فجر شِعر جديد
(١٩٠٠–١٩١٣م)
-
(١)
الأزمة الشعرية في بداية القرن وأزمة قصيدة النثر: أفول الأشكال الشعرية، احتضار قصيدة النثر «الفنية» (بورنا–بروفان، سيجالان)، ذوبان قصيدة النثر الحرة في النثر الشعري.
-
(٢)
توجه جديد للنثر: الآية، كلوديل، سواريس، سان–ليجيه أو بدايات سان–جون بيرس، ميلوش.
-
(٣)
عودة متزامنة للشعر الكلاسيكي ولقصيدة النثر: الفانتازيون، كاركو، لافيسيير.
-
(٤)
من «شعر الواقع» إلى الشعر الحداثي: دورتان وشعراء الملموس، الحركة الحداثية وتأثيرها على مفهوم الشكل الشعري.
-
(٥)
التكعيبية الأدبية، بداياتها، وجماليتها: تحول الأبنية الأدبية، تأثير النظريات التكعيبية على قصيدة النثر.
***
وعلى أية حال، فقد تحقق تحرير الشكل نهائيًّا — بشكلٍ متوازٍ مع الفوضى الأكثر اكتمالًا: فقصيدة النثر تواصل الذوبان في النثر الشعري وفي الأشكال الغنائية للرواية، أو تتجدد في شكل أكثر «إيجازًا»، الآية: والنظم — من ناحيته — يتخذ المظاهر الأكثر تنوعًا، من البحر السكندري الصارم للقصائد «الرومانس» إلى الأشكال المهشمة والهيولية للقصائد الأولى «الحداثية»، وفي ظل هذا المناخ من البحث الفوضوي وقابلية التحول، ستتطور روح شعرية جديدة، تؤدي إلى تقنيات جديدة وإلى تأسيس متبادل أكثر تطورًا بين موضوعات الإلهام وأدوات التعبير للنثر والشعر.
(١) الأزمة الشعرية في بداية القرن وأزمة قصيدة النثر
(١) قصيدة النثر الفنية: شكل يموت
لا قصيدة نثر الرمزيين «الموسيقية»، ولا قصيدة المقاطع، تبدو مؤقتة — في السنوات العشر الأولى من هذا القرن — مع الأشكال الجديدة للحساسية والعودة إلى الملموس.
ويكشف مثالان مميزان أن قصيدة النثر الفنية في هذه الحقبة، كما شكلها الذي اتخذته خلال السنوات الظافرة للرمزية، أي القصيدة التي سيطرت عليها الغايات «الموسيقية» والأسلوبية، والتي لا يكف فيها الانفعال عن الارتباط بالهاجس الفني، قد أصبحت بالنسبة للكتاب الشبان (الذين لم يتخلصوا بعد من التأثير الرمزي) شيئًا شبيهًا بتمرين في البلاغة، بعيدًا للغاية — في أغلب الأحيان — عن مزاجهم، وسرعان ما سيهجرونها ما إن تصبح شخصيتهم أفضل تكوينًا.
نحن ندرك الآن، في هذا الجزء من أنفسنا الذي اختُبر كمبدع، ما أراد «جيد» أن يقوله: فقد توافق فينا، بالفعل، العجز مع النوع الذي أدانه — عجز كان ينبغي الاعتراف به حقًّا في النهاية.
لقد أصبحت قصيدة النثر، مثلما علمها لنا الرمزيون، بفعل انعدام السنوات ببساطة، أداة بين أيدينا العقيمة تمامًا، ولم تعد تحقق لنا أية سيطرة على حساسية الآخرين، فقد أصبحت تنطوي على شيء مضمر بشكل زائد، ومن بين كل العناصر التي كانت تنظمها لمؤلفها مما هو مضمر تحت طائلة الفظاظة، لم يعد من الممكن لانفعال القارئ غير أن يتقلص في النهاية، فهي معفاة من أشياء كثيرة إلى حد أننا عندما نقرؤها نحس أننا معفون أيضًا من التأثر بها.
ويمكننا القول إن «سيريستيفين» يمثل نقطة وصول لا نقطة انطلاق، وتدفق الموجة الرومانتيكية الكبرى وقد ازدادت ثراءً، خلال الطريق، بالعلاقات المتنوعة للمدرستين الطبيعية والرمزية.
مديح وسلطة الغياب
لا أتظاهر أبدًا بأنني هنا، ولا أنني أجيء ارتجالًا، ولا أتخذ ملابس وجسدًا، ولا أنني محكوم بالثقل المرئي لشخصيتي.
ولا أجيب على المراقبين بصوتي، وعلى المتمردين بعين قاسية، على الوزراء المخطئين بإيماءة تعلق الرءوس بأظافري.
إنني أحكم بسلطة الغياب المذهلة، وقصوري المائتان والسبعون المنسوجة فيما بينها بالأروقة المعتمة تمتلئ بآثاري المتعاقبة.
وتعزف الموسيقات في شرف ظلي، ويحيي الضباط مقعدي الخاوي، وتقدر نسائي على نحو أفضل الليالي التي لا أتنازل فيها.
شعر كهنوتي، لا تقوم فيه تماثلات الأسلوب المنظمة ببراعة إلا بترجمة رؤيا للعالم ذات تناسقات ثابتة، لكنه شعر — وهذا بديهي — غريب بشكل جذري عنا في جوهره، ومن الصعب بالنسبة لأوروبي من القرن العشرين أن يشعر أنه «أُخذ» بعمق بهذا الفن الآتي من عالم آخر، بهذا الشعور الكهنوتي، بهذا الاحترام لنظام إمبراطوري وسكوني، وبهذه السيطرة على المشاعر، تحقق قصيدة النثر هنا كثافة وصلابة الكريستال، لكن جمود خطوطها تجعل جمالها أكثر سهولة في الإعجاب بها لا في الشعور بها: وعلى النقيض؛ ولأنه يعشق الحياة والحركة إلى حد التعلق بالفوضى، يتطلب الجيل الصاعد — في بداية القرن العشرين — من قصيدة النثر الحيوية، والاندفاع، والصراخ.
(٢) ذوبان قصيدة النثر الحرة في النثر الشعري
صعوبة الحياة في غروب الشمس، أيتها اللحظة القاسية! ينبغي الخروج.
ها هو الليل الشبيه بجسر ذي قوس واحد، قوسه عالٍ وواسع، وعندما نتورط فيه، يصبح أسود تقريبًا.
إنه يربط الحقول الطافية، والغابات البعيدة والشارع المظلم.
أحب أن أعبره، وأدخل بعزم في الريف، يقابلني فلاحون ويحيونني، تنسحب البيوت من المشهد، هي التي كانت تلتمع ببياضها في الشمس، بوقاحة، بإنسانية تنحني شجرة حور على الأشواك المنتصبة مثل رجال، وتختلط جنبات زهور رقيقة ومنتفشة بالغابات البعيدة، أغوص في الظلام الذي يبخل بالكلمات، في الوحدة الباردة، العدائية، وتتفادى ورقة الشجر نظرتي، والغصن يبتعد إذا ما اصطدمت به، والوردة التي أطأها ترتفع خلفي.
من الذي سيعلمني أن أعيش هذا البلد الذي تشعر فيه الريح والشجرة والربوة بمشاعر البشر؟
(٢) توجه جديد للنثر: الآية
(١) كلوديل
ومن الصعب الحديث هنا عن إيقاع «نفسي»، فطول الآية لا يتوافق مع مدة النفس، لكن مع «انبعاث للفكرة» معقد إلى حد أن يتطلب عدة سطور: فالأمر يتعلق هنا حقًّا ﺑ «إيقاع الفكرة».
ستصبح القصائد المبنية على الآيات — إذن، وبشكل عام — منظمة بشكل واسع، دون أن تكون، رغم هذا، رابسودية، مبنية على بعض الموضوعات الكبرى، لتتطور انطلاقًا منها بطريقة خطابية وموسيقية (أو دائرية) في آن، وذلك ما يعني أنها تدخل ضمن فئة القصائد المبنية، الخاضعة لنظام صارم، وأن كتابها يصنفون ضمن شعراء الانسجام والديمومة، ضمن منشدي القوى الأبدية، الذين يقبلهم الإنسان «المتصالح» بشكل صافٍ:
قصيدة الإنسان الكبرى في النهاية فيما وراء الأسباب الثانوية وقد تصالح مع القوى الأبدية،
بين النظام والتمرد، اختار شعراء مثل «كلوديل» و«سان–جون بيرس» و«ميلوش»، مرة وللأبد، أو أن شعرهم، بالأحرى، يفترض نظامًا كونيًّا للإنسان مكان فيه، وحيث كل تمرد لا يبدو هدامًا فحسب، وإنما عبثيًّا وساخرًا.
سواريس
هادئ مثل الضوء الذي هو صرخة الذوبان، صوت النفير هذا الذي يمسك بالعلامة الأبدية، إنه من الحدة والصفاء إلى حد أننا لم نعد نسمعه في مد الفضاء وجزره؛ لأنه الجوهر، والشكل، والمادة، والأداة والسمع، الله لا يؤثر في الإنسان إلا من خلال الإنسان، ضوء، ضوء كل شيء! شعاع الشمس هو نواة النواة، بويضة المادة، من أجل أن تخصبها روح الإنسان!
سان–ليجيه–ليجيه أو بدايات سان–جون بيرس
نجد هنا (مثلما ذكرت من قبل، لدى «كلوديل») ميلًا إلى النظام التشكلي، و«إحساسًا بالكليات الكبرى» يمد جذوره في إحساس عميق بالنظام الكوني، يصاحبه تفاؤل إزاء الخليقة: كل الأشياء في مكانها، كأنها جميلة ولذيذة وتستحق المديح:
ميلوش
من جزر «الانفصال»، من إمبراطورية الأعماق، أسمع صوت قيثارات الشموس يتصاعد، وعلى رءوسنا ينساب السلام، والمكان الذي نحن فيه، يا «مالشوت»، هو منتصف «الارتفاع».
مُنح مفهوم اﻟ «لا شيء» المقدس كي أعلم أن اﻟ «لا شيء» وحده يفصلني عما هو كائن وما أكون فيه:
اﻟ «لا شيء» هو كلمة عرفان بالجميل ﻟ «المسافرين النبلاء»، هو مدخل ومخرج «المتاهة».
أنا، الشيء، كيف تصرفت إذن كي أستخرج من فكرتي عن اﻟ «لا شيء» الختم الجنائزي العظيم الفراغ الأسود والثلجي؟
إذ إن الماء الجسدي المكان الزمان، لم ينسكب في وعاء فراغ قديم، و«الحج» المكان–الزمان لم يقذف به في فراغ موجود من قبل الفراغ مكان، والواقع أن المكان نفسه المحروم من الأثير هو مادة لا تنفصل على نحو ما عن الحركة المطابقة للزمن، لم يكن للفراغ إذن أن يظهر دون أن تظهر في نفس اللحظة الأكوان.
مكاني الوحيد إذن هو هذا الذي نفث في اﻟ «لا شيء» سراب نشوة «جمال» العالم.
«الرجل الذي لم يوقظ فيه هذا النشيد فكرةً أو انفعالًا، وإنما ذكرى، وذكرى موغلة في القدم، سيبحث — من الآفن فصاعدًا — عن الحب بحب».
(٣) عودة متزامنة إلى الشعر الكلاسيكي
إن الشعراء الذين تحدثت عنهم هم شعراء الاستمرار والنظام: شعراء القوى الكونية الأبدية أكثر من كونهم شعراء الدوامات وهواجس القلب الإنساني، الخطابات أكثر من كونهم شعراء البوح، شعراء التركيبات الكبرى لا الإشراقات الموجزة؛ ولأنهم يقعون خارج المباشر والعابر، فلن يستطيعوا الادعاء — لنفس هذا السبب — التعبير عن عصرهم، وأنهم يستخلصون لنا نكهته الخاصة وإيقاعاته المميزة: وبشكل خاص عندما تكون هذه الفترة هي فترة التسارع والديناميكية غير المتوقعة، لكننا سنشهد — بعد فترة من التكيف، كأنها فترة انتظار تُترجم في الشعر إلى حصيلة سلبية لأعوام ١٩٠٠ / ١٩٠٨م، تشكل وتحول اتجاهات جديدة والشعر عامة وقصيدة النثر (أيضًا) التي تعاود الميلاد، هنا وهناك، في أوساط الفانتازيين، وأيضًا لدى حاملي لقب الشعر «المباشر» والملموس، حتى قبل أن يستفيد من الاندفاعة القوية لحركتي الحداثيين والتكعيبيين.
واعتبارًا من عام ١٩٠٩م، سنتمكن من قراءة قصائد نثر «كاركو» في مجلة «ريفولوسيون إستيتيك»، التي سيجمعها في ديوان «غرائز» (عام ١٩١١م)، وديوان «إلى ريح الصباح المتشنجة» (١٩١٣م).
أنا ستيل، التي كانت تهبط الشارع، عبرت وسارت بمحاذاة الرصيف، وأنا كنت أنصت لجرس محطة القطار، الذي كان يدق، على بوابة ضخمة غريقة في الشفافية البنفسجية والزرقاء، يصخب أكثر من أجراس «والبورجي»، كانت الدقات الغريبة تهتز واحدة واحدة؛– وانتظرت عبثًا أن يحدث شيء؛– أما العابرة، فقد مستني بمعطفها، لكني لم أكن أعرف شيئًا عنها، ولا أنها تُدعى أنَّا ستيل، ولمحت فقط وجهها المتجعد الرديء، نظرة عاهرة أو مدلكة نخرتها الرذيلة، وأشاحت عني في الحال.
كنا بعيدين للغاية … وأخريات ألم يكنَّ محبطات تحت المرايا العاكسة، مجروحات بطريقة أقل وحشية بلا شك؟ في حديقة منازل وشوارع، وأعمدة مزخرفة بشخصيات مقدسة، حديقة قمرية مع ذلك، يا إلهي! والنداءات المبحوحة للتراموايات مثل صرخة الطواويس على العشب، والرجال الصم المهرولون، وألف نار نجمية … لم تكن لديَّ أذنان سوى لقياثر الليل الغريبة، لهذا الليل الكهربائي الرقيق: هن أيضًا هل سيسمعن؟ وعلى أية أسرَّة يتمددن، وفي موت أي صمت، سيستسلمن لليل؟
هكذا، ما الذي كان بمقدوري أن أعرفه من ألوهيتهن؟– ثملًا من أجل حياة لعزلتنا، لم أبحث أبدًا عن أنَّا ستيل بين رفيقاتها، اللاتي، حول محطة القطار الأرضية وتحت الماسات المفقودة من السماء، كنَّ ينثرن في السر قلب بيرسفون.
(٤) من شعر الواقع إلى الشعر الحداثي
شعر الحياة الحديثة:
أبوللينير، مارينيتِّي، سندرار
القطيعة مع «لعبة الأبيات القديمة»
حوالي عام ١٩١٠م، كان ثمة وقت قد مضى على رد الفعل ضد الرمزية، ضد ما تنطوي عليه مما هو «عقلي» بشكل زائد، ومُبتعد إلى حدٍّ بعيد عن الحياة، وعلى السعي إلى إعادة الشعر نحو الواقع الحقيقي والثقيل، ونذكر أن «جيد» قد قدم المفهوم والمثال لشعر الواقع والأحاسيس هذا، لكن حركة «الحداثة»، التي انطلقت من هذا الاتجاه، ستذهب إلى أبعد من ذلك، بهدف خلق شعر الراهن، شعر حديث للغاية من حيث الإلهام والشكل. شعر الواقع، وشعر حداثي: مرحلتان في المسيرة نحو روح شعرية جديدة، ونشهد — في نفس الوقت — إصلاحًا عميقًا للكتابة.
شعر الواقع: «دورتان» وشعراء الملموس
الحركة الحداثية وتأثيرها على مفهوم الشكل الشعري
لن تلفت الحركة «الحداثية» هي أيضًا الانتباه إلى هذا الحد من خلال قصائد النثر بقدر تأثيرها التحرري فيما يتعلق بموضوعات الإلهام والشكل الشعريين: فلن تتحول مادة الشعر فحسب، وإنما أيضًا تقنيته
وعندما تفكك اللغة، وتتفتت إلى عناصر بسيطة (أسماء بشكل رئيسي، على الأقل بالنسبة للمستقبليين الذين يلغون الصفة والفعل)، فكيف يعاد بناؤها؟ ونرى أن مرحلة الشعر الحر، الذي يمثل فيه كل بيت جزءًا من الجملة، قد تم تخطيها بالفعل، لكن، وبالطريقة نفسها، تم تخطي مرحلة النثر «المطرد»، الأفقي، حيث يتم أسر الكلمات في أسمنت أدوات الربط، وحروف الجر والأفعال، لتشكل تجميعًا من الكتل المبنية بصلابة، حيث يتتالى المعنى من جملة إلى أخرى، ويتم حذف كل ما هو نحوي وما هو مجرد: تتبقى أسماء متجاورة، وأسماء ملموسة، ملونة، مصورة، وأحيانًا ما يسمح التنظيم في أبيات بعزل العناصر المختلفة التي — بتقديمها بهذه الطريقة — تهتز أمام أعيننا مع محافظة كل عنصر على فاعليته وكثافته:
وأحيانًا، على النقيض، بإدماج عناصر مختلفة في بيت واحد، تتخثر في مركب واحد، مثلما في هذا «البيت» الذي يلي الأبيات السابق ذكرها:
(نرى التأثير الناتج: هذه الأكداس من الأشياء الغريبة تلتقط في نفس الضوء، وتشملها نظرة واحدة).
وانطلاقًا من ذلك، يؤلف الشاعر، موازنًا بين الكتل، ومجاورًا الأحاسيس والحقائق النفسية أو الفسيولوجية ومصادمًا بين الصور، ويعاد تكوين الواقع المتشظي لا في جمل نثر، وإنما في أبيات لا يتدخل فيها أبدًا أي حساب للمقاطع اللفظية:
(٥) التكعيبية الأدبية، بداياتها، وجماليتها
تجدد قصيدة النثر بفعل الأفكار التكعيبية
ولأن الشعر يُكتب — طباعيًّا — على الورق، فإنه يمتلك بالفعل شيئًا ما مكانيًّا، سيتم السعي للتأكيد عليه إلى حد الرغبة في صدم العين شأنها شأن الذهن، بتنظيم عناصر القصيدة على الصفحة مثلما قد يفعل الرسام عندما يملأ قماش لوحته: وعندما سيكتب «ريفيردي» قصائد من قبيل «مكان».
لا يمكننا إذن القول إن القصيدة «تتلاحق»: فهي تشكل كلًّا مندمجًا، موضوعًا تتداخل عناصره وتتوحد وفقًا للمنطق الخاص بالقصيدة، فحتى غياب علامات الترقيم يلغي أية فكرة تتعلق بالتلاحق المتتابع المعين بالوقفات، فالكلمات أو أجزاء الجملة، لم تعد مسلسلة مثل علامات الموسيقى، وإنما متجاورة بالأحرى مثل بقع الألوان في اللوحة.
المشكلة إذن هي: كيف يمكن للنثر، بشكله المترابط وتوزيعه الطباعي نفسه، وقد بدا محكومًا بأن يقدم تتابعًا، تعاقبًا للأفكار المتسلسلة، كيف يمكن أن يصبح أداة فكر شعري، يجاور الأفكار المنفصلة، ويؤلف من خلال تجميع العناصر مثلما يفعل الرسام على قماش اللوحة؟ والواقع أننا نجد المشكلة المزمنة الخاصة بالصراع ضد الانسياب المتتابع للزمن: هذه المشكلة التي حلها البعض باستخدام الأساليب الدائرية، الموسيقية (المستبعدة هنا)، فيما حلها آخرون ﺑ «إشراقات» لا زمنية، تستمد — في تركيبة جديدة ومكثفة للغاية — عناصر الواقع المتفرقة.
وفي حديثه عن هذه القصيدة التي ترتفع مثل بالونة، يضيف «كوكتو»: «هل سأعلِّمكم، فضلًا عن ذلك، أن الكلمات الغريبة، والنعوت، والمغالاة، والتصويرية، تمنعها من الارتفاع؟» نحن بإزاء رفض هنا لكل بلاغة، لكل زخرفة لفظية، و«جمالية الحد الأدنى»، التي ستكون — في واقع الأمر — قاعدة قصيدة النثر وأيضًا قصيدة النظم، فباستخدام أكثر المواد عادية، والوقائع اليومية، وكلمات الاستخدام اليومي، بل حتى الأماكن المشتركة (المستخدمة في الشعر مثلما يستخدم الرسامون التكعيبيون الورق الملصق في اللوحة)، سيعيد الشعراء تكوين عالم فريد، مغاير، نشعر فيه بالاغتراب مثلما يشعر المسافرون في كوكب آخر، فلا ينبغي للشعر أن ينبثق إلى هذا الحد من جمال التعبير قدر انبثاقه من نمط الرؤية.
ولأن المونولوجات الغنائية إلى هذا الحد أو ذاك، والحكايات الغريبة إلى هذا الحد أو ذاك، التي نشرتها بارونة «أوتينجين» تحت الاسم المستعار «روش جري» في «سواريه دي باري» (التي كانت تديرها مع «أبوللينير») وفي «نور–سود»، لا نجد فيها أيضًا أي شيء «تكعيبي» بشكل خاص، فإننا مجبرون، في النهاية، على حصر قصيدة النثر التكعيبية في كاتبين: «ماكس جاكوب» و«ريفيردي»، والحق أننا أمام شاعرين بارزين، بفعل بياناتهما النظرية وموقفهما الفعال، والبنَّاء — في آن — من الكلمات والوقائع الشعرية، ويمكننا إضافة أنهما إذا كانا يمثلان التكعيبية بامتياز، فهما — لاعتبارات أخرى — رائدان لأدب ما بعد الحرب: ﻓ «كوب النرد» نُشر، من ناحية أخرى، عام ١٩١٧م، ويمتد إنتاج «ريفيردي» الشعري من عام ١٩١٥م حتى وقتنا الراهن، إنه إذن المظهر الجديد للشعر، مثلما وجهته الحداثة والتكعيبية، الذي سيظهر ويتأكد في الصفحات التالية.
«وفي الأدب، هو تاريخ وفاة «مالارميه» وإغلاق صالون «هيريديا»، وبالتالي تشتت الشعراء الذين لم يعد لهم نظرية مشتركة، لعدم رؤيتهم لبعضهم البعض، ولا يفكرون معًا في خلق مدرسة قومية حقًّا، وهو ما أدى إلى الارتباك التام للأفكار والقيم» (Du Classicisme au Symbolisme, Nouvelle Revue critique, pp. 148-149).
تعود هذه القصيدة لعام ١٩٠٤م، وكما بالنسبة للقصائد التالية، أعيد نشرها في الجزء الأول من «الأعمال البشرية لسان–جون بيرس» Œuvre poétique de Saint-John Perse, Gallimard, 1953.
سهول! منحدرات! كان
هناك نظام أكثر (ص٤٤١).
⋆الباتافيزيقا Pataphysique: «علم الحلول الخيالية، الذي يمنح الملامح — بشكل رمزي — خصائص الأشياء الموصوفة بكمونها»، حسبما يقول «جاري» (م).
والمثير أن نثريات «جيلوريه» المبتورة، التي يتزايد قصر فقراتها، تنحو إلى الشعر الحر، رغم أنها مكتوبة فيما بعد ذلك بكثير، وتذكرنا أحيانًا بسندرار: «انزلاق طويل عذب، كمان الانحناءات، آثار الأصوات، صلصلة الإبر، ضربات القلائد، ارتعاشة حديدية، جزر رماد فحم الحديد المرجانية، دوران أبواب الرواق الزجاجية، موسيقى القطارات على متوازياتهم اللانهائية» (Funiculaire, Messein, 1933، طبعة للقصائد المكتوبة بين عامي ١٩٢٠م و١٩٤٠م، نشرت بعد وفاة المؤلف).
والمزعج أن نرى كيف يعبد «أبوللينير» استخدام أدوات «سندرار»، إشارات أو صور (بطريقته الجديدة)، وبشكل متكرر، وسنلاحظ، على سبيل المثال، استعادة فكرة شعرية لسندرار، في البيتين الأخيرين من قصيدة «نوافذ» التي ذكرتها: