ولأنهما — في آن — نتاج النشيد الغنائي
الفانتازي (نتذكر الدور الذي لعبته الترجمات
والترجمات المستعارة للأناشيد الغنائية في نشوء
قصيدة النثر)
١٠٩ والحكاية الفانتازية التي سادت
موضتها إلى حدٍّ كبير بعد «هوفمان»،
١١٠ والتي وصل بها «نودييه» إلى شكل
«القصيدة» في «ساعة أو الرؤيا» وفي «سمارا»،
١١١ فإن قصيدة النثر الفانتازية أكثر
إيجازًا، وبالتالي أكثر شعرية وغرابة في آن:
فالانتقالات تختفي، والغرابات تتزايد، وتصبح
الأجواء مشحونة وأكثر كبريتية، إلى حدٍّ يكاد
ألا يطاق أحيانًا: توترٌ ضروري، إذا ما أردنا
التوفر على كثافةٍ كافية لقصيدةٍ مهددة في
جوهرها دائمًا بالشكل المؤقت ﻟ«الحكاية» التي
تحويها، فالمقصود منح المناخ الفانتازي أهمية
أكبر من الحكاية نفسها: إنه التغريب (الذي
كثيرًا ما يتم التوفر عليه باقتصادٍ كبير في
الوسائل) الذي يصبح الأساسي هنا، فنحن نلمح
أحيانًا، حول الأشياء المألوفة، هالةً من
الغموض الناجمة عن بعض التفاصيل الغريبة،
١١٢ وأحيانًا ما سنصبح «مقتلعين» دفعة
واحدة، مغمورين في عالمٍ مختلف — هو عالمنا مع
ذلك، لكننا لم نعد نتعرف عليه، مثلما الحال
غالبًا مع «لوتريامون»، ومثلما لدى «ميشو» فيما بعد،
١١٣ وفي أغلب الأحيان أيضًا، سيستخدم
الكاتب الحلم، كذريعةٍ لإدخالنا في هذه المناطق
الغامضة التي يسودها التحول، حيث تنبثق رموزٌ
غريبة من الأعمال المجهولة، وقد أوضح «أ.
بيجين» بشكلٍ كاف العلاقات بين الحلم والشعر
بما لا حاجة معه إلى الكلام عنها هنا،
١١٤ ونعلم المكانة التي اكتسبها الأدب
الحلمي في فرنسا منذ الرومانتيكية، منذ «سمارا»
وصولًا إلى نقد حلمي «لأبوللينير،
١١٥ مرورًا ببلزاك،
١١٦ و«نرفال»
١١٧ و«جوتييه»،
١١٨ أريد فحسب — التأكيد — هنا على
كيفية التحرر التدريجي لتقنية «سرد الحلم» —
التي ترجع في بدئها إلى نوعٍ من الحكاية
الفانتازية — من التزامات السرد، أعني التسلسل
الخطي والزمني للأحداث، لتنحو أكثر فأكثر إلى
التحرر من المكان والزمان، فتتخذ بجرأةٍ طابعًا
شعريًّا، لم يعد النص خطًّا نغميًّا، وإنما
تكوينًا متعدد الأصوات، تتتالى فيه الموضوعات،
وتندفع، وتختفي، كي تعاود الظهرو فيما بعد،
١١٩ تتسارع التحولات والتغيرات في
الديكورات والظروف بشكلٍ مدهش في نصٍّ مدغم
أكثر فأكثر: فلم يعد ثمة سعي إلى تخفيف
التنافرات، وإنما تأكيدها، فبدلًا من استئناف
خيط السرد، تتم مضاعفة مظهره المتشظي والمهشم —
تنفتح فجوات كبيرة فاغرة، نأمل العبور من
خلالها إلى إلى المجهول، أو الإيحاء به على
الأقل، وبذلك، سينتهي الحلم إلى ألا يصبح سوى
سلسلة من الرؤى المتتالية بلا نظامٍ زمني ولا منطق،
١٢٠ أو — بالأحرى —رؤيا وحيدة منعزلة،
خارج الزمن، تقدم — من هذا المنطلق — طابع
غرابة لا حل لها،
١٢١ فكل جهد الكاتب ينحو نو تحقيق أو خلق
١٢٢ واقع فيما وراء الحواجز المنطقية،
خارج مقولات الزمان والمكان.
(٢-١) جاري والدعابة الأوبوية
وبينما كان «فارج» و«سان–بول–رو» لا هم
لهما سى إطلاق شراراتهما الشعرية الأولى في
السنوات الأخيرة من القرن الماضي، أعقب
نشاط «جاري» العابر — إذ توفي في الرابعة
والثلاثين من عمره عام ١٩٠٧م — نسيان ساد
الاعتقاد أنه نهائي، ورغم هذا فهو الذي
يجتذب اليوم أنظار الجمهور، ويبدو — من بين
الشعراء الثلاثة — الأكثر تمثيلًا
للاتجاهات الجديدة.
ومن الطريف أن نلاحظ أسماء الكتاب
الثلاثة في فهرس «لار ليترير»، وهي إحدى
المجلات الصغيرة التي قادها قدرٌ غريب إلى
استقبال مؤلفات شعراء شبان واعدين بمجدٍ
بعيد: فجاري وفارج — اللذان تعارفا في
ليسيه هنري الرابع — بدءا معًا في «لار ليترير»
١٢٦ تحت رعاية «لويس لورميل»، وهو
«فتى طويل القامة وديع، أمرد وشعره أحمر،
معذب بالجرائد والمجلات»، وسيكتب مقالًا
تذكاريًّا في «فالانج» عام ١٩٠٧م، عقب وفاة
«جاري»، كانت قصيدة النثر تحتل مساحةً
كبيرة في المجلة: وقد تحدثت عما كتبه
«لورميل» نفسه،
١٢٧ وكانت هنك قصائد أخرى لكلٍّ من
«م. كرمنيتز» و«موريس» و«موكلير»، وسنقرأ
فيها أيضًا — عام ١٨٩٤م — مقتطفات من «مذبح
الطواف»، و«لورميل» — الذي كان يسمي
«سان–بول–رو» «فيكتور هوجو الخاص بنا» —
كان يصرح أن قصائده النثرية «ذات لغة جديدة
ومختلطة، حيث كل شيء فيها يترجم في صور»،
١٢٨ و«افتتاحية التراجيديا» لفارج،
التي بدأت بضربة الطبل هذه
المشهودة:
إن الزعماء المنتصرين لهم رائحة قوية!
١٢٩
ظلت في منتصف الطريق بين الشعر والنثر، وقد
نشر «جاري» — في «لار ليترير» عام ١٨٩٤م —
نثريات عجيبة: «الوجود والحياة»، ولا سيما
«رؤى راهنة ومستقبلية»، التي تظهر فيها
سلفًا «آلية نزع الدماغ» و«العصا الفيزيقية»،
١٣٠ و
Les
Palatins ﺑ «آذانهم
الأربع» و«جنيحاتهم الصغيرة» و«أقدامهم
الكبيرة المفلطحة الرنانة»، وأيضًا
اﻟ «باتافيزيقا»، التي تمثل «علم هذه
الكائنات أو أجهزة معاصرة أو مستقبلية مع
سلطة استخدامها»،
١٣١ ويبدو هذا الخليط الغريب من
الاختراع الفانتازي والدعابة «السوداء» سمة
«جاري» الخاصة («الشنق أحد أهداف الإنسان»،
مثلما سيقرر على سبيل المثال …)، وينبغي أن
نؤرخ بنفس الفترة ثلاث نثريات غير منشورة،
نشرها «موريس ساييه» عام ١٩٤٩م،
١٣٢ تمثل محاكاة ساخرة ﻟ «لووي»
و«مارسيل شووب» و«لوتريامون»، تكمن قيمتها
الأساسية في إثبات الاهتمام الذي أولاه
«جاري» وقتئذٍ إلى تقنية قصيدة
النثر.
وخلال عام ١٨٩٤م، نشر «جاري» أيضًا قصيدة
«قيصر المسيخ الدجال» في «لار ليترير»، وفي
«ميركور دي فرانس»
١٣٣ نشر «هالديرنابلو»، التي ستنشر
في كتابه الأول «دقائق رمل تذكاري»، في
نهاية العام، يا له من كتابٍ غريب، «دقائق
رمل تذكاري» هذا!،
١٣٤ فنقاد الوقت الراهن، الذين
يأسفون على ارتباط شهرة «جاري» بشكلٍ مفرط
ﺑ «أوبو—ملكًا» وحده، أكدوا على أهميته،
١٣٥ وأراد بعضهم أن يروا فيه
بدايات السيريالية والكتابة الآلية، ومثلما
يقول «لوت»، تعتبر قصيدة «الحواس الخمس»
«نموذجًا للنص السيريالي»،
١٣٦ ويتم — عن طيب خاطر — اقتباس
جملة «جاري» الشهيرة الواردة في مقدمته،
باعتبارها مفهومًا سيرياليًّا قبل الحالة
النهائية: «إن علاقة الجملة الفعلية بكل
المعاني التي يمكن أن نجدها فيها لهي علاقة وثيقة»،
١٣٧ ولا ينبغي أن ننسى — رغم هذا —
أن هذه الجلمة تأتي في سياقٍ يدعي فيه
«جاري» — بالتحديد — تمييز الظلمة التي
ليست سوى «عماء سهل» (وهما كلمتان
«مأخوذتان» خارج معناهما، أو — بالتحديد —
بدون أفضلية في المعنى») الظلمة التي هي
«بساطة مكثفة» (أي — مثلما يضيف «جاري» —
«مركب مندغم وتركيبي»):
١٣٨ لدينا هنا نظرية تقترب بشكلٍ
فريد من النظريات لمالارميه،
١٣٩ وإذا ما كان ثمة سيريالية،
فينبغي الحديث — عندئذٍ، مثلما يلاحظ «م.
ساييه» — «عن
سيرياليةٍ أخرى، غير قابلة
للفساد، مثالية، ومضادة بلا شك للسيريالية
التي تدين بازدهارها المفرط إلى وصفات
الكتابة الآلية»،
١٤٠ والواقع أن فن «جاري» فن ملموس
بإحكام، حيث الصور غير المتوقعة،
والتشبيهات الأكثر غرابة، محسوبة، مثلما هي
لدى «لوتريامون»، «إنه لا يترك مكانًا
للإلهام، والهذيان، والاكتشاف»، مثلما يكتب
«ج. أمروش»
١٤١ الذي يعتبر «جاري» شاعرًا
«شيطانيًّا».
ويمكننا اعتبار هذا الديوان — إلى حدٍّ
ما — كتاب «تمارين»، وسلسلة من المحاولات
المشدودة في اتجاهاتٍ مختلفة، من أجل
«اختراع لغة»، حسب صيغة «رامبو»، والواقع
أن التنوع الشكلي للأجزاء مدهش — وكأن
«جاري» كان يحاول، بكل الطرق، العثور على
نمط تعبير لا يخون رؤيته الأصيلة للعالم،
و«الليدات الجنائزية» الثلاث، المتطورة
أكثر من التقنية التي ستدفع «بول–رو» إلى
الشهرة، هي «أبيات مكسورة»:
إنه رجلٌ ضئيل يرتدي زغبًا أحمر
وتنيمه وتمزقه ريحٌ عاصفة، ذراعاه
ملتويتان وأصابعه مقطوعة، قاع
الأرض يمسك به من قدميه، ومن
المشقنة تتدلى سلسلة مفاتيح،
كسقيفةٍ ظافرة.
وإذ ينتفش بالبرد، لا يستطيع أن
يعقد ذراعيه العاليتين دائمًا، لا
يستطيع أن يغلق فمه الملتحم،
صناجات هي أسنان المشنوق، اضربوا
الأرض بأقدامكم، أيها المشنوقون،
إلى الموت … قاع الأرض يمسك به من قدميه.
١٤٢
ولا شك أن هذه المقطوعات ما تزال مشبعة —
بشدة — بالرمزية و«عاداتها» اللغوية
(«تتدلى»، «صناجات هي …»، ومحارفات من قبيل
«
pendus aux
poteaux = أيها
المشنوقون إلى الموت)»، ونتبين أيضًا
آثارًا رومانتيكية جنائزية ومؤثرات باطنية،
ورغم هذا، فإن غرابتها المفارقة ونبرتها لا
تنتميان إلا إلى «جاري»، وتليها سوناتات
عادية، ثم «مسرح عرائس» بشخصيته الرئيسية «أوبو»،
١٤٣ والجزءان المسرحيان اللذان
يؤطران قصيدة النثر العجيبة التي تحمل
عنوان «فونوجراف»، والتي تسمح بتوقع
الاستفادة الرائعة التي سيحققها «جاري» من
الاختراعات الحديثة والفانتازيا الآلية،
وإذا ما كانت قصيدة «أفيون» — وهي «صفحة
جديرة بمختاراتٍ من الأدب الحلمي»
١٤٤ — ليست سوى سرد لحلمٍ يسجل، في
اتجاه الفانتازيا والغرابة، تقدمًا واضحًا
بالمقارنة ﺑ «حلم أفيون» ﻟ «إيلين»، فإن
النثريات المكرسة ﻟ «الحواس الخمس» تشكل
كلًّا يستحق تمامًا اسم قصيدة نثر، إنها
قصيدة — من ناحيةٍ أخرى — ذات فانتازيا
موجهة تمامًا، أكثر من النص السيريالي
الخاضع للترتيبات العشوائية للاوعي: يكفي
أن نرى بأية عناية اختار «جاري» العبارات
الملائمة لاستدعاء «معنى» خاص لكل جزء،
مثلما — على سبيل المثال — في الحاسة
الخامسة، التذوق: «القطيع اللانهائي لرباعي
الأقدام النحيلة يرقد مثل كلب يبحث عن
عظم»، والهياكل العظمية «تفتح بلا صوتٍ
شفاهها الصفراء في ابتسامات الذواقة»،
والمومياوات «يقربن مفاصلهن الجادة من
كسارة البندق»،
١٤٥ وهذه الغرابة الكابوسية لحلقة
الهياكل — العظمية — هذه التي تتقافز حول
جنين — متسقة بشكلٍ متقن، وإتقان الأسلوب
والتدقيق في التعبير يبلغان حد استخلاص
مادة مشاهد خارقة شعرية من هذه العناصر ذات
الجاذبية المحدودة:
أحمله خلال الرعشة التي لا شكل
لها ولا لون من التراب الميت،
الهواء تتسلط عليه أرواحٌ غير
مرئية، لكن ليست أثيرية: ويتصاعد
غبارٌ رقيق من العظام المتدفقة
ويسبقني مثل عمود غامض مضيء.
١٤٦
ربما أمكن لكل هذا أن ينشأ من زيارةٍ
لمتحف … فنقطة الانطلاق تكمن دائمًا — لدى
«جاري» — في الحياة الواقعية: ﻓ «جزء من
الواقع القريبة منه كان ضروريًّا في بادئ
الأمر، مثلما يكتب «ف. لوت»، عندئذٍ، تأخذ
التشجرات المتفرعة لتبلورٍ ثقافي مجنون في
التنامي بشكلٍ سريع حوله، وبشكلٍ جيد إلى
حد أنه سرعان ما يصبح من الصعب ملاحظة
النواة الأولية»،
١٤٧ ومن «تبلور» كهذا حول أستاذ في
ليسيه رنييه — كما نعرف — خرج الأب
«أوبو».
ولدى «جاري» — من ناحية أخرى، دائمًا —
ثمة مزيج من الشطط والمنطق، هذا المنطق
الخاص بالحلم، الذي يمثل أيضًا شكلًا
طبيعيًّا للدعابة لديه: وها هو مثال مميز
من «أفيون»:
وقال لي موظفٌ مؤدب كان يغسل
الموتى: «لا تتذمر أبدًا بعد ذلك،
فمنذ ثلاثين عامًا لم نعد نعيش،
اتبع الممر الموجه وأنت تحصي
الأعوام، بعد ثلاثين عامًا، ستجد
مشرحةً يغط فيها الشعراء، وتتحدث
التليفونات إلى الموتى من خلال
حواجز زجاجية، ومن خلال كوات
زجاجية فيها يتعارف
القتلة».
وبعد ثلاثين عامًا، وإذ أدرت
الزر النحاسي، دخلت قاعة — قاعة
مكتب تليغراف — فيها رجل، ريشة
الكتابة في أذنه، وإذ سألني عما
أريد، بلا هدف، أجبت: «أتيت من أجل
الميت رقم ٤».
– هل من إثباتٍ أنك قتلته؟ ألا
أوراق ولا سكين مختومة؟ لا يهم،
إنني أعتمد على مظهركم الشريف، في
الكوة السادسة، خذ النقود التي
كانت معه».
١٤٨
«مع
جاري وأبوللينير»، تبدأ الدعابة والمفاجأة
بدايةً رائعة في مجال الشعر»، مثلما سيكتب
«نزارا» عام ١٩٥٠م،
١٤٩ وذلك ليس دقيقًا تمامًا، حيث
سبقهما في ذلك «لوتريامون»، وما يهم
التأكيد عليه هنا، هو إلى أي حدٍّ تجد
الدعابة — كعنصرٍ شعري — مجالها الأكثر
ملاءمة في النثر، ففي نثريات «لوتريامون»،
ثم «جاري»، — وفي القرن العشرين — نثريات
«ميشو» ضمن نثرياتٍ أخرى، سينتشر بوجهٍ خاص
«هذا المرح الفريد الذي تصبح فيه الغنائية
هجائية، حيث الهجاء، وهو يُمارس على
الواقع، يتخطى موضوعه إلى حد تدميره،
ويتصاعد عاليًا إلى حد ألا يصل إليه الشعر
إلا بعناء»، مثلما يقول «أبوللينير» عن
«جاري» بالتحديد،
١٥٠ والواقع أن الدعابة ترتبط بشعر
الهدم، ويصعب إدراكها في شعرٍ منظوم، فهي —
مثلما يكتب «ل. بيير كينت» (هذه المرة عن
«لوتريامون»)، نقلًا عن «أندريه بريتون» —
طريقة في التأكيد على «التمرد الأسمى للروح»،
١٥١ فالفرد، بفضلها، يعلن عن حريته
إزاء نظامٍ اجتماعي، أخلاقي، وجمالي يرفض
الخضوع له، ويتبنى إزاءه موقف ترفع تهكمي،
وهو يعيد خلق عالم خاص به: «فباحتكاكه
بدعابته القاسية — مثلما يكتب «ج. ﻫ. لفيك»
عن «جاري» — يتفكك العالم كي يتكون من
جديدٍ في ضوءٍ مغاير تمامًا»،
١٥٢ فكيف لا نتعرف هنا على هذا
الموقف الفوضوي والفرداني الذي يميز —
مثلما ذكرت في الفصل السابق — جانبًا
كاملًا من الشعر المعاصر (أو الحديث،
ببساطة)، والذي يمثل — بوجهٍ أخص — أحد
قطبي قصيدة النثر؟ فمن الضروري، لفهم
«جاري» والدعابة الأوبوية، أن نرده إلى
حقبة الفوضوية الثقافية و«الفردانية المحتدمة»،
١٥٣ وأن نتذكر أيضًا أن «أوبو» هذا
— الذي يدفع بمرحٍ كل الفئات الاجتماعية
إلى الفخ، ويعلن «سأقتل الناس جميعًا
وسأرحل عنهم»،
١٥٤ — يمثل تقريبًا (وذلك ما قاله)
«الفوضوي الكامل مع ما يمنع من أن نصبح نحن
الفوضوي الكامل الذي هو إنسان، تنبع منه
النذالة، والقذارة، إلخ …»،
١٥٥ ونعلم أن «جاري» بعد تقديم
«أوبو– ملكًا» تقمص — أكثر فأكثر، وعن وعي
— شخصيته المسرحية، وجعل من وجوده قصيدة
دعابة عدوانية وهدامة: هزليات متعمدة،
وانحرافات وفظاظات،
١٥٦ وكم من مظاهر هدم للعالم من
خلال العبث، وكم من «لا» المعارضة لعالمٍ
موجد، تجعل من «جاري» رائدًا
للدادائية.
وعلينا أن نؤكد — رغم هذا — أن هذا
التمرد وهذا الهدم يديان، بطريقةٍ مفارقة،
إلى خلق عالم أوبوي بشكلٍ خاص، يملك — شأنه
شأن العالم الدوكاسي — مذاق حضور بلا مثيل،
وتصحبنا «رحلات الدكتور فاوسترول»
١٥٧ عبر مشاهد طبيعية غريبة (تحتشد
— رغم هذا — بأشباحٍ مألوفة)،
١٥٨ لا تتبدى فيها قوانين الفيزياء
والمنطق إلا مشوهة أو مقلوبة، ورغم هذا —
مثلما يكتب «ج. ﻫ. لفيك» — ﻓ «في حين أن كل
شيء يبدو، أمام النفي الكامل لأكثرك
المعطيات أولية، كأنه ينبغي أن ينحل
ويتلاشى، وينفلت من عقلنا تمامًا، فثمة
عالم آخر موجود هنا، مغلق وراسخ، فيما وراء
العبث، متماسكٌ في بعدٍ جديد»،
١٥٩ ألا تكمن غاية باتافيزيقا
«جاري» في وصف «كون ملحق بهذا الكون» — أو
على الأقل «كون نستطيع أن نراه أو ربما
ينبغي أن نراه بدلًا من الكون التقليدي»؟
١٦٠ وبدلًا من الفصول التلميحية
المخصصة ﻟ «الجزيرة العطرية» أو «جزيرة بتيكس»،
١٦١ سنضع ضمن قصائد النثر قصيدة
«ثلاث عشرة صورة»، التي يعود تاريخها إلى
نوفمبر ١٨٩٧م، والتي تتكون من لوحاتٍ غريبة
وموجزة لا نستطيع القول ما إذا كانت رموزًا
لدلالةٍ خفية، واستعارات مستخدمة بانتظام
(مثلما في «النهر والمرج»)،
١٦٢ أم أجزاء من عالمٍ على غرار
«جيروم بوش»، فريسة تحولات غامضة، مثلما في
«نابوشودونوصور متحولًا إلى حيوان»:
يا له من غروبٍ جميل! أو هو
بالأحرى القمر، الشبيه بكوةٍ في
برميلٍ كبير للنبيذ أكبر من باخرة،
أو سدادة قارورة زيت إيطالية،
والسماء (لونها) كبريت من الذهب
المحمر إلى حد أنه لم يعد ينقصنا
حقًّا سوى عصفور بطول خمسمائة متر
سيكشفنا للسحب، والمعمار قاعدة كل
هذه الشعلات، حي بشكلٍ جيد ومؤثر
إلى حدٍّ ما، لكنه رومانتيكي بشكلس
مفرط! هناك أبراج بعيونٍ ومناقير،
وأبراج صغيرة تعطي رءوسها بقبعات
الشرطة، امرأتان تنظران بشكلٍ
متماوج إلى الريح من النوافذ مثل
قمصان المجانين التي تجف …
١٦٣
لن أقول سوى كلمة الختام، عن كتابٍ صغير
ملغز سيشهد — مع مرور الوقت — تزايد
الدراسات حوله، كتبه «جاري» في نفس فترة
كتابة «إشارت وتأملات الدكتور فاوسترول»
(نشر عام ١٨٩٩م): إنه «الحب المطلق»،
١٦٤ وهو رواية — قصيدة غريبة يرى
فيها «م. ساييه» شيئًا نم قبيل «العهد
القديم والجديد» مكثفين في حدود قصيدة، أو
حكاية من خمسة عشر نصًّا.
١٦٥
وقد قيل عن هذا العمل الصغير أنه «ربما
كان أول محاولة لخلق لغة لاعقلانية تمد
دلالتها والأحداث التي تعرضها إلى زمنٍ ذي
عدة أبعاد»،
١٦٦ وفيه نجد أيضًا استخدامًا ﻟ «أحد الأساليب الأساسية في الشعر المعاصر»،
هو «هذا التفكيك وإعادة البناء للكلمات»
١٦٧ الذي يستخدمه (ويسيء استخدامه
أحيانًا) الشعراء الحديثون منذ السيريالية:
تلميحات وتشويهات و«تلاعب بالكلمات»، يسعى
الشاعر من خلالها إلى أن يعيد للكلمات
معناها الخفي وحيويتها الإبداعية،
١٦٨ وذلك عندما يقارب «جاري» بين
الكلمات
myrrhe-mort-Miriam (مر–موت–ميريام)،
١٦٩ أو يستخرج من كلمة
Absolument
(مطلقًا) لغزًا، يستخدمه في تحديد ما
يحتويه الكون،
١٧٠ وقد تمت الإشارة أيضًا إلى
الأهمية والقيمة الشعرية ﻟﻟ
تحول في هذا
النص الاستثنائي حيث المؤلف هو نفسه والله
في آن، وحيث تحل الشخصيات الواحدة محل
الأخرى باستمرار، ويدور الحدث في بيت لحم
وبريتاني في نفس الوقت — وهو ما يشير، أفضل
من أي نصٍّ آخر، إلى عاقبة الإرادة
الفوضوية التي تؤدي بالإنسان إلى عدم
التمييز أبدًا بين الله وأن يكون الله، ولا
يقل عن ذلك أهميةً أن نؤكد إلى أي مدى يكون
لتكثيف الحدث والعلاقات القائمة بين
العناصر المختلفة — (شخصيات تعاود الظهور،
وأفعال تستمر أو تتكرر على مدى قرونٍ أو
فصول، ومسافات، واستعادات للصور والكلمات)
١٧١ — أن تحقق وحدةً بنية لهذا
النص، بالطبع خارج كل منطقٍ عقلاني، لتصنع
منه قصيدة، ولا شك أنه ليس من الخطأ — من
جميع الأحوال — أن نقول إن «جاري» يبشر
بالكتابة الآلية، لكن ينبغي هنا أن نصحح
هذا التأكيد بأن نشير إلى مدى الوضوح
(نستطيع القول–والفن) الذي ينظم ويركب به
«جاري» العناصر العبثية والمجانية للوهلة
الأولى — والمتنافرة، ما دام يخلط الذكريات الشخصية،
١٧٢ والاختراعات اللفظية، والصور،
والتلميحات إلى موضوعاتٍ أسطورية كبرى: كل
هذا يشكل كلًّا واحدًا ومتعددًا في آن،
ونوعًا من الحجارة ذات الوجوه المتعددة،
والمهم — من الناحية التقنية — أن نرى كيف
يحول «جاري» السرد إلى قصيدة، ويتمكن من
هزيمةٍ تتابعية للسرد، بأن يقبل إمكانية أن
تكون الأحداث ماضية ومستقبلية في آن، وأن
تكون الشخصيات هي نفسها وشخصيات أخرى في
نفس الوقت: على العموم، نجد هنا
العودة
الأبدية، لا في «الشكل الأولي»،
بل في «الشكل الثانوي».
١٧٣
نرى — في كل هذه الحالات — أن الموقف
الجمالي والميتافيزيقي لجاري ليسا غير وجهي
العملة لنفس الموقف إزاء الكون: فجاري هو
الرجل الذي يسجن نفسه في «علبة جمجمته»
١٧٤ سواء على صعيد الفن أو الفكر،
ويعيد — من أجل استخدامه هو — خلق كون
فردي، متحر من المكان والزمان،
١٧٥ هو الله — أو الساحر
الشيطاني.
(٢-٢) بدايات «ليون–بول–فارج»
وسنعثر — في عبورنا من «جاري» إلى
«فارج»، أعني «فارج» الأول (مؤلف «ثانكريد»
و«قصائد») — على نفس المزج بين الرمزية
التي ما تزال حية والسيريالية في عنفوانها،
والميل إلى الغريب والمساعي اللفظية
والموسيقية، وثراء الصور، لكن النغمة
مختلفة تمامًا: فالدعابة السوداء،
و«الحداثية» العدوانية لجاري بعيدتان
تمامًا عن الميل الحالم والنغمة الرثائية
التي تغلب على «فارج».
ففي «ثانكريد» (وهو عمل من ثلاث «نثريات»
تليها قصائد نظم)، المكتوب عام ١٨٩٤م،
والمنشور عام ١٩١١م فقط، لا يمكن إنكار
تأثير «رامبو»، ومثلما قال «رولان دي رونيفيل»،
١٧٦ «تتضح الأبوية الرامبوية عندما
نتأمل تقطيع الجملة، واختصارات الفكرة،
وطريقة ما في تعرية أشياء الديكور من
طابعها الشائع والمألوف، ومعاودة تقديمها
لنا باعتبارها منارات مشهد خطر»، وبدلًا من
الفقرة التي ذكرها «رولان دي رونيفيل» —
على سبيل التدعيم لفكرته، والتي تيبدو لي
صورها
ما تزال رمزية في حذلقتها («في عقدة
الستار، يعقد الصباح ببرود أفضاله الزرقاء»)
١٧٧ — سأذكر بضعة سطور من النثرية
الثالثة:
أسكت السندان والدائرة صوتهما
البارع، وتجمدت النيران مهجورة،
ومررت حيواناتٌ رشيقة لسانها
المطاطي الأسود على ثوبها، خرج كل
هذا في المشهد المتالق الذي جاء
لينضم، وأمام النصر، فلم تعتد ذلك
مطلقًا، تهللت شخوصٌ طيبة وصمتت،
لكن لا شيء أثار قلقها، ورغم هذه
الوقفة، لم تستثن أية هدنة صوت
النيران المتألقة، والحب، في سماء
الصباح، أحرق مائة راية، وجرت
العصافير في كل مكان …
١٧٨
خليطٌ من المجرد والملموس («الحب في سماء
الصباح، أحرق مائة راية»)، والرغبة في
التعميم («جرت العصافير في كل مكان»)،
و«إيقاع النثر» في النهاية، فكل شيء هنا
يذكر رامبو: فنرى في «ثانكريد» ميلاد أسلوب
شعري جديد، واستخدامًا فنيًّا للقطع،
والتوقف، والصورة المفاجئة، الذي سينتشر في
القرن العشرين، وحتى الأسلوب.
وإذا ما كنت أتحدث هنا عن قصائد (نثر) كتبت
في الفترة بين عامي ١٩٠٠م و١٩١٢م؛ فذلك
لأنها هي أيضًا تبدو — مثلما يقول «س.
شوميه» عن «ثانكريد» — كأنها «تلحق الرمزية
بالسيريالية الوليدة»،
١٧٩ فنحن نحس فيها بالرغبة
المزدوجة في «أن تستمد من الموسيقى
فضيلتها» من خلال لغة سلسة، تقترن بتموجات
أحلام اليقظة، واللجوء إلى طاقات الصورة
لتحقيق التحول الشعري، وفي هذه القصائد،
حيث تنتشر «أشكال بطيئة»،
١٨٠ وظلال متقلبة، مثلما في حلم،
نرى أيضًا إشارات عجيبة وامضة، وتشابهات
غريبة، واستعارات غير متوقعة، ولا شك أننا
بعيدون هنا تمامًا عن الوضوح المذهل،
وإشراقة الرؤى الرامبوية: كل شيء يدور في
الغبش، في أقاصي الحلم والماضي: «يأتي رجلٌ
من أعماق ماضيه»،
١٨١ «تطفو الحياة السابقة وتوشوش»،
١٨٢ وبلا انقطاع، في «محطةٍ صامتة
وخاوية»، يبتعد ضجيج قطار،
١٨٣ لكن — مثلما كان يمكن لرامبو
أن يقول — «لا أحد يرحل»: فهذه التسكعات
على غير هدى، وهذه النزهات الشبحية لا
تقودنا أبدًا نحو الحياة الحقيقية، والجملة
نفسها تضعف، وتتباطأ بفعل نقاط الإرجاء
والشرط:
الحارس وعامل الهويس في البلد
المحموم إذن — العظاية الرمادية
الضخمة التي أوت إليها روح قديمة —
ينفخ بصوتٍ بعيد يستدعي طقسًا وآلة
متوحشين — لأنه يرى مرور أشياء لا
نعرف أن نراها — يلحقان بالأفق حيث
ينام الماضي تحت الرماد …
١٨٤
غير أننا نجد في هذه القصائد ما هو أفضل
من وعدٍ بمواهب لفظية نادرة: لقى من الصور:
«هذه النظرة لامرأةٍ في نافذتها — رزينة
وثقيلة مثل عنب أسود»،
١٨٥ «فوهة موسيقى تنفتح»
١٨٦ (صورة رامبوية للغاية)، «أشرق
فجرٌ ذو قلب منقبض»،
١٨٧ وشعور حاد بالفانتازي المديني
والحديث يتلبد في أزقة المدن الكبرى —
(«أحب أن أبحث في ضواحيك عن عيني المجهول
هاتين المألوفتين لي»، مثلما يقول «فارج»)
١٨٨ — موصولًا بموهبة تحريك
الأشياء، والحوائط، والشوارع، ومصاحبي حياة
خفية، غريبة، مثيرة للقلق: «حائط إعلانات مرعب»،
١٨٩ شارع رئيسي «يتتالى ويتثاءب»،
١٩٠ «الخد الشاحب لساعة حائط»،
«يهتاج بين الأشجار النحيلة»،
١٩١ والطرق القديمة المسدودة،
«الفاغرة مثل خرس يريدون الكلام».
١٩٢
ونعثر على «فارج» — (بعد صمتٍ طويل)،
١٩٣ خلال تواطؤه مع المجموعة
السيريالية وانتقاله إلى مجلة «كوميروس»
١٩٤ — أستاذًا لنثره، ومدركًا من
الآن فصاعدًا لمواهبه الأصيلة كشاعرٍ
باروكي وكوني، خرافي وشرس في آن، لكن
دواوينه الأولى تجعلنا نتوقع — سلفًا — لغة
شعرية جديدة، بل و«منطقًا شعريًّا» جديدًا،
لن تجتمع فيه الكلمات أبدًا حسب المنطق
التقليدي كي تخضع لفكرةٍ موجودة خارجها،
لكنها ستسطع كل واحدةٍ ببريقها الخاص،
وسترتبط في أفلاكٍ من الصور، والإيحاءات:
١٩٥ نحن هنا في فجر تقنية جديدة،
لا توشك أن تستنفد تأثيراتها.
(٢-٣) «سان–بول–رو»، أستاذ الصورة
أيضًا، ينتمي «سان–بول–رو» («أستاذ
الصورة»، مثلما كان يسميه «أندريه بريتون»)
١٩٦ إلى الرمزيين والسيرياليين في
آن: إذ إن هذه الموهبة في الصورة،
والاستعارة المدهشة تمامًا، غير المسبوقة
دائمًا، تسمح له بالجمع بين الملموس
والمجرد وأكثر الوقائع تباعدًا في وحدةٍ
متوهجة، ولا شك أن هذا السيل من الصور يفيض
أحيانًا إلى استعاراتٍ يمكن الحكم عليها
بالتحذلق أو الغموضن أو الغزارة المفرطة،
١٩٧ ولا يقل عن ذلك صحة أن هذه
الأهمية الممنوحة للصورة تربط «سان–بول–رو»
بالرمزيين الذين أرادوا — في ظل تنوع
المظاهر المحسوسة — اكتشاف الوحدة العميقة
للكون، لكنها تعلن أيضًا عن اتجاهات الشعر
السيريالي الذي سيعتبر الصورة — «المجانية»
إلى هذا الحد أو ذاك، لكن المفاجئة
والخاطفة دائمًا — وسيلة لتفجير شرارة
وإشراقة كاشفة، ولتحريرنا من المفاهيم
المحفوظة: «في صورٍ معينة، مثلما يكتب
«أندريه بريتون»، نجد بالفعل بداية هزة أرضية»،
١٩٨ لا شيء يثير الدهشة إذن من أن
نرى «أندريه بريتون» يعبر عن غيظه، في
«مقدمة خطاب عن ضعف الواقع»، من ادعاء
«ريمي دي جورمون» بأن يشرح لنا ما الذي
تعنيه كل استعارات شاعر: فالشعر لا يُصنع
كي يُفهم، وإنما ﻟ يخلق، وعلينا أن نأمل —
مثلما يقول «بريتون» — أن تكون «الإبداعات
الشعرية» مطالبة ﺑ «تحريك تخوم الواقع المزعوم».
١٩٩
ومن الطريف الإشارة إلى أن «كاميي
موكلير» قد وصفت «سان–بول–رو» — عام ١٩٠١م
— مستخدمة كلمتي «عبقرية مهلوسة»،
٢٠٠ لتذكر كمثالٍ على «الهلوسة
الهادئة» قصيدة «دورق الماء الصافي»
الشهيرة:
على مائدة ماخور أسود حيث سنحتسي
خمرًا أحمر
كل شيءٍ مظلم ومضطرب بين هذه
الجدران الأربعة
وحدة الثدي الكريستالي يؤكد
معجزة مائه الساذج.
هل تشرب الضوء المفعم له ليلتمع
هكذا، كأنه سقط من بنصر رئيس
الملائكة؟ …
٢٠١
ومن ناحيةٍ أخرى، من الخطأ أن نعتبر
«سان–بول–رو» — مثلما يفعل «موكلير» —
«شاعرًا غريزيًّا»
٢٠٢ خالصًا، رجلًا من الطراز
البدائي: فالعلاقات التي تقيمها الاستعارة
في كل لحظةٍ بين الوقائع الملموسة
والأفكار، بين الكون المحسوس والكون
الروحي، تبررها نظرية الفكرة الواقعية
Idéoréalisme،
المعروضة بشكلٍ خاص في استهلال «مذابح
الطواف»: ﻓ «عالم الأشياء» — مثلما يقول
عنه «سان–بول–رو» ليس سوى اللافتة غير
الملائمة لعالم الأفكار، ويبدو لي أن
الإنسان لا يسكن إلا في عالمٍ غريب من
إشاراتٍ غامضة، وتبريرات سطحية، وتحريضات
خجولة، وقرابات بعيدة وألغاز»،
٢٠٣ وعلى الشاعر أن يعثر على
«الجمال» الأبدي المتخفي خلف قناع المظاهر،
وأن يؤلف بين الأفكار والأشياء، ويمنح
الكلام مغزى ﻟ «كل العماء الذي لا يصوغه
العالم»؛ ولهذا، يمكن ﻟ «سان–بول–رو» أن
يقول إن «الكائن المثالي، الشاعر، يحتوي
الكون بالقوة».
٢٠٤
وتربط هذه النظرية «سان–بول–رو» — من
ناحية — بالسلالة الكبيرة للشعراء/السحرة
أو الرائين الذين يأتي الشعر، لديهم،
بالكشف إلى الإنسان، بمفتاح لأبجديةٍ
ضائعة، على النحو الذي لم يكف عن تأكيده كل
من رولان دي رونيفيل» و«تيوفيل بريان»،
٢٠٥ وهي — من ناحيةٍ أخرى — تفسر
التنوع الشكلي لقصائده ورغبته في «تحرير الكلمة»:
٢٠٦ ولأن الكلمة بالفعل تصبح أداة
خالقة، ولم يعد التحديد وظيفة الكلمات
وإنما الخلق (لا يقول «سان–بول–رو أن
«الشاعر استمرار لله»،)
٢٠٧ فيصبح من الضروري تحرير هذه
الكلمات من طغيان القاموس الذي يثبتها كل
واحدة في معنى، وأيضًا الأشكال الفنية
الثابتة التي تسجنها في أطرٍ محددة سلفًا،
فما إن نعي أن الكلمة «كائنٌ حي» — مثلما
يقول «فيكتور هوجو»
٢٠٨ — حتى صبح «الحركة والانفعال
من مكتسبات الكلمة؛ ولهذا رأينا الجمل
المتجمدة، الملولبة، المصلوبة، تفيض في
الهامش أو تتخطى الصفحة»،
٢٠٩ وبعد أن تحررت القصائد الجديدة
(أي قصائد سان–بول–رو») من كل قيدٍ خارجي،
أخذت تبدو مثل «وحدات بكتريولوجية حقيقية،
يتأثر فيها كل شيءٍ بالوحدة مثلما في
الطبيعة، وفيها تنظم وترتب عبقرية الشاعر التركيبية»،
٢١٠ ويرفض «سان–بول–رو» أن يميز
بين «كتابةٍ بالشعر» و«كتابة بالنثر»،
فبالنسبة له، هناك «أسلوب الجمال بكل بساطة»،
٢١١ فالواقع أن «الجمال» — في أي
شكلٍ يتخذه — «يمتلك الإيقاع كأساسٍ
جوهري»، وهو ما لا يمكن تدريسه في الأبحاث،
لكنه ينبغي أن يتخذ «حركات الحياة نفسها»:
٢١٢ ويخلص إذن — مع الرمزيين — إلى
أن الشكل حر، ومتغير إلى ما لا نهاية، حسب
الانفعالات أو الحركات التي يتم التعبير
عنها، ويقطع «سان–بول–رو» شوطًا أبعد من
أتباع الشعر الحر، فيستخدم — في قصيدة
«السيدة المزيفة» «أشكالًا تتلاءم مع
الانفعالات المتقاطعة»، ونثرًا موقعًا
وآيات وشعرًا حرًّا، وعندما يسألونه عام
١٩٠٥م عما «إذا كان يؤمن بمستقبلٍ للشعر
الحر»، يجيب: «بالتأكيد، وأيضًا بمستقبلٍ
للنثر ذي الأوزان المتأرجحة بالأسجاع»،
٢١٣ والواقع أن الجزء الأكبر من
أعماله يتكون من قصائد نثر موزونة ومسجوعة،
لكن إنتاج «سان–بول–رو» يمثل مظاهر متنوعة للغاية؛
٢١٤ لأنه — في آن — يريد أن يتنوع
ويتعدد كالحياة نفسها؛ ولأنه يمتد على مدى
خمسين عامًا (١٨٩٠–١٩٤٠م).
وتقدم لنا قصيدة «دورق الماء الصافي»،
السابق ذكرها، مثالًا جيدًا لهذا النثر
«المتأرجح بالأسجاع»، حيث نشهد مشاركة
«سان–بول–رو» لجهود «جوستاف كان» وكل من
يدعون — في الفترة بين عامي ١٨٨٥م و١٨٩١م —
«التنظيم الأوركسترالي» للنثر (يعود تاريخ
هذه القصيدة إلى عام ١٨٨٩م): فثمة تلاعب
كامل بالقوافي الداخلية بين
bouge
(ماخور)
و
rouge
(أحمر)،
noir
(أسود)،
boire
(يشرب)، وبين
absorbé
(تشربت)،
lumière
plénière (الضوء
المفعم)
و
céans
و
tombée
(سقطت)،
و
annulaire
(بنصر)،
archange
(رئيس الملائكة) … وفي قصيدة «اليمامة» ثمة
استخدام للمحارفات بحروف
ou, r, l,
c أو
cr بما
يصل إلى حد التناغم القائم على المحاكاة،
ليس بدون بعض التفاهة:
La colombe
roucoule; écoute, un caillou
roule en le soufflé qui coule ou
croule dans le joujou frêle de
son cou.
تهدل اليمامة، أنصت، حصة تتدحرج
في النفس الذي يسيل أو يميل في
اللعبة الهزيلة لرقبتها.
٢١٥
وينبغي القول إن اللهجة الرمزية — وهفوات
الذوق، والافتقار إلى ترخيم الصوت غالبًا،
ما رأيكم في هذه اللازمة: «يا من تنتمي
إليَّ، فلنتجنب المنغصات التي تتلاعب بها
أيد نحيفة إلى حد الاختفائية؟»
٢١٦ — تجعل قراءة كثير من هذه
القصائد غير محتملة، وبشكلٍ خاص أكثر
القصائد «فنية»: تلك التي يفرض عليها
«سان–بول–رو» — رغم نظرياته — البناء في
مقاطع ولازمات بشكلٍ مصطنع إلى حدٍّ بعيد
(«قبرة» و«ميناء الساعة» و«الخفاش») … في
الجزء الأول من «مذابح الطواف»،
و«اليمامة»، و«الغراب» (في الجزء الثاني)،
هل أعترف أنني — رغم الإعجاب الذي أبداه
«ر. دي جورمون» بقصيدة «حج القديسة آن»
٢١٧ — أجد هذه «الوعود» المرتديات
ملابس الأحد، والمعطرة بالزعتر البري»،
و«آذان هؤلاء المزينات بالضفائر الشقراء
«انحطاطية بشكلٍ يدعو إلى الاستياء؟
ورغم هذا، فسرعان ما انصرف الشاعر (ربما
اعتبارًا من الفترة التي أقام فيها في
«روسكانفيل»، واختلط بالصيادين البريتونيين
أكثر من احتكاكه بالوسط الأدبي الباريسي)،
عن هذه المؤثرات المصطنعة إلى حدٍّ ما، فقد
رفضت موهبته المتأججة، الغنائية
والاستعارية بعنف، كل الأطر، وأحيانًا ما
يستولي على «سان–بول–رو» — مثلما في قصيدة
«سلام ملائكي لماسيليا» — هذيان تعدادي
حقيقي:
… جوقة السردين الحي، دغل «روف»،
بنجر «جاردان»! انتصار
la
favouille،
وتوتياء البحر، والمحار، وبلح
البحر، والعصيدة وحساء السمك حيث
تنتصب أسماك الرسكاس! تمجيد
النوجا، والشاب الأنيق، والحلوى،
وقبور الأولياء والمضخة وبهرجات
عيد الميلاد، وعيد الفصح وعيد سان ميشيل!
٢١٨
وهو أحيانًا ما يترك «عوالم الجن
الداخلية» — وهو عنوان الجزء الثالث من
«مذابح …» — تنساب في مجازاتٍ رائعة (هو
الذي يلقبونه ﺑ «الرائع»): في قصائد
«الشاعر ذو الزخارف الزجاجية» و«البهجة»
و«العملة النادرة»، أو يعظم — وهي الكلمة
التي ترد بالبال — من أكثر الوقائع يومية،
القوارب البريتونية أو عرائس «ديفين»، إن
لم يعرض — في نثرٍ طنان دائمًا ومزركش
بالصور — مفاهيمه الشعرية والجمالية: في
قصائد «تحرير الكلمة» («مذابح»، الجزء
الثاني)، و«نظم الشعر» (الذي يرجع تاريخه
إلى عام ١٨٩٨م، في الجزء الثالث)، وهكذا
أمكنك لبطاقة «قصيدة نثر» أن تغطي أشياءً
متنوعة رخيصة ومدهشة وغزيرة مثل الحياة
نفسها، حيث تتجاور قصائد ووقائع ومجازات
وعروض نظرية … وإذا ما كانت الأنواع متنوعة
للغاية، فضلًا عن ذلك، فإن الشكل لا يقل
عنها تنوعًا، إذ يبدأ من الشعر الحر إلى
النثر المتفتح في دوائرٍ كبيرة، مرورًا
بأشكال الآية، وذلك في نفس النص في أغلب
الأحيان: ثمة هنا ملاحقة للمحاولة
«التركيبية» الكبرى للرمزيين.
والقصائد المعدودة التي كتبها «سان–بول–رو»
بين عامي ١٩٠٠م و١٩٣٨م، ويجمعها ديوان
«الغابرة ذات التسريحة متعددة الجوانب»
(المنشور بعد وفاة الشاعر)، تضم أنواعًا
متنوعة للغاية: فبعضها يتاخم النثر والنوع
الخطابي (قصيدة «إلى فييه دي ليل–آدام» عام
١٩٣٨م)، والبعض الآخر كُتب في شعرٍ حر أ
وآيات (قصيدة «صلاة إلى المحيط»، عام
١٩٢٧م، أو «شكوى مورفين الجالي» المكتوبة
إلى «ماكس جاكوب»)، ورغم هذا، فينبغي
التأكيد على أن عددًا منها يرجع لمؤثرات
الأسجاع واللازمات، لكن في لغةٍ أبسط وأرخم
بكثير، وربما تكون قد خضعت لتأثير «بول
فور» (تأثير التبادل، إذا ما سلمنا بأن بول
فور نفسه قد تأثر في قصائده الأولى بصديقه
«سان–بول–رو»، الذي طبع اسمه على رأس
«أناشيد غنائية»): ثمة تنظيم عروضي واضح في
«المجهول» (١٩٢٠م) أو في «صندوق الذخائر»
(١٩٢٧م)، مثلما في «أناشيد غنائية» لبول
فور:
هل كنت أشقر، هل كنت أحمر الشعر،
هل كنت أسمر، هل كنت أبيض، محاربًا
أزرق لفحته صدمةٌ شريرة فحولته إلى
الأحمر؟ من الشرق أو من الجنوب، من
الشمال أو من الغرب، هل كنت عجوزًا
أم شابًّا ما تزال، قل، هل كنت
فقيرًا أم فاحش الثراء؟
٢١٩
وهكذا، نجد في هذا العمل — في آن —
تطورًا وختامًا لدائرة، مع استمرار الثوابت
في نفس الوقت (غنائية عالية التحليق، وخيال
عنيف) التي تتأكد من خلالها شخصية الشاعر:
لقد ظل «سان–بول–رو» «أستاذ الصورة»
٢٢٠ حتى النهاية.
ها هو إذن شاعر يقف على حدود المرئي
واللامرئي، يعرف كيف يجعلنا نشعر باللامرئي
دون أن يكف عن تمجيد المرئي بعظمة، ولا شك
أننا نجد في مؤلفاته الأفضل والأسوأ،
وأحيانًا ما تتحد مبالغات هذه العبقرية
الغزيرة مع المبالغات الرمزية لتفضي إلى
أخلاطٍ غريبة، غير أنه — حتى في مغالاته —
يستحق الاحترام: فالدور الذي منحه للصورة،
والمفهوم الذي يصوغه للشاعر– الخالق، بل
حتى انغماسه في الهذيان اللفظي، ينطوون على
مبادئ خصبة، وربما بذور شعرية
جديدة.
وشأن «جاري» و«فارج»، يقيم «سان–بول–رو»
جسرًا بين الرمزية والسيريالية: وسيكون
مثيرًا للدهشة أن نرى انبعاث هذه الأسماء
الثلاثة بعد تدهور عام ١٩١٨م، ولا يقل عن
ذلك أن نعتقد أن أفضل ما في رسالتهم قد
تركه لنا هؤلاء الشعراء في لغة النثر، فلو
كانوا قد عبروا عنه شعرًا (حتى بالشعر
الحر)، أكان له أن يظل كما هو؟ ثمة شكل ما
في الدعابة، ومناخ حلمي معين، وغزارة ما في
الصور تعلن — مع «جاري» و«فارج»
و«سان–بول–رو» — عن دخولها الشعر، من خلال
قصيدة النثر، وبفضلها.