وينبغي على دراسة حول قصيدة النثر بين
عامي ١٨٩١م و١٨٩٧م، أن تفسح مكانًا لكل من
هذين التوجهين، لكن الوقائع سرعان ما ستثبت
لنا أن القصيدة التشكيلية — شأنها شأن
البارناسية نفسها — هي آثار عهد منصرم
بأكثر من كونها صيغة للمستقبل، وفضلًا عن
ذلك، فإن قصيدة النثر — باقترابها من النثر
الخالص — ستثرى الآن (إلى حد المخاطرة
بالفناء)، ومثل «أنتيه» الذي كان يستعيد
قواه بلمسه «الأرض»، أمه، فإنها تستعيد
الحيوية بالتماس مع الحقائق الجوهرية
للغة.
(أ) أفول قصيدة النثر ذات الشكل
الصارم
لم تعد قصيدة النثر ذات الشكل الصارم
والمبنية على المقاطع — المنحدرة من
«آلويزيوس برتران»، التي رعاها
البارناسيون — سوى بقايا في الحقبة
الرمزية، ولن يمارسها بعد ذلك سوى كتاب
الترجمات المزعومة: وقد لاحظنا أن
شكلًا بهذه الصرامة ومحدودًا إلى هذه
الدرجة، غالبًا ما يستخدم في إخفاء
الافتقار إلى الإلهام، ويدفع نحو
الاصطناع، وأن «الروائع الأدبية
الصغيرة» ليست — أحيانًا — سوى تحف
مألوفة من أجل الأرفف، أو حلقات مناشف
ملفوفة جيدًا.
وقد قادت الاتجاهات الرمزية وتأثير
«بودلير» القصيدة «الفنية» إلى التحول،
وإلى ترويضها، لكن الرغبة في «كتابة
موسيقية» ستؤدي، مع ذلك، إلى استعادة
نفس الأساليب، لقد استلهم البارناسيون
الأغنية (الليد أو النشيد الغنائي)،
واستلهم الرمزيون «فاجنر»: فاللازمة
تُسمى — منذ ذلك الحين — موضوعًا
رئيسيًّا
leitmotif،
والتكرار تصبح استعادات، ويتضاعف السجع
والمحارفات: لكن الأمر يتعلق — عمومًا،
دائمًا — بفرض تنظيم دائري على
القصيدة، وتوليد «حاضر أبدي» عبر
الإيقاع، ويمكننا أن نطبق على هذه
القصائد «الدائرية» — وحدها — التمييز
الذي طرحه «جوستاف كان» عام ١٨٩٨م:
«ثمة صيغتان لقصيدة النثر: الأولى
تشكيلية، موجزة، صارمة، أتى بها «لوي
برتران»، والأخرى إنشادية، موسيقية،
جددها «بودلير» في رائعته «محاسن القمر»،
١٢٩ وبعض القصائد أيضًا — من
بين القصائد موضع الدراسة — يصعب
تصنيفها بسهولة في إحدى الفئتين،
ويمكننا — رغم هذا — أن نتبنى تقسيم
«كان»، الملائم إلى حدٍّ بعيد، لقصائد
النثر «الفنية»: فمن ناحية، هناك
القصائد التشكيلية أو البارناسية، ومن
ناحية أخرى، ثمة القصائد الموسيقية،
البودليرية–الرمزية.
«ب. لوري» والقصيدة
البارناسية
والممثل الأكثر أصالة للشعر النثري
«التشيكلي» و«البارناسي» هو «بيير
لووي»، الذي أشرت — فيما سبق — إلى
مثاله البارناسي عن الكمال الشكلي، ومن
المثير للاهتمام أن نراه يبحث عن تحقيق
هذا المثال في النثر لا في الشعر، وقد
فسر نفسه هكذا عام ١٨٨٩م في مشروع خطاب:
١٣٠ فطبقًا له «يجعل إيقاع
الشعر — وقد بلغ كماله — القافية بلا
قيمة»، و«الفقرة المكتملة» — من ناحية
أخرى — ليست شيئًا آخر سوى «التتابع
اللانهائي للشعر الحر (الذي لم يتناوله
أحد بشكل جيد منذ «لافونتين»)، لكن «ما
هو الشعر الحر غير المقفى، إن لم يكن
النثر؟ والنثر المثالي، الموقَّع
مثل
الشعر …» وينتهي إلى «إنني أميل نحو
هذا النثر، ولا أعتبر الأبيات التي
سأكتبها إلا سلسلة من التمارين
التمهيدية، التي لا يمكن الاستغناء
عنها»، ونثر كهذا، «موقَّع مثل الشعر»،
هو نثر «أغاني بيليتيس» المنشورة عام
١٨٩٤م.
وفي هذا «الأغاني»، التي فازت بإجماع
النقاد في هذه الحقبة، نشهد مميزات
وعثرات نوع كهذا، ولا شك أن اللغة
مصفاة، مكثفة ومتناغمة: فلوري يعرف كيف
يتجنب — في إعادة بنائه للحياة
اليونانية — مخاطر المعرفة العلمية
الواضحة للغاية، إنه يتجنب أيضًا
الأساليب المفرطة في الميكانيكية
والتكرارات أو «اللازمات»، عندما نكون
قد قلنا كل ذلك وأعجبنا بالإتقان
الشكلي لهذه القصائد الصغيرة، ﮐ
«سوناتات نثر حقيقية»، حسب تعبير «ﻫ.
دي رينييه»،
١٣١ فسنكون قد قلنا تقريبًا كل
شيء حول «أغاني بيليتيس»، وينبغي
مقارنتها ﺑ «جاسبار الليلي» — على سبيل
المثال — لنشعر بمدى ابتعاد مقاطع
«لووي» عن إثارة الانفعال الشعري على
النقيض من مقاطع «برتران»: فنحن مهتمون
هنا بمتابعة حياة «بيليتيس» بنفس
الاهتمام الذي تتطلبه قراءة رواية،
وربما تلك هي البراعة الكبرى للووي في
أنه عرض الحياة كما في رواية، تلك
الحياة «التي تبدو من خلال مظاهر
مألوفة أو عاطفية»،
١٣٢ للعاهرة اليونانية
الصغيرة: لوحات أنيقة، «أغنيات»،
وحكايات متحفظة، حيث تختلط الحسية — في
الكل — باستمتاع (في العمق) والطهارة
(في الشكل)، وقد قيل الكثير عما كشفه
«لووي» في هذه «الأغنيات» من حس يوناني
للغاية بوزن الشعر والجمال، وهو ما أود
أن يكون صحيحًا، لكن بشرط أن نفكر في
يوناني من «إيونيا»،
١٣٣ يتمتع برهافة أكثر من
تمتعه بالقوة، ويبدو «وسيمًا» لا
كبيرًا، وحتى في الإيقاع، فثمة شيء
ضعيف إلى حدٍّ ما، فالفاصلات العديدة
تقسم الجمل إلى شذرات قصيرة، ثمانية
المقاطع غالبًا،
١٣٤ تتجاوب بطريقة تماثلية،
١٣٥ وثمة — بلا شك — أجزاء
فاتنة في هذه «الأغنيات» تصلح
كمختارات، ولكن كيف نشعر بالتأثير
حقًّا من ترجمة مستعارة، نوع مصطنع
للغاية بالضرورة، ما دمنا لا نستطيع
هنا أن نشعر باهتزاز قلب يوناني حقيقي،
ولا التواصل مع «الأنا» الأصيلة للشاعر
— المهموم فحسب، من ناحية أخرى —
«بالتعبير عن الجمال الوحيد»؟ لا ينبغي
أن نخاف من تكرار أن الترجمة المستعارة
(سواء قام بها «باري» أو «شاتوبريان»
أو «بيير لووي») — هي نوع زائف، خاصة
أن خطورته تكمن في سهولته الكبيرة، وأن
روائعه ليست سوى روائع زائفة.
١٣٦
وقد أظهر «مارسيل شووب»، بمعارضة
الشاعر «هيرودا» (أو «هيروندا»)،
تنوعًا وحرية وواقعية تصويرية أوفر،
داخل نفس النوع: إن «إيماءات» — التي
نشرت أيضًا عام ١٨٩٤م — هي، مثلما يقول
لنا «ب. شامبيون»، «فانتازيا ساحرة
تدخلنا إلى عالم آسيوي وهيلليني في آن،
حيث تطيب نفس مارسيل شووب»،
١٣٧ وثمة كثير من الصلات بين
«شووب» و«لووي» فيما يتعلق بالإيقاع
وصفاء اللغة،
١٣٨ ومع ذلك، يضحي «شووب»
بصورة أقل فيما يتعلق بالإيجاز
والتخطيط الصارم للقصيدة (نعلم أن كل
«أغاني بيليتيس» مكونة من أربعة
مقاطع). ولكن ما يمايز بين الشاعرين هو
أن «لووي» تشكيلي خالص، وبعبارة أخرى،
يظل على سطح الأشياء ولا يتماس إلا مع
العالم الخارجي، أما شعر «شووب» فهو ذو
نزعة رمزية،
١٣٩ بمعنى أنه يوحي عبر وسائل
الظواهر المرئية بدلالات أكثر خفاءً،
ويجعلنا نخمن مستوًى ثانيًا خلف
الشخصيات الأفقية للوحة القديمة، وهو
ما يمنح بعض القصائد عمقها، وكثافة
مدلولها: وهكذا الأمر بالنسبة ﻟ «ثقوب
الناي الستة»، أو المجاز الغريب المسمى
«السباقات الثلاثة»،
١٤٠ وينبغي أن نضيف أن بعض
الموضوعات تمنح الكتاب — بإلحاحها —
لونًا خاصًّا،: وبشكل خاص موضوع الموت،
المختلط بموضوع النسيان (الذي يرمز له
بماء «ليتيه» و«الخشخاش الحزين لحقل النعاس»،)
١٤١ الذي يملأ القصائد
الأخيرة من «خاتمة» هذا الكتاب «الذي
يبدأ ببائعي السمك والنساء»، مثلما
يقول «ب. شامبيون»، «ينتهي بأنهار جهنمية»،
١٤٢ وسيكون بلا ضرورة أن نضيف
أن «أغاني بيليتيس»، التي لا يتمتع
خيالها بمذاق الرماد هذا، قد شهدت
نجاحًا أكبر …
وبشكل عام، يدين المؤلفون الآخرون
لقصيدة النثر ذات النمط التشكيلي
والبارناسي، بميلهم إلى المقاطع
والإيحاءات التصويرية، إلى «آلويزيوس
برتران»: لنذكر «هنري مازيل» مدير
«إرميتاج» الذي ملأ إنتاجه كل المجلات
الصغيرة، بالإضافة إلى مجلته: وسيكفي
أن نعيد نشر مقطع من «منتصف الليل في
الجيتو»، كي تتبدَّى لنا — على الفور —
صلة القرابة مع «اللحية المدببة»، على
سبيل المثال (بما فيها من سجع):
Par les
flaques et les cloaques, un beau
jeune homme s’avance, non sans
précauton; Pourtant sa capuche
eat jaune et, ayant buté, il
jurat trés haut par le Dieu
d’Abraham et de
Jacob.
عبر البرك والقاذورات، يتقدم
شاب وسيم، ليس بلا حذر، غير أن
قلنسوته صفراء، وإذ يتسم بالعناد
سب جهارًا رب إبراهيم ويعقوب.
١٤٣
ويقع «دانييل لانتراك» — هو أيضًا،
مثلما يلاحظ «ج. كان» — «تحت تأثير
«آلويزيوس برتران» بشكل كامل»،
١٤٤ ونشعر ببزوغ المعارضة
عندما نقرأ في «خيمياء»: «بطول الحوائط
امتد ظل الأشجار القرنية والقماقم
المصفوفة … وانهار الموقد في حسرة»،
١٤٥ أو نرى هذا التعارض العنيف
بين الظل والضوء، على طريقة أسلوب
الرسم المطبوع:
كان زجاجي (الملون) المشقوق
سائلًا من ضوء، وظل منضدتي يأكل رجلي.
١٤٦
أما عن المحاولات الخاصة بالإصاتات،
فالجملة التالية ستعطينا فكرةً
عنها:
… les
violons sifflent, les hasses
essoufflées s’étouffent, les
altos barytonnent, les petites
flûtes s’élancent en trilles
clairement roulés
…
… تصفر الآت الكمان، تختنق
الأوتار الغليظة اللاهثة، وتنفخ
الكمانات الوسطى، وتندفع النايات
الصغيرة في زغردات ملتوية بوضوح …
١٤٧
لا يتعلق الأمر هنا سوى بتناغم قائم
على المحاكاة، وهو أسلوب كثيرًا ما
استخدمه «برتران»،
١٤٨ ويستدعي — بشكل خاص —
المحارفة، وليس «لانتراك» الوحيد الذي
استخلص منه مؤثرات تصويرية،
١٤٩ وعلى النقيض، يصبح السجع
في النثر وسيلة فنية هامة للغاية،
وسنرى أن استخدامه المنتظم — في نهاية
مجموعة الكلمات — يتيح للشاعر خلق
إيقاع ملحوظ بشكل أكبر، يقترب من إيقاع
الشعر.
وقد سبق أن قلت إن المحارفة — شأنها
شأن القافية — يمكن استخدامها كنسق
إيقاعي، وإدخال توافقات وتقطيعات إلى
أجزاء منتظمة في القصيدة، فما هي
القافية، في واقع الأمر؟ لا شيء (على
الأقل، بالنسبة للأذن) سوى سجع تسبقه
أو تليه محارفة، تتم استعادتها في
نهاية مجموعات المقاطع اللفظية ذات
الطول الواحد، فلنلغِ تساوي المقاطع
اللفظية للأبيات، ولنقلص القافية إلى
سجع، فنحصل — بذلك — على الشعر الحر.
والواقع أن أنصار الشعر الحر لم يتخلوا
— أبدًا، تقريبًا — عن استخدام السجع،
رغم إمكانهم التخلي عنه نظريًّا، وهو
ما يمنح الأبيات بصمتها النهائية،
ويسمح بتجميعها سواء بشكل زوجي أو
بمقاطع (وذلك دون خسارة السجع الداخلي،
المستمد مباشرة من تقنية قصيدة النثر)،
ولنكتب الأبيات وراء بعضها بالتتالي،
دون الالتزام بسطر الشعر الحر المسجوع،
فلن نحصل على شيء يختلف كثيرًا عن هذه
الفقرة ﻟ «ا. كلوار»، التي تشكل جزءًا
من قصيدة نثر بعنوان «عذراء فاينس»،
المنشورة في «إرميتاج» في أكتوبر
١٨٩٤م:
Hou! Le vent
du norit hou! Hou! Ce berger
sinistre et fou, éructant son
rauque refrain, tord les chénes
des ravins, la tignasse rouge des
bruyères et flagelle de
cinglantes lanières la fine ouate
des moutons falots bondissant par
les broussailles et les flots.
Hou! Comme ce soir, il est bourru
le gueux, ce
soir!
هوو! ريح الشمال هوو! هذا
الراعي الكئيب والمجنون، يتجشأ
لحنه الأجش، يلوي سلاسل الأودية،
الشَّعر الكث الأحمر لزهور
الخَلَنْج وسوط قاسٍ من سيور الوبر
المندوف الناعم للخراف المازحة،
المتقافزة عبر الأدغال والأمواج.
هوو!. مثل هذا المساء، إنه مشاكس،
هذا الصعلوك، هذا المساء!
وأنحِّي هنا جانبًا — عن عمد — السجع
الداخلي (وبشكل خاص السجع أو التناغم
القائم على المحاكاة في
rouge
أحمر،
وouate
الوبر،
وmoutons
الخراف،
وbroussailles
الأدغال،
وbourru
مشاكس التي تنقل عويل الرياح): من
الواضح أن تتابع المسجوعات التي أكدت
عليها، الموجودة في نهاية مجموعة
الكلمات والمجمعة بشكل زوجي (يمكن
اعتبار
«flagelle
سوط» سجعًا داخليًّا) ينتج تأثيرًا
إيقاعيًّا ويقطع النص إلى شعر حر
حقيقي، ويكاد النثر أن يقتصر هنا على
مجرد تنظيم طباعي.
ونصل — بذلك — إلى هذه النتيجة
المميزة للغاية: في الوقت الذي يُروَّض
فيه الشعر الحر، ويقترب من النثر، يعثر
النثر «الفني» — بفعل البحث عن أوزان
أوضح — على القافية، وينحو إلى
الالتحاق بالشعر، لكن ثمة ما هو أفضل:
فالنثر — وقد امتلأ بالسجع على هذا
النحو — ينجح في الالتحاق لا بالشعر
الحر فقط، بل ببيت الشعر المنتظم،
بتجميع الأجزاء المقطعية المتشابهة
بشكل زوجي، فكلوار نفسه ينشر — في
«إرميتاج»، في ديسمبر ١٨٩١م — «نشيدًا
غنائيًّا» نثريًّا (مع «مقطع أخير»)،
بعنوان «من أجل عربات المسافرين
القديمة»، ينتهي فيه كل مقطع بنفس
الكلمات: «عربة المسافرين الجدة
الطيبة، عربة المسافرين في القديم»،
ونقرأ — على سبيل المثال — في نهاية
أحد المقاطع:
(إنه دائمًا هو نفسه أيضا)
البلد العذب الذي زرته عدة مرات،
عربة المسافرين الجدة الطيبة، عربة
المسافرين في القديم.
ولنحسب أجزاء الجملة: لدينا «بيتان»
من ستة أجزاء، يعقبان بيتين من سبعة
أجزاء (وسنلاحظ أن القافية — وقد أصبحت
منذ ذلك الحين أقل ضرورة للإشارة إلى
الوزن — يتم إهمالها في «عربة
المسافرين الجدة الطيبة»)، بل لدينا
إرجاء حتى (إرجاء مضاد، بشكل أدق)، وهو
نفس البرهان على بيت لم يعد حرًّا، بل
أصبح كلاسيكيًّا:
البلد العذب / الذي
زرته عدة مرات
وها هو النسق وقد دُفع
به إلى أبعد من ذلك أيضًا، في مقاطع من
«قصيدة نثر» مزعومة ﻟ «ي. رامبوسون»،
منشورة في «إرميتاج» في يناير
١٨٩٥م:
تتراقص قذائف مائية على
الأفق المجنون — إنه البعيد الغريب
لروحي المتألمة.– وقلبي، قلبي
مجنون بالحب!– لماذا روحي متألمة.–
وقلبي، قلبي مجنون بالحب!– لماذا
روحي متألمة؟
وصانعو قوالب الرخام في
الأحراج– يبدون كأنهم يدعونني إلى
بعض الحنان: — أية نايات في
الأحراج — تنفث هذه الريح المترعة
بالحنان؟
لست أنا من وضع هذه الشُّرط للفصل
بين اﻟ «أبيات» (بيتان من عشرة مقاطع +
بيتان من ثمانية مقاطع)، إنه
«رامبوسون» نفسه على الأرجح كي لا يتعب
نفسه بالعودة إلى أول السطر. وتتمثل اﻟ «قوافي» هنا في كلمات مكررة، مثلما فعل
«فيرلين» — أحيانًا — الذي نشعر
بتأثيره في المقطوعة كلها، لدينا هنا
مقطوعة من أبيات كلاسيكية، كلاسيكية
إلى حد أن بيت «قاطعي الرخام في
الأحراج» يبدو لنا مفزعًا مثلما يفزعنا
بيت مفتعل في قصيدة متسقة.
وثمة — أيضًا — مهارة أكبر، وتنوع
إيقاعي أكبر في المقطوعات «المسجوعة»
و«المنغَّمة» ﻟ «سان–بول–رو»، الذي لن
يكف أبدًا (ربما تحت تأثير صديقه «بول
فور») على مدى حياته الطويلة كشاعر
نثر، عن المراوحة بين القصائد الحرة
للغاية والمنثورة تمامًا، والقصائد
المنغَّمة بشدة، حيث تخلق عودة الأسجاع
لعبةً بارعةً من الإيقاعات: وقصيدة «اليمامة»،
١٥٠ المؤرخة ﺑ «مايو ١٨٩٦م،
غابة آردين»، تبدأ هكذا:
La colombe
roucoule; écoute, un caillou
roule en le souffle qui coule ou
croule dans le joujou frêle de
son cou.
Mon âme a la
couleur de son baptême, et,
mêmement qu’à Bethléem où le
duvet des anges tenait lieu de
langes, le bout rose d’un sein
pâle dans ma bouche pose une
goutte
d’opale.
اليمامة التي تهدل، أنصت،
حصاة تتدحرج من النثفة التي تنثال
أو تنهال في اللعبة الهزيلة
لعنقها.
لروحي لون تعميدها، و، أيضًا
في بيت لحم حيث زغب الملائكة يقوم
مقام الأقمطة، تضع الحلمة الوردية
لثدي شاحب في فمي قطرة من عين
الهر.
وإذا ما كان هدف اﻟ ou
وr
وl
اللازمة: «اليمامة تهدل
roucoule
…»، هو خلق تناغم غريب قائم على
المحاكاة (ينطلق من المحاكاة الصوتية ﻟ «roucoule
— تهدل»)، فإن أسجاع المقطع، التي
تتجاور اثنتين اثنتين، تجذب الانتباه
إلى تجمع الأجزاء الإيقاعية، ذات
الأطوال المختلفة والمركبة
ببراعة.
لكن، إذا ما قمنا بخطوة أخرى،
فستنغلق الدائرة التي تعدينا إلى أكثر
الأبيات الكلاسيكية كلاسيكية، أعني
البحر السكندري، وقد نشرت «لا بلوم»،
في الأول من أبريل ١٨٩٢م، مقالًا عن
«ريوتور»، «
فتى
المستقبل»، ونشرت له
عدة «نثريات موقعة»، وسأنقل بدايةً
واحدة منها، «القميص المتسخ»، التي
كانوا — فيما يبدو — «يتحدثون عنها
كثيرًا» في هذه الفترة (والقميص
المذكور رمز للبؤس):
ألا أستطيع التخلي عن القميص
المتسخ، الممتلئ شحمًا والكئب،
بثنيات تفوح بروائح تخفي المَني،
القميص المليء بهذا الطين المنفر
لكل حرماتنا.
لقد ظل شاحبًا دائمًا على
جسدي الطفل، يحتويه بخرقة ذات لون
ثابت بشع، ورغم هذا دائمًا، فتحت
القميص المتسخ، عثرت على جسدي
الطاهر والغض مثل الزعتر …
١٥١
ها نحن قد عدنا — هذه المرة — إلى كل
فخامات وعبوديات البيت الكلاسيكي:
القافية الغنية، بحروف التأكيد الصامتة
(لكنها لا تشكل — مع ذلك — قافية
بالنسبة للعين، ما دامت
teint
تصنع قافية مع
thym)،
والحساب الدقيق للمقاطع اللفظية، مع
وقفة ثابتة تمامًا بين شطري البيت: ما
من بيت ثلاثي المقاطع، فريوتور لا يمنح
نفسه حتى الحريات التي اكتسبتها
الرومانتيكية … وبطبيعة الحال، نرى
عودة ظهور الإرجاء (القميص
الممتلئ / بهذا الطين المنفر) وأكثر
أنماط التعاكس كلاسيكية، لضرورة النظام
الصارم: «يحتويه بخرقة ذات لون ثابت
بشع».
لقد انغلقت دائرة قصيدة النثر
البارناسية مرةً ثانية: لم يتبقَّ أي
شيء من الحريات — ولا الإمكانيات —
الخاصة بالنثر، وحدها الحيلة الطباعية
هي التي تتيح وضع عنوان «نثر موقَّع»
على أبيات «ريوتور».
بول فور
في النقطة التي وصلنا إليها، يبرز
تلقائيًّا اسمه في الذهن: «بول فور»،
فبعد الأمثلة التي ذكرتها، يمكن لشعر
«بول فور» أن يبدو — في بادئ الأمر —
لا كتجديد عبقري، وإنما كإنجاز ضروري
للتطور الحتمي الذي يعيد قصيدة النثر
«الفنية» — في مساعيها من أجل التماثل،
والتوازن، والانتظام — إلى القوانين
نفسها التي تحكم الشعر، وإذا ما تأملنا
التواريخ، فسنلاحظ — بالفعل — أن
دواوين «بول فور» الأولى — «ثمة صرخات
هنا» و«الأصابع في المفاتيح تقريبًا»،
عام ١٨٩٥م — لا تزال مكتوبة في أشعار حرة للغاية: ويلاحظ «إ. بيلون» — في
«إرميتاج»، أبريل ١٨٩٥م — أنه «لا وجود
هنا لأشعار، بل نثريات موقَّعة مزعجة،
عيبها أنها نتاج موهبة»، وفي هذه
الفترة، كانت «أشعار» بول فور تلام على
أنها نثريات موقعة في واقع الأمر،
واعتبارًا من عام ١٨٩٦م، سيكتب «أناشيد
غنائية» في شكل نثر،
١٥٢ وستُلام — آنئذٍ — على
أنها أبيات في واقع الأمر،
١٥٣ عندئذٍ، يُطرح السؤال: هل
«بول فور» استكمالٌ عادي ﻟ «جلوار»
و«ريوتور» … إلخ، تسبق «نثرياته
النظمية» — إذا سمحت لنفسي بقول ذلك —
نثرياتهم (بصرف النظر عن «منديس»؟)
١٥٤ أم أنه خلق حقًّا
«أسلوبًا جديدًا»، مثلما يؤكد «ب. لووي»؟
١٥٥
ونحن نمتلك المعلومات الكافية من
«بول فور» نفسه حول ما أراد تحقيقه،
وقد صرح — عام ١٩٠٥م — أنه سعى إلى
«أسلوب يمكن أن ينتقل، وفقًا لرغبتي —
من النثر إلى الشعر، ومن الشعر إلى
النثر: والنثر الموقَّع يمثل
الانتقالة، وبذلك لا يصبح النثر،
والنثر الموقَّع، والشعر الحر، سوى
أداة واحدة متدرجة»،
١٥٦ ولا تتمثل محاولة الشاعر
إذن — وهي في ذلك مختلفة، مثلما نرى،
عن المحاولات «البارناسية» — في طباعة
الأبيات الموزونة على هيئة النثر،
مثلما تكرر كثيرًا على سبيل التزوير،
بل — بالأحرى — في استعادة محاولة
الرمزيين الكبرى: انصهار الشعر والنثر
في لغة شعرية واحدة، اللغة «الكلية»
التي تنبأ بها «ش. موريس»،
١٥٧ لكن، كيف نجد أسلوبًا
«يمكنه أن يتوافق مع الشعر والنثر»؟
«لقد بحثت في النطق الطبيعي عن قانون
إيقاعه، مثلما يقول «بول فور»، وحاولت
التأكيد على تفوق الإيقاع على براعة
العروض»، وبذلك، فلن يتدخل عدد المقاطع
اللفظية في نظم الشعر، بل ما يسميه
«كيفية الثقَل»، وهي كيفية «تتغير حسب
المكان الذي تحتله الكلمة في الجملة»،
ولكن، ربما يكون هنا ما هو أكثر أصالة
في تقطيعات «الأناشيد الغنائية»: «بشكل
عام، فإنني لا أحسب المقاطع اللفظية
الصامتة في وزن البيت، إلا من أجل
إحداث تأثير مطلوب، حسب ما يصرح
الشاعر، إنني أمارس الإدغامات الطبيعية»،
١٥٨ وتتطلب «الأناشيد الغنائية
الفرنسية»، إذن — مثلما أكد «ب. لووي»
منذ عام ١٨٩٧م — «لا الإلقاء الخاص
بالشعر، بل إلقاء النثر الموقَّع»،
١٥٩ فهل من الصواب أن نضيف،
مثلما يفعل، أن «العودة الوحيدة،
أحيانًا، إلى القافية أو السجع، تميز
هذا الأسلوب عن النثر الغنائي؟» أعتقد
أن الأكثر دقةً أن نرى فيه — بالتوافق
مع نوايا الشاعر — نثرًا موقعًا إلى
هذا الحد أو ذاك، حيث تختلط فيه — إلى
حدٍّ بعيد — عدد كبير من عناصر الشعر
«المتحرر»، ذلك ما أشار إليه جيدًا «ﻫ.
دي رينييه» في دراسة غير مشهورة نشرتها
«ميركور» عام ١٨٩٧م، وتعتبر من أفضل
الدراسات التي لا تُحصى المنشورة حول
«بول فور»:
١٦٠
والنظم المتخفي، المتناثر،
ينعشها، ويدعمها بالمحارفات
والأسجاع، وهو يخلتط بمادتها، إنها
قصائد بوضوح، وقد أرادوا النظر
إليها باعتبارها «قصائد نثر»، وهو
ما يعني، في اعتقادي، إساءة الظن
بمقاصدها ونوعيتها، ففي التقنية
البودليرية، على سبيل المثال،
أتبين شاغلًا عكسيًّا هو الارتقاء
بالنثر إلى مصاف الشعر دون صياغته،
بينما يدخل الشعر هنا في مادة أوسع
وأكثر سيولة، دون أن يندمج ويذوب
وينساب فيها، مثل الطحلب اللين في
التيار الذي يجعله يتماوج في
شفافية هاربة.
١٦١
لا شعر ولا نثر إذن،
١٦٢ أو — بالأحرى — الاثنان
معًا في آن، وقد أصبحا «أداةً واحدة
متدرجة»، وكي أوضح الأمر، سأستشهد — لا
كما يفعلون عادة، بقصيدة يسيطر عليها
النزوع النظمي (كنزوع طبيعي إلى حد أن
الأبيات تتولد أحيانًا عفويًّا في
النثر الذي يريد الابتعاد تمامًا عن النظم)
١٦٣ — ولكن ببداية قصيدة
«كوسي–لو–شاتو» من ديوان «إيل دي فرانس»:
١٦٤ وفيها نرى الفقرة الثالثة،
الأكثر عادية، تعود إلى نثر يكاد يكون
حرًّا:
قلتُ لنفسي، وسأرى سحبًا
جميلة مستديرة، وأنا أعبر المدينة
المفتوحة على زرقة السماء، وهي
تولد الواحدة من الأخرى مثل فقاعات
صابون، على سقف يصطف على قمته
الحمام.
إلى اليمين، قلت لنفسي، في
هدوء الجو، برج كنيسة متماوج اللون
يناجي الوقت، إلى اليسار، ستضع
امرأة مترهلة بأصابعها المجبولة من
الورد إكليلها المصنوع من السهام
على جبيني.
أنا قادم، هو ذا حقًّا، برج
حمام، امرأة مترهلة، سُحب، لا شيء
ينقص فيه. هيه! ها هي، قلت لنفسي،
«كوسي–لو–شاتو»، وهذا السقف الذي
يصطف على قمته الحمام، يئوي — لحسن
حظي — فندقي.
ومن المناسب هنا الإشارة إلى أهمية
«الإدغام الطبيعي»
١٦٥ الذي يمنح الأسلوب مظهر
اللغة الشفاهية، ويكفي لتمييزه عن
الأسلوب «المنظوم» الذي استخدمه
الكتَّاب الذين سبق ذكرهم: وهكذا سيكون
لبيت «رامبوسون» الذي ذكرته: «وصانعو
قوالب الرخام في الأحراج» لا عشر مقاطع
لفظية — بلا شك — طبقًا لبول فور، بل
تسعة، وبالمثل ينبغي أن نقرأ هنا:
Je verrai, me
disais-j(e), de beaux nuages
ronds, en traversant la ville
ouverte au bleu du ciel, naitre
les uns des autr(es) des buil(es)
de savon, sur un toit dont le
faite align(e) des
tourterelles =
سأرى، ﻗﻟ(ت) لنفسي، سحبًا جميلة
مستديرة، وأنا أعبر المدينة المفتوحة
على زرقة السماء، وهي تولد الواحدة من
الأخر(ى)، ﻣﺜ(ل) فقاعا(ت) صابون، على
سقف ﻳﺼﻄ(ف) على قمته (الحمام)».
١٦٦
فما هي — الآن — قيمة القصائد المكتوبة
بهذا المنهج؟ يبدو أنه إذا ما كنا نذكر
دائمًا أكثر قصائد «بول فور» اتساقًا؛
فذلك لأنها الأجمل، والأجمل بلا مثالب:
فثمة شكل منغم يتجاوب — بشكل عام — في
«أناشيد غنائية» مع إلهام رفيع، ومع
حالة من التوتر الغنائي الكبير، لكن
الأمر يتعلق — عندئذ — بأشعار حقيقية،
حتى «الإدغام الطبيعي» لا يبدو لي في
موضعه إلا في «الأغنيات ذات النمط
الشعبي، الغزيرة فضلًا عن ذلك (يعرف
الجميع اﻟ «دائرة» الشهيرة التي ينبغي
نطقها هكذا:
Si tout’
les fill’ du monde/voulaient
s’donner la main,/tout autour de
la terre/ell’ pourraient faire
un’ ronde = إذا
كنت فتيا تالعالم / يردن أن يشبكن
أيديهن / حول الأرض كلها / يمكنهنأن
يصنعن دائرة»،)
١٦٧ وهو (الإدغام) يمكنه — في
موضع آخر — أن يثير الشعور بالضيق،
بتردد إيقاعي، لا يصنعه «بول فور» —
بشكل خاص — دائمًا: فلماذا، في
المقطوعة المذكورة،
«
nuages
ronds = سحب
مستديرة»، لا
«
naugc(es)
= سحبمستديرة»؟ ولماذا — بشكل اكثر
إزعاجًا أيضًا — هذا البحر السكندري في «سعادة»:
١٦٨ «لدى الملائكة المتمردين
دائمًا سرًّا»؟ لم يعد ثمة بيت شعر
كلاسيكي، ولا بيت شعر شعبي، إنه شعرٌ
غير موقَّع
dérythmé،
بلا اسم له في أي نظم للشعر.
أما مزج الشعر والنثر، فإنه يؤدي —
مرةً أخرى — إلى تنافر النوعين: فعندما
يتدخل النثر، ترتخي الأداة الشعرية،
ونقع — عمومًا — في العادي أو في الثرثرة،
١٦٩ وثمة حالة واحدة يبدو لي
فيها هذا الأسلوب الهجين مستخدمًا على
نحو موفق: في الرواية، كنوع أكثر حرية،
شعري وسردي في آن، وربما استطاع «بول
فور» — في «لويس الحادي عشر، رجل غريب»
(وهي رواية تاريخية، من أوائل أعمال
«بول فور»)، وفي «كوكز كومب» (وهي
رواية سحرية وفلسفية في آن)، وفي
«لوسيين» بعنوانها الفرعي: «رواية
غنائية» — أن يخلط، بفانتازيا أكبر،
الشعر الأكثر حرية — إلى هذا الحد أو
ذاك — بالنثر الموقَّع إلى هذا الحد أو
ذاك، دون أن يثير انزعاج القارئ، هنا
يمكن للشاعر أن يتبع بحرية ما يبدو له
أنه شعاره: «إنني أحلق على جناح الفانتازيا!»،
١٧٠ ويخرج لسانه
للنقاد.
لكن الناقد سيخلص — بعد كل حساب —
إلى أن هذه الفانتازيا، وهذه التعددية
في الأشكال التي لا تنتمي إلا إلى «بول
فور»، لا يمكن لها أن تلائم آخرين.
ويبدو أنه قد ثبت تمامًا استحالة صنع
التركيبة من الشعر المنتظم وإيقاعات
النثر حتى من باب التعريف، في الشعر
الغنائي على الأقل، فالشعر الحر وحده
ما استطاع — إلى حدٍّ ما — مثلما يلاحظ
«ا. بونييه»، أن يستعير من النثر بعضًا
من إيقاعاته.
١٧١
وقد أرجأنا قليلًا بحث «أناشيد غنائية
فرنسية» للشعراء «التشكيليين»
و«البارناسيين»: والواقع أن «بول فور»
ليس بارناسيًّا ولا رمزيًّا، ومن
المستحيل حقًّا تصنيف شعره: فبحكم
تاريخه، وبحكم إلهامه، سيرتبط هذا
الشعر — أكثر — برد الفعل ضد الرمزية،
وينبغي أن نضيف — من ناحية أخرى — أنه
أكثر حرية في تنوعه (رغم عودته النسبية
إلى المقطعية اللفظية) من المحاولات
«الفنية» المسجلة في نشاط الرمزيين
مثلما في نشاط البارناسيين، وهو ما
سيتضح في الصفحات التالية.
قصيدة النثر «الموسيقية»،
البودليرية والرمزية
وكما قلت، لا يكمن شاغل «الكتابة
الموسيقية» — لدى الرمزيين — في الرغبة
في جعل الأدب سلسًا، ومرنًا حيويًّا،
كرد فعل على الجمود البارناسي:
فالأفكار الخاصة بالتركيب والوحدة،
التي تلاحق الرمزيين، تشكل محاولاتهم
الفنية ذات المدى الأوسع إلى هذا الحد
أو ذاك، ولا شيء يثير الدهشة إذن، إذا
ما انتظمت قصائدهم النثرية في تكوينات
صارمة وذات مظهر دائري (بلازمات،
واستعادات للتعبيرات، و— في أغلب
الأحيان — عودة للموضوع الأول في
الخاتمة)، وهكذا يتمكنون، من خلال
احترام الوحدة الشكلية، وسيادة نظام
بنائي على الفردانية الفوضوية، من
مقاربة التكوينات البارناسية الصارمة،
التي يتميزون عنها — بشكل خاص —
باستخدام الرمز، وبخصوصيات تركيب
الجملة والمفردات، والميل إلى الإيحاء
لا المباشرة، وفي أغلب الأحوال أيضًا —
علينا أن نذكر ذلك — بانعدام البساطة،
فكيف أعفي نفسي من ذكر «السمك الأحمر
الصغير في حوضه الزجاجي»، أو «تشريح
قصيدة نثر»؟ وهذه المعارضة — المنشورة
في «ميركور» في أكتوبر ١٨٩٢م، بتوقيع
«كازي» (اسم جماعي مستعار يشمل «ر. دي
جورمون» و«الفريد فاليت» و«البير
أورييه») — مفيدة أكثر في مظهرها
الهزلي، «إنه نمطٌ مكتمل للمعارضة،
يقلد، وينتقد، بل حتى وهو يكشف عن
الالتواءات ويفكك النهايات، يشير ويفسر
آلية هذه القطعة الدقيقة من صناعة
الساعات، قصيدة النثر»، مثلما كتب
«ديفو» و«دوفييي» عند نشرها في كتابهما
«مختارات من المعارضات».
١٧٢
السمك الأحمر الصغير في
حوضه الزجاجي أو تشريح قصيدة
النثر
I
الحوض الزجاجي
في النضارة الممزوجة
بالأحلام، حوالي المساء الذي كان
يعبر النافذة، كان يشحب، لبني
اللون، وبراءته الشفافة كانت تبعث
السرور في «الصديقة» الغامضة.
سعادات المساء النائم، المفاجأ
تمامًا بكونه صافيًا، والكثير من
الأحلام التمعت في الحوض الزجاجي
اللبني، حيث لم تمت الروح: عندئذٍ
— كانت رؤًى ثرية عن سيرك بيزنطي
مع تلويح بأعلام خضراء وزرقاء، لم
تكن أسماك الشبوط خضراء ولا زرقاء:
كانت حمراء ترتجف حبًّا في البراءة
الشفافة التي كانت تبعث السرور في
«الصديقة» الغامضة، «مجد الحلم»،
المقرفص مثل أبي الهول بين
الأجنحة، أجنحة المساء الكئيبة –
مجد حزين مثل الأطياف؛ إذ إن
الزعانف كانت تجوب في شكل مروحة من
خفافيش فظة في احترام سعادات
المساء النائم، ورأيت العينين
الفائقتين للصديقة الغامضة ترتقي
نحو نشوة الإحساس بالخوف.
II
السمك الأحمر
يدورون، يدورون في حوض فكرهم
الزجاجي. يفكرون في فتات، فتات،
فتات خبز، وليست لديهم فتاتة فكر –
في حوض فكرهم الزجاجي.
يفتحون الفم — آه! الفم
الجميل بشوارب الموظف الكبير — ولا
يُنطَق بأي صوت والمخ أيضًا أبكم
مثل فهمهم، — في حوض فكرهم
الزجاجي.
يختلج ذيلهم، يختلج، يختلج،
وما من حيوان منوي يخرج منه كي
يخصب شبكة البيض الأنثوي؛ لأن
أعضاءهم عقيمة وعبثًا يستمنون — في
حوض فكرهم الزجاجي.
بطنهم بيضاء، بيضاء مثل
الحساء الأبيض، ومنتفخة تمامًا
بغرورٍ غير مؤذٍ من براز، ينفجر ها
هي فقاعات، وعلى وجه الماء تنفجر
الفقاعات، الفقاعات المولودة من
البطن التافهة لسمك الشبوط — من
حوض فكرهم الزجاجي.
زعنفتها سوداء، أصبحت رصاصية
من السم الأرعن الذي يدوخهم،
يجعلهم يدورون كحمير في طاحونة:
دوري، دوري أيتها الأسماك الصغيرة
التي لا تعض — في حوض فكركم
الزجاجي.
أجنابهم حمراء، بالأحمر
الكئيب لرخويات الخريف، وقلبهم
المنزوف أكثر ارتخاءً من بيت شعر
حر سيعطن خلال ثلاثة شهور ونصف
كحوليات أمير «تروا–سيس» — في حوض
فكره الزجاجي.
عينهم فيرونية
١٧٣⋆
تمامًا، خضراء، لا نعرف لمَ،
أحيانًا، والسمكة الصغيرة تنظر لكم
بعيونها الفيرونية، الفيرونية إلى
حد أنها مؤثرة، السمكة الصغيرة
التي تتحول إلى سمكة «فيرون» في
حوض فكرها الزجاجي.
تدور، تدور، تدور، السمكة
الحمراء الصغيرة في حوضها
الزجاجي.
III
استعادة للحوض
الزجاجي
(حسب المنهج الفاجنري –
لكن مع التبسيط)
في الفتور الممزوج بالضحكات،
حوالي الظهيرة التي كانت تعبر
النافذة، كان يحمر: الوردي بحمرته
الياقوتية، كان يبعث السرور في
«الصديقة» الغامضة.
التي — بعد أن أفاقت من
ذهولها — أخذت تتساءل:
– لماذا، أنا أيضًا، لست في
حوض زجاجي؟
– سأدور في حوض فكري
الزجاجي.
في حوض زجاجي، في حوض
زجاجي.
هجاء لاذع، نقلته كاملًا؛ لأنه يكشف
— أفضل من أي تعليق مطول — كل الأساليب
التي يمكن أن توجد في الموضوعات
الرئيسية، التكرارات، استعادة
التعبيرات، والاسترجاع الختامي، أي كل
هذه المجموعة من «الوصفات» التقنية،
المولودة مع قصيدة النثر، التي تميز
القصيدة المبنية بشكل دائري، مثل
مقطوعة موسيقية، سواء استخدمنا المنهج
الفاجنري أم لا.
ولن نرى — دون أن تتملكنا بعض الدهشة
— وسط هذه القصائد ذات الصبغة الرمزية
و«الفاجنرية» — من حيث البنية، إلى
حدٍّ مقبول، في واقع الأمر — أربع
«نثريات غنائية» كتبها الموسيقي الذي
كان عليه — فيما بعد — أن يعارض
الكتابة «الدائرية» بانطباعية متحررة
من كل الأساليب الشكلية: أعني
«كلود–آشيل ديبوسي»، وفي تلك الحقبة،
التي كان يتردد فيها باستمرار على
الوسط الرمزي لدى «فانييه»، كان
«ديبوسي» ما يزال مشبعًا للغاية
بالفاجنرية: فهل لهذا قرر — مثلما قرر
«فاجنر» بالنسبة لأعماله الأوبرالية —
أن يكتب بنفسه كلمات ألحانه الأربعة؟
يمكننا الاعتقاد أنه كان يبحث — بشكل
خاص — عن تخليص اللحن من الصراع
المحتوم بين إيقاع الشعر والإيقاع
الموسيقي، إلى حد أنه كان يعتبر النثر
أكثر ملاءمة ومرونة وأفضل توافقًا مع
تغيرات مقام اللحن المغنَّى، لا سيما
أنه يكتبه بنفسه.
١٧٤
لكن ينبغي أن نسجل أن موسيقى هذه
الألحان، إذا ما كانت الآن ديبوسية
(نسبة إلى «ديبوسي») بطريقة ساحرة —
بهذه المرونة للجملة، وهذه التعاويذ
المتمهلة وهذه الوثبات المفاجئة، التي
تبشر ﺑ «بيلياس» — فإن الكلمات ما تزال
رمزية للغاية، بتنظيمها «الدائري»،
وجمالها الانحطاطي، وتوليداتها،
واستعاداتها للتعبيرات المصطنعة إلى
هذا الحد أو ذاك، ونحس فيها بتأثير
«الكتابة الفنية»، رغم بعض الاكتشافات
الناجحة، مثلما في هذه العناوين
الموفقة: «من حلم»، «من ساحل رملي»،
«من ورد»، «من مساء»،
١٧٥ ثمة مسعًى حقًّا لتكرار
التعبيرات المطبقة في «من ساحل رملي»
على السحب أو الأمواج: «حرائر بيضاء
منسَّلة … حرائر خضراء قزحية … حرائر
خضراء مجنونة … حرائر بيضاء هادئة»،
وما الذي يمكن اعتقاده عن بداية «من
ورد»، المتأثرة بلا شك ﺑ «مخالب حادة»
لمايترلينك:
في الملل الأخضر بشكل يبعث
على الأسى لمخلب الآلام، تحتضن
الأزهار قلبي بسيقانها الشريرة
…
وقد لاحظنا أن معارضة «كازي» كانت
تستهدف أيضًا هذه «الكتابة الفنية»
والرطانة على الطريقة الشائعة نحو عام
١٨٨٦م، والحق يقال إن الميل إلى
التوليدات، والمزج المصطنع تمامًا بين
المجرد والملموس، والتعبيرات المبهمة
والرمزية بتكلف، لم يعد يعيث فسادًا
سوى لدى بعض الشعراء من الدرجة الثانية
(الذين يظل «ديبوسي» متميزًا عنهم
بكثير): فسنرى — بتوقيع «جاستون
دانفيل»، على سبيل المثال — «الذكرى
الهزيلة … للعطور الكهنوتية بشكل غامض»،
١٧٦ بينما يستدعي المدعو
«ديكلاروي» «نزعات غريزية لا تذبل ومؤلمة»،
١٧٧ يبدو أنها مستعارة —
مباشرة — من «معجم بلويير».
وبعض الكلمات النادرة والغامضة أكثر
خداعًا، وهي — بإصاتاتها الجميلة —
تُسعد «ر. دي جورمون»، الذي أدان
المؤثرات الضارة ﻟ «الهوس اللفظي»
١٧٨ لدى الإنسان الذي التوت
رأسه أحيانًا، «أية موسيقى، حسبما
يصرخ، يمكن مقارنتها بالإصاتة الخالصة
للكلمات الغامضة، آه زهرة بخور مريم!
وأية رائحة لفيوضك العذراء، يا موقفة النزيف!»
١٧٩ وهو يجمع — بمتعة عامل
الفسيفساء، متبعًا أكثر الأساليب
شيوعًا، أسماءً نادرة من قوائم «زهور الأقدمين»
١٨٠ الطويلة (ثلاثة ثلاثة، مع
لازمة في نهاية كل مجموعة)، من قبيل
«البنطلة» و«الصاحل الخيمي» و«الوسن»
و«الأرغامونيا» … إلخ، وأنجح قصيدة
نثرية «رمزية» لجورمون هي «السعادات
البدائية»، التي نستحسنها ونحن نتساءل
بقلق ما إذا لم تكن تكتنفها النزعة
اللفظية (عبادة الكلمات ستكون أكثر دقة
بلا شك)، ومؤثرات أسلوبية خارجية
تمامًا، أزهار جميلة لمخلب، لكنها
مقطوعة، ولم يعد النسغ يسري
فيها:
ما الذي تريده مني، ظل
«السعادات» البدائية، ولماذا تعود
لإزعاجي على مدى السنوات، في نفس
الساعة، الأخيرة؟
عطور خزامى متناثرة وزيزفون،
سحر زهور الأحواض في حداد، هدب
الفيجيليا! برودة الجداول الصافية
في ظل شجر المغث الغيور، نعناع
لبدت فيه الضفدعة الملاك ذات
العينين العذبتين!
– كل هذا، يقول «الظل»، كي
أُذكرك أيضًا رائحة الشوكران،
الشوكران السامي المقطوع في الخضرة
الصباحية، كي أذكرك بالشوكران
ورائحته الاستثنائية، المجرمة.
١٨١
وعلى أية حال، فإن «ر. دي جورمون» —
بالنسبة لمبالغات الرمزيين
١٨٢ في «الكلام الملتبس»،
والصياغات الفاجنرية — يمثل عودة إلى
الوزن، إلى الكلاسيكية، وهو قد يقترب —
بمعنًى ما، بعبادته للكلمة النادرة
والصائتة، المحبوبة لذاتها خارج المعنى
الذي تعبر عنه
١٨٣ — من البارناسيين.
١٨٤
ومن المفيد — بشكل خاص — أن نتابع،
في مؤلفات الكاتب نفسه، التطور الذي
أعاده من الرمزية إلى الكلاسيكية،
وخاصة عندما لا يكون هذا الكاتب —
فضلًا عن ذلك — سوى «ستيوارت ميريل»،
أكثر شعراء النثر الرمزيين موهبة،
وواحد من أكثر من تأمل هذا الفن المعقد
الخاص بقصيدة النثر، ها هو ما قاله
عنها في نوفمبر ١٨٩٣م في «إرميتاج»:
أريد من جانبي، أن تكون ذات
إيقاع محسوس للغاية مع استعادات،
ولازمات ومحارفات متعددة: شيء ما
متموج ومتنوع مثل شعر العبرانيين،
والموضوعات، أريدها منتقاة من بين
أكثر الموضوعات ملاءمة لعظمة اللون
والموسيقى، وفي رأيي الخاص، فإن
قصيدة النثر، الأكثر حرية من الشعر
الغنائي، والأقل خضوعًا من الخطاب
المنطقي، وقد تثير الاضطراب بسحر
ما مزدوج الجنس، متأرجحة دائمًا
بين القاعدة والحرية.
وكما نرى، فإن «ميريل» — مع شعوره
الحاد بأن قصيدة النثر تجذبها، في
جوهرها، قوتان متعارضتان، «القاعدة»
و«الحرية» — يعرفها، من جانبه،
باعتبارها نوعًا مبنيًّا و«ذا إيقاع
محسوس للغاية»، وقد أصبح من المتوقع —
فضلًا عن ذلك — أن يؤدي ميله الواضح
للغاية إلى المحارفة، والتناغم المقلد،
١٨٥ وميله أيضًا إلى اللازمات
والتكرارات (فلنقرأ أشعاره!) إلى
استدراجه لكتابة قصائد نثر ذات إصاتات
منتقاة موزونة للغاية ومبنية بقوة،
لكننا نشهد الإلهام الشعري داخل هذه
الصيغة الفنية الصارمة، واللغة التي
تتشكل فيها في آن، وهي تمر بثلاث
مراحل، كلما تخلصت من المبالغات
الرمزية.
وأول نمط للقصيدة، الرمزية الخالصة،
يكمن في ديكورات أسطورية ذات مجازات
باذخة، تخدمها لغة متألقة تجري جملها
بعظمة نهر: إنها حقبة «استعارة»
١٨٦ و«دراما»
١٨٧ و«بلد أنهار الدم»
١٨٨ و«الغرقى»،
١٨٩ وها هي الفقرة الأولى من
القصيدة الأخيرة، الممثلة تمامًا لهذه
الطريقة «الزخرفية»:
شقراءٌ في سيمارها
١٩٠⋆
البنفجسي المزخرف بأحصنة «قارن»
١٩١⋆
الذهبية، جاءت الأميرة، عبر هذا
الغسق الكهنوتي الذي تخضبه بالدماء
بيارق كل الأمواج، لتتكئ على سياج
الجسر الذي يربط بقوس من الرخام،
فوق «نهر الدموع»، ساحة الحيوانات
الخرافية بسجن أسرى حبه.
هذه القصيدة ذات بنية ثلاثية واضحة،
١٩٢ وكل فقرة تتكون من جملة
واحدة طويلة، منظمة بشكل تناغمي، غنية
بالكلمات الباهرة، ويعود استدعاء
«السيمار البنفسجي المزخرف بأحصنة قارن
الذهبية»، كي ينهي القصيدة، التي يتسم
رمزها، والحق يقال، بالغموض الشديد،
إلى حد أن يختفي تحت عظمة الاستدعاء.
ونجد في «الأميرة التي تنتظر»
١٩٣ (التي أشرت فيما سبق إلى
تكوينها المتوازن للغاية، في مجموعتين
من أربعة مقاطع) — استعارة أسهل في
الإدراك، وعلى أية حال، تظل كل هذه
الشخصيات الكهنوتية، وكل هذه الديكورات
الخاصة بالأسطورة، تقليدية تمامًا،
وغير واقعية بشكل بارد في
عظمتها.
وستكشف لنا مرحلة ثانية، ما تزال
رمزية، «ميريل» وهو يتطور نحو مزيد من
البساطة، ونحو فن أكثر إنسانية، ألم
يصرح، منذ عام ١٨٩٣م، أن المدرسة
الرمزية «كانت مصابة بداء المبالغة»،
وأنه «يمكن التعبير عن كل الأفكار
الجديدة باللغة التي تكلم بها أجدادنا»؟
١٩٤ وهو ما يعني أن لغة قصائده
ستصبح أكثر بساطة ومباشرة، كما في «ملك يبكي»،
١٩٥ على سبيل المثال:
أنا ملك على وديان معتمة،
جالس على عرش من حديد، ورأسي بين
يدي، وما معطفي سوى خرقة، وقد صدأ
سيفي تحت المطر، ورميت صولجاني في
نهر بلد بعيد.
وفيما بعد أيضًا، سيتخلى «ميريل» عن كل
رمزية، وفي هذه المرحلة الثالثة، حتى
آخر قصيدة له، ظلت غير مكتملة («تومي
آتكيتر»، عام ١٩١٥م)، سيتفرغ للإلهام
الغنائي ﻟ «قصائد حب صغيرة» و«قصائد
غير منشورة» أو لم تكتمل،
١٩٦ هذه المرة، يبحث الشاعر —
دون أن يتخلى عن شاغل الإيقاع والإصاتة
— عن تفجير الانفعال في شكل بسيط
ومحبوك أكثر فأكثر، والقصيدة التي تبدأ
ﺑ «أتذكرين اليوم الذي منحتيني فيه
شفتيك؟ وعينيك ويديك؟» التي أعاد «م.
ل. هنري» نشر مخطوطها المنقَّح،
١٩٧ تتألف من بعض الموضوعات
الكبرى البسيطة، متمحورة حول فكرة
مركزية: تتحقق هذه البساطة في الأسلوب:
فالتضحيات قائمة — بشكل خاص — على
الحذف والتكثيف،
١٩٨ فمن فرط الحذف المتعاقب،
يصل «ستيوارت ميريل» في النهاية إلى
الشكل الأنقى، والأكثر تجريدًا.
لكن كثيرًا من الشعراء الشبان — من
بين من يسعون إلى إخضاع قصيدة النثر
للقوانين «الموسيقية» — قد تخلوا
مبكرًا جدًّا لا عن الجمالية الرمزية
وعاداتها الأسلوبية فحسب، بل أيضًا عن
الديكورات الأسطورية والشخصيات
المجازية، والرموز الغامضة، وتتم
العودة إلى الغنائية، ونعود إلى الطريق
على خُطى «بودلير».
وهذه العودة إلى «بودلير» (التي تتوقف
— مع ذلك — عند بناء القصيدة، الذي يظل
صارمًا) تتضح لدى عدد من الشعراء الشبان:
١٩٩ فعندما يكتب «ش. ميركي» في
«على الماء»:
٢٠٠ «انظر، يا قلبي، ها هو
الوهم الأعظم للمساء … بالقرب منا،
غابة من الصواري، زحام من المراكب
والكائنات … إلخ»، يمكننا أن نحصي
التأثيرات، وهناك كاتب آخر، «ر. شيفيه»
— الذي سيشبهه «ب. آدام» ببودلير
٢٠١ — يبدو أنه استعار من
«بودلير»، وهو يؤلف «ظلال وسرابات»،
٢٠٢ لا بعض الموضوعات فحسب، بل
الرغبة في جملة سلسة، قادرة على تمثل
«تموجات أحلام اليقظة»: فقصيدة الراقصة بالحلقات
٢٠٣ («لكن إيقاع رقصتها هو ما
يبهرني، وتذوي روحي مع الرشاقة
الملتوية لجسدها الممشوق الذي يدور»)
إنما هي بودليرية من ناحيتين، بالإلهام
والأسلوب. وفضلًا عن ذلك، فإن «شيفيه»
أكثر توفيقًا هنا مما عندما يسعى إلى
التماثل في القصائد القصيرة، حيث لا
نرى — بشكل مفرط — كيف يمكن لبلاغة
النوع أن تصبح مصطنعة …
٢٠٤
و«ج. سارازان» بودليري آخر، وهو ليس
مؤلف «سنتور» فحسب، وإنما مؤلف قصائد
نثر مهملة ظلمًا: مقطوعات كتبت بين
عامي ١٨٩٠م و١٩٠٠م، وجُمعت عام ١٩١١م
في «أغنية الشاعر الشارد»، والمقدمة —
التي يصف فيها الإيقاع الشعري للنثر —
تذكرنا فعلًا ﺑ
مقدمة «سأم باريس»:
«تخلق الروح في حركتها — غريزيًّا —
تعبيرها الموسيقي، وتعرضه بحرية تامة،
وتنوعه حسب رغبتها وحسب التحويرات
الخاصة بها، تمده أو تسرعه»، وقصائده
المكتوبة من كل مكان (من هنا يكمن
العنوان)، وفي فترات مختلفة، متنوعة
إلى حدٍّ بعيد في النغمة والشكل: فإذا
ما بدا أن القصائد الأولى تشير إلى جهد
واضح في الإيقاع والنباء الدقيق
(إيجاز، ومقاطع مماثلة، ولازمات)، فإن
الأخيرة تميل — بالأحرى — إلى التأمل
الأخلاقي والفلسفي، وسأورد قصيدة «ليلة صيف»
٢٠٥ كاملة، إذ يبدو لي
اقترابها من الكمال في هذا النوع الصعب
الذي يتمثل في البناء القائم على
الموضوع، في شكل عذب وموزون ﻟ «كلٍّ»
شعري تتواصل فيه العناصر الصوفية
والعناصر الغنائية وتتوازن بتناغم،
محتلة مكانها في الأرابيسك الكلي، مثل
الألوان في لوحة، ومثل نغمة في مقطوعة
موسيقية.
الوقت متأخر وعذب في الليل،
الوقت متأخر وعذب على البحر، ترفرف
النسمة وتصدر الحفيف مثل الجناح،
تنسل وسط الصمت، إنه ليل الصمت
والنسيم، في المدينة الصغيرة
القديمة البحرية.
ترن خطوتي عبر شوارع الظلام
والقمر، عبر الشوارع القديمة
الخرافية: بالقرب من أمواج البحر
الناعس، وعلى الأسوار القديمة التي
تجعلها (الامواج) مثل المخمل، بأية
عذوبة مفرحة تسترخي أشعة القمر
…
أسيجئ إذن يوم لن أكون فيه،
ولن أعود أشعر فيه بهذه الأنفاس
القطيفية تلمسني، حيث ستكون عيناي
مغلقتين في ليالي الظلام والقمر …
في المدن الصغيرة القديمة
البحرية؟
وسنلاحظ أن الفن لا يتمثل — هنا — في
البحث عن الأوزان المنتظمة (يمكننا —
مع ذلك — أن نلتقط عدة بحور سكندرية،
وتماثلات ثنائية
٢٠٦ أو ثلاثية،)
٢٠٧ أو المحارفات البليغة
(«
frôle à la façon
d’une aile = تصدر
الحفيف مثل الجناح» … إلخ) أو الإصاتات
التي تتجاوب مع بعضها البعض
(«
avec quelle
douceur bienheureuse les rayons
de la lune
reposent = بأية
عذوبة مفرحة تسترخي أشعة القمر»)،
وإنما في ترتيب الكلمات (التي اختيرت
لبساطتها الشديدة) بحيث تخلق، مثلما
يقال في التصوير الزيتي، صبغة عامة،
مثل استعادات للنغمات: سواء بالتكرارات
البسيطة (هكذا تقارب «ليل الصمت
والنسمة» وتربط اللفظتين الموجودتين في
الجملة السابقة، منفصلتين وموضوعين في
الطرفين)، أو باستعادات أكثر براعة
(
doux
= عذب استعادة لعذوبة
douceur،
velouter
= يصبح قطيفيًّا استعادة ﻟ
souffles de
velours أنفاس
قطيفية،
frôle
= تمس استعادة لتلمسني =
effleurer
التي تحمل نفس المعنى والإصاتة)، وهي
ليست استعادة للكلمات فحسب، وإنما
للأفكار أيضًا (أي الأفكار الشعرية)،
التي تم تناولها، لتخدمني — هذه المرة
— في مقارنة موسيقية، مثل «تيمات» تظهر
ثم تعاود الظهور في شكل آخر، أو تولِّد
تيمة أخرى ستتطور بدورها: فهكذا يستطيع
المقطع الثالث ويوحد — على النمط
الغنائي — موضوعي النسمة (اللذين كانا
في البدء وصفيين) التي «ترفرف وتصدر
الحفيف» (في المقطع الأول) و«شوارع
الظلام والقمر» (في المقطع الثاني)،
وسنلاحظ أيضًا كيف تقود أفكار عن
الظلام والشيخوخة («مدينة قديمة، شوارع
قديمة، متاريس قديمة») إلى تطوير أخير
— بطبيعة الحال — عن الموت.
وفي قصيدة كهذه، نشعر بتأثير مزدوج
لكل من «برتران» و«بودلير» يتوحد
بتناغم لإنتاج الشكل الأكثر كمالًا لفن
تركيبي وموسيقي، فالتركيب المقطعي
يتحقق — هنا — بتأثير «بودلير»، والعصر
الغنائي يجرف التصويري، وبالعكس، فإن
هذا النثر الغنائي — بلا مغالاة، الذي
«يتوافق» فيه الشعور الحميم مع المشهد
الطبيعي، والذي يدين بالكثير إلى
«بودلير»، وربما «هايني»
٢٠٨ — منظم فنيًّا من خلال
«البلورة» الفنية التي تجعل منه كلًّا
ملتحمًا بلا تصدع. وهكذا نصل إلى
كلاسيكية حقيقية، إذا ما قصدنا من ذلك
نظامًا مؤسسًا بعناية، تتجمد فيه كل
الاندفاعات في أشكال فنية، متسلسلة في
سبيل المجموع.
ويثير الانتباه أيضًا أن نرى كيف
يستوعب مدير «في ليترير»، «لويس لورميل»
٢٠٩ — ربما لفقدان الموهبة
الشخصية الحقيقية — الاتجاهات
المتعاقبة في عهده ويغزي بها قصائد نثر
ذات مفهوم «كلاسيكي» للغاية، كتبها بين
عامي ١٨٨٧م و١٩٠٨م، فوفقًا لتأثير
اللحظة، ستكون «لوحات روح»
٢١٠ أوركسترالية (مثلما في
«تناغمات» التي يرجع تاريخها إلى عام
١٨٨٨م، ومقطوعات «صباح» و«ناي ومزمار» و«ظهيرة»،)،
٢١١ ورمزية، مثلما في
«كائنات بحرية»، المنشورة في أبريل
١٨٩٣م في «في ليترير»،
٢١٢ ورامبوية … لكن كل هذه
النزعات خاضعة للانضباط الصارم لبنية
منظمة، يسودها الاعتدال في المشاعر
والأسلوب، وها هي مقطوعة صغيرة ناجحة
للغاية، تختلط فيها — بنجاح — تأثيرات
من «بودلير»
٢١٣ و«رامبو»
٢١٤ و«مالارميه»:
٢١٥ «رؤيا الليل، المنشورة في
«آر ليترير»، في أبريل ١٨٩٣م:
كان يمر من هنا: قابلته،
محييةً ومبتسمة، مالت رأسه إلى
الجانب قليلًا، هكذا حتى، في
الغسق، كان شعره ذهبيًّا فاتحًا.
وسياج الجسر، العجوز للغاية، يلتمع
في الشمس الغاربة.
طرفة عينين، قبضة يد، قليل
من الكلام، كان يبدو حزينًا،
بعيدًا عن العامة المنهمكة، لا
يمضي إلى أي مكان، مشغولًا في غباء
بلا شيء، والشمس في الأفق كانت
تغرب بعنف.
وا أسفاه! وسط نفس المارة
واللامبالين، تزدهر الشمس العجوز
دائمًا، لكن هذه البسمة … هل كانت
حلمًا؟
كان يمر من هنا، أمام السياج
الذي يلتمع.
لدينا هنا — في إيجازها البارع —
قصيدة «أحزان أوليمبوس» مصغرة، في حالة
ميدالية «من لحم of
meat»، كما كان
«هويسمان» سيقول، لكن «هويسمان» كان
سيعثر — حسبما أعتقد — على الرسم
التخطيطي إلى حدٍّ ما في صفائه
التجريدي، فالبحث عن الكلاسيكية لا
يتحقق بدون التضحيات: التضحية بالتعقيد
من أجل الصفاء، والتضحية أيضًا
بالانفعال الذي لا يمكن أن يدوم إلا
نقيًّا، وتحت السيطرة، وثمة المخاطرة
بالانتهاء لا إلى تبسيطية معينة فحسب،
بل إلى نوع من تجميد الانفعال
الأولي.
وما ينبغي قوله — بشكل خاص — هو أن هذا
الشعر السكوني، المتوازن بتناغم، ليس
أفضل ما يلائم «الأجيال الأليمة أسيرة الرؤى»
٢١٦ في نهاية القرن التاسع
عشر، فقصيدة «النثر» الفنية — التي
يخضع فيها الانفعال للسيطرة، محكومًا
بأن يصبح عنصرًا جماليًّا، ويذعن
تركيبه للقوانين الدائرية الكبرى
للعالم المدرَك «في شكله الأبدي» — هي
نوع من الانحراف الزمني بنفس طريقة
الأشكال المتسلسلة للنظم المنتظم، ففي
حقبة تزعزعت فيها كل الأبنية
الاجتماعية والأدبية أيضًا، وكان المرء
فيها قد رفض الاندماج في العالم
الموجود سلفًا، ليطالب باستقلاله الخاص
بإرادته الفوضوية، لم يكن من الممكن
للشعر أن يظل خارج هذا الاضطراب وهذا
الجهد التحرري، وقد تحققت خطوة حاسمة،
مع الشعر الحر، في طريق التمرد الفوضوي
الذي يمثل استعادة للفردية في نفس
الوقت: لقد بدأ تمرد شعري لا يمكن لأي
شيء أن يغير من اتجاهه، ولم يعد الجيل
الثاني من الرمزيين يريد الاستماع إلى
أي حديث عن مدرسة، أو قيود شكلية من أي
نوع، ولم يعد ممكنًا لقصيدة النثر —
حتى في شكلها الفني والتركيبي — أن
ترضي أتباع «رامبو» و«لوتريامون»،
وسيقودهم السعي من أجل صيغة فردية إلى
النثر في بادئ الأمر «الحل السهل
oratio
soluto»، الأكثر
حرية في شكله والأكثر تنوعًا في
إمكانياته في آن، ومنذ عام ١٨٩١م حتى
عام ١٨٩٧م، ستكون تعددية الأشكال هي
قانون الأدب الشعري.
(ب) تعددية الأشكال
(١٨٩١–١٨٩٧م)
لا أنوي — هنا — بحث كل مظاهر هذه
التعددية الأدبية بالتفصيل، أو توضيح
كيف بعثرت الميول الفردانية، وبالتالي
الانفصالية والمتباعدة، التي امتدت من
عام ١٨٩١م حتى عام ١٨٩٧م، محاولات
الأدباء الشبان في كل الاتجاهات التي
يقدمها النثر،
٢١٧ فما ينبغي تسجيله هو أن
النثر — في كل أشكاله — يطمح إلى أن
يصبح قابلًا للنشر: ففي عام ١٨٨٦م، ذكر
«ت. دي ويزيوا» كلًّا من «ميشليه»
و«رينان» و«فرانس»،
٢١٨ باعتبارهم من «موسيقيي
الكلمات»، وسرعان ما سيقوم «مالارميه»
بتعريف «القصيدة النقدية»،
٢١٩ ويتصادف هذا التوسيع
لمفهوم الشعر مع انهيار صيغة قصيدة
النثر «الفنية» ذات الشكل الثابت،
وأيضًا مع المظاهر الجديدة لقصيدة
النثر، الأكثر حريةً وتنوعًا، التي
تقربها من النثر الحقيقي الرغبة في
اتخاذ «إيقاعات الفكر»
٢٢٠ بدلًا من تنسيق الجمل لغرض
جمالي شكلي.
وهكذا نرى تزايد ظاهرة التأثير
المتبادل بين الشعر والنثر التي قد
تكون، مثلما تم الاعتقاد، العلامة
الفارقة للأدب الحديث:
٢٢١ فقد سبق للشعر الحر — في
اقترابه من إيقاعات النثر — أن قدم
تجليًا واضحًا لها، والآن، سنرى (في
الاتجاه المعاكس) الأنواع المقصورة حتى
ذلك الحين على النثر وهي ترتقي حثيثًا
إلى المستوى الشعري، فلم يعد الأمر
يتعلق — إذا جاز القول — بكتابة قصائد
نثر، بل — بالأحرى — بكتابة النثر في
قصائد، فالثورة الأدبية، التي بدأت في
وضع كل الكلمات على قدم المساواة
الشعرية (إنه تصريح «هوجو» الشهير: «لم
تعد ثمة كلمات عامية …»)
٢٢٢ قد استمرت بإقرار المساواة
الشعرية بين كل أشكال التعبير (وهو
إعلان «مالارميه» الذي لا يقل إثارة:
«الشعر في اللغة حيث يكون ثمة إيقاع،
والحقيقة أنه لا وجود للنثر: هناك حروف
الأبجدية، ثم أبيات مكثفة إلى هذا الحد
أو ذاك، مسهبة إلى هذا الحد أو ذاك …»)،
٢٢٣ وتنتهي حاليًّا بالمساواة
الشعرية بين الأنواع الأدبية (من هنا
تكمن تصريحات من قبيل تصريح «ر. دي
جورمون»: الرواية قصيدة، وكل روايةٍ
ليست بقصيدةٍ فلا وجود لها»).
٢٢٤
سيُقال إنها فوضوية رهيبة، والحقيقة
أن مفهوم قصيدة النثر يخفت ويتلاشى في
هذا الخلط للأنواع، حيث الروايات،
وحكايات راشيلد،
٢٢٥ و«القصص» (الطبيعية أو
غيرها) ﻟ «ج. رينار»،
٢٢٦ تُسمى جميعًا قصائد، وإذا
ما كانت «قصيدة النثر» — في فترة
١٨٩١–١٨٩٧م — تميل إلى التخلي عن
الصيغة «الفنية» والدائرية، فلم يعد
وجود — ألا نادرًا — لصيغة
«القصيدة–الإشراقة»، التي قدم «رامبو»
تجليات باهرة لها، ليس ذلك لأن الرسالة
الرامبوية قد ضاعت، فهي — على النقيض،
كما أشرت سابقًا — ستتغلغل في أعماق
الجيل الثاني من الرمزيين، لكن كان
ينبغي الانتظار فترة أخرى قبل أن تُظهر
الأعمال تأثيرها (إلا بطريقة متفرقة)
بوجه آخر غير الرغبة في القطيعة مع
الأشكال الشعرية المسلَّم بها حتى ذلك
الحين، وسنرى الكُتَّاب، حتى عام
١٨٩٥م، وهم يلتفتون بشكل خاص نحو
النوعين اللذين يملكان أكثر صفات
القرابة مع قصيدة النثر: النوع السردي
والنوع الوصفي (الموسَّع غالبًا في
اتجاه الغنائية أو الفلسفة)،
ومعالجتهما كأنواع شعرية: مما ينطوي —
في آن — على فكرة الشعر وفكرة الشكل
الفني.
فلماذا لا نتجاهل — عن عمد — محاولات
توصلت، في الحقيقة، إلى أنواع جديدة في
النثر الشعري أكثر مما في قصيدة النثر؟
أولًا؛ لأننا — في هذا التوسيع لمفهوم
قصيدة النثر — يمكنننا أن نكشف عن
البذور الخصبة للتجديد، وأن نلاحظ
علاقات جديدة أتت من أنواع أخرى،
استوعبتها قصيدة النثر فيما بعد،
وأيضًا لأن في هذه الحصة من المقطوعات
— الموجزة و«الشعرية» إلى هذا الحد أو
ذاك — تتبدى، هنا وهناك، قصائد أصيلة
لم تعد الآن مجرد محاولات لتجاوز
النثر، لكنها إنجازات (واسم «كلوديل»
وحده يكفي ليضمن لنا ذلك)، ولا ينبغي
أن ننسى أن نوع «قصيدة النثر» ليس
نوعًا منغلقًا مانعًا، بل هو — على
النقيض — نوع متعدد الأشكال في جوهره،
يتبدى، في اختياره ﻟ «النغمات»
و«الموضوعات»، قريبًا — في أغلب
الأحيان — من أنواع أخرى مثل الرواية
أو التأمل الغنائي،
٢٢٧ نوعان انحدر تاريخيًّا
منهما، من ناحية أخرى: فلم يكتب
«ماكفرسون» و«سينانكور» و«نودييه»
قصائد نثر: لكنهم مع ذلك جعلوا فكرة
شعر من النثر ممكنة.
(١) النوع السردي
الرواية الشعرية
أخذ النوع السردي ينحو — بلا شك —
بعد عام ١٨٩١م (وسيستمر هذا التطور، مع
بعض فترات توقف، حتى الآن)
٢٢٨ إلى أن يصبح نوعًا
شعريًّا، وقد سبق أن تحدثت
٢٢٩ عن وجود أصناف كثيرة من
الروايات «الشعرية»، سواء من ناحية
الموضوع والنغمة (الرواية السوداء،
ورواية الجان أو الرواية الخرافية،
والرواية الرمزية، والرواية الغنائية)،
أو من ناحية بنية الموضوع والموسيقى
(روايات توماس مان)، ومع ذلك، فلا
تستطيع الرواية أن تنحو حقًّا نحو
القصيدة إلا باكتساب صفتي الإنجاز
والتكثيف اللتين يمكن أن تبدوا —
للوهلة الأولى — غريبتين، بل متعارضتين
مع طبيعتيهما، ما دامت الرواية تنتظم
في الزمان، في الصيرورة، وهناك وسيلتان
تبدوان ممكنتين نظريًّا، تتمثل الأولى
في تركيز السرد وحصره حول نواة شعرية،
لزيادة الوحدة وتكثيف التأثير — ومن
هنا — تتحقق — في النهاية — الرواية
مثلما حلم بها «هويسمان»، «مركزة في
صفحة أو صفحتين»،
٢٣٠ وتتمثل الوسيلة الأخرى في
تفجير السرد في فصول، أو مقاطع، يشكل
كل منها كلًّا مستقلًّا يستمد قيمته من
نفسه: بذلك، ستتكون الرواية من سلسلة
من قصائد النثر القصيرة، مثلما كانت
حالة «أناشيد مالدورور» من قبل.
وعمليًّا، نلاحظ أن رواية «مركزة» في
صفحة أو صفحتين لم تعد رواية على
الإطلاق: فثمة تناقض في المصطلحات،
فحتى «سنتور» موريس دي جيران، أو بعض
«حكايات» فييه دي ليل–آدام، التي يمكن
أن تمنحنا فكرة عن «لذة الطعم هذه
المتطورة والمصغرة في قطرة»
٢٣١ هي أطول بوضوح من ذلك،
وإذا ما ارتضينا كحد فاصل «السنتور» —
الذي يعتبر أيضًا قصيدة نثر بتجانسه
الأقصى، ووحدته «الدائرية» وثرائه
الرمزي، وأيضًا لوجود «نغمة» شعرية ما،
لكنه المقارب للرواية، بفعل «التسلسل»
في الزمن لوجود ما — فيمكننا أن نطرح
مبدئيًّا أنه لا وجود لأي عمل نثري،
أيًّا ما كانت شعريته،
٢٣٢ يتجاوز أبعاد «السنتور»،
يمكن أن يُسمى قصيدة نثر، وبالعكس، لا
يمكن لأي عمل يظل دون هذه الأبعاد، حتى
لو كان الزمن المقدَّم طويلًا للغاية
(مثلما في «حيوات» لرامبو، على سبيل
المثال) أن يكون رواية في ذاته،
وبالعكس، سنشهد فيما بعد بقليل، أنه
يمكن العبور من القصة أو الحكاية إلى
القصيدة بانتقالات غير محسوسة.
وبالمقابل، تبددت الصيغة الثانية
خصبة للغاية، والأمثلة عديدة بعد عام
١٨٩٠م على هذه الروايات المكونة من
مقاطع يرسم تجمعها سردًا موحيًا لا
حكائيًّا: ومثلما يربط ذهننا سلسلة من
النقاط المضيئة بمنحنًى خيالي تمامًا،
فإننا نربط اللوحات المختلفة المتتالية
بخيط الزمن اللامرئي–المختفي في
«الفراغات» التي تفصل بينها، هكذا
يتصرف «ب. لووي» ببراعة في «أغاني
بيليتيس» التي أشرت إلى طابعها الروائي،
٢٣٣ وعندما ينشر «جاري» ضمن
«دقائق الرمل التذكاري» — عام ١٨٩٤م —
مسرحيته «هالدرنايلو»
٢٣٤ المصحوبة ﺑ «مقدمات»
و«أشياء غير مذكورة
Parallpomènes»،
فإنه يستخدم، هو أيضًا البناء في
مقاطع، وإن يكن بحرية أكبر، وتستلهم
تقنيته — بوضوح — «أناشيد مالدورور»،
والجزء الثاني من «أشياء غير مذكورة
Paralipomènes»
مكون — بشكل خاص — من عدة مقاطع نستطيع
أن نرى فيها، إذا شئنا،«رواية هالديرن»،
٢٣٥ «تبدو» — مثلما لاحظ
«جراب» — ﮐ «جهد مبذول من أجل المنافسة
مع لوتريامون»:
٢٣٦ فعنف النغمة، والميل إلى
الصور المفاجئة،
٢٣٧ وتجمهر الحيوانات المنفرة
أو الكئيبة (الضفدع، والبومة، والبومة
الصمعاء، ومصاص الدماء) يخلقون مناخًا
شعريًّا مشابهًا تمامًا لمناخ «أناشيد
مالدورور»، لكنه أيضًا استخدام تقنية
شعرية مماثلة (انقطاع، وتفكيك الوقائع،
وعرض «انفعالي»)، بما يسمح بمقاربة هذا
النص من القصيدة التي تنهي رابع
«أناشيد مالدورور» بوجه خاص.
٢٣٨
ونرى — من خلال مثال «هالديرنايلو» —
أن «الرواية» التي أتحدث عنها هنا
تنطوي على رد فعل عنيف إزاء الرواية
الواقعية ورواية التحليل النفسي:
٢٣٩ فمن أجل كتابة «روايات
قصائد»، يضع الكاتب نفسه روحيًّا في
عالم الحلم (أو الكابوس)، ويستثير في
نفسه أحيانًا هذيانًا إراديًّا، هكذا
يصف «ريتيه» — في عامي ١٨٩٠-١٨٩١م، في
«ثوليه دي بروم»، «الوجود غير السوي
والمتفاقم» لروح تلجأ إلى عالم خيالي،
وتتغذى برؤًى غريبة، وتزيد جنونها
بالمثيرات، وفي نهاية الكتاب، يودع
الشاعر «ومضات كابوس ميت»،
٢٤٠ وأيًّا ما كانت غريبة هذه
الهذيانات، التي تمثل «تنويعات على
موضوعات صنعها الحشيش»، مثلما تشير
مجلة «فالوني» — التي تنشر في يوليو
١٨٩٠م مقطوعات متعددة منها — فإن
الكتاب، الذي تؤطره مقدمة وخاتمة من
الشعر، يشكل متتاليةً، وتلاحقًا
للموضوعات متأثرًا — فضلًا عن ذلك —
بنسق المسرحيات الفاجنرية،
٢٤١ وكان تأثير «ثوليه دي
بروم» كبيرًا في هذه الحقبة، ولا شك أن
«ريتيه»، وقد تأثر هو نفسه ﺑ «إشراقات»
رامبو، قد فتح حواجز الأدب الساخط على
مصاريعها، نحو الرؤى ونصوص الأحلام،
وهكذا، يجتهد «فيكتور ريموشان» — الذي
يعلن في بداية ديوانه «الأمنيات»:
«ماتت روحي على الأرض … واخترت كي
تزدهر فيها خرافاتي، الكآبة الملائكية النجمية»
٢٤٢ — لخلق «أزهار إعجازية»،
و«ثلوج من يجمع لا توصف» و«ومواكب رؤى عظيمة»،
٢٤٣ والحق يقال أنه لا يحقق
ذلك سوى بشكل رديء؛ لأنه يستخدم لغة
مجردة للغاية، لكن ذلك لا يمنع
«ستيورات ميريل» من أن يمتدح هذه
القصائد، ومن ملاحظة أنها تشكل «رواية
روحية»، ونرى إلى أي حدٍّ يتسع مفهوم
الرواية و«يصبح شعريًّا» في اللحظة
التي يكف الشاعر إراديًّا عن التعامل
مع الواقعي، وينوي استعارة عناصر السرد
من توهمات خياله وحده، كي يدور السرد
بكامله في مجالات الفانتازيا والرمز،
ولنذكر هنا أن «جيد» سينادي، بصدد
مؤلفه «رحلة الإيرياني» المنشور عام
١٨٩٢م، بمعادل ﻟ «المشهد الطبيعي» و«الانفعال»،
٢٤٤ مدمجًا بطريقة رمزية
للغاية المعطيات الملموسة المجبولة من
الواقع والمعطيات الذاتية والحيوية
للمشهد الداخلي، «إن بحارتي، بلا سمات،
يصبحون بالتناوب الإنسانية جمعاء، أو
ينحصرون في ذاتي»، مثلما يضيف،
٢٤٥ لقد تلاشت فكرة إضفاء
الطابع الموضوعي الروائي لهذه
«الرحلات» على «المحيط الشجي» أو
غيرها، الأقرب — فضلًا عن ذلك — من
النثر الشعري لا من قصيدة النثر، وبنفس
القصد، سبق للكاتب «بواكتوفان»،
٢٤٦ الذي مجده الرمزيون
الأوائل، أن أدمج الانطباعات
والانفعالات في روايته (أحلام، مزدوج)،
٢٤٧ حيث ينبغي بدلًا من البحث
عن فعل متتالٍ أن نبحث عن لوحات موجزة:
أحلام، رؤى، مشاهد طبيعية مشوشة وغير
ثابتة مثلما في حلم، يملك بعضها
الكثافة والوميض غير المألوف لقصيدة النثر.
٢٤٨
ولن أذكر رواية «إيبيس» التي نشرها
«ب. لوكليرك» عام ١٨٩٣م، وهي خليط من
النظم وقصائد من النثر، من الغنائية
والنثرية الهزيلة إلى هذا الحد أو ذاك
(ألم يفكر «ب. لوكليرك» في تكريس قصيدة
نثر ﻟ «رءوس العجول»؟ والحق يقال إن
«هويسمان» سبق أن كتب «قصيدة نثر
اللحوم المطبوخة في الفرن» …) إلا كي
أشير إلى عاقبة خلط النغمات والأنواع،
القاتلة أيضًا للشعر ولاتساق الديوان.
وبالمقابل، لا يتخلى «كتاب مونيل» —
الذي ينطوي على «غموض، وضوء معتم،
وأحاديث هامسة»
٢٤٩ — عن البقعة الحالمة
للتجليات والرموز، وقد أرادوا، مع ذلك،
تشبيهه ﺑ «قوت الأرض»، بدعوى أن الجزء
الأول (أحاديث يونيل) يقترح تعليم
كراهية القيم الثابتة والأوضاع المكتسبة،
٢٥٠ ولكن ثمة اختلافًا لا يمكن
اختزاله بين التعليمية الكتبية لهذه
«الأحاديث» والحمية والغنائية الشخصية
ﻟ «قوت الأرض»، وهذا الجزء الأول ليس
الأساس ولا أفضل ما في الكتاب،
٢٥١ فالحكايات التي تشكل الجزء
الأكبر من «كتاب مونيل»، مثلما أوضح
«ي. دافيه» في توضيحه للموضوع، لا
نستطيع إنها حكايات رمزية»،
٢٥٢ و«جيد» نفسه، في مقارنته
بين مؤلفه «الكتاب الوحشي» و«الكتاب
الرقيق» لشووب، تمكن من تقرير: «كنت
متأثرًا بشكل خاص، في «مونيل»، بما كان
ما يزال يبعدها عن الحياة، ووجدتها —
على روعتها — باهتة إلى حدٍّ ما، وما
قدمته من نصوص في اﻟ «قوت» أكثر واقعية
وأكثر مباشرة في التماس مع الحياة (…)
وكان ذلك أكثر ما اختلف فيه كتابي عن
كتاب شووب»،
٢٥٣ وعلى أية حال، يتميز عنصر
«السرد» في الحكايات
الرمزية والشعرية ﻟ «كتاب مونيل»
بالضعف إلى حد السقم التام أحيانًا،
فليس ثمة أي اختلاف بين بعض قصائد
النثر الرمزية ومثل هذه الخرافات
(المصحوبة بالحكمة) التي وجد فيها
«موكلير» شيئًا من التكلف اللذيذ والمرعب»
٢٥٤ (هذه اﻟ «مقدورة»،
٢٥٥ على سبيل المثال، التي
تستخدم الموضوع الرمزي للمزدوج مختلطًا
بموضوع المرآة)، وإذا ما كنت قد صنفت
هذا الكتاب ضمن الروايات؛ فذلك لأن
شخصية «مونيل» (التي وجد نموذجها الهش
والصبياني في الواقع)
٢٥٦ تمنح الديوان وحدةً
وأيضًا ما يمكن تسميته بالمتعة
الروائية، لكننا هنا أقرب إلى الحكاية
مما إلى الرواية: والواقع أننا سنرى
أنه لا يوجد بين الحكاية والقصيدة حد
مرسوم بوضوح، على الأقل في هذه
الحقبة.
الحكاية والمجاز، أنواع
شعرية
في أغسطس من عام ١٨٩٢م، نشرت «ميركور
دي فرانس» نصًّا لم يسبق نشره لبو حول
«الحكاية والقصيدة»، حيث أمكن لقراء
«بودلير» أن يعثروا فيه على الأفكار
الخاصة بالحكاية (أو الأقصوصة)
والرواية، التي تم ابتذالها في
«ملاحظات جديدة حول إ. بو»:
٢٥٧ الحكاية أرقى من الرواية؛
فلأنها أقصر، يمكن قراءتها على نفس
واحد، ولا تنهدم فيها وحدة الانطباع
وكلية التأثير، ولنفس الأسباب، وبنفس
المصطلحات، أعلن «بو» تفوق القصيدة
القصيرة على القصيدة الطويلة،
٢٥٨ وبناءً عليه يُعامل
الحكاية كنوع من قصيدة، مع الاعتراف
للنثر، من ناحية أخرى، ﺑ «تنوع أنماطه
وتغير الأفكار والتعبيرات» التي لن
تستطيع القصيدة المنظومة التمتع بها»،
٢٥٩ والخلاصة أنه يتحدث عن
الحكاية تقريبًا مثلما يمكننا الحديث
عن قصيدة النثر، وإنه لدالٌّ أن نرى
هذا النص منشورًا في المجلة الرمزية
الكبرى في الفترة التي جرى لمفهوم
الحكاية نفس التوسيع الذي تلقاه مفهوم
الرواية: وهو ما تثبته لنا — على سبيل
المثال — شكاوى ناقد «صفائي» وهو يحلل،
عام ١٨٩٤م، عشرة كتب من «حكايات»
مزعومة (من بينها «إيبيس» و«مذابح
الانبثاق» و«حكايات إلى النفس» لدي
رينييه)، مكتشفًا أن القليل منها هو
الذي يستحق هذه التسمية، مما يقوده إلى
أن ينتهي قائلًا: «ألم نعد نكتب حكايات؟».
٢٦٠
ولا شك أن نقاء النوع يضيع، لكن ينتج
عنه أحيانًا ثراء شعري تنحو الحكاية
بفضله نحو قصيدة النثر، وأحيانًا ما
تصبح قصيدة نثر عندما يتحقق شرطا
الإيجاز والكثافة الضروريان — مثلما
رأينا — لقصيدة النثر، وهما شرطان أقل
غرابة بكثير عن طبيعة الحكاية مما عن
طبيعة الرواية. ومن ناحية أخرى، ألا
تنحو كل حكاية، بدءًا بمفهومها، إلى
تشييد عالم خيالي صغير، يهرب من قوانين
العالم الحقيقي، حيث كل شيء فيه إشارة
ورمز؟ علينا ألا نندهش إذن أن نرى —
عندما تتأكد الجماليات الرمزية عن
التماثلات، والتجاوبات الخفية، والرموز
الموحية — كثيرًا من الكتاب يكتبون
«حكايات» تقارب القصيدة (وأحيانًا
«قصائد نثر» ليست سوى حكايات،).
٢٦١ وقد نشرت مجلة «فالوني»،
منذ عام ١٨٨٧م، حكايات رمزية (من بينها
«البجعة» لموكيل، وهي مجاز في شكل وسيط
بين النثر والشعر الحر)، وجاء الازدهار
بعد عام ١٨٩١م: ففي عام ١٨٩٣م فحسب،
نشرت «ميركور دي فرانس» حكايات شعرية ﻟ «راشيلد»
٢٦٢ و«ر. دي جورمون»
٢٦٣ و«مينار»
٢٦٤ و«ﻫ. دي رينييه»
٢٦٥ وهلم جرًّا.
ولدينا هنا مثال مدهش عن ظاهرة
التأثير المتبادل الذي يحقق التواصل
وقتئذٍ بين الأنواع المسماة «شعرية»
والأنواع الأخرى. ومن ناحية أخرى،
فالنصوص التي ذكرتها لتوي تنال بلا
تمييز اسم «حكايات» و«قصائد»، وفي عرضه
لديوان راشيلد «شيطان العبث»، يصف
«قطاف عنب سدوم» و«الفهد» بأنها «قصائد
نثر ثرية»،
٢٦٦ ويبدي إعجابه ﺑ «الفتنة
الكئيبة للدم، والرعب الجبار للمشاهد
الطبيعية … والإصاتة الفاتنة للكلمات
والإيقاع»: سمات تخص النثر الشعري،
لكننا نعرف أن مصطلحي «نثر شعري»
و«قصيدة نثر» قابلان للتبادل بالنسبة
للرمزيين … ومع «ر. دي جورمون» — الذي
كرر مرات عديدة أن الرواية قصيدة، وأن
الحكاية قصيدة أيضًا إذا ما توفرت على
إيقاع، «حيث الإيقاع أساسي»
٢٦٧ — سنتوفر على محاولة
استيعاب أكثر تطورًا: ويقدم لنا
«جورمون» — كمثال على ذلك (وهو كاتب
قصائد نثر،
٢٦٨ فضلًا عن ذلك) — نموذجًا
جيدًا لحكاية–قصيدة في «أخبار الجزر
المنكوبة»: أي إنه يطبق على عنصر السرد
بالتحديد تقنية قصيدة النثر «الفنية»
مع التكرارات، والموضوعات الرئيسية،
والسعي المتطور إلى حدٍّ بعيد إلى
الموسيقية في الأسلوب، ففي البداية،
على سبيل المثال:
كان بلدًا عذبًا، حزينًا
وأخضر، كأنه يتأمل نكبةً قديمة،
سهل فسيح مكروب ومنقاد. وأنا مأخوذ
بممر ضيق بين سياجين من أشواك بلا
زهور، أشواك نائحة مثيرة للشفقة
بدا أنها تبكي قسوة مصيرها، وبعد
أن سرت ساعات في سجن الأشواك
النائحة المثيرة للشفقة، أوقفني
حاجز يرتفع منتصبًا مثل حاجز مياه
عبثي بيني وبين اللانهائي.
٢٦٩
سنلاحظ تكرار الصفة «نائحة»، التي
ستعود فيما بعد، ولا سيما التداعي
«عذبًا، حزينًا وأخضر» الذي سيتستعيده
«ر. دي جورمون» بعد قليل بإلحاح:
«حديقة عذبة، حزينة وخضراء، حيث نمت،
طازجة وكالتفاحة، حزينة، رقيقة وخضراء،
الخضراوات …» مطبقًا بذلك — بطريقة
آلية تمامًا — هجاء النسق نفسه الذي
يستخدمه (لا شيء أفضل من أن تكون
الخضراوات رقيقة وخضراء، لكن حزينة!)
وينبغي القول إن كل هذه «الاستعادات»
الموسيقية لموضوع الخضراوات الذي يصبح
رمزًا للحيوانية (لهذا تصبح عينا
المرأة «بلون الخس الطازج، الرقيق،
والأخضر» …) تمنح المقطوعة كلها نغمة
محاكاة ساخرة إلى حدٍّ بعيد: محاكاة
ساخرة لقصيدة النثر، وللحكايات
الرمزية، وديكوراتها المتلاشية،
و«فتور» الأسلوب فيها. والواقع أننا
نجد أيضًا — في هذه الفترة — كتَّابًا
يتخيلون «شعرية» كالنثر بافتعالات
غريبة في الأسلوب: هكذا يكتب «ر.
تارديفو»، الذي لم يلبث أن وقع باسم
«رينيه بويليسف»، نصوصًا شبه غنائية،
وشبه رمزية، نعثر فيها على لطافات من
هذا القبيل: «رغبتي الكبرى تكمن في
التحليقات، حبي للأرواح الذاهبة في
الممرات، عطشي للأماكن الأخرى
المشتهاة، بدا لي أنهم على وشك إرضائكم …»،
٢٧٠ والحق أن «إرميتاج» قد آوت
— عام ١٨٩١م — محاولات كهذه،
٢٧١ وسرعان ما سنرى «إرميتاج»،
فيما بعد، تنشر «حكايات» تنحو إلى
الشعر بأساليب أقل افتعالًا: أحيانًا
باللجوء إلى مهابة ماضٍ تاريخي
وأسطوري، يتكلل بهالة الشعر بقدر ما
يجعلنا نحلق عبر المكان والزمن: وهي —
بالنسة للنثريات الوصفية — حالة «هنري
مازيل»، في «الساحرة» و«برج المثابرة» و«الجازيات»،
٢٧٢ أو الاستدعاءات القديمة
ومجازات «برنار لازار»،
٢٧٣ الذي نلومه على كتابته
المفرطة في البارناسية،
٢٧٤ وأحيانًا بتدخل الخرافي
(بتأثير «بو» ولا شك) الذي يدرج في
السرد عنصرًا شعريًّا خاصًّا بالاغتراب
(كما في حكاية ﻟ «فان ليربرغه»، حيث
بساطة في الأسلوب لا تؤدي إلا لتفاقم
انطباع الغرابة،
٢٧٥ أو في «دكان التاريخ
الطبيعي» ﻟ «ش. مركي»، التي تنزلق من
«الأشياء المرئية» إلى الهلوسة)،
٢٧٦ وتارة — أخيرًا — من خلال
القيمة الشعرية لرمز يكفي للتسامي
بالحكاية وتحويلها إلى قصيدة: لقد جمعت
خرافات «وايلد» وتُرجمت عام ١٩٠٦م تحت
عنوان «قصائد نثر»،
٢٧٧ واعتُبرت حكايات «ﻫ. دي
رينييه»، التي نشرها وقتئذٍ عدة مجلات،
شكلًا انتقاليًّا بين قصائده والروايات
التي سيكتبها فيما بعد،
٢٧٨ والواقع أن حكايات
«رينييه» هذه، التي جُمعت في «حكايات
إلى النفس» (١٨٩٣م)، وفي «السباتي
الأسود» (١٨٩٥م)،
٢٧٩ تقارب القصيدة، لا «بمعجزة
إيقاع بارع، رصين ومتناغم»
٢٨٠ فحسب، وإنما — بالذات —
بالاستخدام الشعائري المتحقق «للسيوف،
والمرايا، والحلي، والفساتين، وكئوس
الكريستال، والقناديل»،
٢٨١ وباللعب البارع بالتوافقات
التي تربط — في ديكور حلم يقظة — «هذه
الظلال الخفية والفادحة، والبيوت التي
تسكنها، والأشياء التي تؤرجحها بأيديها المظلمة»،
٢٨٢ وأحيانًا عندما ينحصر
الشكل وتصبح الفكرة أكثر عمومية، فإننا
ننتقل من حكاية «هير تولي» أو «دير
ماجور» أو «دير موكرات» إلى قصيدة
النثر الجميلة هذه، التي تحمل اسم
«الكأس المفاجئة».
٢٨٣
أيها العابر، تقبل مني هذه
الكأس. فالكريستال فيها من النقاء
حتى أنها تبدو كأنها مصنوعة من
الماء نفسه الذي تحتويه. اشرب
منهاء سواء ببطء أو بسرعة، حسب
عطشك. النهار كان حارًّا، إذ يظل
الغروب فاترًا إلى أن نعتقد أن
النهار لم يمت.
… الآن حل الغروب (…) أيتها
الرمال! الرمال، رمال «ستيكس»،
الرمال السوداء من سواحل رملية
أبدية، ستغطين بعد قليل نومي عندما
أهبط إلى ضفافكم التي أسمع فيها
الآن تحت قدمي صوت الأعمال
المشئوم.
إنها قصيدة النوم، والرغبة المكتشفة
بعد فوات الأوان، والغروب الذي يهبط
على يوم وعلى حياة إنسانية، موضوع أكثر
عادية من أن يؤثر في إحساسنا بشكل
مباشر، ويثير فينا متعةً لا روائية
وإنما ذاتية وشعرية،
٢٨٤ وكما نرى، ننتقل — في نفس
الوقت — من الفعل إلى التأمل، من
المتتالي إلى الأبدي، فبمظهرها السكوني
والتركيبي تقترب الحكاية من القصيدة،
أكثر بكثير من اقترابها من الأقصوصة؛
٢٨٥ ولهذا، فإن أكثر «اللحظات»
شعرية في الروايات هي التي تتوقف فيها
الحركة، كي تفسح المكان لحلم اليقظة،
والدفقة الغنائية، والتأمل، أو —
ببساطة — الوصف: ﻓ «الحكايات الشعرية
الخاصلة» لبو، التي يشير إليها «بودلير»،
٢٨٦ هي التي يحل فيها الانتظار
محل الفعل، والتي يريد فيها الكاتب أن
يخلق مناخًا لا حكْي حكاية: «ظل»، أو
«جزيرة الساحرة».
٢٨٧
فما أكثر الأوصاف — من ناحية أخرى —
ما أكثر «اللوحات»، و«الأشياء المرئية»
التي قد تندرج ضمن جرد لقصيدة النثر!
وسنجد فيها الأسوأ والأفضل، أيًّا ما
كان الموضوع المختار: فعندما ننظر إلى
الأشياء بعين الشاعر، «يتكشف عمق
الحياة كاملًا في المشهد، ذلك الذي تحت
أعيننا، مهما كان عاديًّا»،
٢٨٨ وقد رأينا إلى أي حدٍّ
كانت «اللوحة الباريسية» نوعًا
مزدهرًا، في أعقاب «بودلير»، وسنرى
الآن النوع الوصفي يتسع ويتنوع، في
حقبة تتعايش فيها أكثر الاتجاهات
تنوعًا.
(٢) النوع الوصفي
ورثة الرمزيين
في عام ١٩٠٠م، كان على «بروست» أن
يكتب عن «روسكين»: «الواقع الذي يتوجب
على الفنان أن يسجله هو — في آنٍ —
مادي وثقافي، والمادة حقيقية؛ لأنها
تعبير عن الروح»،
٢٨٩ ويلخص مثل هذا التصريح
(الذي يتخذ نفس اتجاه جملة «بودلير»
السابق ذكرها، وإن كان يغامر إلى ما هو
أبعد منها بكثير) فكرة رئيسية في
الرمزية، ويسمح لنا بفهم الموقف الذي
سيتناه الكتاب، بعد عام ١٨٩٠م، إزاء
الواقع الخارجي: سيرى فيه البعض
المعادل لواقع داخلي، فينتقلون من
لوحات مرئية بشكل مادي إلى «لوحات الروح»
٢٩٠ وإلى مشاهد طبيعية
استبطالية، والآخرون، الذين سيوسعون
زوايا الرؤيا، سيعثرون في هذا الواقع
الخارجي على اتساق ومغزًى روحي. ويمتلك
الاتجاهان فرصهما الشعرية، بشرط مقاومة
الوقوع في التحليل النفسي من ناحية،
وفي الفلسفة من ناحية أخرى.
ويواصل كثير من الكتاب، حوالي عام
١٨٩٤م، وقد ظلوا مشبعين بالرمزية،
إقامة المعادلات بين المشاهد الطبيعية
وحالات الروح، وفي تذويب وإرهاف حس
المادة، وهكذا تحتوي ديكورات «ش.
ديلشيفالوري» على ثلاثين «مشهدًا
طبيعيًّا»، كل منها، مثلما يقول
«موكيل»، «يستدعي موقفًا أخلاقيًّا متوافقًا»،
٢٩١ ونفس الاتجاه تعكسه
المشاهد الطبيعية ﻟ «ف. جريج»،
٢٩٢ و«تارديفو–بويليسف»
٢٩٣ و«بواكتوفان» في دواوينهم الأخيرة،
٢٩٤ ففي أغلب الأحيان، تم
التخلي عن الديكورات الأسطورية للرمزية
(قصور الأحلام، والغابات الغامضة،
والبحار البعيدة …) دون التخلي عن فكرة
«التجاوب» بين المادة والروح، ويدور
البحث عن «مغزى» المشاهد الطبيعية،
ومعادلها في كلمات روحية، وربما هي
فرصة لنذكر بنص غير مشهور لبول فاليري،
٢٩٥ رغم أنه سابق للسياق إلى
حدٍّ ما، وعنوانه «دراما خالصة»، نُشر
في «انترتيان بوليتيك إيه ليترير» في
مارس ١٨٩٢م (فيما يبدو قبل الحقبة التي
كان «فاليري» فيها «سيعدم الأدب
داخليًّا» بفترة وجيزة)،
٢٩٦ في قصيدة النثر هذه التي
لا تزال رمزية،
٢٩٧ لكنها ربما كانت مالارمية
أساسًا، يصف «فاليري» مشهدًا طبيعيًّا
صيفيًّا يشبه — إلى حدٍّ بعيد — مشهد
«بعد ظهيرة إله الريف»، فيصف مستنقعًا
(«زبَد،– سُحب مغامرة تلمسها ريشة،
بقطراتٍ، في الماء الذي يتملاهم)، بوص،
و«بين سيقان العشب الطويلة مع أفضال
أمطار متألقة، أحيانًا الوجه الإنساني
العذب الهائم»، ويضيف: «كل هذه البقايا
الجميلة لحقيقة اختفت مبكرًا بفعل
الصاعقة، يميزها «الشاعر» مبكرًا، ليضع
فيها البريق المطهر لعين نقية»،
٢٩٨ ومع ذلك، نرى — في هذه
القصيدة — ريبة فاليرية للغاية ترتسم
من الآن إزاء الحساسية، ورغبة في
النقاء تقوده إلى أن ينتزع من هذه
الصور «الفاسدة»، حسبما يقول، «بفعل
يقين عناصرها»، العنصر الوحيد النقي،
الحركة، وأرابيسك الخطوط، ليصل بذلك
إلى مفهوم «الدراما الخالصة» ﻟ «الخط»،
الذي «لا يوجد إلا في حركة جميلة»،
٢٩٩ لدينا
هنا
لحظة هامة في تطور «فاليري»، تسبق
مباشرة مرحلة الأزمة التي ستفضي إلى
«السيد
تيست».
كان «فاليري» في الحادية والعشرين
عندما كتب «درامات خالصة»، وكان
«بروست» — في نفس السن، وتقريبًا في
نفس الحقبة
٣٠٠ — يرسل إلى «روفي بلانش»
و«بانكيه» تجارب سنجدها، عام ١٨٩٦م،
منشورة «ضمن أحلام يقظة لون الزمن»
التي تشكل جزءًا من ديوان «الملذات
والأيام»، الذي جرى العرف على اعتباره
من عمل الصبا، وبلا أهمية، ومع ذلك،
فبروست — شأنه شأن «فاليري» — هو الآن
نفسه حقًّا في كتاباته الأولى،
٣٠١ وتشير عناوين من قبيل
«غروب شمس داخلية» أو «مثلما على ضوء
القمر»، إلى دَينه من «التوافقات»
الرمزية بين المادة والروح في كتابة
استبطانات شعرية («ها هي، مثلما على
ضوء القمر، كل سعاداتي المنتهية، وكل
أحزاني المتعافية ترقبني وتصمت …»)
٣٠٢ ومن بين هذه اللوحات
الصغيرة، هناك ما يصل إلى غنائية
وتكثيف القصيدة (مثل «ريح بحر في الريف»)،
٣٠٣ لكن أغلب هذه النصوص
(«ضفاف النسيان»، على سبيل المثال)
٣٠٤ تسترعي انتباهنا هنا بفعل
رهافة التحليل النفسي، المدعوم
والمغتني بتألق الانطباعات
والاستعارات: فهي تعلن عن روائي، لا عن
شاعر خالص.
كلوديل و«معرفة
الشرق»
وإذا ما وضعنا الآن — في مواجهة
الكتَّاب الذين ينطلقون من المشهد
الخارجي لوصف «المشهد الداخلي» الذي
يخصهم، ويستمدون منه الاستعارات
والمجازات القابلة لإثراء وإضاءة
استبطانهم — الكتَّاب الذين ينطلقون من
نفس المشهد كي يعثروا على تفسير
للعالم، فسيقفز إلى ذهننا — على الفور
— اسم: «كلوديل»، وأعلم تمامًا إلى أي
حدٍّ هو مصطنع أن نصنف بين «ورثة
الرمزيين شاعرًا يفجر كل الأطر، ومن لم
تتمكن الروائح الفاسدة المزعجة للرمزية
من أن تضعف — أبدًا، لديه — حبه البالغ
للواقع، لكن الأمر يتعلق هنا فقط
بمقابلة «كلوديل» بهؤلاء الماديين
(الفلاسفة الميكانيكيين، والكتاب الطبيعيين)
٣٠٥ الذين كرههم دائمًا،
والإشارة إلى أن شعره، مثل شعر
الرمزيين، يستهدف التغلغل في قلب
الأشياء، كي ينتزع منها سرها، والحقيقة
العميقة التي تنطوي عليها، وتلك هي
غايته منذ نثريات «معرفة
الشرق».
ويرجع تاريخ الطبعة الأولى من «معرفة
الشرق» إلى عام ١٩٠٠م،
٣٠٦ لكن الكثير من هذه النصوص
سبق أن نُشر في «مريكور دي فرانس» أو
«روفي بلانش» حوالي عام ١٨٩٧م، تحت
عناوين من قبيل «مشاهد طبيعية من
الصين»، و«قصائد صغيرة»، و«محاولات»،
٣٠٧ وفي ديسمبر ١٨٩٥م كتب
«كلوديل» إلى «مالارميه»:
رغم نفوري من الوصف، فقد
كتبت أو أنني الآن بصد كتابة سلسلة
من الملاحظات عناوينها «باجود»
و«حدائق» و«مدينة» و«الليل».
٣٠٨
ملاحظات سَفَر، انطباعات من الصين
التي نزل فيها عام ١٨٩٥م. وقد نصدقه،
إذا ما قرأنا لدى النقاد تقديرات من
هذا النوع: «مجموعة من الصفحات مكتوبة
بشكل جيد ومعتنًى به تصف أشياء تمثل —
في أغلب الأحوال — كائنات ومشاهد
طبيعية من الشرق (…) أشياء طيبة حول
جوز الهند، والتين البنغالي، والصنبور»،
٣٠٩ هيا! ها هو قنصل مجهز
بريشة جميلة صغيرة!
لكن المقصود في واقع الأمر شيء مغاير
تمامًا، وقد أوضح ذلك «كلوديل» نفسه
مرارًا: في بادئ الأمر، عندما صرح ﻟ «ف. لوفيفر»: «إنه ليس مجموعة من
الانطباعات، بل من التفسيرات، من
التعريفات، ومن التوضيحات»،
٣١٠ ثم عندما أقر أن «معرفة
الشرق» كان أكثر كتبه «مالارمية»،
٣١١ وتصبح هذه الملاحظة مضيئة
عندما نقرنها بجملة «كلوديل» الشهيرة
عن «مالارميه»: «عاش الأدب طوال قرن
منذ بلزاك، وصولًا إلى مالارميه، على
الرصد والوصف: فلوبير، زولا، لوتي،
وهويسمان، ومالارميه هو أول من وقف
أمام الخارجي، لا كما أمام مشهد، ولا
كموضوع للواجبات الفرنسية، وإنما مثلما
أمام نص، مع هذا السؤال: «ما معنى هذا؟»
٣١٢ إنها — بالتحديد — هذه
الرغبة في الفهم
٣١٣ والتفسير (كان «مالارميه»
يقول إن «التفسير الأورفي للأرض» هو
«الواجب الوحيد للشاعر»)،
٣١٤ التي تقارب — فضلًا عن ذلك
— بين شاعرين متعارضين للغاية، ولا شك
أن «كلوديل» سرعان ما سيشعر بأنه بعيد
للغاية عن شاعر يلومه على أنه لا يقدمه
لنا كتفسير إلا ما هو «عبث مزدوج» لهذا
العالم المادي،
٣١٥ ولا يلاحظ أي شيء أبعد من
«الآلة الناسخة للمظاهر»
٣١٦ — في حين أن العالم
— بالنسبة لكلوديل — يحدثنا «عن غيابه
الخاص، لكن أيضًا عن الوجود الأبدي
لآخر، هو خالقه»،
٣١٧ ورغم هذا، فلا شك أنه في
الحقبة التي كتب فيها «معرفة الشرق»،
كان «كلوديل» يدين بشيء ما لمالارميه:
ليس فقط موقفه تجاه هذا «النص» الذي
يمثل العالم الخارجي، بل أيضًا موقفه
إزاء هذا العالم الذي ينبغي خلقه، ذلك
المؤلَّف الواجب إنجازه.
إن تأثير تركيب الجملة لمالارميه،
على هذا المؤلف النثري الأول لكاتب
تأملها وأعجب بها،
٣١٨ ظاهر إلى حد أن يدهش «ج.
ريفيير»، الذي كتب إلى «آلان فورنيه»،
بعد أن قرأ «معرفة الشرق»: «إن تأثير
مالارميه ظاهر، ولكن من زاوية تركيب
الجملة فحسب (…) فتركيب جملة مالارميه
هو جهد كبير نحو التعبير الطبيعي
والوضوح؛ إذ يسعى إلى تطبيق نظام
الكلمات على نظام الأفكار، وينحو إلى
إعادة إنتاج الاستمرارية الحقيقية
للفكرة، و«كلوديل» — الذي كان يسعى إلى
إيجاد هذه الوحدة العميقة فيما وراء كل
هذه التقسيمات — قد استولى بشكل غريزي
على هذا السلاح»،
٣١٩ والواقع أنه يمكننا
الاعتقاد أن «كلوديل» قد حفظ درس
«مالارميه»، عندما اجتهد كي «يطبق نظام
الكلمات على نظام الأفكار» بدلًا من أن
يتبع نظامًا نحويًّا مفروضًا من
الخارج: وعندما يكتب، على سبيل المثال:
«فليكن هذا الشقاء مطرودًا لأنه سمع
بها أو تلفظها، كلمة»،
٣٢٠ أو «أيتها الحواف المحيطة
بي للكأس!»،
٣٢١ ندرك أنه يرفض فصل الألفاظ
التي تشكل كلًّا في ذهنه، مثلما فعل
«مالارميه» عندما كتب:
اضطراب احتفالي عبر
الهواء
أو: «العقدة الأكثر شرعية للأحزمة،
بحلقة من الماس»،
٣٢٣ لكن ينبغي تخطي فكرة إعادة
البناء هذه — النفسية الخالصة — للجملة
التي تنزع إلى إيجاد الوحدة العميقة
للفكر، فهي تنزع — قبل كل شيء — إلى
إيجاد الوحدة العميقة للأشياء، لصنع
تركيب معقد من الجملة لا تسلسلًا
خطيًّا مثل العالم الذي تريد إعادة
إنتاجه، الذي يثابر من أجله «كلوديل»
على خطى «مالارميه»، من هنا، تكمن
الجمل «المتشابكة» إراديًّا، والغنية
بالجمل الاعتراضية،
٣٢٤ وأحيانًا — مثلما لدى «مالارميه»
٣٢٥ — المبنية في العمق، على
عدة «مستويات»، للوصول إلى تركيب قوي،
فمقابل النمط المالارمي:
٣٢٦
احتجت اللجوء إلى البراعة
كي لا أسبب شرودًا
بوجودي.
سنحصل على نظيرها لدى «كلوديل»:
٣٢٧
الفرنسي أو الإنجليزي البشع،
يبني كوخه بهمجية بفظاظة، في أي
مكان، بلا رحمة بالأرض التي
يشوهها، مهمومًا فحسب بأن يمد بصره
إلى مسافة أبعد إن لم توجد يداه
الشرهتان.
من هنا — أيضًا — تكمن وفرة وأهمية
الاستعارات، التي تقيم روابط لا بين
الأشياء المدركة (التي يتم تناولها
بشكل زوجي فحسب)، وإنما بشكل أوسع بين
الملموس والمجرد، بين الطبيعة
والإنسان، فثمة مساحات واسعة من
الاستعارات تختفي وتنطوي ضمن وحدة
مجموعات وأشياء أو أفكار متنوعة، ويجدر
بنا أن ندرس عن كثب كيف يبني
«مالارميه» و«كلوديل» تطورات معقدة
انطلاقًا من «خلية استعارية» أولية
«ذهب–شمس»: «مالارميه» في «ذهب»، حيث
نرى الذهب–المعدن والذهب الشمسي
يندمجان في «سيولة كنز»،
٣٢٨ ثم يعاودان الظهور وقد
تحولا إلى موهبة «لدى الكاتب، في
مراكمة الوضوح المشع بكلمات ينطق بها»،
٣٢٩ و«كلوديل» في «الساعة
الصفراء»، وهي واحدة من أقصر القصائد
وأكثرها «كمالًا» في «معرفة الشرق»؛
ولهذا السبب المزدوج أوردها
كاملة:
ها هي الساعة الأكثر
اصفرارًا من العام كله! ومثل
المزارع يجمع في نهاية المواسم
ثمار عمله ويقطف منه الثمن، يأتي
الوقت من ذهب ليصبح كل شيء
متحولًا، في السماء وعلى الأرض.
أتقدم حتى العنق في فجوة الحصاد،
أضع الذقن على المنضدة التي تضيء
الشمس طرفها، ومن الحقل، مارًّا
عبر الجبال، أتغلب على بحر الحبوب.
وبين ضفافه من العشب، الشعلة
الجافة الهائلة للون الممدود
للنهار، أين الأرض القديمة
المظلمة؟ تحولت المياه إلى نبيذ،
والبرتقال يشتعل على غصن الشجرة
الصامت. كل شيء ناضج، حبوب وقش،
والفاكهة مع ورق الشجر. إنه ذهب
حقًّا، مكتمل تمامًا، أرى أن كل
شيء حقيقي. في العمل المتوقد للعام
الذي بخَّر كل لون، فجأة يصبح
العالم شمسًا في عيني! أنا! ألَّا
أموت قبل أكثر الساعات اصفرارًا.
٣٣٠
يتيح لنا هذا النص أن نستشف — في آن
— تشابه «كلوديل» مع «مالارميه» في
إرادة التكثيف الاستعاري، والإيجاز
والدلالة التي لا تخشى الغموض ولا
التبديل المفاجئ في بناء العبارة
(«يأتي الوقت من ذهب ليصبح كل شيء
متحولًا، في السماء وعلى الأرض»)
٣٣١ وما يتميز به عنه أيضًا من
حبٍّ حسي للألوان والأشكال، مستندًا
إلى يقين بأن «كل شيء طيب»،
٣٣٢ ما دام الله قد خلقه،
وبينما «تقرض» الاستعارة الأشياء،
٣٣٣ بالنسبة لمالارميه، وتدمر
الغلاف الواقعي للأشياء كي لا تترك
منها سوى «الفكرة» المجردة، فإنها —
لدى «كلوديل» — لا تفعل سوى التأكيد
على التوافق بين عناصر العالم الحقيقي،
على السيمفونية الكونية، «إن رسوخ هذا
العالم — مثلما يقول الجوَّال — هو
مادة سعادتي البالغة».
٣٣٤
وبذلك، سيكتفي الشعر بأن يكون
«إحصاءً مبهجًا»،
٣٣٥ وأن يستدعي الأشياء
المخلوقة، ولونها ورائحتها («ها هو
أريج الحبوب، ها هي رائحة الحصاد»)،
٣٣٦ وسنعثر على نفس الحسية في
ختيار الإصاتات، والإيقاعات المفعمة
والثرية: «توزيع أوركسترالي لفظي مدهش
للغاية — مثلما سيكتب «ف. دي ميوماندر»
— إلى حد أنه من المستحيل أن يكون
المرء موسيقيًّا أكثر من ذلك مع
المقاطع اللفظية لقواميسنا»،
٣٣٧ وكثيرًا ما يذكر نقاد هذه
الفترة هذه الجملة التي يجدونها
«جيدية» (نسبة إلى «جيد») تقريبًا:
سأتذكرك يا سيلان! وأوراق
أشجارك وفاكهتك، وناسك ذوي العيون
العذبة الذين يمضون عبر دروبك
عرايا بلون لحم المانجو، وهذه
الزهور الوردية الطويلة التي وضعها
الرجل الذي كان يصحبني على ركبتي
في النهاية، عندما كنت أتدحرج تحت
سمائك الممطرة، وأنا ألوك ورقة شجر الكافور.
٣٣٨
علينا التمسك هنا لا بالرغبة
«الفنية»، لا بالرغبة في إظهار روعة
الواقعي، من خلال نكهة الكلمات، وإذا
ما كانت «شجر الكافور» تجعل الزهور
«الرمزية» تخطر ببالنا، فسنجد — في
موضع آخر من الحقول — «فاصولياء،
وقرعًا، وخيارًا وقصبًا»،
٣٣٩ وسيبقى على الخنزير،
«المرتج على قوائه الأربع السمينة والقصيرة»،
٣٤٠ أن يعلمنا أنه «لا الجسد
يكتفي بنفسه، ولا النظرية التي يعلمها
لنا ليست عبثية»،
٣٤١ فكلوديل يحب الصين حتى
بقذاراتها وروائحها النفاذة،
٣٤٢ هو الذي يعلن عن أنه «يأنف
من الحضارة الحديثة»، وهو يزدهر «في
وسط من الشحاذين والمتشنجين، في فوضى
النقالات والحمالين والمحفات»، في هذا
البلد العريق، المتلبد والفطري، حيث
يبدو له كل شيء «طبيعيًّا وعاديًّا»،
٣٤٣ وهكذا شعره، الذي يمثل
إعادة بناء للواقع، هو تمجيد للواقع في
نفس الوقت.
فكيف لا نذكر هنا أن «بيان الجامية»
٣٤٤⋆
الشهير: «كل الأشياء صالحة للوصف عندما
تكون طبيعية»، قد نشر في «ميركور دي
فرانس» في مارس ١٨٩٧م؟ وأن رواية «قوت
الأرض» يرجع تاريخها إلى عام ١٨٩٧م
نفسه؟ وسنعود مرة أخرى — في الفصل
التالي — إلى هذه التوجهات الجديدة
«الطبيعية» و«الجامية» والمعادية
للرمزية بشكل عام، ولنقل — منذ الآن —
إن ديوان «كلوديل» هو، في آن، مواصلة
لمسعى الرمزية من أجل ضم الإنسان
والكون في «وحدة» واحدة (ذلك بقدر ما
نرى فيه، مثلما يقول «ريفيير»، «الروح
وهي تزدهر في عالم» و«الكون بكل تعقيده
السحري يتركز في روح»)،
٣٤٥ ورد فعل ضد الفيروس
الرمزي، ضد «هذا الشر الحديث للروح
التي تتأمل نفسها، وتبحث عن الأفضل،
وتعلم نفسها أحلام يقظتها»،
٣٤٦ وفضلًا عن ذلك، ففي الفترة
التي كتب فيها «كلوديل» المقطوعات
الأولى من ديوانه (١٨٩٥م)، كانت
الرمزية في اكتمال عنفوانها، رغم وضوح
الاتجاهات المتضاربة، وفي الوقت الذي
نشره (١٩٠٠م)، كان قد تم اتخاذ خطوة،
تبعد الأجيال الشابة نهائيًّا عن أحلام
اليقظة والتعاويذ الرمزية لكي تقربهم
من الواقع الحي.
رد الفعل ضد
الرمزية
تنبغي الإشارة — رغم هذا — إلى أن
الرمزية، رغم أنها كانت في أوج ازدهارها حوالي عام ١٨٩٥م، قد تلقت بعض
الصدمات القاسية، بالتحديد بفعل ظهور مؤثرات جديدة: «لوتريامون» و«رامبو»
و«ويتمان» أيضًا و«نيتشه» من قبل، فمنذ سبتمبر ١٨٩٣م، أخذ «روبيل» يشن هجومًا
بارع الأسلوب في «إرميتاج» ضد الرمزية وكوادرها «المختلفة والسحرية»،
و«خرافاتها» وأميراتها «الكهنوتيات»،
٣٤٧ وفي أغسطس ١٨٩٤م، يتحدث «إ. سينيوريه» — في «لا بلوم» — عن
الكتَّاب الشبان، «الأكثر كمالًا
وعفوية» من أجدادهم الذين «كانوا
أحيانًا ما يخافون الحياة»، والذين كان
شعرهم «المحروم من الأساطير، والذي
يحتقر التقاليد والرموز»، يأمل في
التعبير «بشكل مباشر عن «الحياة» نفسها»،
٣٤٨ وفيما تتم المطالبة بضرورة
معارضة أساليب الكتابة الرمزية، يدور
الحديث بهلع عن «هذا الهراء الذي عاث
وباؤه فسادًا حوالي عام ١٨٨٥م».
٣٤٩
وستلهم هذه الرغبة في التعبير
المباشر عن الحياة، وتحقيق الاتصال
بالواقع المباشر، اكتشاف شكل أدبي وصفي
جديد، سيسعى — هذه المرة — لا إلى
البحث في كل شيء عن رمز لشيء آخر، بل
إلى السعي لعزله، وإدراكه في طبيعته
الحميمة: وهو ما سيكون مسعى «جول
رونار» على نحو خاص. واللافت للنظر أن
هذا المسعى — من ناحية أخرى — «أنجزه
رونار لا في أوج ازدهار الرمزية فحسب،
وإنما محاطًا أيضًا برفاق وأصدقاء
كانوا على رأس الحركة الرمزية»،
٣٥٠ وفي المجلة نفسها التي
تأكدت على صفحاتها هذه الحركة: «ميركور
دي فرانس»، مثلما لاحظ «جيشار»،
٣٥١ فالكاتب الذي يدَّعي أنه
«فخور تمامًا لأن عصفور القاوند ظنه شجرة»،
٣٥٢ والذي سيسجل في «مذكراﺗ»
ﻪ: «أنظر إلى الطبيعة إلى أن يبدو لي
كل شيء يترعرع داخلي»،
٣٥٣ يمكن اعتباره رائدًا
للنزعة الطبيعية، وهو يعارض — في نفس
الوقت — تصنُّع بعض الرمزيين، وما
استمر من «الرطانة» الانحطاطية، ويسجل
— عن رضًى — في «مذكرات»: «لم أستخدم
بعد كلمة
coruscation
= تلألؤ»،
٣٥٤ ويعارض تقعيدات تركيب
الجملة، «لقد أثارت أعمال رونار إعجاب
الكثيرين من الكتاب لصراحتها ووضوحها،
وإعجاب كلوديل الذي كان ج. رونار يمثل
— بالنسبة له، في حوالي عام ١٨٩٢م —
«الذوق الفرنسي»، مثلما يقول «ل. جيشار».
٣٥٥
فهل كان «رونار» يقصد كتابة «قصائد
نثر» في مؤلفيه «حكايات طبيعية»
و«قصائد ريفية»؟
٣٥٦ ليس ذلك مؤكدًا (رغم أنه
قال عن «جوريس»: «لا ينقصه سوى أن يكون
قد كتب بعض قصائد النثر، ومن خلال هذا
العمل المرهف، كان سيتعلم أن يتحدى إسهابه»،)
٣٥٧ مما يمكن أن يشير إلى صلة
ما بهذا الموضوع، غير أننا نرصد — عدة
مرات — في «حكايات طبيعية» أنساقًا
«شعرية» في التكوين: بناء في مقاطع
تبدأ كلها بنفس الطريقة: «يمكن للديك
أن يتباهى بأنه صرع كل منافسيه … يطلق
الديك صرخات على صرخات … الديك يتبختر
… يجمع الديك دجاجاته … إلخ»،
٣٥٨ واستعارة ممتدة (الخراف)
أو صورة ختامية يتسع عليها إيقاع
الجملة (البقرة، الخفاش)، والاستعادة،
لا سيما في نهاية النص، للجملة الأولى
(ما يسميه «ل. جيشار» تكوين الروندو،)
٣٥٩ وهو نسق شائع للغاية، كما
رأينا، لدى كتاب قصيدة النثر
«الدائرية»: مثلما في «دجاج
سندي»:
إنها حدباء ساحتي. لا تحلم
إلَّا بجراح بسبب حدبتها … إنها
تتدحرج في التراب، مثل حدباء.
٣٦٠
وبالمثل، ففي «قصائد ريفية»، نجد
الرصد في شكل قائمة طويلة في قصيدة
«المطبخ» («والباب ذو الركن الذي قرضته
الفئران،– والمصفاة المجدورة … ولوح
الزجاج المحطم … وهذا البلاط
الصابوني،– وهذا الكرسي القش …»)،
٣٦١ ومؤثرات الاستعادة:
الغابة الصغيرة في كولوس.
أمنحها له.
أمنح له ملذاتها.
أمنحك دربها الضيق الذي لا
يمكن اقتناؤه إلَّا بقدم واحدة،
وأمنحك، مثل خدم، أشجارها الرشيقة.
٣٦٢
ورغم كل هذا، أخشى حقًّا ألَّا نشعر
بالانفعال الشعري عند القراءة، إلا
بشكل ضعيف أو نادر، ومن المشروع بلا شك
— كرد فعل ضد مبالغات الرمزية — تلك
الرغبة في «تسمية الأشياء بأسمائها،
ومنحها شكلها الحقيقي، ولونها الحقيقي،
وحصرها في معناها الحقيقي»،
٣٦٣ وهو ما يتطلب أيضًا أن
نشعر بعمق بشِعر الأشياء، وأن نجرب
الشعور بالحياة الكونية، مثل «م. دي
جيران»، ونستسلم بنشوة للملذات
المحسوسة، مثل «جيد»، أو الانتقال —
مثلما سيفعل «بونج» — إلى قلب الأشياء
بدلًا من مراقبتها من الخارج. لكن
«رونار» يبدو عاجزًا عن اختراق الواقع:
«فاللبن — بالنسبة له — أبيض بشكل
مزعج؛ لأنه ليس سوى ما يبدو»،
٣٦٤ مثلما يقول «سارتر»، الذي
كتب صفحات قاسية، لكنها صائبة، عن هذا
الكاتب «المقيَّد» بمواهبه في
الملاحظة، وهو مطارد بالرغبة في تحقيق
الجيد والمتفرد: وذلك سبب هذه الحذلقات
والتشخيصات ذات الذوق الرديء (تستقبل
الوردة دودة الفراش؛ ولأنها «توقعت أن
يكون الجو باردًا هذه الليلة، فقد طاب
لها أن تضع ثعبان أصلة حول الرقبة»،
٣٦٥ والديك «لا يخرج أبدًا
بدون مظلته»،
٣٦٦ وهلم جرًّا)، هذا الميل
المحزن إلى أكثر أنواع التلاعب
بالألفاظ إثارةً للأسف: ففي أفضل
«قصيدة» من «حكايات طبيعية»، قصيدة
«الخراف»، لم يستطع «ج. رونار» مقاومة
إغراء إثرائها — في طبعة عا ١٩٠٩م —
بهذا الملحق:
Les
moutons.- Mée … Mée … Mée
…
Le chien de
berger.- Il n’y a pas de
mais!
الخراف.– مييه … مييه … مييه
…
كلب الراعي.– لا توجد لكن!
٣٦٧⋆،٣٦٨
فما إن تظهر صورة شعرية نوعًا ما،
حتى يحمله شيطانه الداخلي على تدميرها:
البجعة «تنهك نفسها في اصطياد ومضات
وهمية، وربما ستموت، ضحية هذا الوهم،
قبل أن تمسك بقطعة سحابة واحدة».
وفورًا يثور «تريبولد بونوميه» النائم
في «رونار»: «لكن ماذا أقول؟ فكل مرة
تغطس فيها، تقب بمنقارها في الإناء
المغذي وتعود بدودة.
هكذا نتأرجح بين رفض الغنائية والبحث
عن أسلوب، بين كراهية الفصاحة والرغبة
في التفرد: وذلك سبب هذا الأسلوب
الرصدي الجاف القاطع، وهذه «الكلمات الغنية في جملة فقيرة» التي يتحدث عنها «سارتر»:
٣٧٠ الدجاجة «منتصبة في قبعتها التي تشبه حشرة جارة الحطب، عينها
يقظة، وحوصلتها نافعة»
٣٧١ والطاوس «في زي احتفالي»،
٣٧٢ والصرصار «أسود وملتصق مثل
ثقب قفل»،
٣٧٣ «أسلوب أفقي، متألق،
ومتقن»، مثلما قال بنفسه:
٣٧٤ لكنه أيضًا بلا هالة
شعرية، وبلا قدرة عميقة على إثارة
الانفعال رغم كماله الشكلي، وربما يكون
أقسى الآراء ما ذكره بنفسه عن نفسه،
عندما قال: «الكمال دائمًا رديء إلى
حدٍّ ما».
٣٧٥ ففن «رونار» الدقيق
والمرهف «كامل» في نوعه، أي
محدود.
وربما تكون المبالغة في الصنعة،
والبحث الدائم عن التعبير الموجز
والمدهش، هي التي تمنح أسلوبه ملمح
الاجتهاد، والمجاهدة:
٣٧٦ إننا نشعر بالجهد الكبير
المبذول فيه، ولا شك أن ذلك هو ما دفع
«ل. بلوم» إلى أن يرصد — من بين أفضل
مقطوعات «ج. رونار» — لا نصوص «حكايات
طبيعية»، وإنما «البرسيم»،
و
Le
Toiton، و«عاصفة
الأوراق»، كنماذج مكتملة في التكوين
الشعري» والاستعاري،
٣٧٧ وربما لهذا السبب نجد
أحيانًا شعرًا أكثر في «قصائد ريفية»،
حيث الابتكار أكثر تلقائية وقوة
الأسلوب الصدامية أقل وطأة: «غابة
كولوس الصغيرة»، و«الثلوج»، و«مؤثرات
القمر»!
فنان — أو ربما حرفي بشكل خاص — لا
شاعر: يظل «جول رونار» كاتبًا
«تمثيليًّا
représentatif»
في جميع الحالات، مثلما يقول «ل.
جيشار»، سواء بفعل رغبته الواضحة في
العودة إلى الواقع الملموس (وبشكل خاص
الواقع الأرضي والفلاحي) أو بفعل
«الطريقة التي يطوق التعبير بها الفكرة
لديه، من خلال أسلوب يتجرد من الزخرف
أكثر فأكثر، إلى حد العُري»،
٣٧٨ لقد قام بعملية إزالة
الأنقاض بطريقته، وأعد القارئ كي يتغذى
لا بالصوفيات الغامضة، وإنما بقوت
الأرض، «بالصور، والأصوات، والروائح».
٣٧٩
ومع «هوج روبيل»، يتخذ رد الفعل
المعادي للرمزية مظهرًا مغايرًا إلى حدٍّ ما: لم يعد الأمر يتعلق هذه المرة
بالوصف بالأسلوب اللاذع، وإنما
بالمقاطع الحماسية التي تعبر بغنائية
عن الشغف بالحياة والفعل، والتي نشعر
بتأثرها العميق بويتمان ونيتشه بشكل
خاص، فروبيل من أوائل من يعود إليهم
شرف ترجمة «نيتشه»، عام ١٨٩٣م،
٣٨٠ وفي العام التالي، مرت في
«أناشيد المطر والشمس»
٣٨١ نفس «أبواق الدعوة والغضب»،
٣٨٢ والاندفاعات العاصفة التي
أذهلته في «زرادشت»، لقد «اخترت —
كوسيلة من التعبير — نثرًا ذا إيقاع
خاص، أكثر غنائية من النثر العادي، ولا
يملك — مع ذلك — الشكل المحدد
والموسيقي لشعرنا»، حسبما يقول «روبيل»
في خاتمته،
٣٨٣ والواقع أن الشكل يمتد من
النثر المقسم إلى مقاطع طويلة إلى هذا
الحد أو ذاك، إلى المقاطع القصيرة
للغاية، المكونة من جملة واحدة وإلى
أبيات حرة حقيقية، لكن الأسلوب دائمًا
ديناميكي مكثف، موقَّع بقوة، مثلما لدى
«نيتشه» نفسه: وسبق أن قدمت مثالًا لذلك،
٣٨٤ «كتاب صاخب، هادر، يعطي
الانطباع بمحطة قطار ضخمة، تمتلئ
بعربات القطار، والصفير، وصرخات وقبلات
الوداع أو الاستقبال»، مثلما سيكتب عن
حق — إلى حدٍّ بعيد — «ر. دي جورمون»
في واحد من «أقنعة».
٣٨٥
ومع موت «روبيل»، اعتبره صديقه
«مازيل» — الذي خصص له مقالًا في
«ميركور دي فرانس» — كاتب «أفكار» بشكل
خاص، معتبرًا أسلوبه «بعيدًا عن بلوغ
أسلوب الأساتذة الكبار أو أنه مجرد
الكتابة الفنية لصغار الكتاب»:
٣٨٦ لكن «روبيل» بالذات هو
الرجل الذي «أنهك» — مع ذلك — «الفنان
الكامل» فلوبير، مثلما أنهك الأخوين «جونكور»،
٣٨٧ أستاذي الكتابة الفنية
والإحساس النادر،
٣٨٨ إنه يرفض — عن عمد —
العهود الجميلة، والمؤثرات الموسيقية،
ويسعى دائمًا لأن يكون تعبيريًّا لا
نغميًّا، والدال أن نراه يلوم «فلوبير»
على أسلوبه «المكتوب» بشكل مفرط، «حيث
كل شيء على نفس المستوى»،
٣٨٩ أما «روبيل»، فكان يقول
بكبرياء، مثل «نيتشه»: «إنني دائمًا ما
أمنح العمل نفسي كاملة، وما هو حي في نفسي»،
٣٩٠ ومثل «نيتشه» أيضًا،
٣٩١ يرفض الفترات الطويلة
المتزنة للغاية، والأوزان المتسعة،
ويفضل عليها هذا الأسلوب الديناميكي،
المتقطع، واللاهث إلى حدٍّ ما، الذي
نشعر فيه بطَرقات الإيقاع المتعجل
لحقبتنا.
إنه — بلا شك — ليس كاتبًا كبيرًا،
ولا «فنانًا» بشكل خاص: فلنقل إنه — بالأحرى — كاتب طليعي، بفعل حملاته
المتقدة الحماسية ضد الرمزية، والنشاط
الذي لا يقل عنه حماسًا في تمجيده
للوثنية، والعنف، ونشوة الحياة. إنني
أختم هذا الفصل بروبيل، وكان يمكن أن
أبدأ به الفصل التالي، وفي فترة ١٨٩٤م
هذه، حيث لا تزال الأذهان الحائرة
تتردد بلا يقين بين نفوذ الرمزية الذي
لا يزال قويًّا والدعوات الأولى للمعارضة لصالح الطبيعية والطبيعي، ترن
«أناشيد المطر والشمس» مثل النغمات الأولى لهذه الترتيلة التي سرعان ما
سينشدها الشعراء الشبان على شرف
«الحياة»، لكننا لا نستطيع أن نضع
حاجزًا فاصلًا في الأدب، فنثر «بروست»
عام ١٨٩٦م، ونثر «فونتينا»،
٣٩٢ أو البعض الآخر فيما بعد،
سيظل دائمًا مغرقًا في الرمزية،
وبالعكس، فإذا ما استطعنا تأريخ
التجديد «الطبيعي» بعام ١٨٩٦م، بناءً
على الحملات المدوية، فبإمكاننا العثور
عليه، قبل عدة سنوات، لدى كاتب مثل
«روبيل»، ذي مزاج أكثر عنفوانًا من أن يريد — مثل الرمزيين — الفرار من
الحياة بدلًا من الانغماس فيها
لاستنفاد مباهجها المجيدة.