ولا شك أن هذه الجمل القليلة تسمح برؤية ما
يفصل «جاكوب» عن «ريفيردي»، لكن ما يمنح أيضًا
محاولاتهما طابعًا مشتركًا، وما يعلن — من الآن
— ميلاد السيريالية: باعتبارها مطاردة لكشف ما
هو خبيء في الواقع، الذي تحول عاداتنا
و«القواعد» الفنية من رؤيته؛ لذا ينشأ لدى كل
منهما إرادة تجديد التعبير والتقنية الشعرية،
اللذين سيتم بلا شك تطبيقهما على النظم، وأيضًا
على قصيدة النثر، التي تحتل مكانة هامة في
إنتاجهما الشعري.
ماكس جاكوب و«كوب النرد»
رجلٌ فنان محيِّر، «ماكس جاكوب» هو ساحر
ومخادع في آن، صاحب نظرية «الإرادة» في
الفن، ومن أنصار «الكلمات الحرة»، فلم
تراعِ سخريته أي شيء — ولا حتى مشاعره
الدينية، بعد هدايته (عام ١٩٠٩م)، التي كان
يعلن عنها بشكل مسرحي وبحركات بهلوانية،
إلى حد أن أصدقاءه كانوا بالكاد يصدقونه،
«كان يمثل محاكاته الساخرة التي تخصه،
مثلما يقول «بيلي»، لكن هذا التمثيل لا
ينفي أصالة مأساة ليس من الصعب إدراكها»،
١١ في «كوب النرد» هذا — المنشور
عام ١٩١٧م، والذي يضم نثريات حديثة وأخرى
قديمة ترجع إلى عشر سنوات،
١٢ كان «جاكوب» يقرؤها أولًا بأول
على جيرانه في شارع «رافينيان»، بيكاسو،
وسالمون، وماك أورلان
١٣ — نجد نفس الخليط العجيب من
المحاكاة الساخرة الهدامة والإيمان بالفن،
ويتكون جزءٌ كبير من «كوب النرد» من محاكاة
ساخرة، يفسرها — في آن — مزاج «جاكوب»
الهزلي والسخط الذي نستشعره لديه دائمًا
إزاء الحماقة الصائبة والعقلية الإذعانية،
في الأسلوب مثلما في الأفكار،
١٤ لكن مع هذا الجانب السلبي، نجد
— في «كوب النرد» — بحثًا قلقًا عن «شيءٍ
آخر»، نوعًا من النداء ﻟ «المجهول»، ينطلق
بمعونة كل مصادر اللاوعين ويعلن عن
السيريالية، ونجد فيه أيضًا — وهو ما يميز
«جاكوب» عن السيرياليين — نظرية لقصيدة
النثر، ورغبة في تأسيس نوع ومنحه قوانينه
الجمالية، قوانين تستند أساسًا — مثلما
قلنا — على الإرادة «التكعيبية» في جعل
القصيدة شيئًا، كلًّا منغلقًا، ونرى أن
«كوب النرد»، الذي يقع في منعطف تاريخ
قصيدة النثر، قد منحها دوافع حاسمة، ولذلك،
فهو يستحق دراسة أكثر تعمقًا.
ويهمنا جانب المحاكاة الساخرة في هذا
الديوان، لا لأنه يتوجه فحسب إلى
البورجوازية و«الأفكار المسبقة» (سنبدي
إعجابنا بهذه العناوين: «السيد رئيس
الجمهورية يتفقد معرض البستاني»، «الفقراء
غير المتحولين وغيرهم»، «ليلية الترددات
الأسرية»)، وإنما أيضًا نحو أنواع أدبية
مختلفة، بدءًا بالصحافة» («بحث حول وضع
الخادمات في المكسيك»)، والرواية المسلسلة،
وصولًا إلى الأنواع القائمة في أعلى السلم
الأدبي: «قليل من النقد الفني»، «نوع يتعلق
بالسيرة الذاتية»، وعلى نحو خاص، تلك
المحاكاة الساخرة — وهي رائعة أدبية حقيقية
— «قصيدة فخيمة» التي يعزف فيها «جاكوب»
على الوتر الوطني، ويضاعف التساؤلات
الخطابية على طريقة «هوجو»: «أي متنزهات»
هذه؟ أي «غضبات» هذه؟ أهي فرنسا تضع قبعة فريجية؟
١٥⋆
أهي أنتِ يا إنجلترا؟»،
١٦ والمناجاة بأسلوب «بردي
الأحرار»: «أيا نابليون! أيا نابليون! ها
قد ولدنا وها قد متنا»، ويستعيد — بأكثر
الطرق «فنية» — جملة البداية لينهي بها
القصيدة.
ولا شك أن قصيدة النثر التي تملك مكانةً
جيدة في قاعة عرض هذه الصور الهزلية،
والقصيدة «المترجمة من الألمانية أو البوسنية»،
١٧ التي تتخذ شكل نشيد غنائي، مع
مقاطع، وتكرارات، ونزهات بين الأشباح،
قصيدة ناجحة حقًّا، وإذا اكتفت القصيدة
التي تبدأ بالعبارة التوجيهية «إليك يا
رامبو» بالاستفادة من الأحاسيس المتزامنة
(«تعثر حصاني في ثنائيات الأسنان! تتعالى
العلامات حتى السماء الخضراء لروحي»)،
١٨ فإن معارضات «بودلير» تكون
أكثر نجاحًا: تذكرنا إحداها بتكوينها
بقصيدة «وجوه عشيقات» و«نداءات»،
١٩ وأخرى، «أحد أيامي»، تقلد إلى
حدٍّ غريب إلهام قصيدة «في الساعة الواحدة
صباحًا» وشكلها:
أن تريد نقل الماء بالمضخة
بوعائين زرقاوين، أن يصيبك الدوار
بسبب ارتفاع السلم، أن تعود لأنني
كان لديَّ وعاء إضافي وألا يعاود
الذهاب إلى المضخة بسبب الدوار، أن
أخرج لشراء صينية لمصباحي … إلخ، إلخ.
٢٠
يمكننا أن نرى، في هذه «القصيدة»
الأخيرة، استخدامًا منحرفًا إلى حدٍّ بعيد
ﻟ «العادي»، يذكرنا ببعض أساليب
«لوتريامون»، ففي كلا العملين، نجد خليطًا
متفجرًا من السطحية والشطط يجعل منهما
«آلتين جهنميتين» حقيقيتين لتدمير الأدب،
فأحيانًا ما يروي «جاكوب» بوقارٍ مصطنع
حقائق بديهية أو تفاصيل تافهة،
٢١ وأحيانًا ما يرصد بلهجة رتيبة
وطبيعية متتالية من الغرائب: ففي عرض في
دار الأوبرا:
حدثت اغتيالات لجاري، ودفقات
بترول مشتعل، حدثت حصارات
للمقصورات، وحصار لخشبة المسرح،
وحصار لمقعد متحرك، هذه المعركة
التي استمرت ثمانية عشر يومًا،
وربما يكونون قد زودوا المعسكرين
بالمؤن، لا أدري، لكن ما أدريه
جيدًا، هو أن الصحفيين أتوا من أجل
مشهد بهذه البشاعة، وأن واحدًا
منهم لأنه كان مريضًا أرسل السيدة
والدته، وأن هذه اهتمت للغاية
برباطة جأش بنبيل فرنسي ظل متمسكًا
ثماينة عشر يومًا في مقدمة المسرح
دون أن يتناول أي شيء سوى بعض الحساء.
٢٢
لكن الأسلوب الذي ينتمي إلى «ماكس جاكوب»
حقًّا هو الشعوذة اللفظية، الاستفادة من
مصادفات التعبير المضحكة، ومن تداعيات
الكلمات بفعل الجناس، التي تمنح القصيدة
مظهر تنظيم مفتعل، يتبدى تحته تنافر هزلي،
وستعطي القصيدة المكرسة ﻟ «النوع
البيوجرافي»، التي سأوردها كاملة، فكرة عن
شكل «منطق العبث» هذا:
بالفعل، في سن ثلاثة أعوام، كان
كاتب هذه السطور لافتًا للنظر: كان
قد صنع صورة وجه بوابته من
كرة–تمرير، بلون الصلصال، في
اللحظة التي كانت فيها هذه،
وعيناها مغرورقتان بالدموع، تنزع
ريش دجاجة، كانت الدجاجة تعرض رقبة
أفلاطونية، والواقع لم تكن كرة
التمرير هذه سوى تمرير وقت،
والخلاصة، فاللافت للنظر أنه لم
يلفت النظر: لافت للنظر، لكنه غير
مؤسف؛ إذ لو لفت النظر، لما كان
سيصبح لافتًا للنظر، كانوا
سيوقفونه في مهنته، وهو ما كان
سيدعو للأسف، واللافت للنظر أنه
كان سيبعث على الأسى والأسف أن
يكون قد لفت النظر، ودجاجة
كرة–التمرير كانت أوزة.
٢٣
فأن يستخلص «ماكس جاكوب» جانبًا فكهًا من
تلاعب بالألفاظ من هذا القبيل، الذي كان
يستمتع به دائمًا بمرح شهواني، مثلما يقول
كل من عرفوه،
٢٤ فهو ما لا شك فيه،
٢٥ لكننا بلا شك سنتقبل — بصعوبة
أكبر — أن ينجم من تلاعب كهذا بالألفاظ
منهج كامل في الإبداع الشعري، ورغم هذا،
فثمة رغبة هنا في «ترك المبادرة للكلمات»،
وفي استعادة تعبير «مالارميه»، الاستلام
لقوى اللغة المتروكة لذاتها، بمعنًى ما،
لتذهب إلى أبعد من التسلية البسيطة بكثير:
فلا ينبغي للمتلاعب، هنا أيضًا، أن يخفي
علينا رمزه.
ولنؤكد — من ناحية أخرى، فيما يتعلق
بجاكوب — أن تيارًا واسعًا، سيؤدي إلى
السيريالية، سيجتذب عددًا من الشعراء
الحديثين إلى اللجوء إلى اللغة، من خلال
محاولات — في أغلب الأحيان — سخيفة، من
الوهلة الأولى، فخلف الترديد المريض للكلام
والشعوذة اللفظية لدى شعراء القرن العشرين،
التي كثيرًا ما تُحير القارئ كثيرًا ما
يختبئ نداء قلق للمجهول، ورغبة في رؤية
قيام علاقات جديدة بين الكلمات المتقاربة
في إصاتاتها، علاقات عبثية بالنسبة للوعي
الواضح، كاشفة ربما بالنسبة لمن يؤمن
بالقوة الخفية ﻟ «الكلمة»، هذه النزعة التي
ستتزايد قوتها بقدر ما يفقد العقل الخالص
حقوقه في الإبداع الشعري، تنحو إلى تقريب
الشعر من بعض المساعي «القبلانية»، من جهد
العثور على مفتاح أبجدية أصبحت غامضة
علينا، وستؤدي معرفتها إلى فتح «أسرار خلق الكون»،
٢٦ والنظرية التي تريد للكلمات
ألا تصبح إشارات اعتباطية، بل تشكل نظامًا
كاملًا وعضويًّا حيث تربط الصوت والمعنى
علاقات ليست طارئة بل ضرورية، قد أغوت —
مثلما يلاحظ «مارسيل جان» أو «أرباد متزي»
— «أكثر مفكري الإنسانية عمقًا»
٢٧ منذ «أفلاطون» و«محاورة
كراتيل»، ولا يدخل في موضوع هنا أن أعرض
وأناقش مختلف مظاهر هذه النظرية، وسيكون
عليَّ — من ناحية أخرى — أن أعود إلى
تطبيقاتها بصدد «التلاعب بالألفاظ» لدى
السيرياليين، وسأكتفي بذكر «فابر دوليفيه» وأعماله،
٢٨ و«هوجو» وعمله «نومِن نومين»،
٢٩ و«مالارميه» وملاحظاته حول
«الكلمات الإنجليزية»، والتذكير بوجود رواد
مباشرين لجاكوب من بين الشعراء: فبينما
يستمتع «فارج» — في «رقاصو الضغط»
٣٠⋆
— بتمزيق وإعادة خلق كلمات من نمط
Batiplantes
و«حدائق جنول» (لكنه سيكون أفضل بكثير فيما
بعد)، وخلال شهرة «كارول» ومؤلفه
«غمغمة هازئة» لدى الجمهور الإنجليزي،
٣١ كان «جاري» يستخدم «التلاعب
بالألفاظ» لأهداف ليست شعرية فحسبن بل هيرمسية
٣٢⋆
أيضًا في «الحب المطلق»،
٣٣ و«ريمون روسيل» المحير على نحو
خاص — الذي نشر عام ١٩٠٠م
٣٤ — الحكايات الأولى المكتوبة
حسب «منهجه» الشعري الرائع، الذي يتمثل
بالتحديد في البدء بكلمات جناسية أو
متماثلة في الصوت، ليؤسس — «من خلال
التلاعب المزدوج بالإشارات والدلالات» —
«محددات شعرية»،
٣٥ أي ما يسميه
معادلات وقائع،
٣٦ فعلى سبيل المثال، تنشأ — في
«نقرة» — قصة معقدة بكاملها من التلاعب
بالألفاظ حول
les vers de
la doublure dans la pièce du Forban
talon rouge = أبيات
الممثلة البديلة في مسرحية «فوربان ذو
الكعب الأحمر» (بمعنى مسرحية شعرية، والدور
المزدوج الذي يؤديه ممثلان)
و
les vers de la
doublure dans la pièce du fort
pantalon rouge (بمعنى
قطعة قماش أكلها الدود)، ولن أذهب إلى حد
القول إن هذا المنهج، الذي ينطلق من
الكلمات بدلًا من أن ينتهي إليها، يولِّد
لُقًى شعرية فريدة للغاية أو انقلابات
روائية ذات إثارة نابضة (كتبت رواية
«انطباع من أفريقيا» المذهلة وفقًا لهذه
الطريقة …) والمهم أن نشير — مثلما فعل
«روسيل» نفسه
٣٧ — إلى وجود نسق شعري نثري هنا،
حيث يصبح ازدواج صوت ذي معنيين مختلفين
معادلًا لنسق القافية، ما دام يمكن القول
إن هناك «اختلاف المتطابق» في الحالتين:
فالكاتب الذي أقام حكايةً وفقًا لبعض
الكلمات المتاحة مسبقًا لا يختلف كثيرًا عن
الشاعر الذي ينسق جمله من أجل «كلمة–قافية»
يمكن بالفعل أن تكون موجودة سلفًا في ذهنه
بالمعنى المنطقي، ولا يبقى سوى
تحديدها.
وفي حالة «جاكوب» أيضًا — كي نعود إليه —
كثيرًا ما يحدث أن تنتظم القصيدة بكاملها
(القصيرة للغاية في أغلب الأحيان، فضلًا عن
ذلك) حول تلاعب بالألفاظ، وتماثل في
الأصوات، فنحصل — على سبيل المثال — على ما
يلي:
هذا الألماني كان مجنونًا بالفن،
والأوشحة
foulards
والدجاج السمين
poulards،
وفي بلاده ترتسم «الأميرة كلود»
على الأوشحة، على المائدة، نعلم
أيضًا من يتسكع حول الدجاج السمين.
٣٨
أو هذه «القصيدة» الأخرى التي تستعيد —
وفقًا لبيلفال — موضوع «البجعة»
المالارمية:
«برايزيرو»،
zero
صفر! إنه مغتاظ لأنه ليس مثلثًا
مزودًا بأجنحة سوداء، إنه يعض
ذيله، وتقطعه خطوط حديد زرقاء تسخر
من نفسها، تخططه
le
raient وتسخر منه
le
raiellent.
٣٩
إنها — بلا شك — عميلة شعرية معروفة؛ إذ
تتم «البلورة» حول كلمة من كل معقد من
المشاعر والصور، المنقادة بالأصداء
الشعورية للكلمة فينا، لا ﺑ «معنى» الكلمة،
بل بالتلاعب بالإصاتات والتشابهات: وقد
تباهى «بو» بأنه بنى قصيدة «الغراب»
بكاملها انطلاقًا من كلمة
«
Never
more = لا أبدًا بعد
ذلك»، ويربط «مالارميه» بكلمة
«
pénultième
= قبل الأخير» جميع الإيحاءات التي لا
علاقة لها بمعنى هذه الكلمة النحوي، ومن
هنا، ننتقل إلى استخدام الكلمة خارج كل
قيمة منطقية، باعتبارها رمزًا — على سبيل
المثال — لحالة شعورية: فعندما يكتب مؤلف
«مستنقعات»: «
chemin bordé
d’aristoloches = طريق
تحده النباتات المتسلقة»، فإنه يجد «نباتات
متسلقة» تعبر جيدًا عن كآبة رحلته،
٤٠ وبالنسبة لجاكوب، تستدعى نفس
الكلمة
«
l’aristocratie
= الأرستقراطية» للتشابه الصوتي: وسيقيم
بذلك — حول كلمات
«
aristoloche
= نباتات متسلقة»
و«
aristocratique
= أرستقراطي»
و«
aristide
= أريستيد» قصيدة بكاملها «عن الفن
الأريستي» سيكون إطارها «فندق دوقة ﻫ …»
٤١
وعندما يترك الفنان «الكلمات الحرة»
تقترح عليه تداعيات الأفكار، وصورًا
مفاجئة، واكتشافات أدبية أو غيرها، فمن
البدهي أنه يتخلى جزئيًّا — شاء أم أبى —
عن دوره الإبداعي: وسيمتدح السيرياليون —
من ناحية أخرى — هذه الحالة السلبية للذهن،
على أمل أن يلتقطوا منها، خارج كل مقصد
شعري، الرسائل «التي يمليها» اللاوعي، ورغم
أن «ماكس جاكوب»، إذا كان قد اعترف بأنه
دأب على أن يلتقط في نفسه «بكل الطرق،
معطيات اللاوعي: الكلمات الحرة، والتداعيات
الخطرة للأفكار، وأحلام الليل والنهار،
والهلوسات … إلخ»،
٤٢ فإنه لا يريد التخلي عن كل روح
نقدية وكل إرادة تنظيمية: ﻓ «الإرادة هي
جوهر كل فن، حسبما يقول عام ١٩١٧م،
والأدوات هي الشكل الذي يتخذه، والفكرة،
والأفكار، حتى «الكلمات الحرة» يمكن أن
تنبع من هؤلاء»،
٤٣ ونتعرف هنا على الفكرة
التكعيبية القائلة بإمكانية استخدام الفنان
لكل المواد التي يتيحها له الواقع، ابتداءً
بالعناصر الأكثر انحطاطًا للواقع الملموس،
وصولًا إلى «معطيات اللاوعي»، بشرط أن يعيد
تجميعها بفنٍّ ودقة، وألا ينشغل «إلا
بالقصيدة ذاتها، أي بتوافق الكلمات،
والصور، وتداعيهما المتبادل والدائم».
٤٤
والواقع أن «جاكوب» — عندما يركب الصور،
على نحو خاص، وعندما يرسم لوحات، وعندما
يصف رؤى الحلم أو «هلوسات»، فإنه يبدو لنا
شاعرًا إراديًّا، شاعرًا رسامًا، وهو ينظم
الأشكال والألوان في عالم خاص به.
ويحدث أن يبني «ماكس جاكوب» قصيدة
بكاملها حول استعارة «بصرية
visualisée»،
إن تجرأت على استخدام هذا المصطلح: هكذا،
في «هل الشمس وثنية؟»، إحدى قصائده الأولى
التي تنتظم حول الاستعارة «ضربة شمس»،
ويحدث له أن يخط قصيدة موجزة انطلاقًا من
تداعٍ مدهش للصور:
أوحت لعبة الدومينو على السجادة
بالموت ولم تكن المريلة البيضاء
للخادمة مصنوعة لاستبعاد هذه الفكرة.
٤٥
لكنه يتلاعب — في أغلب الأحيان — بالصور
التي تقدم له الواقع، أو يشوهها خياله،
ويحولها، ويخلق منها رؤًى غريبة تتخذ
أحيانًا قوة هلاوسية، وقد وصف لنا هو نفسه،
في «قصيدة صغيرة»، كيف استطاع رؤية أشياء
وأشخاص في ستائر غرفته وهو طفل،
٤٦ وكيف — في قصيدة «لغز السماء»
— يمكن لغيوم أن تبدو مثل «رءوس عجائز هائلة»،
٤٧ إنها ألعاب خيال عادية، لكن
الأكثر براعة هي طريقة وصف لوحة لنا نراها
تتحول بين يدي الرسام (في قصيدة
«أمنية
Omnia»،
حيث يتشوه المنظر الطبيعي ويتلاشى،)،
٤٨ أو لوحة يدخل فيها الرسام
فجأة ويسير، مثل «أليس» إلى حدٍّ ما، وهي
تعبر من خلال المرآة:
الدخول في هذا المنظر الطبيعي
التوراتي! لكنه حفر على الخشب: خط
من البيوت غير المتساوية، ساحل
رملي وراء مجرًى مائي، مجرًى مائي
وراء نخلة، هذا يصور «سان
ماتوريل»، رواية لماكس جاكوب، أنا
والآنسة ليوني نتنزه فيها، لم أعلم
أنهم حملوا حقائب في هذا الكتاب.
٤٩
هذا الميل إلى التحول، وإلى «مبدأ
اللاهوية» (وهو ميل متأصل لدى «جاكوب»،
ويفسر محاكاته الساخرة ونزعته الهيولانية
protéisme)
يؤدي إلى تفصيل معين لنصوص الأحلام، أحلام
تؤلف فيها الكائنات والأشياء وذكريات
الحياة الواقعية وإبداعات الخيال مشاهد
شبحية غريبة، دائرة أطياف بلا قوام، تحافظ
فيها مشاعر القلق والضيق أو التأنيب الذي
لا تفسير له على حقيقتها وكثافتها: وهو ما
نجده في «قصيدة»، التي يجعل جاكوب «أخاه الأفريقي»،
٥٠ يتدخل فيها، وحيث تظهر — ثم
تتلاشى — عناصر شاذة، أو في قصيدة «رحلة»،
حيث تبشر سلسلة الجهود والإخفاقات الشاذة
بكافكا بغرابة،
٥١ أو أيضًا في قصيدة «حياة
طالب»، هنا أيضًا يتبدى «جاكوب» رائدًا
للسيريالية (دون أن يكون الأول في ذلك):
وسنرى السيرياليين الشبان — فضلًا عن ذلك —
يعتبرونه، حوالي عام ١٩١٩م، واحدًا من
أساتذتهم، ويعيدون نشر بعض قصائده المنظومة
وقصائده النثر، في مجلة «ليتيراتور»، والحق
إن المهم — هذه المرة أيضًا — أن نضع
الحدود: أعلم جيدًا أن «جاكوب» قدم أشعاره
عام ١٩٠٩م التي تلمح إلى الحرب (التي تمثل
نوعًا من الرؤى أو الأحلام)، باعتبارها
نصوصًا «نبوئية»، ومُلهمة
٥٢ إذا صح القول، لكن ذلك ليس
موقفه المعتاد، فإذا ما كان هناك مناخ من
الغرابة الغريبة يغمر أحيانًا قصائده، فهو
يدعي مسئوليته المتبصرة عنه، ويضع — كمبدأ
فني — ضرورة
تحديد
موقع المؤلف، أي
إعادة
زرع transplanter
القارئ.
فلنلخص — بسرعة إذن — نظرية قصيدة النثر،
ما دامت موجودة، مثلما وردت في
مقدمة «كوب
النرد» عام ١٩١٦م، بطريقة ليست دائمًا
واضحة، فلن يمكننا — أي شيء أفضل من ذلك —
من رؤية دور «جاكوب» الإيجابي في قصيدة النثر.
٥٣
«كتبوا الكثير من قصائد النثر منذ ثلاثين
أو أربعين عامًا، ولا أعرف مطلقًا أي شاعر
أدرك ما الذي يعنيه ذلك»،
٥٤ حسبما يصرح «جاكوب» بتأكيد
متعالٍ في
مقدمة «كوب النرد». كان
تعريف قصيدة النثر، ومنحها قوانينها،
محجوزًا إذن لمؤلف «كوب النرد»، والواقع أن
ثمة «تركيبًا شكليًّا لقصيدة النثر»
٥٥ تتميز من خلاله عن النثر
الشعري (الذي يستبعده «جاكوب»، بشكل جيد،
في بضع كلمات،)
٥٦ قوانين قصيدة النثر؟ إنه
يرصدها على عجل:
المساحة لا تعني شيئًا بالنسبة
لجمال العمل، فوضعه وأسلوبه هما كل
شيء فيه.
٥٧
وتضم هذه القاعدة الذهبية ما هو جوهري:
أولًا ينبغي على العمل أن يكون موجزًا،
«فمن الصعب أن يكون جميلًا لمدة طويلة»،
والنصوص الطويلة تفتقر إلى الوحدة (والواقع
أننا سنلاحظ أن قصائد «كوب النرد» موجزة
كلها، وأحيانًا موجزة للغاية، إلى حد أن
نتساءل عن وجود مبالغة في الاتجاه المعاكس،
وعما إذا كانت «يصنعون العلف في جناح
إرمينوفيل» على سبيل المثال
٥٨ — هي قصيدة حقًّا).
وعلى العمل — في المقام الثاني — أن
يحدد
موقعه، أي «يبتعد عن الموضوع»:
٥٩ بمعنى أنه لا ينبغي أن نصف
الواقع بالخضوع لما يمليه علينا المنطق
والعادة، لكن أن نفسر، ونعيد خلق، أو — كما
يقول «ماكس جاكوب» — «إعادة زرع»: ندرك أن
العمل قد تحدد موقعه «من الصدمة الصغيرة
التي نتلقاها منه أو أيضًا من الهامش
المحيط به، والمناخ الخاص الذي يتحرك فيه»،
٦٠ فمسرح «موسيه» — على سبيل
المثال — ومؤلفات «مالارميه» محددة
الموقع.
لكن على القصيدة — فضلًا عن ذلك — أن
تتوفر على أسلوب: فالأسلوب، شأنه شأن الفن
(حيث الكلمتان مترادفتان)، هو «إرادة
التجسيد بأساليب منتقاة»،
٦١ ويؤكد «جاكوب» «أنه لا يستخدم
الكلمة إلا بمعناها المألوف: «فالأسلوب هنا
يعتبر نوعًا من إخراج المواد في شكل مؤلف
ونوعًا من تأليف الكل، لا نوعًا من لغة الكاتب»،
٦٢ فعلى الأسلوب — حسبما يقول
أيضًا بطريقة معبرة للغاية — أن «يمنح
الإحساس بالمغلق»،
٦٣ على العمل إذن أن يكون
مبنيًّا، ويشكل كلًّا مستقلًّا (دائمًا
نظرية القصيدة–الشيء!) وسيؤكد «جاكوب» فيما
بعد على أن إرادة الوحدة هذه تتبدى في «كوب
النرد»، حيث تُلاحظ على النحو التالي: «(١)
إن النغمة لا تتغير من سطر إلى آخر مثلما
لدى «برتران»، (٢) إذا ما كانت كلمة أو
جملة تتوافق مع الكل، فإننا لا نهتم بما
إذا كانت هذه الجملة أو الكلمة تصويرية،
تتوافق مع الحكاية الخاصة للقصيدة أم لا»،
٦٤ وينجم عن ذلك المخاطرة
بالتأكيد بالانتهاء إلى بعض التفكك الواضح
… (يعترف «جاكوب» بأنهم آخذوه على ذلك):
وعلى أية حال، فلن نستطيع اتهام مؤلف «كوب
النرد» بالاستسلام لتسهيلات الكتابة
الآلية، لكن لماذا يشعر «جاكوب» بالرغبة
الغريبة في «تعنيف» أسلافه؟ فبرتران «ليس
سوى حكاء نثري ورسام عنيف ورومانتيكي» (إن
مؤاخذة «برتران» على افتقاره إلى الأسلوب
لمبالغة)، و«الحكم البودليرية
والمالارمية»، تؤدي إلى الخلط بين قصيدة
النثر والحكاية الخرافية،
٦٥ و«رامبو» «لا يتوفر على أسلوب
ولا على موقف»، و«لا يؤدي إلا إلى الفوضى والسخط»،
٦٦ إن السخط هو ما أعتقد أنني
أحدس به خلف هذا الهجوم الأحمق للغاية: فقد
تولد لدى «جاكوب» من كثرة سماعه تحيات
معاصريه لرامبو، باعتباره — عن حق — سيد
قصيدة النثر وتقنيًّا بلا نظير.
٦٧
إنها نظرية «الموقف
situation»
التي تبدو لي أكثر أهمية، وبالتالي أكثر
ثراءً، فإعادة زرع القارئ في عالم مختلف،
و«الترغيب» (وهي أدوات شعرية مؤثرة للغاية
لدى «رامبو» و«لوتريامون» و«جاري») سيؤديان
— ربما أكثر من أي شيء آخر — إلى تمييز
قصيدة النثر الحديثة، إلى حد جعل المساعي
الشكلية، وموسيقى الجملة، والتأثيرات
الفنية الخالصة، بلا جدوى، وإلى حد يكاد
يصبح فيه مستحيلًا — في الحساب الأخير —
التمييز، على سبيل المثال، بين النص
والقصيدة: فيمكن لنص لميشو، وأقصوصة
لكافكا، أن يتوفرا على نفس الطاقة الشعرية
الكامنة في قصيدة نثر أو
نظم.
لكن، فلنأخذ قصيدة نثر «ماكس جاكوب» هذه
(وهي إحدى القصائد «النبوئية»):
الشوارع الخارجية الكبيرة، تمتلئ
بالثلج ليلًا، ورجال العصابات
عساكر، يهاجمونني بضحكات وسيوف
وينهبونني، أنقذ نفسي لأسقط في
مربع آخر، هل هو فناء ثكنة، أم
فناء فندق؟ كم من السيوف! كم من
الرماح! الثلج يساقط! يخزونني
بحقنة: إنه سم لقتلي، تعض إصبعي
رأس هيكل عظمي مغطاة بقماش الكريب،
وترمي قناديل غامضة على الجليد ضوء موتي.
٦٨
من أين يأتي الشعر هنا؟ ليس بالتأكيد من
الصياغات الفنية، أو من توازن إيقاعي
(لدينا هنا إيقاع منثور عن عمد، بدون أية
موسيقية، وجمل سريعة ومتنافرة)، ولا أيضًا
من اختيار المفردات النادرة أو «الشعرية»:
«فالصورة الشعرية — مثلما يشير «م. ريمون»
في حديثه عن هذا النص — غالبًا ما تحل
محلها الإشارة المباشرة، فاللغة تستند على
أساس شفاهي، ولا ترقى — في أغلب الأحوال —
فوق الجملة المستخدمة في الكلام»،
٦٩ فما يعيد زرعنا هنا هو
فانتازية الرؤية نفسها، التي يزيد منها عدم
تحديد التفاصيل، لتغمرنا هنا في قلب
الكابوس، ويضيف «م. ريمون»: وبدهي أن حضور
هذا الانسياب يمكن أن يتبدى خارج الشعر،
وخارج القصيدة»، فنحن نتوجه نحو مفهوم شعر
«مفتوح» غير مرتبط — حتمًا — بالشكل (هو
شعر يمكن ترجمته بلا عواقب خطيرة)، شعر
الحلم، والسرد الفانتازي أو العبثي، شعر
«المناخ»، إذا شئنا، الذي سيكتشفه
السيرياليون في الروايات السوداء، وفي
مؤلفات «لويس كارول» أو في «نصوص الأحلام»
التي تمتلئ بها المجلات السيريالية.
أما بالنسبة لجاكوب، فإن المبالغة في
الانشغال ﺑ
الشكل لا تسمح له بقبول
فوضى كهذه: فقصائده هي قصائد لأنها تنحو —
بالتحديد — إلى ألا تعبر عن أي شيء سوى
نفسها، «ولا أهمية للموضوع فيها»،
٧٠ فهو يجمع بعض العناصر،
والكلمات، والصور، والأماكن المألوفة،
والأشياء الملموسة، مع مزيد من الاهتمام
بالمحافظة على وحدة النغمة أكثر من انشغاله
بحكي قصة، وقد يحدث — من ناحية أخرى — أن
تظل القصيدة، إذا ما اتخذت شكل السرد، بلا
حل، لتقودنا إلى طريق مسدود؛ لأن ذلك هو
بالتحديد منطقها الشعري (مثلما في «قصيدة»،
أو «مسألة قانونية»)،
٧١ وعلى النقيض، لا يرفض «جاكوب»
التكوين الكلاسيكي، ولا حتى خطابية ما، إذا
ما كان هذا هو أسلوب القصيدة: على سبيل
المثال، قصيدة «شارع رافينيان».
وعلى العموم، يمكننا أن نخلص من تصريحات
«ماكس جاكوب» إلى أنه كان على وعي واضح ﺑ «نوع» من قصيدة النثر، تتوفر له قواعده شأن
كل نوع فني، فما يقوله عن «الموقف»
و«الأسلوب» لا يبتعد كثيرًا عن الملاحظات
التي ذكرناها من قبل عن الضرورة المزدوجة
لقصيدة النثر، الضرورة الفوضوية (كل
ما يعيد زرعنا، وكل ما يحطم التصنيفات
العقلانية كي يحملنا إلى عالم آخر، هو
فوضوية محررة) والضرورة الفنية، التي تهدف
إلى جعل العمل الفني كلًّا مكتملًا
ومنظمًا.
لكننا لا نستطيع القول — رغم هذا — إن
«كوب النرد» قد اعتُبر نموذجًا للدقة
والتنظيم الفني: فكثير من المحاكاة
الساخرة، والحديث غير المترابط، والشطط
العمدي، كان سيثير — بالأحرى — الانتباه
إلى الجانب الفانتازي وغير المنسق للعمل:
وقد كتب «تيبوديه» — الذي كان وقتئذٍ
جنديًّا في وزراة الحرب — إلى «جاكوب» بعد
أن قرأ طبعة «ستوك»: «يبدو لي أن كل
الملفات قد سقطت كيفما اتفق على مكتبي …»
٧٢ فالمرء لا يخضع بلا عاقبة
لإغراءات اللاوعي و«الكلمات الحرة»: فسواء
شاء ذلك أم أبى، كان «ماكس جاكوب» على وشك
أن يعتبر رائدًا للدادائية (المتقدم المرعب!)
٧٣ وللسيريالية: فإذا ما رججنا
«كوب النرد» فسنخرج منه بالصدفة، والتمرد،
والفوضى، ورفض «الأدب»، والرغبة في زعزعة
كل المفاهيم الشعرية المسلَّم بها.
التكعيبية الأدبية
«كل قرابة ريفيردي، وشعره، وتكعيبيته،
تكمن في الصداقة التي ارتبط بها بخوان جري
وبيكاسو وبراك»، مثلما قال «أراجون»، قرابة
تصل إلى استخدام «العناصر اليومية لحياة
بائسة»: إنها، بالنسبة للفنان التشكيلي،
علبة التبغ، والجريدة، وهي — بالنسبة
لريفيردي — المفردات المحذوفة و«الأرض
الغامضة، والشارع العدائي، والسلم المتهدم
في حياة رسامي وشعراء ذلك الحين»،
٧٨ وبينما يعترف «ريفيردي» بأنه
لم يتآلف مع أحد من الشعراء إلا مع ثمار
عمل «جاكوب» و«أبوللينير» (وهو — مع ذلك —
لا يدين لهما بالكثير)، فإن تأثير شارع
رافينيان (تأثير «بيكاسو»، وتأثير صديقه
الحميم على نحو خاص «خوان جري»)
٧٩ قد وجهه بشكل حاسم، وفي أول
ديوان لقصائد نثر طبعه «بيرو» عام ١٩١٥م ﻟ «المؤلف» وزينه «جري» بالرسوم،
٨٠ يتم تقديم بعض القصائد
باعتبارها «لوحات» (وعلى نحو خاص قصيدة «من
الذي سيرسمهم» المهداة إلى خوان جري»)،
وأحيانًا ما تدب الحياة في اللوحة تحت
أعيننا، مثلما لدى «جاكوب»، دون أن يكف
الشعور بها كلوحة:
تؤرجح الأنقاض جثثها ورءوسًا بلا
قبعات عسكرية
هذه اللوحة، أيها الجندي، متى
ستنهيها؟ هل حلمت أنني كنت فيها؟ …
٨١
لكن قصيدة «ملامح وشخصيات»، من نفس
الديوان، التي يذهب فيها الشعور باللوحة
والإطار المحيط بها بعيدًا إلى حد أن يرى
المؤلف نفسه فيها
مسجونًا في الرسم، فهي
أكثر دلالة:
انفراجة، بأزرق في السماء، في
الغابة، انفراجات كلها خضراء، لكن،
في المدينة، حيث يسجننا الرسم، قوس
الدهليز، مربعات النوافذ، معيَّنات
الأسطح.
خطوط، لا شيء سوى خطوط، لراحة
المباني الإنسانية.
في رأسي خطوط، لا شيء سوى خطوط –
إذا ما استطعت فقط أن أنظمها قليلًا.
٨٢
«خطوط، لا شيء سوى خطوط»: ترتبط هذه
التكعيبية «الهندسية»، مثلما نرى (مربعات
النوافذ، معينات الأسطح) بمخالطة «المدن الهائلة»،
٨٣ و«المباني الأساسية» التي
اختفت منها التماوجات السلسة للتلال
والأشجار، وألوان الطبيعة الريفية، ذات
علاقات بديهية باللوحات التكعيبية، وخطوطها
الهندسية، وتكوينها في «فراغ مغلق».
٨٤
لكن
الأساسي، هو أيضًا الإرادة البنائية
والخلاقة، وجهد التكعيبيين (الذي أكدت عليه
من قبل) ليجعل من اللوحة، أو من القصيدة
شيئًا، كلًّا موجودًا بذاته، إعادة جمع
للعناصر في تركيبة جديدة أكثر إيحاءً،
وأكثر صدقًا من الصدق، إن صح القول، وفي
عام ١٩١٧م، كان «ريفيردي» يجعل من مجلته
«نور–سود» لسان حال التكعيبية التصويرية
والأدبية، ويضع فيها المبادئ الأساسية لعلم
الجمال الجديد، ومن المفيد التذكير أن «ب.
ديرميه» أكد — منذ العدد الأول — وهو يطالب
باستقلال الجيل الجديد عن الرمزية، أن
«جمال الكلمة» ليس وسيلةً شعرية، «على نفس
مستوى الإيقاع، والموسيقية، والقافية …
إلخ، فهدف الشاعر هو خلق عمل يعيش خارج
نفسه، خارج حياته الخاصة، ليقع في سماء
خاصة، مثل جزيرة في الأفق»،
٨٥ ويذكر «ريفيردي» بدوره، في نفس
العدد، حول التكعيبية بالتحديد: بالنسبة
للتصوير الزيتي والشعر، «نحن في حقبة إبداع
فني لم نعد نحكي فيها حكايات مسلية إلى هذا
الحد أو ذاك، وإنما نخلق فيها أعمالًا،
تدخل الحياة وهي تنفصل عنها؛ لأنها تملك
وجودًا خاصًّا، خارج استدعاء أو إعادة
إنتاج أشياء الحياة»، وسبق أن ذكرت «دراسة
علم الجمال الأدبي»، التي يضع فيها
«ريفيردي» — مقابل العمل الفني المسمى
«واقعي» — «واقعية» العمل الفني: التي — إذ
لا تقلد شيئًا ولا تستعير من الحياة سوى
العناصر الضرورية — «سيصبح من الضروري أن
نتوفر على واقعها الخاص بها، وفائدتها
الفنية، وحياتها المستقلة، دون الانحناء
بشيء غير نفسها»،
٨٦ والمدهش أن نرى هذا السلوك
الجمالي متماسكًا بلا تراجع على مر السنين،
ما دمنا نقرأ في «كتاب حافتي» هذا التعريف
(الذي سيلائم على نحو باهر أعمال «ريفيردي»
نفسه): (تكمن) قيمة العمل كله في النكهة
الفريدة التي يدشنها في الواقع، فمنها ما
يحتل موقعًا، في أفضل صف، بين أشياء
الواقع، هكذا، كما بمعجزة، يصبح العمل
المصنوع شيئًا حقيقيًّا، في حين أن العناصر
التي تشكله ليست كذلك».
٨٧
كيف يمكن إذن أن نخلق، بعناصر الواقع
المبعثرة، «كيانًا» فنيًّا مستقلًّا؟
يمكننا أن نتنبأ بأن العناصر المستخدمة
ستعود كلها إلى التركيبة: تركيز الانفعالات
٨٨ في «حزمة»، خلق علاقات بين
الوقائع المتباعدة، عن طريق الصورة،
٨٩ أساليب جديدة خاصة بتركيب
الجملة وشكل الطباعة، التي توضع في
الاعتبار بقدر ما تنتظم وتنسق العمل: إن
«تركيب الجملة، مثلما يكتب «ريفيردي» في
«نور–سود»، وسيلة للإبداع الأدبي، فهو
ترتيب للكلمات، وطريقة الطباعة الملائمة له
أمر مشروع».
٩٠
سبق أن أشرت — فيما يتعلق بتركيب الجملة
(وينبغي أخذ الكلمة بأوسع معانيها، المعنى
المالارمي) — إلى أن «ريفيردي»، شأنه شأن
«جاكوب»، يندرج ضمن جمالية «
المتقطع»،
٩١ الرامبوية: إلغاء الروابط
المنطقية، والأفكار «المتتالية»، وروابط
النسق أو التبعية، وتجاور مختلف عناصر
اللوحة، وتجاور الصور الحقيقية والصور
الذهنية:
وأسير نحو المغامرة في الغابة
الغائرة، عيناك في العمق، شعرك
ومحجرا عينيك مرفوعون، أفقد ألق
ابتسامة هذه السماء المحدودة في
مربع ميت مثل باب فوق سقف سريري،
أنظر إلى هذا اللون، والدم والماء،
والنضارة — لذة انتظار السماء —
مغطس الفقير هذا. دموع، غلالات
أشجار الكستناء وشتاء بلا أمل —
اختفاء مؤثر.
٩٢
فتكوين الجملة يرفع من قيمة الكلمة،
وكثيرًا ما يلغي الفعل تمامًا: «نافذة لن
أستطيع الدق عليها. النار التي يرفضون
السماح لي بالتدفئة عليها»،
٩٣ «الزجاج، الليل، الشيش البارد»،
٩٤ إنه «أسلوب الإشارات» الأثير
لدى «رامبو»: المضاد للخطابية، والمعادي
للجملة المنمقة، لكنه الموحي للغاية! فلم
تعد الكلمات إضافة مطيعة لفكر يعبر عن نفسه
من خلالها: فهي، وهي معزولة، تستعيد قيمتها
الاستدعائية والإيحائية الكاملة، وتصبح
مكونات واقع شعري جديد.
وكثيرًا ما يحقق «ريفيردي» عزل الكلمات
هذا، في أبياته، من خلال «فراغات» كبيرة
كأنها بحر صامت تنفلت منه الجزيرة
اللفظية:
الحزن
الانتظار
اليأس
المدينة المضيئة أعلى الصخرة البيضاء.
٩٥
ويستجيب استخدام الشرطة في
النثر (المتكرر كثيرًا لدى «رامبو» أيضًا)
لرغبة مماثلة: والفقرة السابقة تعطينا
مثلًا كافيًا له: وذلك ما يقودنا إلى
الحديث عن الطريقة التي يصارع بها
«ريفيردي» الكتابة «الأفقية» والمتعاقبة،
شعرًا ونثرًا، من خلال وسائل طباعية
وبنائية غير مسبوقة.
وقد سبق أن أشرت إلى اجتراءات الإخراج
الطباعي التي تنحو إلى تنظيم القصيدة في
فراغ الصفحة كلوحة،
٩٦ والأمر يتعلق بطبيعة الحال
بقصيدة النظم، بالإضافة إلى وجود أكيد
لمقصد معين في الشكل الطباعي لقصيدة النثر،
التي ستبدو وقد تجمعت حول نفسها:
في هذا الوقت الفحم
كان قد أصبح ثمينًا
ونادرًا مثل تبر
الذهب وكنت أكتب في
مخزن غلال حيث الجليد
وهو يتساقط عبر شقو–
ق السقف، أصبح
وعندما يكتب نظمًا، يهرب «ريفيردي» من
«البيت الجميل» المنعزل، وهو يسعى دائمًا
إلى التركيب لا إلى السرد الأفقي لحكاية
ما، وبدهي أن التنسيق في أبيات يشجع انقطاع
الإشارات، وهو وسيلة لا غنى عنها لصياغة
تركيبة جديدة، فيما بعد، من العناصر غير
المترابطة في البدء: ﻓ «الشاعر يجاور ويربط
— في أفضل الحالات — مختلف أجزاء العمل
الفني الذي تصبح قيمته الأساسية، بالتحديد،
في ألا يقدم منطقًا واضحًا بشكل زائد لوجود متقارب»،
٩٨ وكي نضرب مثلًا بسيطًا، سنجد
عدة قصائد منظومة تهدف إلى تجاور، وإذابة
الأجزاء المختلفة لمشهد طبيعي (الأرض
والماء، على سبيل المثال) بمساعدة تغيرات
التعبيرات الشبيهة بما لدى «رامبو» في
قصيدة «بحرية»:
يظهر النهار في الأفق مثل سباح
يجذب كأسه
عبر طحالب
الأمواج
ومرتفعات تلال الرمال السائلة.
٩٩
والمثير أن نجد «تداخلات» من هذا القيبل في
اللوحات «التركيبية» لخوان جري: وهو ما
نجده في قصيدة «خليج البندول»، حيث تمتزج
الحجرة بالمشهد الطبيعي، وحيث يرسو المركب
الشراعي «على المنضدة»،
١٠٠ وليس من المستحيل، من ناحية
أخرى، أن نجد تداخلات مماثلة في النثر:
مثلما نجد في قصيدة «وحيدًا دائمًا»، حيث
تتطابق لوحة الشارع مع لوحة الغرفة، التي
تبدأ بهذه الكلمات: «أيأتي الدخان من
مداخنهم أم من غلايينكم؟».
١٠١
لكن ها هي الآن قصيدة نثر لن تقدم لنا
لوحتين مختلفتين متطابقتين، بل زاويتي نظر
مختلفتين متطابقتين، بل زاويتي نظر
مختلفتين تقريبًا، إنها — في آن — مشهد
طبيعي حقيقي، وتفسير هذا المشهد من خلال
الخيال الذي يرى فيه شيئًا آخر، ولكن،
بدلًا من التوزيع الطباعي على عمودين
لإظهارهما بشكل متزامن (مثلما نجد أمثلةً
لذلك نظمًا)، هناك مراوحة مستمرة بين
المشهد الحقيقي والرؤية الخيالية تنسق خيوط
النسيج وخيوط السلسلة، لترسم بالتدريج
«الصورة في السجادة»: «رأس العالم» (هو
عنوان القصيدة)، وأعيد نقلها مؤكدة على
المشاهد التشخيصية (بالخط المائل):
ما يزال بعض النهار على حافة
الأسطح وأطراف الشجر، البحيرة التي
سقطت من أعلى انبطحت على الأرض، في
الضباب، حيث يسير هناك طيف، إنها
الرأس، نجمة المنتصف التي تلمع
أحيانًا، الأكتاف المعقودة مع
الضفائر الشقراء، الجبل، دورة
العالم سجينة، الهواء مشتعل، الفم
لا يزال ينفث، وأنين الأرض تحت
العصا الوحشية، وأمام الغلالة التي
ترتفع كان الفجر يولد من جديد في
الركن الآخر.
١٠٢
نفكر في هذه اللوحات التكعيبية لخوان جري
أو بيكاسو التي تراكب نظرتين مختلفتين لنفس
الشيء، مهرج على سبيل المثال، منظورًا إليه
في آن من الأمام ومن الجانب: هكذا تتوفر
لنا «لوحة ثانية — تتخذ وضعًا مائلًا في
أغلب الأحيان — تندمج في الأولى»، مثلما
يكتب «كانفيلير»،
١٠٣ وما الميل هنا سوى التشويه
التشخيصي الذي يخلقه الخيال، لكن ما يجب
الإشارة إليه، هو الأهمية البنيوية للنسق:
فلم تكتب القصيدة بشكل أفقي، وإنما — إن صح
القول — «بطريقة متعددة الأصوات»: ففيها
بُعد إضافي، وفي نفس الوقت، تفرض المراوحة
من الواقعي إلى الصورة، ومن الصورة إلى
الواقع، انتظامًا ما على النص، و«إيقاعًا
ثنائيًّا» يمكننا أن نرى خلاله — بالمقارنة
بالبحور السكندرية الكلاسيكية — إيقاع
استبدال.
وإذا ما اعتبرنا أننا نتوفر هنا لا على
مستويين فحسب يتداخلان، وإنما على
صورة
تتلاحق، فسنرى أننا سننقاد إلى البحث في
الصورة (سواء ركبت واقعين ملموسين
متباعدين، أو واقعين أحدهما مادي والآخر ذو
مستوى مجرد) عن نسق التركيب، أو الإبداع
الأدبي، والأمران سواء، والواقع أن الصورة
نسق تركيبي بامتياز، وهي أيضًا أداة
لخيمياء الكلمة تنقاد بفعلها «كائنات»
أدبية جديدة نحو الوجود، أداة يمكن للنصر
أن يستخدمها، شأنه شأن الشعر.
شعر الصورة
ودون الذهاب إلى حد اعتبار الاستعارة
قافية «ميتافيزيقية»، والإصرار على أنها
تجعل الشعر عبثيًّا، إلى درجة أن «البحر
السكندري والقافية، بل الشعر نفسه، قد
رزحوا في واقع الأمر، في الشعر المعاصر،
تحت وطأة الاستعارة التي يتزايد التأكيد عليها»،
١٠٤ يمكننا التأكيد — حقًّا — على
أن الشعر الحديث بقدر تناقص لجوئه إلى
«تعويذة» الأبيات ومنابعها الموسيقية
والإيقاعية، كان يمنح مكانًا متعاظمًا
للسلطات الشعرية للصورة،
١٠٥ وعلى هذا الصعيد من الأفكار،
يمكن لريفيردي أن يسمى عن حق «شاعر الصورة»،
١٠٦ وهذا ما توضح نظرياته وأعماله
(الشعرية)، ونعرف بأي حماس استعاد
السيرياليون الأفكار التي تم التعبير عنها
في «نور–سود» عام ١٩١٨م:
الصورة إبداع خالص للروح.
وهي لا يمكن أن تنشأ من
المقارنة، وإنما من التوفيق بين
واقعين متباعدين.
وكلما كانت علاقات الواقعين
المتوافقين متباعدة وصائبة، أصبحت
الصورة قوية — وامتلكت قوة شعورية
وحقيقة شعرية.
١٠٧
ولنقل على الفور أن ثمة اختلافًا
جوهريًّا بين هذه التعريفات، وتلك التي
سيقدمها السيرياليون فيما بعد: فالصورة
السيريالية مجانية عن عمد، و
اعتباطية،
ويصرح «بريتون» أن الصورة «الأقوى هي التي
تقدم أعلى مستويات الاعتباطية»،
١٠٨ وبالنسبة لريفيردي، فعلى
العلاقات القائمة أن تكون — على النقيض —
«متباعدة وصائبة»، و— حسبما يقول — «لا
يمكن لواقعين لا يتوفران على أية علاقة أن
يتقاربا بشكل مفيد، فليس هناك خلق للصورة»،
وما من شيءٍ سيكون أكثر غرابة بالنسبة له،
من الموقف
السلبي للسيرياليين، وهو
لن يتصالح أبدًا مع التوافقات الطارئة التي
تنشأ في اللاوعي،
١٠٩ فالصورة التي تشع في كل سطور
شعره مدهشة، ومفاجئة غالبًا، وليست أبدًا
اعتباطية، وقد أشار «م. ساييه» بدقة إلى
أنها أحيانًا ما تختلف بشكلٍ طفيف عن
الاستعارات التي نجدها في اللغة الدارجة
(مثل «يرقى الشارع»، «ينسحب البحر»)،
وسيقول ««ريفيردي»: «يمتطي الطريق الغابة»،
«خرج النجم من الماء»، «يهبط الندى حافي
القدمين على أوراق الشجر»،
١١٠ ونرى من هذه الأمثلة الميل
الدائم للكاتب نحو «أنسنة» الطبيعة:
ينحني السقف مثل شخص يريد
الصعود.
وأخذت الكوة تضحك للشمس.
مثلما سيكتب على سبيل المثال،
١١١ وتجعلنا هذه «الإحيائية» نشعر
في الطبيعة بلعبة القوى، والذبذبات
الدائمة، بينما على العكس تجد الطبيعة
الإنسانية «توافقها» في الواقع الملموس
والذبذبات الدائمة، بينما — على العكس —
تجد الطبيعة الإنسانية «توافقها» في الواقع
الملموس للكون:
الطحلب الطويل المتحرك
والطري
على خط الماء
الروح الرخوة الهاربة والمطيعة
للتيار
–مخلصة للنجاح المتماوج.
١١٢
هكذا تنشأ مرة أخرى المراوحة بين الفكرة
والمادة، بين المجرد والملموس، كأداة للكشف
الشعري، والتركيب، والبنية، في آن.
والحق أن تنظيم النثر من خلال الصورة،
يبدو مختلفًا إلى حدٍّ ما، ولا شك أنه يمكن
للقصيدة أن تنتظم حول استعارة واضحة إلى
حدٍّ ما: تلك هي حالة قصيدة «لكل نصيبه»،
المبنية على الصورة المزدوجة ﻟ «صائد
النجوم»، والتقارب بين النجوم وقطع العملة الذهبية:
١١٣
اقتنص القمر، وترك الليل، وسقطت
النجوم واحدة بعد الأخرى في شبكة
مياه جارية.
وراء الحور يترصد صياد غريب
بنفاد صبر وعين مفتوحة، وحيدًا،
متخفيًا تحت قبعته العريضة، ويرتعد
الخط.
لكن بعيدًا على الحافة كان صياد
آخر ينتظر، بتواضع أكبر كان يصيد
في بركة الطين التي تركها المطر،
فهذه المياه، القادمة من السماء،
كانت تمتلئ بالنجوم.
لكن كثيرًا ما تكون الصورة المتضمنة في
القصيدة مضمرة ويصعب شرحها، والأمر يتعلق —
في أغلب الأحيان — بمعادلة تنشأ بين وصف
مشهد طبيعي، أو سرد للأحداث التي تبدو
مفككة للوهلة الأولى أو غير مفهومة إلى
حدٍّ ما، والحالة الروحية التي تكون مهمة
الأشياء أو الوقائع القليلة التي تم
تجميعها بهذه الطريقة أن توحي بها، والتي
تقدم لنا — على نحو ما — تمثيلًا
تشخيصيًّا، هكذا، على سبيل المثال، يمكن
تفسير الإحساس بالضيق الجسدي
والميتافيزيقي، الذي تنجح بعض أوصاف
المشاهد الطبيعية في تقديمه لنا، وحيث ينوء
الصمت بوطأته، والسكون، ونوع من الوحدة
اليائسة:
فلس جديد للغاية يتدحرج في الشق
أو الشمس الغاربة؛ الآن يُحد
الجدول الطريق الطويل ويتقافز
الضوء الخفي في المفترق
المتقاطع.
تمد الأشجار الظل، لا نسمع سوى
صوتها، تنطفئ النيران، أبعد من أن
تتوقف، ما من أحد سيمر بعد ذلك
أبدًا، الريف صامت، والحجارة جافة،
حائط متهدم، يعود الصمت، يغوص
عصفور في العشب كي يموت.
ليس اختيار التفاصيل فحسب هو الذي يوحي
هنا بالهجران والوحدة، والموت (اسم القصيدة
«كي نموت»)،
١١٤ لكنه إيجاز هذه الجمل التي
يتركها غياب الفعل بلا حياة ومتحجرة،
يقطعها صمت ساحق، لا يحتاج الشاعر إلى
التعبير عن مشاعر الضيق،
والإرهاق، ما دامت العناصر التي اختارها من
الواقع الخارجي، والطريقة التي جمعها بها،
هي «إشارات» غير ملتبسة لهذا الضيق، ينبغي
إذن الحديث لا عن «أسلوب متخيل»، بل عن
كلمات جوهرية، وموضوعات استعارية أساسية،
وهي بسيطة للغاية فضلًا عن هذا: فنحن نعثر
دائمًا على موضوع الباب المغلق والمنزل
الذي لا ندخله،
١١٥ والمسافر المنعزل أو الضائع،
١١٦ والليل الأسود،
١١٧ والمشهد المتحجر.
١١٨
رموز؟ إذا شئنا، وبشكل أدق استثمار
«النبرة الانفعالية» للكلمات المستخدمة لا
من أجل معناها، وإنما من أجل قيمتها
الإيحائية: «في اللحظة التي تتخلص فيها
الكلمات من دلالتها الحرفية تتخذ في الذهن
قيمة شعرية، في هذه اللحظة يمكننا أن نضعها
في الواقع بحرية»، على ما يكتب «ريفيردي»
١١٩ عندئذٍ، يمكن تجميع ومزج
إشارات مادية وأفكار مجردة، لتوليد انفعال
ذي طبيعة محددة لدى القارئ–الشعور، على
سبيل المثال، بخوف وضيق قاتل:
وبعد، في الممرات التي لا نهاية
لها، في حقول الليل الموحشة، في
التخوم المظلمة التي تتلاطم بها
الروح، تعبر الأصوات المفاجئة
الحواجز، وتترنح الأفكار المزعزعة،
وترن أجراس الموت الملتبس.
١٢٠
هكذا نرى هذا الشعر يمزج دائمًا المجرد
بالملموس («حقول الليل الموحشة»، «تترنح
الأفكار المزعزعة»)، والمشهد الطبيعي
الحقيقي بالشهد الداخلي، ويقبل بالتعادل
بين الظواهر الطبيعية والروح الإنسانية،
فهل ينبغي — بهذا المعنى — تفسير كلمة
«ريفيردي» المستشهد بها كثيرًا: «الطبيعة،
إنها أنا»؟
١٢١
غنائية الواقع
والحقيقة أن «ريفيردي» عندما يكتب — على
سبيل المثال — أن هدوء السماء يستنزف
الشجاعة التي كانت تسند أيادينا، والرأس والطريق»،
١٢٢ فلا ينبغي أن نرى فيها «صورة»
بسيطة، أو شكلًا أسلوبيًّا، لكن توحدًا
حقيقيًّا للإنسان بالطبيعة، فالشاعر الذي
استطاع أن يكتب: «بكل جزء من وجودنا الخفي
نعارض ظروف الخارج، مثل النباتات»،
١٢٣ مستعدٌّ بطبيعة الحال، لقبول
التبادلات، والتجاوبات أو التماثلات بين
الإنسان والكون، فكرة رمزية، بالتأكيد:
فكيف يحدث إذن أن يكون شعر «ريفيردي» — على
العكس من الشعر الرمزي — شعرًا ملموسًا
بشكل جوهري؟ ربما لأنه يصدر، ببساطة، عن
رجل ينتمي للهواء الطلق، فيه تجد كل
ارتعاشات الريح والأشجار والبحر صداها، لا
على المستوى الذهني، بل على المستوى الفيزيقي،
١٢٤ هذا الشاعر هو إنسان أولًا، من
أجله توجد الطبيعة، ومن خلاله تحدثنا:
فعناوين دواوينه دالة: «زبد البحر»، «طبيعة
عظيمة»، «ينابيع الريح». ونعلم من ناحية
أخرى أنه انفصل منذ وقت مبكر للغاية عن
الحياة الباريسية الخانقة كي يبحث في
«سوليزم» عن وحدة تمتلئ بالأجراس والحجارة،
وتمتلئ أيضًا بالخضرة والمياه النابضة والعصافير».
١٢٥
وسيكون من التعسف — رغم هذا — ألا نرى في
الشاعر سوى «صوت» ﻟ «الطبيعة العظيمة»، ﻓ «الطبيعة الإنسانية» لا تفتقر إلى ضروراتها
الخاصة بها، والطبيعي أن يواجه الإنسان
حلمه الداخلي، بشكل محدد، بالواقع الخارجي
— لا سيما عندما يكون شاعرًا، و«الشاعر —
مثلما يقول «ريفيردي» — في وضع صعب وخطر
غالبًا، في نقطة تقاطع مستويين ذوي حدين
قاطعين بقسوة، مستوى الحلم ومستوى الواقع»؛
ولهذا، يمكن مقارنة القصائد ﺑ «بللورات
تكونت بعد التماس الهائج للروح مع الواقع».
١٢٦
وهناك حقيقة جديرة بالإشارة: فإذا ما كان
الواقع المحسوس، «الطبيعة العظيمة»، تفرض
حقًّا وجودها بقوة في الشعر المنظوم («مشهد
طبيعي يضم حيوانات»،
١٢٧ «أرض»،
١٢٨ «شروق النهار على البحر»،)،
١٢٩ ففي النثر تتجلى لنا الحقيقة
الإنسانية والسر الخفي للمصير الإنساني،
ثمة هنا مسألة بنية: ففي حين تنحو الأبيات
بشكل طبيعي إلى الانتظام في «لوحة»، فإن
النثر، في جوهره التعاقبي، ينحو إلى السرد،
إلى التأمل الغنائي، وتلاحق الوقائع
والأفكار، ولا يعني ذلك أن «ريفيردي» شاعر
حكائي على الإطلاق! ﻓ «ما هو العمل الذي
يمكن أن ننزع منه الفكرة أو الحكاية اللتين
لا تساويان شيئًا وهما معزولتان، ولا يتبقى
منهما شيء بعد هذا الطرح؟» مثلما يتساءل هو،
١٣٠ لكن لا شيء يمنع الشاعر — في
بنائه لقصيدته — من استخدام
أفعال وأشياء
ملموسة باعتبارها عناصر للقصيدة: أفعال أو
أشياء يجمعها وفقًا لمنظوراتٍ جديدة،
يخلصها من كل سياق تفسيري ليمنحها قيمة
تصويرية أفضل (رمزية إذا شئنا)، وقصيدة
«رجل منتهٍ» الجميلة للغاية، التي ذكرت
مقطعًا منها، ستقم لنا (عند سردها كلها)
فكرة هذه التقنية:
في المساء، ينزه طيفه عبر المطر
والخطر الليلي، الذي لا شكل له وكل
ما جعله منارًا.
مع أول لقاء، يرتعد– بماذا يلوذ
في مواجهة اليأس؟
يحوم حشد في الريح التي تعذب
الأغصان، و«سيد» السماء يتابعه
بعين رهيبة.
لافتة تصر– الخوف يتحرك باب
ويصطفق الشيش العلوي في الحائط،
يجري ويخذله الجناحان اللذان كانا
يحملان الملاك الأسود.
وبعد، في الممرات التي لا نهاية
لها، في حقول الليل الموحشة، في
التخوم المظلمة التي تتلاطم بها
الروح، تعبر الأصوات المفاجئة
الحواجز، وتترنح الأفكار المزعزعة،
وترن أجراس الموت الملتبس.
١٣١
من
هو هذا الرجل؟ ما الذي فعله؟ ما الذي سيحدث
له، أسئلة عبثية، المهم هنا، هو أن نخلق
(وبأقصى اقتصاد في الوسائل!) «انفعالًا
خاصًّا، لا تستطيع الأشياء الطبيعية، من
جانبها، أن تثيره في الإنسان»، انفعالًا
«لا يستطيع منحه لك سوى الفن وحده»،
١٣٢ فالحكاية بلا أهمية، وقد يحدث
أن تبدو عبثية للوهلة الأولى (مثلما في
قصيدة «مظهر تافه» المخصصة لمسافر «لا
يستطيع وصف البلاد التي رآها»، و«لربما لم
يرَ أبدًا شيئًا»، من ناحيةٍ أخرى، ولا
يكشف أبدًا عن فرحة أو نفاد صبر، ويمضي —
دائمًا وحده — «وحقيبته الخفيفة في اليد»)،
١٣٣ ولا يعني ذلك أن تكون مفككة،
ومفتقرة إلى منطق داخلي، «فلا يوجد أي رابط
مشترك، مثلما يكتب «ريفيردي»، بين المنطق
والعقل السليم»، فهو يستطيع التحالف مع
أغرب حالات الجنون: «نحترم العقل السليم،
ونعجب بالمفاهيم المجنونة التي تنتظم في
مناخها وعلى صعيدها بشكل منطقي»،
١٣٤ والمؤكد أن كثيرًا من قصائد
«ريفيردي» غامضة للغاية، وبشكل أدق لا
تطالبنا ﺑ «
الفهم»، وإنما بنوع من
الالتزام الداخلي، ولا
يتضمن هذا — فضلًا عن ذلك — «ألا» يتوفر
لهذه القصائد، «أي معنًى»: لكن الرسالة
التي تقدمها لنا لا تخاطب الوعي الواضح،
ولا يمكن ترجمتها في لغة واضحة، ما دام
الأمر يتعلق — بالتحديد — بجعلنا نشعر ونحس
بالغموض الذي يكتنف الأجواء المحيطة بنا،
وبهاوية المجهول التي يفتحها الواقع في كل
خطوة أمام مسيرتنا.
هذا الشعور بسر يمكن أن يتخفى وراء «مظهر
تافه» (إذ إن المسافر الوحيد، الذي لا يحكي
شيئًا، ويمضي دون أن يكلم أحدًا، «ورغم
هذا، فثمة شيء يتبعه أو — ربما — شخص ما
يتخذ الشكل الغريب لظله»)، هذا الانتظار
لشيء لا يوصف كثيرًا ما يلاحق شعر
«ريفيردي»، مثل أمل يائس («عسى أن يحدث
شيء، كل العيون تخرج من النوافذ، وكل غيرة
منافسينا تتراجع على عتبات الأبواب، ورغم
هذا، لم يكن لأي شيء أن يجيء!»)
١٣٥ ويبدو أن كل هذه الغنائية
«التي تتجه صوب المجهول، صوب العمق»،
١٣٦ تجد أكثر أشكالها ملاءمةً في
النثر، والواقع أن ثمة نغمة غموض ما أو
غرابة (سبق أن شهدنا)
١٣٧ تتكيف مع نص النثر بأفضل مما
مع النظم، وترتقي بالنثر إلى مستوًى شعري:
وكي نستعيد تعبيرات «ريفيردي»، سنجدها —
على سبيل المثال — «في جملة يعلقها غموض
مغزاها ونوعية الكلمات التي تكونها فوق
المجرى الطبيعي لأفكارنا»،
١٣٨ جملة وليس بيتًا؛ لأن الأمر لا
يتعلق هنا — على الإطلاق — بأدوات إيقاعية،
فموضع الخلاف الوحيد هو اختيار الكلمات
(التي تؤخذ، أذكر بذلك، خارج معناها
الحرفي، بقيمة إيحائية وتشخيصية)،
و«الدلالة الغامضة للجملة» — لا لأن الشاعر
«يضيف» غموضًا بعد فوات الأوان، لكنه يصنع
— مثلما يقول «فيردي» — «كشفًا يتخطى
نفسه»، ولا يمكن أن يصل إلينا إلا من خلال
شقوق النص، وتصدعات المعنى، و«الفراغات»
الكبرى المتروكة بين الأفكار: «لا شيء
يستحق أن يقال في الشعر غير ما لا يوصف؛
لذلك نعتمد كثيرًا على ما يجري بين السطور»،
١٣٩ مثلما يقول أيضًا …
وبعد عدة «قصائد»، لم تكن سوى سرديات، ها
نحن نشهد الشعر الحديث يصل أخيرًا إلى هذه
الصيغة المفارقة لكن الخصبة: السرد
الفوضوي، الذي يخرق كل قوانين النوع، السرد
الذي لا يدور فيه أي شيء أو لا يفضي إلى
شيء، ولا يتوفر له بداية، أو نهاية، ولا
نعرف شخوصه، وحيث الأساسي هو ما لا يقال:
سرد، حيث
الصيرورة التاريخية،
المقضومة من كل ناحية، ينتهي بها الحال إلى
الفساد في اللازمنية، وتعود إلى «الحاضر
الأبدي» للشعر،
١٤٠ هذه الوحدة الغريبة
للمتناقضات، هذا البناء وهذا الهدم
المتزامنان، تلك هي خصائص شعرية حديثة
تمامًا، سيتم التأكيد عليها في قصائد النثر
«السردية» هذه لفترة ما بعد الحرب، لتمنحنا
أفضلها (لدى «ميشو» على سبيل المثال) —
جميعها معًا — انطباعًا بالعبثية والتجذر
العميق في الواقع.
شاعر الواقع، ربما يكون هذا، في واقع
الأمر، هو التعريف الذي يشمل، على أفضل
نحو، ذخائر شعر «ريفيردي»، وعلى نحو خاص
إذا ما حددنا الكلمة وفقًا لما فعل: «ما
نسميه الواقع في الفن هو مجمل العلاقات
التي ينجح صوابها في منحنا صورة حية وقادرة
على إثارة انفعال أكثر كثافة وأكثر دوامًا
على نحو خاص من الحقيقي»،
١٤١ هكذا، يحتوي مصطلح واقع — في
آن — الفكرة التكعيبية للقصيدة–الشيء، التي
— وقد تمتعت بوجود مستقل — «تحتل موقعًا،
في أفضل الصفوف، ضمن أشياء الواقع»،
١٤٢ ونظرية الصورة التي — فيما
تؤسس علاقات جديدة بين الأشياء المتباعدة —
تخلق واقعًا جديدًا، وأيضًا إرادة البحث
الذي لا يكل لا عن «الحقيقي» وإنما عن
«الواقعي»، عن «الجوهر الحقيقي للأشياء»،
١٤٣ ولا يمكن لشعر كهذا إلا أن
يكون بعيدًا عن الهموم الشكلية، على الأقل
عندما يكون هدفها مطابقة المسيرة الشعرية
على القنوات الجمالية المسبقة: «على
الشاعر، مثلما يقول «ريفيردي»،
١٤٤ أن يبحث، في كل مكان وفي نفسه،
عن الجوهر الشعري الحقيقي، وهذا الجوهر هو
الذي يفرض عليه الشكل الوحيد الضروري له»،
شعر أم نثر، لا يهم، شرط ضمان وحدة الجوهر
هذه بين الشكل والفكرة الشعرية.
شعر مرن (والتعبير لريفيردي)، ويريد
الالتحام «بكل الحدود، بكل الخشونات، وبكل
تجاويف الواقع»، لا يستطيع أن يدعي منح
قصيدة النثر «قوانين» ولا نماذج، ولا يقل
عن ذلك صوابًا أن قصيدة النثر تدين له
بالكثير، بمعنى الإثراء في العمق، و— إذا
جاز القول — في «السمك» الشعري، فانطلاقًا
من «ريفيردي»، أصبح واضحًا أن قصيدة النثر
الحديثة لن تؤثر إلى هذا الحد بفعل
موسيقى الجملة،
١٤٥ والجمال اللفظي الخالص قدر
تأثيرها بفعل قدرتها الإيحائية، وخلق
علاقات جديدة، وعلى نحو خاص — خارج كل
تأثير «أدبي»، وباستخدام أبسط الكلمات —
بفعل هذا الشعور ﺑ
غموض الواقع الذي تثيره
فينا، يتعلق الأمر دائمًا، مثلما أراد
«جاكوب»، ﺑ «إعادة زرع» القارئ، بأن نكشف
له واقعًا غير إذعاني، لكن «ريفيردي» لا
يلجأ، من أجل هذا، إلى القدرات التحريرية
للحلم، ولا إلى تداعيات الكلمات، يكفيه
الغوص بعمق في قلب الواقع وفي قلب عالمه
الداخلي: فوفقًا لما يكتب، يتمثل «الفعل
الشعري العميق»، في «الغوص بمزيد من التقدم
وبأكثر الأشكال الممكنة مغامرة، في مرآة
الهاويات لسبر أغوارها الخاصة»،
١٤٦ ولا شك أن الشعر «ليس مسألة
إحساس بل تعبير»،
١٤٧ إنها دائمًا مشكلة «الرائي»
القديمة: «إيجاد لغة»، لكننا نعي بشكل أفضل
— مع «ريفيردي» — أن هذا «المجهول» الذي
ينبغي على الشاعر أن يعرضه لنا، لا وجود له
إلا في أعماقه الداخلية: «ما يهم، بالنسبة
للشاعر، هو أن يتمكن من إيضاح أكثر الأشياء
خفاءً فيه، وأكثرها سرية، وأكثرها تخفيًا،
وأصعبها على الكشف عنها، وأكثرها تفردًا».
١٤٨
عندئذٍ، يستعيد الشعر وظيفته الحيوية،
ويعثر من جديد على هذا الطموح الميتافيزيقي
الذي تغافل عنه الرمزيون أحيانًا، وقد غطته
طموحات أخرى جمالية وشكلية تمامًا، فبالمضي
في هذا الطريق، وبالتخلي العمدي عن
«الأدب»، سيسعى السيرياليون إلى الغوص
بأكثر الأشكال الممكنة «مغامرة»، في هاويات
اللغة والوجود الداخلي.