى عنه والكريه» (La Plume, 1er Décembre 1893, p. 516)، ويقتطعها «مالارميه» من الحياة الطبيعية التي «تلجأ إلى الحياة المنتظمة»، وتفرض علينا حكايات وشخصيات بلا فائدة (Etalage, article de 1892, Divagations, Œuvres, Pléiade, p. 375).
٢٤٠  Thulé des Brumes, dans les Œuvres en prose de Retté, La Plume, 1898, p. 67.
٢٤١  انظر — في هذا الموضوع — مقال Dubus sur Retté dans La Plume du 1er Octobre 1891, p. 331.
٢٤٢  Les Aspirations, Vainer, 1893, p. 92.
٢٤٣  المرجع السابق، ص٨٤.
٢٤٤  مقدمة الطبعة الثانية من Voyage d’Urien، وقد نشرت هذه المقدمة في Mercure de France du 1er Décembre, 1894.
٢٤٥  Mercure de France du 1er Décembre 1894, p. 356.
٢٤٦  «واحد من أفضل ناثري الحقبة الحالية»، مثلما يقول H. de Régnier, Entretiens Politiques et Littéraires, Mars 1891، وقد خصه «فيرلين» بدراسة في Hommes d’Aujourd’hui، أعيد نشرها في Œuvres, Messein, 1910, t. V, p. 481، وانظر مقال Martineau, Mercure de France du 15 Novembre 1921، وما سبق الفصل الثاني من القسم الثاني.
٢٤٧  Songes, Bruxelles, Kistemaeckers, 1884; Derniers Songes, Lemerre, 1888; Double, Lemerre, 1889.
٢٤٨  أقتطع من «مزدوج» هذه القصيدة بغرائبيتها الحديثة المذهلة للغاية:
مرآة دولاب سوقية، واضحة وغامضة كالعادة، مخلصة وعاهرة، تنفتح لكل واحد كي تقدمه له، وتعيده إلى نفسه، و— مما تم رؤيته فيها — لا تترك أثرًا لهذا الشبه، آه مليئة بالاستحواذات الضائعة! ومع ذلك، فذات ليلة، منذ أعوام، أظلم فيها بلا مزيد من الانعكاسات، وأنزلق مطويًّا كملاءة، راجعًا مغمومًا من اللامرئي، من أسود قاتل» (Double, pp. 1-2).
٢٤٩  العبارة لليوتوه، في مقال كتب مع وفاة «شووب» ونشر في Mercure de France, 15 Mars 1905, p. 167.
٢٥٠  انظر S. A. Rhodes, Marcel Schwob and André Gide, a literary affinity, Romantic Review, 1931, pp. 28–37، وينتهي «روديز» إلى تأثير كتاب «شووب» (المنشور عام ١٨٩٤م) على «جيد»، وكان «شووب» نفسه مقتنعًا بذلك، ومثلما كتب «جيد» (في خطاب منشور في، Œuvres complètes, t. III, p. 557، وذكره «ي. دافيد» — الذي أعاد الأمور إلى نصابها — Autour des Nourritures terrestres, N.R.F., 1948, pp. 36-37)، «ما من شيء أقنعه بأنني لم أكن قد عرفت كتابه عندما كتبت كتابي، ومات دون أن يسامحني على قوت …».
٢٥١  يتكون كتاب «شووب» من ثلاثة أجزاء: أحاديث مونيل، أخوات مونيل، مونيل، وقد عاب «ر. دي جورمون» — على الجزء الأول، ليس بدون وجه حق — أنه لا يعلن بدقة كافية عن النصوص التي ستليه (Mercure de France, Janvier 1898, p. 89).
٢٥٢  Y. Davet, Autour des Nourritures terrestres, N.R.F., 1948, p. 38.
٢٥٣  Journal de Gide, 20 Septembre 1931 (ملاحظات بصدد مقال «روديز») éd. de la Pléiade, pp. 1079-1080.
٢٥٤  Mercure de France, Decémbre 1896, p. 461، ويؤكد «موكلير» على الاقتران الغريب بين التبحر في المعرفة والحداثة، الذي غالبًا ما يميز فن «شووب» (هنا، كما في «إيماءات» — انظر ما سبق، الفصل الرابع من القسم الثاني).
٢٥٥  وضع «مارسيل شووب»، مع الطبعة الجديدة لعام ١٩٠٠م، عناوين رمزية ﻟ «أخوات مونيل»: «مارجولين» أصبحت «الحالمة»، و«بارجيت» هي «المحبطة»، و«إليسيه» هي «المنذورة» … إلخ.
٢٥٦  جرى تخيل كتاب «شووب»، مثلما يبلغنا «شامبيون» (Marcel Schwob et son temps, Grasset, 1927, chap. 3: Monelle et le Symbolisme, pp. 81–87) بعد لقائه بامرأة شابة، لويز، نحيلة القوام صبيانية الروح، وماتت بالسل في ديسمبر ١٨٩٣م، ولنلاحظ — رغم هذا — أن الجزء الأخير، «مونيل»، يتعلق بالسيرة الذاتية شأن الآخرين: ونصوص مثل «من مملكته» هي — على النقيض — «رؤى» حلمية ورمزية حقيقية.
٢٥٧  وضعها «بودلير» كمقدمة لترجمته ﻟ «حكايات جديدة وغريبة» عام ١٨٥٧م.
٢٥٨  قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٢٥٩  كل هذه الأفكار هي نفسها التي أعاد «بودلير» نشرها في «ملاحظات»، المجلد الثالث، وقد أوضحت في فصلي عن «بودلير» كيف حفزته مفاهيم «بو» هذه — عن حرية النثر — للبحث في قصيدة النثر عن شكل أكثر انفتاحًا وأكثر تنوعًا في النغمات مما في قصيدة النظم (الفصل الأول من القسم الأول).
٢٦٠  Mühlfeld, dans la Revue Blanche de Février 1894.
٢٦١  فلنذكر أن «بودلير» قد أدرج «حكايات» في ديوانه «قصائد نثر صغيرة»، وبشكل خاص حكاية «موت بطولي»، وأن «رامبو» منح واحدةً من إشراقاته عنوان «حكاية».
٢٦٢  Les vendages de Sodome (في مارس)، حكاية أعيد نشرها في Démon de l’Absurde.
٢٦٣  Trois Proses moroses, dont Nouvelles des Iles Infortunées (en Mars).
٢٦٤  La chois Lourde ، حكاية رمزية (في شهر أغسطس).
٢٦٥  Manuscrit trouvé dans une armoire ، حكاية شعرية ورمزية (في شهر سبتمبر).
٢٦٦  Mercure de France, Décembre 1893، وسيتحدث «ج. كان» هو أيضًا — في Symbolistes et Décadents, 1902 — عن «قصائد نثر» راشيلد، ورغم هذا، فإن الأمر يتعلق حقًّا بحكايات تخنق فيها غزارة الأسلوب خط السرد.
٢٦٧  مقدمة Couleurs, Mercure de France, 1908, p. 6، تستعيد هذه المقدمة وتستكمل مقالًا حول «الرواية–القصيدة»، منشورًا في Mercure de France, Avril 1893.
٢٦٨  انظر فيما سبق الفصل الرابع من القسم الثاني، وبعض هذه القصائد أعيد العمل فيها بعد «ألوان»، بالإضافة إلى بعض الأقاصيص الواردة في «نثريات كئيبة»، تحت عنوان «أشياء قديمة».
٢٦٩  Couleurs, Mercure de France, 1908, p. 226.
٢٧٠  Fiançailles, l’Ermitage, Novembre 1891، قارن ﺑ «الحماقات الجميلة لربة الصدى» (بتوقيع «بويليسف») في «إرميتاج»، فبراير وأبريل ١٨٩٥م.
٢٧١  كان «هنري ميزيل» — مدير «إرميتاج» — متفقًا مع مساعديه الرئيسيين (تارديفو، برنار لازار، ريتييه)، حسبما يقول «ريتييه»، على «الفائدة التي تعود من نثر الرمزيين والروايات والمدافعين عن التقليد البارناسي» (Le Symbolisme, Messein, 1903, p. 120)، من هنا، تكمن انتقائية المجلة وتناقضاتها الداخلية أحيانًا.
٢٧٢  المنشورة على التوالي في «إرميتاج»، يوليو ١٨٩٣م، أغسطس ١٨٩٤م، ديسمبر ١٨٩٤م، وقد نشرت هذه النثريات عام ١٨٩٥م في ثلاثة دواوين: «في موكب» و«أسطول صغير في الخليج» عن دار Bibliothèque Artistique et Littéraire، و«إفريز الكنيسة» عن La Plume.
٢٧٣  Le Miroir des Légendes, Lemerre, 1892، قارن بالعدد الخاص من «فالوني» عن «برنار لازار» (نوفمبر ١٨٩١م)، الذي نشرت فيه Néanthès et Marsyas.
٢٧٤  قارن بالمقالات المخصصة ﻟ «مرآة الأساطير» بقلم «ﻫ. مازيل» (L’Ermitage, Mai 1892)، وبقلم «أ. ريتييه» (La Plume, 15 Mai 1892, p. 238).
٢٧٥  La Wallonie, Février-Mars 1890.
٢٧٦  Mercure de France, Mai 1892، وينبغي أن نضيف إلى هذين السردين الحكاية الغريبة التي نشرها «مايترلينك» في Revue Générale, Bruxelles, Juin 1880، تحت عنوان «علم الأحلام»، وجمعت في Deux Contes, Crés, 1918.
٢٧٧  Poèmes en prose, Paris, Carrington, 1906 (traduction dCh. Grolleau)، وأقصرها — «المريد» — وهي قصيدة نثر حقًّا من حيث المفهوم والتنفيذ.
٢٧٨  انظر مقال Léautaud, Mercure de France, Mars 1904.
٢٧٩  جمع هذان الديوانان، بدورهما، مع «السيد المر–القلب»، ليشكلوا La Canne de Jaspe (Mercure de France, 1897).
٢٨٠  مقال A.-F. Hèrold sur les Contes à soi-même, Mercure de France, Janvier 1894.
٢٨١  هكذا يصف «هنري دي رينييه» ما يمكن تسميته ﺑ «المواد الرمزية» لحكاياته، في Préface de La Canne de Jaspe, p. 6.
٢٨٢  Préface de La Canne de Jaspe, p. 6، ها هي جملة من «إرتولي» (نشرت في Revue Blanche, Mars 1894)، وستقدم لنا فكرة عن البراعة التي يوحي «ﻫ. دي رينييه» من خلالها بعالم الانعكاسات، والرموز المتقلبة، و«الخواءات المتبادلة»: «كانت القاعات التي تجتازها الهاربة تبدو لها أكثر اتساعًا، والثريات المستهلكة تعلق فوق رأسها مصباح صمتهم البللوري، ومن غرفة إلى غرفة، لاهثة وضجرة، توقفت في إحداها، حيث كانت المرايا، وتضاعفت صورتها فيها إلى ما لا نهاية، وحواليها رأت «إرتولي» نفسها حتى أعماق حلم، فيه فقدت الإحساس بكل هذا العدد من الأشباح المماثلة لشحوبها، أحست بنفسها مبعثرة فيها للأبد، ومن فرط ما رأت نفسها هكذا، في مكان آخر، وحولها، تجزأت فيها إلى حد أنها تفككت في انعكاساتها الخاصة، ومدفوعة من تلقاء ذاتها بهذا السحر المفاجئ الذي تخيلت نفسها فيها غير مشخصة بلا نهاية، خارت ركبتاها وانهارت بهدوء على الأرض الخشبية، فاقدة الحياة، بينما في الغرفة الواحدة، فوق العينين المغمضتين، لوجهها الشاحب، واصلت المرايا، داخل أطرها، فيما بينها، تبادل المظهر الوهمي لفراغها المتبادل»، ومن الطريف الإشارة إلى أي حد يذكرنا هذا الأسلوب وهذا الديكور ﺑ «إيجيتور» لمالارميه.
٢٨٣  هذا النص الذي جمع في La Canne de Jaspe، سبق نشره بدون عنوان في Revue Blanche, 1er Décembre 1895، وينبغي أن نضيف أن «ﻫ. دي رينييه» كتب أيضًا قصائد نثر، نشرت على هذا الأساس في مجلات متنوعة: في «لوتيس» منذ عام ١٨٨٦م، قصيدتا «السلم» و«خصلة شعر»، وفي «ميركور»، «ثلاث قصائد نثر»، عام ١٩٠٥م.
٢٨٤  قارن ﺑ H. Bonnet, Plaisir romanesque et plaisir poétique, dans Roman et Poésie, Nizet, 1951, p. 59 et sq..
٢٨٥  أحيل هنا إلى ما ذكرته في الفصل السابق عن موضوع الطابع اللاشخصي للقصيدة، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٢٨٦  في «لمحة»، التي تتصدر «حكايات جديدة وعجيبة»، الجزء الثالث، ومحاولات كهذه، مثلما يضيف «بودلير» عن حق، «لا تفيد إلا في تفكيك قوة الأساليب الحقيقية، المتوافقة مع الأهداف المناظرة»: فحكاية «شعرية»، يختفي منها كل فعل، لم تعد حكاية.
٢٨٧  في Nouvelles Histoires extraordinaires.
٢٨٨  Baudelaire, Journaux intimes, Œuvres, Pléiade, II, p. 634.
٢٨٩  Pastiches et Mélanges, N.R.F., 1921, p. 156 (étude datant de 1900).
٢٩٠  إنه كتاب ديوان من النثريات ﻟ «ل. لورميل» (Sansot, 1908)، كتب بين عامي ١٨٨٨م و١٩٠٨م.
٢٩١  Mercure de France, Septembre 1895، نشرت مجلة «فلوريال» قصيدة «ديكورات» في «لييج»، انظر أيضًا نثريات مختلفة لديلشيفالوري في «فالوني» (١٨٩١-١٨٩٢م).
٢٩٢  Automnales, dans la Revue Blanche, Novembre 1893.
٢٩٣  في «إرميتاج»، ١٨٩٢-١٨٩٣م، هنا وهناك.
٢٩٤  منذ عام ١٨٨٨م (مشاهد طبيعية)؛ تحرر «بواكتوفان» — بشكل غير محسوس — من الحكاية الروائية.
٢٩٥  لم تذكر في أطروحة Bémol, sur Paul Valéry, Bussac, Clermont-Ferrand, 1949، وقد نشر «شاربنتييه» صورة طبق الأصل لها في مقاله حول Les prèmiers œuvres de P. Valéry (Le Portique, 1947, n° 5).
٢٩٦  «عرفت مالارميه بعد أن خضعت لتأثيره الشديد، في نفس اللحظة التي أعدمت الأدب داخليًّا»، حسبما كتب «فاليري» إلى «تيبوديه» عام ١٩١٢م (ذكره «بيمول»، مرجع سابق، ص٤٤)، والواقع أن «فاليري» وصل إلى باريس في خريف ١٨٩٢م.
٢٩٧  رغم هذا، تخلى «فاليري» عن بعض «عادات» الأسلوب الرمزي، الذي كان يعتني به في نثريات أخرى: «يتلألا فم من جواهر، بارد ومضمر، مع حبة ظل بين بهجة شفتين»، حاشية عن لوحتين من متحف مونبلييه، في Chimère, 8 Mars 1892، وأعيد نشرها في Portique, 1947, n° 5, p. 9.
٢٩٨  Entretiens Politiques et Littéraires, Mars 1892, p. 102 et sq..
٢٩٩  يمكن أن يخطر ببالنا هنا «إله الريف» لمالارميه، الذي يعيد نايه خلق تجريد مزدوج، موسيقي، انطلاقًا من الروعة المادية للغاية للحوريات، ويدفع إلى أن
ينقشع من الوهم العادي للظهر
أو من خاصرته البريئة التي تقتفيها نظراتي المقفلة،
خط صوتي، تافه ورتيب.
٣٠٠  ولد «فاليري» عام ١٨٧١م، و«بروست» عام ١٨٧٣م، وفي عام ١٨٩٣م، كان «بروست» يكتب في «روفي بلانش» أو «بانكيه»، وهي مجلة صغيرة أسسها مع بعض الأصدقاء، ر. دريفوس، د. هاليفي، ر. دي فليي.
٣٠١  ورغم هذا، يكتب «جيد» في Hommage à Proust de la Nouvelle Revue Française (1er Janvier 1923): «عندما أعيد اليوم قراءة «الملذات والأيام»، تبدو لي ميزات هذا الكتاب الدقيق، المنشور عام ١٨٩٦م، ساطعة للغاية، إلى حد أنني مندهش من ألا يكون مثار فتنة في البداية» (ص١٢٣).
٣٠٢  Comme à la lumière de la lune, les Plaisirs et les Jours, 2° édition, N.R.F., 1924, p. 229، ينطلق «بروست» — في هذا النص — من وصف ضوء قمر حقيقي لينتقل إلى ما يسميه «ضوء قمر داخلي» خاص به.
٣٠٣  وها هي الفقرة الأخيرة منها: «يصرخ المنزل في الريح مثل مركب، ونسمع أشرعةً خفية تنتفخ، وأعلامًا خفية تصطفق بالخارج، احتفظوا على ركبتيكم بهذه الباقة من الورود الندية ودعوا قلبي يبكي بين أيديكم المضمومة» (المصدر السابق، ص١١٨)، والجملة الأخيرة تذكرنا كثيرًا — للأسف — ﺑ «مارسلين ديبورد–فالمور» و«فيرلين».
٣٠٤  Les Plaisirs et les Jours, pp. 219–222 (éd. de 1924).
٣٠٥  انظر ما يقوله «كلوديل» بشكل خاص في Ma Conversion.
٣٠٦  ظهرت الطبعة الأولى عام ١٩٠٠م في Mercure de France, 1900، والثانية عام ١٩٠٧م (واحتوت على القصائد المكتوبة من عام ١٩٠٠م حتى عام ١٩٠٥م).
٣٠٧  انظر Revue Blanche, Juillet et Août 1897, Septembre 1898, et le Mercure de France, Juin 1899.
٣٠٨  سنجد صورة طبق الأصل لهذا الخطاب (الذي يرجع تاريخه إلى ٢٤ ديسمبر ١٨٩٥م) في la Collection Poètes d’Aujourd’hui consacré à Claudel (Seghers, 1948).
٣٠٩  مقال A. Beaunier sur Connaissance de l’Est, Grande Revue, 19 Mai 1900, p. 638، ومقال «ميوماندر» في Mercure de France أكثر تفهمًا، لكنه يؤكد — بشكل خاص — على جمال «الجمل» و«الفترات».
٣١٠  ذكره Madaule, Le Génie de Paul Claudel, Desciée de Brouwer, 1933, p. 139، إن مكانة «معرفة الشرق» في مؤلفات «كلوديل» واضحة بشكل جيد للغاية بالنسبة لمادول (ص١٣٩–١٥٠).
٣١١  F. Lefèvre, Une heure avec … 3° série, N.R.F., 1926, p. 156.
٣١٢  La catastrophe d’Igitur, dans Positions et Propositions, I, N.R.F., 1928, p. 203.
٣١٣  قارن ﺑ «المتجول»: «إنني أفهم الطبيعة مثلما يقال إننا نفهم الموسيقى» (Connaissance de l’Est, Mercure de France, 1906, p. 163).
٣١٤  Autobiographie ، كتبت من أجل «فيرلين»، Œuvres, Pléiade, p. 663.
٣١٥  La catastrophe d’Igitur, dans Positions et Propositions, I, N.R.F., 1928, p. 204.
٣١٦  المصدر السابق، ص٢٠٥.
٣١٧  La catastrophe d’Igitur, dans Positions et Propositions, I, N.R.F., 1928, p. 206، قارن على سبيل المثال بالنص الذي يحمل عنوان «أكتوبر»، في Connaissance de l’Est.
٣١٨  ما من أسلوب «أكثر إثارة للاهتمام للدراسة من أسلوبكم»، مثلما يكتب «كلوديل» إلى «مالارميه»، «ومن المرجح بالنسبة لي أن العنصر الأول لجملتكم هو تركيبها أو التخطيط الذي يقارب بين الكلمات المختلفة، أو يباعد بينها، بطريقة تجردها من الجانب غير المفيد لمعناها أو تظهرها ببريق غريب، يشكل ما تسمونه بامتياز «مدى» (خطاب بتاريخ ٢٥ مارس ١٨٩٥م، ذكره Mondor, Vie de Mallarmé, N.R.F., 1941).
٣١٩  11 Juillet 1906 (Correspondance d’A. Fournier et de Rivière, N.R.F., 1926, p. 300).
٣٢٠  La Descente, Connaissance de l’Est, Mercure de France, 1906, p. 122.
٣٢١  Salutation, Connaissance de l’Est, p. 188.
٣٢٢  Toast funèbre, Œuvres, p. 55.
٣٢٣  Le Nénuphar Blanc, Œuvres, p. 285.
٣٢٤  على سبيل المثال، الجملة الطويلة التي تفتتح «التوقف أمام القناة»، في Connaissance de l’Est, p. 142.
٣٢٥  انظر — حول موضوع هذه الجمل المبنية «على عدة مستويات» — الدراسات المتعمقة للغاية، J. Schérer, L’expression littéraire dans l’œuvres de Mallarmé, Droz, 1947, p. 186 et suivante، وفيما سبق، الفصل الرابع من القسم الأول.
٣٢٦  L’Ecclésiastique, Œuvres, p. 287، سأقتصر على المثال البسيط نسبيًّا الذي ذكرته من قبل، الفصل الرابع من القسم الأول.
٣٢٧  Ça et Là, Connaissance de l’Est, p. 170.
٣٢٨  Or, Variations sur un sujet, Œuvres, p. 398، وسنجد دراسة تفصيلية لهذا التطوير الاستعاري في D. Alsch, La métaphore dans l’œuvre de S. Mallarmé, Droz, 1938, pp. 195–197 (الذي يجهل مع ذلك أن هذه المقطوعة هي إعادة تنقيح لمقال استلهمه «مالارميه» من قضية «بنما»، قارن ﺑ Œuvres, Notes et Variations, p. 1570).
٣٢٩  Or, Variations sur un sujet, Œuvres, p. 399.
٣٣٠  L’Heure Jaune, Connaissance de l’Est, p. 255، ويمكننا أن نتابع على امتداد الديوان عودة وتطوير موضوع الذهب هذا، والضوء الشمسي، وأيضًا هذه النار التي تحرق قلب الشاعر مثلما تحرق الأرض الصينية (قارن ﺑ Ardeur, p. 118, et Le Sédentaire, p. 179)، وأن نجد — من ناحية أخرى — في كل أعمال «كلوديل»، رمزية الذهب الروحي (قارن ﺑ Carrouges, Eluard et Claudel, éd. du Seuil, 1945, pp. 108-109).
٣٣١  فنلاحظ أيضًا القيمة العالية للغاية للصفة «fervent = المتحمس، المتوقد»، المأخوذة — في آن — بمعناها المألوف ومعناها الاشتقاقي (حارق).
٣٣٢  Claudel, Abrégé de la doctrine chrétienne, cité par Madaule, La Génie de P. Claudel, p. 123، قارن ﺑ «البركة على الأرض»، التي استدعاها الشاعر في Magnificat, Cinq grandes Odes, Gallimard, 1936, p. 111.
٣٣٣  «كل هذا الغموض هنا: تأسيس الهويات الخفية، بشكل مزدوج، يقرض ويستهلك الأشياء باسم نقاء مركزي»، حسبما يكتب «مالارميه» إلى «فيليه-جريفان»، في أغسطس ١٨٩١م.
٣٣٤  Le Pormeneur, Connaissance de l’Est, p. 164.
٣٣٥  Les Muses, Cinq grandes Odes, p. 30.
٣٣٦  Novembre, Connaissance de l’Est, p. 82.
٣٣٧  Mercure de France, Mars 1902, p. 694.
٣٣٨  Le Cocotier, Connaissance de l’Est, pp. 9-10، هذه الجملة المجانية تمامًا في القصيدة التي تختتمها، هي إحدى الجمل النادرة التي ينساق فيها «كلوديل» إلى نوع من اللفظية.
٣٣٩  Vers la montagne, Connaissance de l’Est, p. 73.
٣٤٠  Le Porc, eod. Loc., p. 95.
٣٤١  المرجع السابق، ص٩٦.
٣٤٢  «تلك رائحة الزيت، والثوم، والدهن، والقذارة، والأفيون، والبول، والبراز، وفضلات الذبائح»، (Jardins, p. 28)؛ «للشارع دائمًا رائحة القذارة والشعر» (Ver la montagne, p. 72).
٣٤٣  خطاب إلى «مالارميه»، ٢٤ ديسمبر ١٨٩٥م، أعيد نشره في نص غير مرقوم في Claudel, Collection des Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, 1948.
٣٤٤  نسبة إلى «Jammes جام»، الشاعر، راجع الفصل التالي.
٣٤٥  خطاب إلى «آلان فورنيه»، ١١ يوليو ١٩٠٦م، Correspondance d’Alain Fournier et de J. Rivère, N.R.F., 1926, t. I, p. 300.
٣٤٦  خطاب من «كلوديل» إلى «مالارميه»، ٢٤ ديسمبر ١٨٩٥م، أعيد نشره في Claudel, Collection des Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, 1948.
٣٤٧  La poésie française, Ermitage, Septembre 1893, pp. 152–160، وحول «روبيل»، «مكتشف» نيتشه، انظر فيما سيلي، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٣٤٨  Les Destinées de l’Idée poétique, La Plume, 1er–15 Août 1894, pp. 306-307، ويقلص من أهمية هذا القياس إلى حدٍّ ما، أن «سينيوريه» يذكر — بصورة عشوائية، كممثلين لهذا الجيل الشاب — موكلير، جيد، سيزلا جولبير، إيبيل، لووي، لايتلاد، كلوديل، فاليري، ب. سوشون … وهو نفسه.
٣٤٩  العبارة لدولاروش، في حديثه عن قصيدة «ظلال» لبواكتوفان (المنشورة عام ١٨٩٤م)، في Ermitage, Mai 1895, p. 373.
٣٥٠  أ. رينو، راشيلد، فاليت، ر. دي جورمون، مايترلينك … إلخ.
٣٥١  Jules Renard, Thèse, Nizet, 1936, p. 279، ساهم «رونار» — الذي كان ينشر نصه «الروحي» منذ عام ١٨٨٦م في «لافوج» — في «ديكادنس» و«شيمير» و«بلوم»، وكل المجلات ذات التوجه الرمزي.
٣٥٢  Le Martin-Pécheur (Histoires Nouvelles, Flammarion, 1941, p. 249).
٣٥٣  Journal, 1er Juin 1906 (Œuvres, éd. Bernouard, t. IV, p. 1038).
٣٥٤  Journal, p. 1335; cité par Guichard, op. cit., p. 293.
٣٥٥  مرجع سابق، ص٣٨٥: «إنه (كلوديل) يربكني للغاية عندما يؤكد لي أنني أمثل له «الذوق الفرنسي»، مثلما يقول «رونار».» (Journal, p. 140, 14 Nov. 1892).
٣٥٦  نشرت «حكايات طبيعية» عام ١٨٩٦م، و«قصائد ريفية» عام ١٨٩٨م، أما «راجوث» (١٩٠٨م)، ﻓ «لن يكون ديوان قصائد نثر، وإنما ديوان «نثريات» واضحة، جلية، حادة، بلا صور»، مثلما يقول «ناردان» (La langue et le style de J. Renard, Thèse, Droz, 1942, p. 31).
٣٥٧  Journal, p. 930, 9 Janvier 1905.
٣٥٨  Coqs III, Histoires Naturelles, Flammarion, 1941, pp. 22-23.
٣٥٩  قارن بجول رونار، ص٣٢٩-٣٣٠، وبما سبق، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٣٦٠  Histoires Naturelles, pp. 42 et 44.
٣٦١  Bucoliques, 2° édition, Ollendorff, 1905, p. 141.
٣٦٢  Le petit bois de Coolus, Bucoliques, p. 144.
٣٦٣  Guichard, J. Renard, p. 278.
٣٦٤  L’Homme tigoté, Situations I, N.R.F., 1947, p. 306.
٣٦٥  La Chenille, Histoires Naturelles, p. 154.
٣٦٦  Dindes II, eod. Loc., p. 39.
٣٦٧  تلاعبٌ بالألفاظ بين Mée في السطر الأول، و«mais = لكن».
٣٦٨  Les Moutons, eod. loc., p. 111، وماذا نقول عن «الفستان ذو الذيل» للطاوس، «المثقف بالعيون التي لم تستطِع الفكاك منه»، ص٥٢.
٣٦٩  Le Cygne, pp. 55-56.
٣٧٠  L’Homme tigoté, op. cit., p. 297.
٣٧١  Histoires Naturelles, pp. 13-14.
٣٧٢  Le Paon, Histoires Naturelles, p. 50.
٣٧٣  Le cafard, H. N., p. 175، هنا — أيضًا — ثمة تلاعب بالكلمات حول معنى كلمة «cafard = صرصار» المطبق على الإنسان، ونلاحظ أن «ج. رونار» يتبنى الأفكار والأحكام الجاهزة فيما يتعلق بالحيوانات: غباء الإوزة، زهر الطاووس، نفاق الصرصار … إلخ، ولم يحاول — في أية مرة — أن يضعنا داخل «جلد الصرصار»، مثلما فعل «كافكا» في «التحول»، والحق أن فكرة كهذه كانت ستبدو خرقاء ومثيرة للاشمئزاز في تلك الحقبة.
٣٧٤  Journal, 11 Novembre 1887, p. 17.
٣٧٥  Journal, 24 Février 1897.
٣٧٦  والطريف أن نلاحظ، مثلما فعل «ل. جيشار»، أن «رونار» يلتقي مع «مالارميه» في البحث عن لغة مطلقة، وأنه ينحو في النهاية — مثله — إلى الصمت إلى حد التساؤل: «متى سألغي النثر، والأدب؟ متى الحياة؟» (Journal, p. 1174)، وعندما يقوم بمراجعة ما يكتب، فإنه يقوم دائمًا بالتكثيف والاختصار، إلى حد الغموض (Guichard, op. cit., pp. 340-341).
٣٧٧  مقال منشور في Mercure de France, Juillet 1895، وقد نشرت نصوص كثيرة من «حكايات طبيعية» في عدد من المجلات.
٣٧٨  L. Guichard, op. cit., p. 385.
٣٧٩  «إنك تزودني بالصورة والأصوات والروائح»، مثلما يقول «رونار» للكاتب في La lutte quotidienne, Bucoliques, Ollendorff, 1905, p. 8.
٣٨٠  نشرت المقتطفات التي ترجمها «روبيل» من «زرادشت» في Ermitage, Avril 1893، مثلما ذكر «ﻫ. مازل» في مقاله حول «روبيل» في Mercure de France (15 Avril 1905)، انظر أيضًا الصفحات التي خصصها «مازيل» عن «روبيل» في Aux beaux temps du Symbolisme, N.R.F., 1943, pp. 115–127.
٣٨١  Les Chants de la pluie et du soleil, Charles, 1894، يتحدث «مازيل» — في Aux beaux temps du Symbolisme — عن هذه «الأناشيد»، التي — مثلما يقول — «كما أدهشتنا في البداية، عندما لم نكن قد عرفنا بعد نيتشه» (ص١٢٤).
٣٨٢  Chants de la pluie et du soleil, chant XXV، قارن — في النشيد LII — بتمجيد العنف والهدم:
ستذبحون حيوانات كيما تتغذوا، ولن تشعروا بالتقزز أبدًا من شرب الدم الذي يمنحكم القوة.
ستحطمون كتبًا وأرواحًا وكائنات؛ إذ من هذا الهدم ينبغي أن تصنع حياتكم.
٣٨٣  ص١٩٨.
٣٨٤  انظر فيما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٣٨٥  نشر في Mercure de France, Octobre 1897, t. XXIV, p. 81، والواقع ان إحدى أكثر القصائد «ويتمانية» مخصصة «إلى عربة قطار».
٣٨٦  Mercure de France, 15 Avril 1905, t. LIV, p. 501.
٣٨٧  Gustave Flaubert ou l’artiste impeccable, La Plume, 1er Juillet 1902.
٣٨٨  M. de Goncourt ou l’attente des sensations rares, La Plume, 15 Juin 1902.
٣٨٩  مقال نشر في La Plume, 1er Juillet 1902, p. 780.
٣٩٠  ذكره «ر. باركان» في مقاله عن Nietzsche, maître de style (Mercure de France, 1er Janvier 1935, p. 73).
٣٩١  «نحن الحديثين الآخرين، كما يقول «نيتشه»، قصيري النفس تمامًا، لا يحق لنا استخدام الفترات الطويلة»، (ذكره «باركين»، المرجع السابق، ص٧٨)، حول أسلوب «نيتشه» وتأثيره، انظر فيما سيلي، الفصل الخامس من القسم الثاني.
٣٩٢  مثلما — على سبيل المثال — في L’ornement de la Solitude, Mercure de France, Mai 1899 (t. XXX).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥