وما دامت هذه الرغبة في النظام، والتنظيم،
والصرامة، تسير مع قبول بالواقع، بل حتى — في
أحيان كثيرة — مع تمجيده، فسيكون من الأفضل إذن
أن نواجه شعراء الشعر الفوضوي والهدام ﺑ «شعراء
الواقع»، وأبادر بالقول إن هذا المصطلح المبهم
ملائم، بالضبط لأنه عام إلى حدٍّ بعيد بما يسمح
بتجميع شعراء مختلفين بدرجة كبيرة مثل «رونيه
شار» و«بونج» و«سان–جون بيرس»، الذين لا يوجد
بينهم أي معيار مشترك سوى توافقهم وتضامنهم مع
الحقيقي، وشعورهم المتفائل في الأساس الذي
يستخلصه القارئ، لكن الواقع له ألف وجه (هناك
واقع إنساني، وواقع مادي، وواقع تاريخي …)، وكل
شاعر يتفاعل معه حسب طبيعته العميقة الخاصة به،
ونحن نقترح شعرًا يتوفر هو أيضًا على واقعه
الخاص به، وبذلك، سأكتفي بالإشارة إلى الأشكال
التي تبلور الواقع، في النثر، لدى بعض من شعراء
حقبتنا الكبار.
رونيه شار والواقع
إذا أمكننا القول إن «ريفيردي» قد أعطى،
إلى حدٍّ ما، دروسًا للسيرياليين، فيمكن
القول أيضًا إن «شار» على النقيض (وهو الذي
ساهم عام ١٩٣٠م في «رالنتير ترافو»،
٢١٥ ونشر في نفس العام قصيدة نثر،
«أرتين»، السيريالية بشكل واضح) قد تلقى
وحفظ درس السيريالية في الأساس: الشعر نظام
للمعرفة متناقض وأرقى من المعرفة المدعاة
«علمية»، فهو «فعل إعادة اكتشاف وإعادة خلق
عالم الحقائق»،
٢١٦ لكن صيغة «شار» — الذي يمثل
الشعر بالنسبة له «معرفة منتجة للواقع»
٢١٧ — أقل إبهامًا، وتوضح بشكل
أفضل الوظيفة الشعرية الحقيقية، التي لا
تمثل فحسب اكتشافًا، وكشفًا متحققًا، وإنما
إبداع.
ولا ينبغي أن ننسى، فضلًا عن ذلك، أن
السيريالية قد اقترحت أيضًا كلًّا من الحلم
والواقع باعتبارهما «حقائق»،
٢١٨ وأن رغبتها في منح المكانة
الأولى للحلم واللاوعي قادتها إلى اقتراح
سلوك سلبي بشكل أساسي على الشاعر، وقصيدة
«أرتين» السيريالية، هي متتالية من الرؤى
الحلمية، ونوع من «فن الشعر» السيريالي في
آن:
حالة الفتور التي سبقت «أرتين»
جلبت العناصر التي لا غنى عنها
لعرض انطباعات مدهشة على شاشة
الأطلال الطافية، والألحفة
المشتعلة في الهاوية التي لا حد
لها للظلمات دائمة الحركة.
٢١٩
لكن كلمات «أرتين» الأخيرة تشير إلى
الرغبة في العودة إلى الواقع: «ولأن شار قد
اختار الواقع — الكلمة الأخيرة للقصيدة —
«قتل الشاعر نموذجه»، أي «تخلى عن كل ما من
خلاله يمكن للحلم وللاوعي ولغير الواقعي أن
يصبح عالمًا يدعي الاكتفاء بذاته ويستغني
عن الحقيقي»، مثلما يكتب «ج. مونان» في
دراسته الهامة،
٢٢٠ فالشاعر لا يستطيع الاستغناء
تمامًا لا عن الخيال ولا عن الواقع، وعليه،
مثلما يقول «شار»، «أن يمسك بكفتي الميزان
متعادلتين بين العالم الفيزيقي للسهر
وسهولة النعاس الرهيبة»،
٢٢١ وفضلًا عن ذلك، فإن مجانية
الصور، وإلغاء الاختيار والعمل الواعي،
ربطت الشعراء بمنحدر ذي سهولة مرعبة، فمنذ
عام ١٩٣٠م، خُلق نمط سيريالي، وأصبحوا
يصنعون «قصائد» بمعونة اللاعقلانية والصور
المتطرفة، هذا الاستغلال الواسع للثروات
السيريالية هو الذي سيشكو منه «شار» عندما
سيدعو — في «قسمة شكلية»
٢٢٢ — «مُدخري النوم» إلى تطوير
«غرابتهم الشرعية» وإلى رد «الحلي»
الحقيقية أو الزائفة التي أمدتهم بها
سرقاتهم الليلية.
أما بالنسبة لشار، فسرعان ما أدرك أن
القصيدة — كي تصبح بدورها واقعًا يتوافق مع
الواقع الداخلي للشاعر — تتطلب جهودًا
أخرى: فاسم شاعر معين لن تكون له أية دلالة
إن كان الشعر كنزًا متاحًا دائمًا، في
متناول أي شخص، فالشاعر يصنع نفسه في
صناعته للقصيدة، ومثلما يؤكد «م. بلانشو»،
«لا يعني الإلهام سوى أولية القصيدة
بالنسبة للشاعر (…) فالشاعر لا وجود له إلا
بعد القصيدة، والإلهام ليس هبة سر أو كلمة
منحت لشخص موجود بالفعل، فهو هبة الوجود
لشخص لا وجود له بعد»،
٢٢٣ وعندما يكتب «شار»:
جرأة أن تكون ذاتك — في لحظة ما
— هي الشكل المكتمل
للقصيدة.
رفاهية استشفاف تلألؤ المادة–
الشعور المتوجة في الحال.
٢٢٤
فالواضح أن كل جهده بالتالي لا بد أن
ينحو إلى أن تصبح هذه القصيدة الكامنة
واقعًا، وأن يمنحها الشكل الذي تطالب
به.
هذا الشكل سيتنوع، كل مرة، حسب الضرورات
الداخلية للقصيدة خلال فترة الكتابة، وينفر
«رونيه شار» من القوالب المعدة سلفًا مثلما
ينفر من التعبيرت الجاهزة، ويصرح بأن
الشاعر «عليه ألا يخشى استخدام كل المفاتيح
المسرعة في يده»،
٢٢٥ وقصيدة «صحبة التلميذة» مكونة
من ثمانية مقاطع لفظية منتظمة مجمعة في
مقاطع شعرية من ثمانية أبيات:
٢٢٦ وقصيدة «حضور عام» (ضمن قصائد
أخرى) تبدأ ببيت الشعر الحر القصير للغاية
إلى البيت الحر الطويل للغاية،
٢٢٧ و«كلهم رفاق سرير» مكتوبة في آيات،
٢٢٨ وفي «تبعية»، يختفي بيت الشعر
في هيئة النثر،
٢٢٩ وأخيرًا، فإن قصائد النثر
(القصيرة للغاية في أغلب الأحيان) كثيرة
جدًّا، ومن الصعب — فضلًا عن ذلك — أن نجزم
بما إذا كانت هذه القصيدة مكتوبة شعرًا أو
نثرًا، مثل «عصفور الصفارية» على سبيل
المثال:
دخل عصفور الصفارية عاصمة
الفجر
وأغلق سيف غنائه السرير
الحزين
أو إذا كانت حكمة كهذه
(شكل الحكمة من أشكال التنبؤ لدى «شار») لا
تستحق، في واقع الأمر، أن تُسمى قصيدة:
يا فتيات الأرض الجميلات، ينابيع
الهناء، اللاتي نضاجعهن، اللاتي
نتأثر بهن، اللاتي نلجهن، اللاتي
نفككهن حتى الاختصار، لماذا لا
تزلن تنادين من بعيد، أيتها
الأطلال المعطرة؟
٢٣١
ولنلاحظ للوهلة الأولى، على أية حال،
أننا مع نثر «شار» نبتعد عمدًا عن السرد،
عدا استثناءات (لكن عندما يتدخل السرد في
«تنويم مغناطيسي» على سبيل المثال، لا يعود
الأمر يتعلق بقصيدة نثر، وإنما بنثر
حقًّا)، ليس هناك تلاحق، وتتابع، مثلما لدى
«ريفيردي» على سبيل المثال، حيث تشكل عناصر
القصيدة أحداث منتقاة حسب قيمتها الرمزية،
فشعر «شار» محاول من أجل تخليد اللحظة،
وحسب صيغته الجميلة:
إذا سكنا برقًا، فهو قلب الأبدي.
٢٣٢
هذا الشعر ساطع مثل شعر
«رامبو»، وقاسٍ في نفس الوقت ومعدني مثل
شعر «مالارميه»، إذا جاز القول، وينبغي
الحديث هنا عن هرقليطية «شار» وعن الطريقة
التي يتمكن بها شعره من حل المتناقضات،
٢٣٣ مثبتًا ومضة الشعور،
«المادة–الشعور المتوجة في الحال»، لنصنع
منها شيئًا أبديًّا، ونجعل هذا الشعور
متجددًا بلا نهاية، وموحدًا «طابع الأشياء
الصلبة غير المنقوص، وسريان الصيرورة،
وكثافة الحضور والوميض الذي يطلقه الغياب»،
٢٣٤ مثلما يقول «بلانشو».
وجانبٌ كبير من قصائد نثر «شار» مكتوبة
في المضارع، إنه الزمن المفضل لشعره، فهكذا
تبدأ قصيدة «مارت» الجميلة:
«مارت» التي لا تستطيع هذه
الجدران القديمة أن تتملكها، نبع
يتجلى فيه سلطاني المنفرد، كيف
يمكنني أن أنساكم أبدًا ما دام ليس
لي أن أتذكركم: إنكم الحاضر الذي يتراكم.
٢٣٥
وعلى النقيض، يندر استخدام
الماضي البسيط، زمن السرد، وكثيرًا ما
ننتقل من الماضي المستمر (المعاد بناؤه
والموصوف في اكتماله) إلى المضارع، لكن ما
هو أكثر جدارة بالملاحظة أن كثيرًا من
القصائد مكتوبة في المستقبل والأمر، أو
تستخدم صيغة نصف الفعل
Le
subjonctif للأمر أو
التمني، وهو ما يقودنا إلى ملاحظة جديدة،
هي أن شعر «رونيه شار» ليس فحسب وصفًا،
وتجميدًا لبعد من الزمن المنساب، وإنما هو
أيضًا فعل، ليس تخليدًا فحسب لما هو موجود،
وإنما خلق أيضًا لما لم يوجد بعد، أداة
للمقدرة، فنهاية «إجازة للريح»
٢٣٦ — ونهاية «مارت» و«سمك القرش والنورس»
٢٣٧ — مكتوبة في زمن المستقبل أو
الأمر، وطبيعي أن هذه الصياغات تجد مكانها
بشكل خاص في القصائد المكتوبة خلال فترة
المقاومة: نعلم أن «شار» كان قائدًا لرجال
المقاومة في «بروفونس»، ونجد انعكاس سنوات
النضال هذه في الصفحات الواثقة وذات الملمح
الرجولي في «قصيدة مدمرة» و«وحدهم يبقون»،
وعلى سبيل المثال في «نشيد الرفض»،
٢٣٨ وتكشف بعض هذه القصائد، بطبيعة
الحال أيضًا، حركة إيقاعية وإحساسًا
بالمناجاة الكبرى، وبلاغة لا يلهمها أي سعي
أدبي، وإنما حيوية لا تُقاوم فحسب: «أيتها
المرأة يا من تتوافقين مع كلام الشاعر (…)
أيتها المرأة يا من تنامين في لقاح الزهور،
ضعي على كبريائه نداك الفضي من وسيط بلا
حدود، حتى يظل إلى ساعة شجيرة العظام
الميتة الرجل الذي، كي يعبدك بشكل أفضل،
كان يدفع فيك بلا نهاية نوبة صباح ميلاده،
وضربة ألمه، وأفق انتصاره».
٢٣٩
وكثيرًا ما تم التأكيد على النبرة
الرجولية لهذا الشعر، حيث «كل شيء يتآمر كي
يجعلنا نستشف الأسطورة الخماسية لرجل
منتصب» مثلما يقول: ج. بيكون»:
٢٤٠
سلام على من يمشي بثقة إلى
جواري، في نهاية القصيدة، سيعبر في
الغد واقفًا تحت
الريح.
مثلما يكتب «شار»،
٢٤١ فالشعر — بالنسبة له — هو
صيرورة الإنسان: «في كل
انهيار للبراهين، يجيب الشاعر برشفة من
المستقبل»، مثلما يصرح في «قسمة شكلية»
التي تمثل — إن صح التعبير — «فن الشعر
الخاص به»،
٢٤٢ وفي «قصيدة مدمرة» يُعرف الشعر
على النحو التالي: «الشعر هو الحياة
المقبلة داخل الإنسان المعاد تأهيله»،
٢٤٣ هكذا يؤسس «شار» شعره على
تمجيد الإمكانيات الإنسانية، وعلى الإيمان
بمستقبل أفضل: «نحن من طراز عظمة بلا
مثيل»، مثلما قال عام ١٩٣٣م في «قصائد
مناضلة».
هذه الرجولة، وهذا العنفوان المؤثر
يمنحان قصائد نثر «شار» نبرةً شخصية
للغاية: شعر أقل عاطفية، وأكثر «حركية» من
شعر «إيلوار»، رغم أننا نجد فيه أيضًا
قصائد حب جميلة للغاية ومشاعر أخوة إنسانية
مشابهة له، شعر يبدو
مُشمسًا بشكل أساسي،
٢٤٤ إزاء شعر ليلي في أغلب الأحوال
لواحد من قبيل «ريفيردي».
هذا الشعر الساطع كثيف للغاية، مكثف وصلب
مثل الماس، وما سبق أن قلته عن بلاغته لا
ينبغي أن يجعلنا نعتقد في احتمال أن يكون
لفظيًّا: هنا أيضًا تتحد المتناقضات، ويوفق
شعر «شار» بين الاندفاعات الغنائية وتبلور
الشكل، وعلى نقيض الشعر السيريالي، لا ينحو
شعر «شار» إلى الآلية، إلى التدفق اللفظي،
بل — على النقيض — إلى صرامة الشكل، الذي
لا يكف عن الانضباط كي يحافظ بأقل الكلمات
الممكنة على أكبر طاقة كامنة، وتبهرنا
الصور على نحو خاص بدقتها الساطعة وإيجازها
المدهش في آن: «صوَّان الظهيرة الصامت»،
٢٤٥ الريح «التي تجوب عامًا في ليلة»،
٢٤٦ الشاعر «حامل الطمي المشتعل»،
٢٤٧ ويمكن لكلٍّ من هذه التعبيرات
أن يكون موضوع تعليق تفسيري كبير غير مجدٍ
تمامًا؛ وذلك لأن الشعر يستخدم بالتحديد كي
يبث فينا الانفعال الذي لا يستطيع النثر
التحليلي أن ينقله لنا،
٢٤٨ لكنه سيثبت لنا عدم مجانية أي
من هذه الصور، فصور «أرتين» و«المطرقة بلا معلم»
٢٤٩ لم تكن تقدم هذا الطابع من
الضرورة، ورغم هذا يشير أندريه بريتون عام
١٩٣٢م إلى أن «التبلور» الذي لا يكف شار عن
الحصول عليه من فكره يمنح كل سطر من
«أرتين» و«فعل العدالة انطفأ» شفافية
وصلابة قصيدتين خاصتين به وتحفظانه من كل
مبتذل سيريالي آخر …»
٢٥٠ وإذا ما كان ثمة غموض في هذه
الصور، فسيرجع ذلك — مثلما في قصائد
«مالارميه» — إلى كثافتها، لا — مثلما في
النصوص السيريالية — بفعل الارتخاء في
آليات اللغة.
ولا يمكن إطلاقًا القول إن شعر نثر «شار»
أقل إحكامًا أو أكثر سيولة من شعره
المنظوم، فهو — على النقيض — يتخذ أحيانًا
شكلًا نحتيًّا يتركنا مشدوهين أمام نبوءة
عراف، وحتى في القصائد التي تتكون من عدة
جمل لا ترتبط هذه الجمل الواحدة بالأخرى،
فكل واحدة تبدو منبثقة من الصمت مثل حكم
معزول، وينبغي إعاة تشكيل الروابط التحتية
التي توحدها من جديد، وقد قام «ج. مونان»
بالتعليق على قصيدة «تقويم»
٢٥١ الصعبة والمستغلقة للوهلة
الأولى:
لقد ربطت اعتقاداتي الواحد
بالآخر وضخمت حضورك، منحت مجرى
جديدًا لأيامي بإسنادها إلى هذه
القوة الشاسعة، وصرفت العنف الذي
كان يحد من صعودي، أخذت بلا صخب
معصم اعتدال الربيع، لم يعد العراف
يُخضعني، أدخل: أشعر أو لا بالنعمة
…
والقارئ الذي لا يعرف أي شيء عن شعر
«شار» سيجد هذه القصيدة مستغلقة بلا شك،
والواقع أنه يتطلب «
فهمًا compréhension»
شعريًّا —
بالمعنى المادي
للكلمة — إذا ما أردنا
الشعور بالإمساك بكلية هذه المتتالية من
التصريحات التي تشكل أساس تجربة «شار»
الشعرية، المرتبطة بعمق بما نعرفه عن
موضوعاته الجوهرية: رفض الخضوع للاوعي
(العراف)، والحضور المتزايد للشعر الحقيقي
«القوة الشاسعة»، والشعور بثبات الزمن،
الذي يجد نقطة توازنه («اعتدال الربيع»)،
والقبول ﺑ «صعود» الشاعر … هكذا، تجد كل
قصيدة من قصائد «شار» نفسها في موقع تقاطع
لشبكة من الاستعارات والتلميحات يُفسر
ويثُري بعضها بعضًا (وكي نأخذ مثالًا آخر،
لا يمكننا «اختراق» قصيدة «زمن القصب»
٢٥٢ إن لم نعد إلى النصوص الأخرى،
حيث يستدعي «شار» المستنقعات الفولكلورية
من مسقط رأسه «بروفونس»، «أرض جرونيد للقصب هذه»،
٢٥٣ وحيث يعرض «الشعر الذي يسير
عاريًا على قديمه المجبولتين من قصب، على
قدميه المجبولتين من حصى»،
٢٥٤ فعالم الشاعر الداخلي يبدو لنا
إذن عالمًا متسقًا، حيث تترسخ أصداء
وتقاربات على المستويات المختلفة للتجربة
الشعرية، مثلما يبدو لنا أيضًا عالم
«رامبو»، أو عالم «إيلوار»، أو عالم
«ريفيردي»، كي لا نذكر سوى بعض الشعراء
الذين يسمونهم غامضين، فعالم «شار»،
المغمور بالمكان والضوء،
٢٥٥ هو عالم متوهج، حيث يلتقط كل
شيء في جوهره الصلب وفي تحوله في آنٍ بفعل
النار الشعرية التي تحرقه، فيما تطهره،
لتكشف صورة «هرقليطية» مثل «عصفور المعادن الأحمر»
٢٥٦ تحول المعدن الثقيل الذي يصبح
الشرارة الغنائية التي يحدثها، فشعره هو
شعر الواقع المجيد.
بونج والرأي المسبق للأشياء
عند الانتقال من شار إلى «بونج»، يتملكنا
الشعور الغريب بالوطأة، وبأننا أسرى المادة
ومتورطون في قلب الجوهر من خلال شاعر يقترح
لكل امرئ «رحلة في كثافة الأشياء»،
٢٥٧ فلنقرأ هذا التعريف ﻟ «الماء»:
أكثر انخفاضًا مني، دائمًا أكثر
انخفاضًا مني يوجد الماء، أنظر
إليه وعيناي دائمًا منكستان، مثل
الأرض، مثل جزء من الأرض، مثل
تعديل للأرض.
أبيضٌ ولامع، بلا شكل وندي، سلبي
ومستمر في رذيلته الوحيدة: الثقل،
متمتعًا بوسائل استثنائية لإشباع
هذه الرذيلة: محيطًا، مخترقًا،
قارضًا، نافذًا.
٢٥٨
ها نحن بعيدون عن «النهر المشع» لشار،
وعن كل المياه الشفافة، الهاربة، اللامعة،
التي تنساب في الشعر من «فرجيل» إلى «م. د.
جيران» و«كلوديل» … لكن ها هو ما هو أفضل،
أو أسوأ: المطر:
لكل واحد من أشكاله مظهر خاص:
ثمة إجابة لها صوت خاص، والكل يعيش
بكثافة مثل آلية معقدة، محددة بقدر
ما هي خطرة، مثل ساعة حائط زنبركها
هو ثقل كتلة من بخار في حالة اندفاع.
٢٥٩
وصف، مثلما يقول «م. ساييه» (العنيف تجاه
«بونج» إلى حدٍّ بعيد)، يحيلنا بالتناوب
«إلى دليل «رويه»، وإلى صحيفة «روستيكا»،
وإلى الكتب الموجزة المبسطة في الفيزياء والكيمياء»،
٢٦٠ ويمكننا القول، على أية حال،
إن مسألة الاختيار بين الشعر والنثر لم
تطرح نفسها على «بونج»: فهذا البطء الثقيل،
وهذه النثرية المتعمدة، وهذا النوع من
التعليمية المثابرة، لا نرى إطلاقًا كيف
يمكن للشعر المنظومة أن يتقبلها، ﻓ «شعر»
بونج لا يقصد إبهار آذاننا، ولا إعجاب
خيالنا، فهو يسخر من الإنسان ومن «صفاته
المثيرة للشفقة»،
٢٦١ وهو لا يدعونا إلى أي هروب نحو
بلاد الحلم، وإنما إلى تأمل الواقع اليومي
فحسب:
إزاء كل رغبة في الهرب، هناك
معارضتها بالتأمل ووسائله، السفر
عبثي: التحول إلى الأشياء التي
تغمرك بانطباعات جديدة، وتقترح
عليك مليون صفة غير معهودة.
٢٦٢
التحول إلى الأشياء: لا إلقاء نظرة إنسان
وشاعر على الأشياء، بشحنها بالرموز،
وبتحويلها، وإنما «الدخول» بشكل حقيقي في
هذه الأشياء، والكمون في أقصى خصوصياتها،
للتعبير عن كل منها في جوهره الأساسي، في
خصائصها النوعية، فبونج لا يريد أن يصف
مظهر الماء، ولا سيما مظهر هذا الماء (هذه
البحيرة أو هذا الجدول)، ولا هو يصف هذه
الحصاة الملساء، وإنما الحصاة الملساء:
«إنه غير منشغل ﺑ
الصفات وإنما
بالوجود»،
مثلما أوضح «ج. ب. سارتر» في دراسته الهامة
التي خصصها له،
٢٦٣ إنه — على نحو إجمالي — جوهر
الأشياء الذي يريد إدراكه، ورغم أن
«ظاهرية» بونج (حسب كلام «سارتر») مختلفة
تمامًا، ما دامت مادية، عن «المثالية»
المالارمية، فإننا نرى — رغم هذا — أن هناك
ما هو مشترك في مسعييهما: هذه الرغبة في
الالتصاق بالشيء في ذاته (قارن ﺑ «الوردة»،
«الغائبة من كل الباقات»)، في حقيقته
الجوهرية، لا في مظهره العابر.
وبالنسبة لبونج — كما بالنسبة لمالارميه
أيضًا، وإن يكن على نحو خاص بالنسبة لكل
شعراء ما بعد الحبر (حرب ١٩١٨م) — تحتل
مشكلة اللغة مكانة أولية: ولن نشك في ذلك
عندما نقرأ الملاحظات التي جُمعت في
«
مقدمات»: فبونج، الذي
يكتب
منذ عام ١٩١٩م، رغم أنه لم يُعرف إلا عام
١٩٤٢م مع عمله الرئيسي «الرأي المسبق
للأشياء»، يُنتقد على استخدامه للكلمات،
شأن الدادائيين والسيرياليين؛ لأنها
مستهلكة، وأضعفها الاستخدام الطويل، ومجردة
بشكل مفرط، ومنفصلة عن الأشياء التي تدل
عليها في آن: كلمات جاهزة، بلا لون، خالية
من كل قوة إيحائية، وهو يتساءل، وتلك هي،
فضلًا عن ذلك، مشكلة كل شاعر بامتياز: كيف
نمنحها قدرتها؟ كيف نقيم بين عالم الحقائق
وعالم الكلمات تيار تبادلات تصبح فيه
الأشياء كلمات والكلمات أشياء؟
٢٦٤ بالنسبة لبعض شعراء النثر، تظل
مشكلة التعبير ثانوية؛ لأن اهتمامهم
بالتأثير على الشكل أقل من اهتمامهم
بالمضمون، فيمكن استخدام تعبيرات عادية،
عندما نصف عالمًا فانتازيًّا، أو عندما
نسرد حلمًا، لكن بالنسبة للكاتب الذي يتمسك
بما هو
كائن، والذي يقترح لا هدم
العالم المادي لصالح عالم اللغة، وإنما
وضعنا في حالة اتصال حميم مع الأشياء من
خلال اللغة،
٢٦٥ فلا توجد مشكلة أخرى سوى مشكلة التعبير.
٢٦٦
إن الوسائل التي يتمتع بها الكاتب
ثلاثية، وسنرى «بونج» وهو يؤثر في البدء
على الكلمات نفسها، المادة الأولية للغة،
ثم على بنية الجملة (ما دام يرفض؛ لأنه
يكتب نثرًا، إمكانية خلق كلمة «كلية»
و«جديدة» مع الشعر، مثل «مالارميه»)،
وأخيرًا في المرتبة الثانية، على البنية
الكلية للقصيدة.
ولا يتعلق الأمر، على وجه الإطلاق، مثلما
بالنسبة لبعض الشعراء الفوضويين، باستخدام
الكلمات خارج معناها، أو اختراع مفردات جديدة:
٢٦٧ يريد «بونج» أن يهزم اللغة
بمنابع اللغة نفسها، وللبدء، سيأخذ كلمة لا
في معناها المستخدم، الذي أصبح عاريًا
ومسطحًا، لكن في ثراء كينونته، مثل عضو حي
ومعقد: هو الذي يسمي دواوينه «تمارين إعادة
تريبة كلامية»،
٢٦٨ ويدعي أن الأدب يتيح «إعادة
صنع العالم، بكل معاني كلمة إعادة صنع،
بفضل الطابع المادي والمجرد، الداخلي
والخارجي في آن ﻟ «الكلمة»، بفضل كثافتها الدلالية»،
٢٦٩ وكلمة كثافة هذه تعجبه لأنها
توحي ﺑ «ثورة أو تقليب مماثل لما يفعله
المحراث أو الجاروف، عندما تظهر فجأة،
ولأول مرة، ملايين من القطع الصغيرة،
والشذرات، والجذور، والدود، وحيوانات
صغيرة، كانت مطمورة حتى ذلك الحين»، ويصرخ
«بونج»: «أيتها المنابع التي لا تنضب
لكثافة الأشياء، المعبر عنها بالمنابع التي
لا تنضب للكثافة المرتبطة بعلم دلالة الكلمات»!
٢٧٠ والواقع أنه يستخدم هذه
الكثافة الدلالية، أي من خلال المعاني
المتراكبة، سواء بفعل أصل الكلمة أو بفعل
الاستخدام، التي تمنحها ألوان قوس قزح
وتثريها بالمفاهيم المختلفة للشيء الذي
يتحدث عنه: البراعم «تظهر بحذر مخدرة،
ومضرجة بالحمرة» (وهو ما ينبغي إدراكه
بالمعنى الأخلاقي والفيزيقي في آن)،
٢٧١ و«المجلد البحري» الذي
«تتصفحه» الريح يسمى ضخمًا (بالمعنى
المزدوج لكلمة
volume،
٢٧٢ والإرباك، عندما نتحدث عن
الحصاة، يربط المعنى المجازي بالمعنى
الأصلي للكلمة،
٢٧٣ وعندما يقال لنا إن البحر يجتر
ressasser
الصخور، في نفس الوقت الذي نفهم الاستعارة
(
ressasser
يجتر، أي ينخل الدقيق، الذي سيخرج في حالة
التراب الناعم، مثل الصخور التي تتحول في
النهاية إلى رمل)، نسمع صوت البحر هذا،
الذي يتكرر بلا كلل،
٢٧٤ وإذا ما كان اللجوء إلى المعنى
الاشتقاقي للكلمة أقل تكرارًا مما لدى
«مالارميه»، فإن التلاعب بالألفاظ، المؤسس
على المعنى المزدوج للكلمة، يرقى إلى مستوى
الأسلوب الشعري، ويبني «بونج» قصيدة
بكاملها حول المعنى المزدوج لكلمة
mûres
«فاكهة الأغصان» و(كصفة) «مشتقة من النضج»،
٢٧٥ نجد هنا الفكرة السيريالية عن
وجود حياة كامنة في الكلمات، طاقة خلاقة؛
٢٧٦ ولهذا، فإن «التوريات» التي
يستنكرها «م. ساييه»،
٢٧٧ «في منتصف الطريق من القفص إلى
الزنزانة تملك اللغة الفرنسية «سلة من قصب»،
٢٧٨ «على نقيض خَبَث الفحم النباتي
الذي هو ضيف الرماد الساخن، تحب الحلزونات
الأرض الرطبة، هيا، إنها تتقدم ملتصقات بها
بكل أجسادها»،
٢٧٩ إذا كانت قيمتها الشعرية، محل
شك! فهي ليست كلامًا فارغًا سخيفًا، لكنها
جهد فكري يبحث عن اكتشاف تقارب خفي بين
الشيء واسمه، عن توافق سري؛ لأن الاسم هو
الشء نفسه الذي أصبح كلمة،
٢٨٠ هكذا سيقول «بونج» عن
الميموزا: «ولمعرفة الشجيرة واسم الميموزا،
يصبح من الصعب العثور على شيء أفضل لتعريف
الشيء من هذا الاسم نفسه»،
٢٨١ ويستسلم لجهد غريب من أجل
اكتشاف التوافقات بين مدرس الرياضة والحروف
التي تشكل اسمه،
٢٨٢ وهذا العمل في التسمية غير
كافٍ، فضلًا عن ذلك، للإيحاء بالأشياء،
وأيضًا لم يعد الاسم يناظر الشيء على وجه
الإطلاق (وهو ما لاحظه «مالارميه») بتنوع
اللغات التي تعددت منذ بابل: ﻓ «
jour
= نهار» اسم «مظلم» في حين أن إضاءات
«
nuit
= ليل» منيرة، وهو قصور موفق يعزز دور
وضرورة الأدب: فالكلمات المجتمعة في جملة
يمكنها أن يزيد بعضها بعضًا، ثراءً
وتنوعًا، وتعكس بالتبادل ألقها، أو تفجر من
صدمتها شرارة التناقضات، وهو ما يحدث عندما
يتحدث «بونج» عن عالم من السخافات والسذاجات»،
٢٨٣ وعن «سعار قريب من الذهول»،
٢٨٤ أو أن يقول عن الفراشة إنها
«تتسكع في الحديقة»،
٢٨٥ وهو تعبير «غير مدهش — مثلما
يشير «سارتر» — إلا إذا ربطنا فكرة التجول
على طول موجات مكانية، وجعلناها متضمنة في
كلمة
vagabondage
(تسكع)، بما فيها على النقيض من تسوير
وتدقيق بعناية كاملة في كلمة حديقة».
٢٨٦
والواقع إننا — رغم هذا — لن نجد لدى
«بونج» مثلما لدى «مالارميه» أو «رونيه
شار»، هذه التعبيرات المكثفة والمبهمة
والثرية للغاية إلى حد التنقيب بلا نهاية
عن معانيها، لينتهي الأمر بحقائق متعارضة،
كل منها فوق الأخرى، إلى أن تلغي نفسها
بالتبادل، مشكلة حقيقة روحية جديدة أسمى،
فلدى «بونج» لسنا — على النقيض — بصدد
جدلية المتناقضات ولا تحويل الواقع من خلال
الفكر، وإنما إزاء خضوع للواقع، للشيء:
«على القصيدة ألا تقترح أبدًا فكرة علينا،
وإنما شيئًا، أي إن الفكرة لا بد أن تتخذ
شكل الشيء»،
٢٨٧ فقصيدة «يونج» تقدم لنا شيئًا
من الواقع «المعاد صنعه» بسلطان الكلام
(شيئًا واحدًا كل مرة)،
٢٨٨ وفي هذه القصيدة، تتخثر
الكلمات، على نحو ما، لتشكل تراكم شكل
وامتدادًا متنوعًا حسب الشيء الذي تقدمه،
مثلما يتغير شكل قوقعة الرخويات حسب الأنواع،
٢٨٩ فالجهد الذي يقوم به «بونج»
ليقلد — إذا جاز القول — الشيء الذي يصفه،
يقوده إلى تنويع مظهر وبنية جمله بلا
نهاية، فقطعة اللحم؛ لأنها «مصنع» وخزان
طاقة، تتطلب شكلًا صلبًا، وديناميكيًّا:
كل قطعة لحم نوع من المصنع،
مطاحن ومعاصر للدم.
فتحات أنابيب، أفران عالية،
براميل تتجاور فيه مع المطارق
الآلية، وسائد من دهن.
البخار يندفع منها وهو يغلي،
ونيران معتمة أو مضيئة يحمر لونها.
٢٩٠
ويتوارى الجمبري بالمقابل في تعرجات
الكلام المعمَّى:
ثمة عدة مميزات أو ظروف تجعل من
أحد الأشياء أكثرها تحفظًا في
العالم، وربما طريدة تأمل أشرس من
حيوان صغير لا يهم بلا شك تسميته
بقدر ما يهم استدعاؤه بحذر، وتركه
يدلف في حركته الخاصة به في مجرى
الكلام المعمى، والوصول في النهاية
من خلال الكلام إلى النقطة الجدلية
حيث يضعه شكله ووسطه، وظرفه الصامت
وممارسة مهنته الدقيقة.
٢٩١
وبتشبث حقًّا، وصلابة مدهشة، يستدعي
«بونج» الحصى الأملس،
٢٩٢ من خلال جمل موصولة بعناء،
باستدلالات مندمجة ستتطلب استشهادًا مطولًا
بشكل مفرط، بينما «مدرس الألعاب الرياضية»
(الذي يجعل منه «بونج» شيئًا، «ممثل نوع
حيواني»، مثلما يشير «سارتر»)
٢٩٣ يتم وصفه بأجزاء من جمل
موزونة، بل مسجوعة، تقدم نفس المظهر الراقص
للاعب الرياضي، متأرجحًا على امتداد حبله:
إنه يكتسح كل القلوب، لكنه يلتزم
بأن يكون عفيفًا وسبابه هو
كفى!
أكثر وردية من الطبيعة، وأقل
براعة من قرد يقفز إلى جهاز
الرياضة مأخوذًا بحمية خاصة …
٢٩٤
إن الرغبة في قولبة الجملة على الشيء
تقود «بونج» أحيانًا إلى القطيعة مع تركيب
الجملة التقليدي، وإلى إعادة توزيع الكلمات
في نسق يحترم بشكل أفضل واقع الأشياء (هنا
أيضًا نتذكر «مالارميه»،)
٢٩٥ وهكذا، عندما يريد استدعاء
القفزات الهاربة، وانتقالات الجمبري في كل
الاتجاهات: «من خلال قفزات نشطة، متقطعة،
متتالية، متراجعة تليها عودات بطيئة، يلاحظ
علامات صغيرة تهتز بطريقة خاصة من مكان إلى
آخر على امتداد بصره …»
٢٩٦ أو من خلال العكس، فيرحِّل اسم
المفعول إلى نهاية الجملة، كي يقدمه لنا
معزولًا، مقتطعًا، يدافع عنه المفعول به
مثلما تدافع عن زهرة الدغل أغصانها
الشوكية:
هكذا إذن، قال لنفسه، تنجح في
حالات كثيرة الجهود المثابرة لزهرة
رقيقة للغاية، وإن يكن بفعل تشابك
عسير للأشواك يدافع عنها.
٢٩٧
فحركة القصيدة، مثلما لاحظ «سارتر»، لا
تنتشر من جملة إلى أخرى، مثلما يحدث عادة:
وذلك — بالتحديد — لأن «بونج» لا يريد
الإيحاء بحركة مستمرة، وصيرورة، وإنما بشيء
في وجوده وفي جوهره، وتأتي الحركة المولدة
في أغلب الأحيان ﻟ «تتلاطم بعنف وتتوقف
فجأة عند مصدر النقطة»،
٢٩٨ والجملة الأخير من «فراشة» —
التي يذكرها «سارتر» كمثال — تُذكر كثيرًا
ببعض «خلاصات» رونار، الموجزة كأنها تجمدت
فجأة:
شراع للأجواء صغير للغاية تسيء
معاملته الريح في تويجة حشوية، إنه
يتسكع في الحديقة.
٢٩٩
تكمن هنا نتيجتان: قبل كل شيء، صلابة
المظهر المتحجر الذي تتخذه الجملة في أغلب
الأحيان، فحتى وهي طويلة، لا تعطينا
الإحساس بالتموج، والفوران الذي نشعر به —
على سبيل المثال — مع «بودلير»، فإزاء
أمواج «بودلير»، تستدعي جمل «بونج» تسميات
معدنية، في كومات، وبللورات … وهي في هذا
تتوافق مع انجذاب «بونج» العميق نحو الصلب
والمحسوس: «تغمره حصاة بشكل أعمق من النهر،
شيء أكثر من أية حركة، وإذا ما جرؤنا على
القول، هيكل عظمي أكثر من أي جسد حي»،
مثلما يقول «ج. بيكون» عن حق تمامًا،
٣٠٠ وسبق أن رأيناه يقدم الماء
«مثل تعديل للأرض»،
٣٠١ وبالمثل، ليست شعلة الشمعة —
بالنسبة له — هذا العنصر العابر، الدقيق
للغاية، الذي نسميه النار، لكنها «ورقة
ذهبية» مثبتة «في تجويف عمود صغير من
المرمر بساق سوداء تمامًا»
٣٠٢ والنبات، يقدمه لنفسه عن قصد
باعتباره «تطريزًا»، و«نسيج» قماش «ينتمي
إلى العالم مثل إحدى قواعده»:
٣٠٣ مشروع غريب من أجل تعدين
العالم يؤدي به إلى تصوير ما هو أكثر حيوية
في الإنسان، الكلام، باعتباره «إفرازًا»،
٣٠٤ والقصيدة كشيء، وإلى التلذذ
بالحلم بعهد يختفي فيه الإنسان، دون أن
يترك وراءه سوى هذه الشواهد على وجوده التي
تحولت إلى عظام، ونُصُب وأعمال فنية، مثلما
تبقى القواقع على قيد الحياة بعد الرخويات …
٣٠٥ والنتيجة الثانية، التي تتعلق
هذه المرة بتكوين القصيدة، هي الصلابة،
وانعزال كل جملة، بما يجعل القصيدة تنبني
بفعل التجاور، وتخضع لجمالية المتقطع، فهي
لا تتكون مثل لحن غنائي، بل مثل قطعة
موزاييك، من خلال سلسلة من الفقرات على فكر
القارئ أن يقوم بتركيبها معًا، وهو أمر
واضح للغاية، على سبيل المثال، في قصيدة
«الماء»، أو في الفقرات الصغيرة المفككة في
«إله الريف ونباتات محلية»، وقد أكد
«سارتر» عن حق على جمالية التجاور هذه،
التي يجد لها معنًى خاصًّا للغاية:
هذه الفقرات التي تزورها دائمًا
ذكرى فقرات أخرى لا تستطيع
الانتظام معها، هذه الجمل التي
تدوي في وحدتها اللاعضوية بنداءات
إلى جمل أخرى لا تستطيع اللحاق
بها، ألا تشبه جهدًا محضًا يقوم به
الحجر نحو الوجود المنظم، نجد هنا
صورة حدسية، يمنحها لنا الأسلوب
والكتابة، بالطريقة التي يريد
«بونج» بها أن يجعلنا نرى «الأشياء».
٣٠٦
ولا شك أن خطر هذا البناء، من خلال
التجاور، يكمن في أنه يحافظ — بدرجة أقل
قوة — على الوحدة العضوية للقصيدة، وهو خطر
محدود بالنسبة إلى «بونج»، هذا حقيقي، بفعل
أن القصيدة لا تنفصل — هي نفسها — عن الشيء
الذي تقدمه، ليقل انشغالنا بالوحدة الشكلية
منذ اللحظة التي تتحقق فيها وحدة أساسية،
ويبدو — رغم هذا — مثيرًا للقلق إلى حدٍّ
ما أن نستطيع اقتباس أجزاء منفصلة، من «رأي
مسبق للأشياء»، وأن يتوفر لنا أيضًا
الانطباع، في أغلب الأحيان، بأن «قصيدة» ما
يمكن مواصلتها بلا نهاية (مثل «الماء» أو
«الحصاة الملساء» أو «سلة من قصب»، التي
يضع لها «بونج» نقطة نهائية لأنه «يجدر
بها»، مثلما يقول عن مصيرها، «ألا تسهب طويلًا»،)
٣٠٧ وفي حالات معينة، فهذا البناء
من خلال فقرات منعزلة، وأضلاع، وهذا
الافتقار إلى الروابط يشدان القصيدة نحو
النثر، ويدفعاننا إلى الشك فيما إذا كنا
نقرأ قصيدةً حقًّا، أم «مدونات نثر».
٣٠٨
وينبغي رغم هذا — كي ننهي الحديث —
التأكيد على فكرة أن «بونج» ليس مراقبًا
بسيطًا، أو عالم طبيعيات يسجل الملاحظات،
ويصف الأشياء من الخارج، فقد أراد «أن
ينتقل في الأشياء»، ويصفها في ذاتها لا في
علاقتها بالإنسان، لكن الواضح تمامًا أنه
لا يستطيع إعارة صوت إلى الأشياء إلا
بواسطة شخصيته الخاصة: فعندما تريد الأشجار
التعبير عن نفسها، «تفلت سيلًا، وإفرازًا
من خضرة»، لكنها «لا تنجح أبدًا إلا في
تكرار نفس التعبير، ونفس الورقة مليون مرة»،
٣٠٩ إنه الشاعر الذي يصبح شجرة
ليتكلم بدلًا منها، لكن كيف لا يعبر، في
نفس الوقت، عن الشاعر؟ و«بونج» يعرف ذلك
جيدًا: فلا تستطيع القصيدة أن تكون الشيء
نفسه، إنها شيء
واحد، أي موضوع، وعمل فني،
ومهمة الشاعر لا تكمن في نقل العالم، بل في
إعادة
صنعه، وهي فكرة تتكرر عدة
مرات في «مقدمات»، من هنا، يكمن هذا
الالتباس بين القصيدة–الإفراز للشيء
والقصيدة–إبداع الشاعر، وهكذا، فعندما
يتحدث «بونج» عن الخبز، يلغي الإنسان
بمعنًى ما، ما دام يصف لنا الخبز لا حسب
المعايير الإنسانية، ولا في قيمته النفعية
للإنسان، وإنما كعالم خاص، موجود في ذاته —
لكنه يعيد إدخال الشاعر — «بونج» من خلال
تفرد زاوية الرؤية:
٣١٠
إن سطح الخبز رائع أولًا بسبب
هذا الانطباع شبه البانورامي الذي
يقدمه: كأن تحت تصرفنا وفي متناول
أيدينا (جبال) الألب أو طوروس أو
كورديلييه في الأنديز.
٣١١
هذا التضخيم الذي يطبق على الخبز هو
وسيلة فنية ووسيلة «في نزع الأنسنة» في نفس
الوقت (وقد استخدمها «بونج» عدة مرات،)
٣١٢ هو وسيلة الشاعر التي يجدد
بها طزاجة الإحساس بها: ﻓ «كل عمل بونج
يكمن في إيقاظ العين النائمة في اعتياد
المدركات اليومية»، حسبما يقول «ج. مونان».
٣١٣
عندئذٍ، يصبح السؤال المطروح هو التالي:
هل عثر «بونج» حقًّا بشكل حدسي على حياة
الأشياء نفسها، أم أنه ببساطة أعارها حياةً
وتصرفات مستمدة — في الحقيقة — من تجربته
الإنسانية؟ أيمكن العثور في الأشياء على
شيء آخر غير أنفسنا؟ وعلى سبيل المثال،
عندما يصف لنا «بونج» تصرف البحر إزاء
الحصى الأملس «الذي يحافظ عليه، ويضمه،
ويؤرجحه، ويلاطفه»،
٣١٤ أيفعل شيئًا آخر غير منح البحر
حساسية أمومية؟ هنا تُطرح بوضوح مسألة
الاستعارات.
فالشيء يكون، وهو يكتفي بالوجود دون
المقارنة بالأشياء الأخرى: ووجود الاستعارة
يشير إلى تدخل الفكر، وبالتالي الشاعر،
وينبغي لشعر حقيقي للأشياء أن يتجرد من
الاستعارات، لكن هناك الكثير منها في شعر
«بونج»، ولا شك أنها محكومة — مبدئيًّا —
بإقامة معادل بين الأشياء والإنسان، بأنسنة
الأشياء ونزع إنسانية البشر، بطريقة تضعهم
جميعًا على مستوى واحد، طبقًا لإرادة مادية
حازمة (وقد أوضح سارتر تمامًا هذا الموقف)،
٣١٥ ويمكننا أن نضيف بلا إلحاح
أن القصائد التي خصصها «بونج» للبشر، «الأم
الشابة»، «ر. سي. سين رقم»، «مطعم لومونيه
بشارع لاشوسيه دانتان»، هي أقل قصائده
نجاحًا، بلا شك لأنها مكتوبة بلا أدنى درجة
من التعاطف)، لكن الواقع أن كثيرًا من
الاستعارات تبدو — «في رأي مسبق للأشياء» —
مجانية حقًّا «وفنية» بشكل زائد، وقد أوضح
«مونان»، على سبيل المثال، أن من الرعونة
حقًّا، بعد الحديث عن الريح التي «تتصفح»
و«تنفخ» في «المجلد البحري الضخم»، أن
نتخلص من الاستعارة بالحديث عن «الحاجة إلى المعلومات»،
٣١٦ وثمة مجانية أيضًا إلى حدٍّ
بعيد في الوصف الوارد في «نهاية الخريف»،
مع التلاعب الانتقائي بالألفاظ حول «تجرد»
الطبيعة: «يتم التجرد بفوضى، تفتح كل أبواب
قاعة الاقتراح وتغلق، وهي تصطفق بعنف»،
٣١٧ وقد لاحظ «سارتر» نفسه أن
«بونج» يضع أحيانًا في الشيء ما يدعي فيما
بعد العثور عليه فيه (بصدد «الغسالة»)،
٣١٨ عندئذٍ، يصبح الخطر الذي يتربص
بالشاعر هو الحذلقة، والتلاعب المجاني
بالفكر: وفي الذوق الرديء، تذهب حذلقة
«بونج» بدرجة كبيرة إلى نفس المدى الذي
يبلغه «ج. رونار»، فماذا نقول عن هذه
النكتة: «كما في الإسفنجة، يوجد في
البرتقالة امتصاص يستعيد سعتها بعد الخضوع
لتجربة العصر»؟
٣١٩ وأعتقد أن وصف لب الخبز بأنه
«رخوية تحتية وبشعة»
٣٢٠ ليس عودة فحسب — مثلما يلاحظ
«م. ساييه» — إلى أسوأ انحرافات اللغة الرمزية،
٣٢١ بل هو أيضًا إقحام لحكم أخلاقي
في الوصف، وبالتالي لرؤية إنسانية للأشياء،
تتناقض مع مشروع «بونج» نفسه، لكن من
الصواب، رغم هذا، القول إن «بونج» قد نجا —
إلى حدٍّ ما — من التفاهة التي يمكن أن
يقود إليها هذا الذوق الرديء من خلال طريقة
ما من عدم أخذ الأمور بجدية، بأن يوجه لنا
طرفة عين متواطئة عندما يسقط على هذا النحو
في الأنسنة أو الحذلقة، في تناقض مطلق مع
مشرعه (على سبيل المثال، في حديثه عن
الغسالة و«غيظها المغلي»، أو عن الحلزونيات
التي «يسيل لعابها كبرياءً» لأن لها قوقعة
لحماية ما يخص الذات»،)
٣٢٢ ولدى «بونج» نوع من المزاج
الطيب والبشاشة (وأسلوبه أقل «تشنجًا»
بكثير من أسلوب «ج. رونار»)، وامتعاضه من
تفخيم الكلام يمنعه من التعالي في سلوك
«الفنان» و«المفكر»:
٣٢٣ فهو يطرح نفسه بدرجة أقل
كفيلسوف عميق، رغم طموحاته الكونية، من
طرحه لنفسه كصديق للأشياء التي يعرف
التعاطف معها وتذوق المباهج البسيطة التي
تنشرها في آن، ويريد أن يعيد تعليمنا هذا
التعاطف وهذه المباهج،
٣٢٤ وينبغي قراءة قصائده للتحرر،
مثلما يقول، من «الإزعاج الميتافيزيقي»،
٣٢٥ وللاستمتاع بحميمية مُستعادة
مع أشياء عالمنا المألوف، وأخيرًا لإيجاد
أسباب «للحياة، وللاستمرار في الحياة،
والحياة في سعادة».
٣٢٦
ولنعقد مقارنة بين «بونج» و«مالكوم دي
شازال»، رغم أن هدف هذين الشاعرين، والحق
يقال، مختلف للغاية في النهاية، ولا شك أن
كليهما يكشف عن رغبة في «التحول إلى
الأشياء»: «كل شيء يحدث كأنني امتزجت بحياة
الأشياء، وكأن عالم الأشياء قد دخلني،
حسبما يكتب «م. دي شازال»،
٣٢٧ لكن بونج سيهز كتفيه أمام
ادعاءات «م. دي شازال» في «تصور الحياة»،
واعتبار الحياة الخارجية
مادة نفسية
ينبغي إدخالها في ذاته الخاصة،
٣٢٨ وفي حين أن هدف «بونج»
شعري
بشكل أساسي، بالمعنى الأول للكلمة، ما دام
يريد إعادة صنع الخليقة، يسعى «م. دي
شازال» إلى استخلاص فلسفة من الإحساس،
ويمكننا، مثلما يقول «بولان» الذي كتب
مقدمة ديوانه الأول «إحساس تشكيلي» (عام
١٩٤٨م)، ويمكننا، مثلما يقول «بولان» الذي
كتب مقدمة ديوانه الأول «إحساس تشكيلي»
(عام ١٩٤٨م)، أن نسميه
خفائيًّا،
بمعنى أنه يبحث في كل المرئي عن انعكاس
اللامرئي، وأنه يتتبع في الكائنات والأشياء
التشابهات الإنسانية لغايات فلسفية، لا جمالية.
٣٢٩
ورغم هذا، فإن الأسلوب الذي يستخدمه
لاكتشاف وحدة العالم من خلال التوافقات بين
إحساس وآخر، وبين المادي والروحي، هو حقًّا
أسلوب شاعر، لقد لجأ «شازال»، حسبما يقول
«بولان»، إلى «الممرات والدهاليز الواقعة
بين الحواس، مستعدًّا في كل لحظة للانزلاق
من واحد إلى آخر– إلى شرح ما هو غير مسموع
من خلال الرؤية، وما هو قابل للشم من خلال اللمس»،
٣٣٠ وليست نظرياته الفلسفية ما
يجعل عمله هامًّا إلى هذا الحد،
٣٣١ قدر هذه الطريقة القوية
والأصيلة في المعاناة والتوفيق بين
الأحاسيس، والقول، على سبيل المثال، أن
«البنصر هو أداة اللمس الأعمق، والإبهام
أداة اللمس الأكثر إشباعًا في اليد، وعندما
يتلامس البنصر والإبهام، يتحقق الإحساس
بالإبهام داخل البنصر»،
٣٣٢ أو تعريف الأحمر بأنه «توهج
دائري، ضوء في طوق، خاتم خطوبة خالد في
إصبع الشمس».
٣٣٣
وبسبب مقصده نفسه، وأيضًا لأن الصورة
وسيلة للانتصار على «نثرية» الكلمات
العاجزة عن استعادة تعقيد الإحساس،
٣٣٤ كان «م. دي شازال» مدفوعًا إذن
إلى أن يجعل من الصورة وسيلته المفضلة،
وبلا شك، لا يمكن إنكار جدة وأصالة لغته
الاستعارية، لكن يمكننا أن نأسف — رغم هذا
— على أنه خضع (مثل «رونار» و«بونج»)
للتكلف أحيانًا، وأحيانًا أيضًا لنوع من
الاستسهال: فيمكن أن نحب «نتوءات الجبل هي
العمود الفقري للريح»،
٣٣٥ وحتى «نباتات الغابة تجعل
الضوء ممتلئ الخدين»،
٣٣٦ لكننا سنجد «النباتات المتعرشة
هي كتيفات الطبيعة»
٣٣٧ ذات ذوق رديء حقًّا، وأي تفكير
سطحي مثلما في «النظرة اللامبالية هي وداع دائم»،
٣٣٨ أو «الصمت محام يترافع بعينيه»؟
٣٣٩ وعندما نتأكد أن «للتمرد نظرة
لانهائية»، لا أعرف ما إذا كان مناسبًا
حقًّا إضافة: «في أي توجه يكون شكل الثمرة،
لا نستطيع أن نحدد موقع نظرتها»،
٣٤٠ والمثير للفضول ملاحظة أنه مع
الحديث عن أكثر الأشياء ألفة تنقاد، من أجل
إنعاش الأحاسيس التي تمنحها لنا، إلى
السقوط في الافتعال.
هل يمكن الحديث عن قصائد، فيما يتعلق
بدواوين «م. دي شازال»؟ لا شك أن الإرادة
الشعرية ليست محل شك، ومن المفيد أن نورد
السطور التي يبرر فيها استخدام النثر كشكل
شعري:
البحث عن مشد للقافية، سلة سلطة
أقدام بيت الشعر، والطوق الحديدي
لعدد الأبيات (…) أستبعد كل هذا
غريزيًّا بشراسة، لأضع الشعر قبل
كل شيء في الحياة، ولا أحاول تشويه
إيماءاته المجنحة في أغلال وكبس
أقدامها الهشة في حذاء كبير.
٣٤١
لكن الواقع أن هذا الشعر الذي يريد أن
يكون مرنًا وسلسًا وتشكيليًّا إلى هذا
الحد، ينتهي إلى رفض الطوق الحديدي لكل شكل
ليحافظ بشكل أفضل على قدراته اللانهائية في
التوسع، فأحيانًا ما نكون أمام تدوينات
بسيطة (مثل تلك التي ذكرتها من قبل)،
وأحيانًا تختلط المقاربات والصور
والاعتبارات من كل نوع وتملأ عدة صفحات،
وثمة نوع من التعليمية التي تلقي بوطأتها
إلى حدٍّ بعيد على أكثر الرموز توفيقًا:
الدوامة هي أخطبوط من الماء
يتشابك مع نفسه– إلى حد أن من يسقط
لا يعرف أين تبدأ وتنتهي «قوائمه»،
من يسقط في دوامة يشعر أنه ممسوك
من كل مكان في آن، إلى حد أنه
سرعان ما يفقد الإحساس باﻟ «ذات»
ويشعر برأسه كأنها أصبحت رأس
الدوامة نفسها، وجسده، في قلب
الأسلاك العملاقة للماء الذي يدوم،
كأنه في لا مكان وفي كل مكان في
آن، ألم تكن هذه، من قبيل الصدفة،
هي الصورة–النمط للموت التي
وضعناها الآن؟
٣٤٢
نثر شعري إذن أكثر من كونه إبداعًا
حقيقيًّا لقصائد، أي «كيانات شعرية» مميزة،
لكن هذا النثر جدير بالاعتبار، رغم هذا،
كمحاولة لصياغة شعرية للكون، والتماهي
بالأشياء على نحو خاص،
٣٤٣ يدعونا «مالكوم دي شازال» إلى
الضياع فيهما، كي نجد أنفسنا بشكل أفضل:
«يتمثل فن الحياة كله في الهروب من الذات
كي لا نكون وحدنا، في الهروب من النفس
بالبحث عنها، وفي العثور على ذاتها الضائعة
في العالم، وفي إعادة التوحد مع الذات، وأن
نضع كل مواردنا في نفس السلة، وأن نكون
فكرًا واحدًا، وجسدًا وروحًا واحدة».
٣٤٤
سان–جون بيرس والإخلاص لمفهوم
القصيدة
كثيرًا ما ابتعدنا — خلال الصفحات
السابقة — عن مفهوم القصيدة، أو انقدنا إلى
توسيع مفهومها كثيرًا، إلى حد أن الأمر
سينتهي بنا إلى التساؤل عما إذا كانت
القصيدة، كهوية شكلية، لم تنتقل إلى قائمة
المخلفات النظرية الخالصة، وعلينا الاعتراف
حقًّا بأن الأمر كذلك إلى حدٍّ ما بالنسبة
لقصيدة النثر، وأن طبيعتها نفسها تؤدي إلى
اشتباهات مستمرة مع أنواع متاخمة لها، مثل
السرد أو «التدوين» (الفلسفي أو الوصفي على
سبيل المثال)، واليوم، يرفض بعض الشعراء
كتابة «القصائد» عن عمد، ويطالبون — مثل
«م. دي شازال» — بحرية التعبير الكاملة،
وسيعتقد البعض عن طيب خاطر أن «الشكل» هو
أكبر عدو للشعر …
ومع شعر «سان–جون بيرس»، الذي يتخذ شكل
آيات، نعود إلى مفهوم «القصيدة» الشكلي،
وليس غريبًا تمامًا أن نلاحظ أن هذا الشاعر
المتباعد إلى هذا الحد عن الحركات الأدبية،
واللامبالي تمامًا بالشعبية (أصبحت مؤلفاته
الآن سهلة للجميع في مجملها،)
٣٤٥ يعتبره الكثيرون الآن
أستاذًا، ويشير «ج. بيكون» إلى أنه إذا كان
في الفترة التي نُشرت فيها دواوينه الأولى،
«مدائح» و«أناباز»،
٣٤٦ «لم يكن هناك أي شيء يمضي عكس
التيار أكثر من شعر بيرس»، فذلك تحديدًا
لأن كل اهتماماته «انصبت على تكوين
القصيدة»، وهو ما لم يعد كذلك تمامًا الآن،
«ففي التطور الذي يقود البعض من الانقطاع
إلى الاستمرارية الشعرية، يبدو «بيرس»
رائدًا، ونموذجًا على نحو خاص».
٣٤٧
ومنذ عام ١٩٢٦م، و«فاليري لاربو» معجب
بالبناء المعماري الباهر ﻟ «أناباز»،
بأصالة وثراء اللغة الشعرية الجديدة التي
أبدعها «بيرس»، والتصميم الملحمي الواسع
لهذه «الحركة الشعرية الكوكبية»،
٣٤٨ ومنذ ذلك الحين، وبعد صمت طويل
استمر سبعة عشر عامًا، توصل الشاعر، في
منفاه في أمريكا،
٣٤٩ إلى كمال فنه مع «منفى، أمطار،
ثلوج»، ولا سيما في القصيدة المذهلة
«رياح»، أكثر أعماله رحابة، وهي ملحمة
ونظرية عن نشأة الكون في آن.
شعر
منظم مثلما قلتُ من قبل
بصدد «مدائح»، وهي صفة حقيقية تنطبق على كل
أعمال «بيرس»، سواء مع مجمل أعماله أو مع
الأجزاء، وينبغي إضافة أنه شعر مترابط، حيث
كل شيء متماسك، ولا شيء مجاني، أو معزول،
بحيث تتقدم القصيدة ككل معماري، منسجم،
تتجاوب فيها الأجزاء المختلفة وتتوازن، فمن
آية إلى أخرى، تنشأ الوحدة من خلال اللعب
البارع لاستعادة التعبيرات أو الإصاتات،
والرنين والأصداء، وبينما توجد الاستعادات
الصوتية في النظم من خلال القافية بصورة
إلزامية، فإننا نجدها هنا موزعة على امتداد
الآية: فينبغي الحديث عن «قافية داخلية»،
مع مؤثرات التماثل والتكرارات الجزئية في
أغلب الأحيان، هكذا (كي لا نذكر سوى مثال
واحد) في بداية «رياح»، حيث نلاحظ
الاستعادات المتنوعة المقدمة من خلال
التعبير «رياح ضخمة للغاية» — وتكرار «كل
الوجوه» و«عالم» و«قش» — والقافية الداخلية
«
vents–vivants
= رياح–حية» — والتكرارات الصوتية
«
liasse–laissaient
= بهجة» — كانت تتركنا»
و«
aire–erre
= وجهة–مشية»:
كانت رياح ضخمة للغاية على كل
وجوه هذا العالم، رياح ضخمة للغاية
في بهجة عبر العالم لا تملك وجهةً
ولا مأوى.
لا رقيب لها ولا معيار، وتتركنا
أناسًا من قش.
وفي عالم القش على مشيتهم … آه!
نعم، رياح ضخمة للغاية على كل وجوه الأحياء!
٣٥٠
فمن كلمة إلى أخرى، ومن آية إلى أخرى،
تتقدم القصيدة من خلال تحولات متتالية لا
نكاد نشعر أحيانًا بها، وقد أوضح «ر.
كايوا» بشكل جيد
٣٥١ استخدام «بيرس» البارع ﻟ «الميتاجرام» الذي يدرج الظلال وينوع
القصيدة من خلال تعبير حرف واحد صامت
أحيانًا، دون قطع استمراريتها، وذلك في
«رياح» على نحو خاص:
على كل الأشياء الفانية
périssables،
على كل الأشياء القابلة للإدراك
saisissables.
٣٥٢
التي تغنينا هول
l’horreur
أن تحيا، وتغنينا شرف
l’honneur
أن نحيا …
٣٥٣
النبيذ الجديد ليس أقل حقيقة
vrai،
والكتان الجديد ليس أقل نضارة
frais …
٣٥٤
أو استعارة «نُصُب ألفية ومسلات نذرية»
من خلال «كل حجر يوبيلي وكل مسلة مغلوطة»،
٣٥٥ ولا يتعلق الأمر هنا،
بالتأكيد، بوسيلة شكلية سهلة إلى حدٍّ بعيد
في نهاية الأمر، وإنما — بالأحرى — بمحاولة
خلق لعبة علاقات وتوافقات في القصيدة،
وتنوع في الوحدة، مثلما يوجد في العالم،
«كلية معقدة لا تنقسم»، حسب تعبير «بودلير»،
٣٥٦ فالقصيدة تنتظم في عالم صغير،
والمشاكل «الصوتية» التي يسعى إلى حلها
تعيدنا إلى المشاكل الجوهرية للغة وإلى
السؤال الأبدي عن العلاقات بين الصوت
والشيء المدلول، إلى حد أنني أتساءل عما
إذا كانت العلاقة بين الحب والبحر — في آخر
نص نُشر لبيرس، «ضيقة هي المراكب»
٣٥٧ — التي تدعم وتنظم كل القصيدة،
هي — في الأصل — علاقة إصاتة.
٣٥٨
وليس من آية إلى آية فحسب، بل من فقرة
شعرية إلى أخرى، تتقدم القصيدة بالمثل،
فالوحدة التي تعلو الآية هي ما أسميها
الفقرة الشعرية، التي تتكون أحيانًا من
متتالية من الآيات الموجزة (مثل في بداية
«رياح»)، وأحيانًا من جملة واحدة كبيرة
وواسعة تتنامى مثل موجة، وكثيرًا ما تراكم
متتالية من التفاصيل، أو الرؤى الدالة: مثل
الرصد الشهير للمهن في «أناباز»
٣٥٩ أو وصف قوى الريح التي تبعثر
أبنية الإنسان في «رياح»،
٣٦٠ وتتحقق وحدة القصيدة من جديد،
من فقرة شعرية إلى أخرى، بفعل عودة عناصر
من نفس الطول والإصاتة المماثلة: هكذا
بالنسبة للفقرات الشعرية الثلاث الأولى
(التي تتكون كل منها من ثلاث آيات) من
الجزء الثالث من «منفى»، حيث الآية
الأولى:
دائمًا كانت هناك هذه الجلبة
clameur،
ودائمًا كانت هناك هذه الروعة
splendeur.
٣٦١
تُستعاد كل مرة، مع التحول الوحيد ﻟ «splendeur
= روعة» إلى
«grandeur
= عظمة»، ثم إلى
«fureur
= عنف»، وستتقدم، من جزء إلى آخر — بطبيعة
الحال — بنفس الطريقة، فيمكن للتكرارات أن
تقيم جسورًا بين جزأين متباعدين للغاية
أحيانًا: هكذا نجد، رابطًا، في «رياح»، بين
نضارة الأشياء التي تُلهم الشاعر (في
النشيد الثالث):
سحر النهار في ميلاده … النبيذ
الجديد ليس أقل حقيقية، والكتان
الجديد ليس أقل نضارة …
ونضارة الكلمة التي
يستخدمها الشاعر في قصيدته (في النشيد
الرابع):
أيتها النضارة، أيتها النضارة
المستعادة بين ينابيع اللغة!
النبيذ الجديد ليس أقل حقيقية،
والكتان الجديد ليس أقل نضارة.
٣٦٢
وعند الابتعاد، سنلاحظ أنه
يمكننا — على امتداد القصيدة — متابعة تطور
الموضوع المتولد الذي يعاود الظهور ويتنوع،
وهو موضوع استعاري في أغلب الأحيان: «رمال المنفى»،
٣٦٣ «ثلوج الغياب»،
٣٦٤ يوحد بين الملموس والمجرد، لكن
هذا الموضوع الأصلي يتطور، ويتحول، مثلما
يحدث مع الموضوع الموسيقي: على سبيل
المثال، سرعان ما سيصبح الثلج، رمز الغياب
والانتظار، رمزًا للحلم والصمت و«اللذة
الخالصة بلا شكل خطي»،
٣٦٥ ويقود الشاعر في النهاية إلى
«هذه الصفحة التي لم يعد يُكتب فيها شيء»،
وقد أكد «ف. كمب» (الذي يشبه قصائد «بيرس»
ﺑ «حواء» لبيجي و«الرباعيات الأربع»
لإليوت) على المظهر الموسيقي والسيمفوني،
مثلما يمكن القول، لشعر كهذا: ﻓ «العنصر
الملحمي المستعاد اعتباره لم يعد يتطور حسب
المؤثر العاطفي الزخرفي، نوع من الرسم
لتاريخ ومشاهد بانورامية في شكل
الرابسودية، إنه يتخذ طريق التأمل
الموسيقي، بمعنى أن كثرةً من التفاصيل
المتعددة الأشكال تمتصها بعض العناصر
الكبرى للخلفية لتتبادل وتتشابك فيما بينها»،
٣٦٦ وهكذا، في ملحمة «رياح»
الكبرى، التي تجعلنا نشهد انطلاق «العالم
الجديد» في الزمان والمكان، تصبح الريح
المصدر الإحيائي الذي يولد منه كل شيء
وينتظم، لا المدن والغزوات فحسب، وإنما
القصيدة نفسها أيضًا، فهي أحيانًا الحركة
التي لا تقاوم التي تقود البشر نحو الغرب،
وأحيانًا النفس الداخلي الذي يحيي القصيدة،
ودائمًا ما يتجاوب استدعاء الحضارات
الوليدة وحضارة «الشاعر» في معبر «القرن»،
٣٦٧ معدًّا قصيدته ومذكرًا الرجال
بأن الأمر يتعلق بالإنسان»:
٣٦٨
وبنفس الحركة وفي كل هذه الحركة
المرتبطة، تركض قصيدتي التي لا
تزال في الريح، من مدينة إلى مدينة
ومن نهر إلى نهر، في أضخم التموجات
الأرضية الصاخبة، زوجات وبنات
لأمواج صاخبة أخرى …
٣٦٩
ونرى هنا — أكثر مما في القصائد السابقة،
«مدائح» أو «أناباز» — ظهور ما يسميه «أ.
بيجين» ﺑ «الشعر الموزون»،
٣٧٠ لا في التفاصيل فحسب، وإنما
أيضًا في تتابع الموضوعات وجمل الارتكاز
التي تعاود الظهور من جزء إلى جزء، بينما
تنبني القصيدة على الصعيد الثلاثي،
التاريخي والإنساني والشعري.
وينبغي إضافة أن الانطباع بوجود نظام
متناغم وشعر «موزون» يأتي أيضًا من
الاستخدام المتكرر والمؤكد عليه كثيرًا
للبحر السكندري (الذي يمثل أساس إيقاع
«بيرس»)، وأيضًا من التماثلات الإيقاعية
المتعددة، فمنذ قصائده الأولى، لم يكف
«بيرس» عن إيثار استخدام الأوزان الزوجية
وبيت الشعر المنظم، داخل آيته، ﮐ «أحد
الثوابت الإيقاعية»، وما علينا إلا أن نفتح
مؤلفاته كي نجد أمثلة:
دوق شعب من صور لاقتياده إلى
«البحار الميتة»،/أين نجد المياه
الليلية التي ستغسل عيوننا؟
عزلة! …/جماعات نجوم تمر على
حافة العالم/ويلحق بها نجم منزلي بالمطابخ.
٣٧١
وتأتي التماثلات أيضًا لتضيف إلى هذا
الإيقاع الثنائي عناصرها المقدمة اثنين
اثنين:
Ah! toute chose
vaine au van de la mémoire, ah!
toute chose insane aux fifres de
l’exil: le pur nautile des eaux
libres, le pur mobile de nos
songes.
آه! كل شيء عبثي في ناقلة
الذاكرة، آه! كل شيء مجنون في
مزامير المنفى: القوقعة الصافية
للمياه الحرة، الحافز الخالص لأحلامنا.
٣٧٢
ويزاوج شعر «بيرس» فضلًا عن ذلك، مثل شعر
«كلوديل» إلى حدٍّ ما، بين وسائل البلاغة
ووسائل الشعر: فالتماثلات أداة خطابية بقدر
ما هي شعرية، وبالمثل المناجاة: «أيها
الشاعر، أيها المزدوج اللغة، بين كل
الأشياء التي تشبه القدوم، وأنت نفسك خصومة
بين كل الأشياء المتخاصمة– الرجل الذي انقض
عليه الإله! (…) وأنت،
٣٧٣ الشمس التي من أسفل، وحشية
الكائن بلا جفن، خذ عين الأسد التي لك في
كل كتلة الجواهر هذه!»
٣٧٤ وأيضًا ما يسميه «كلوديل»
بالعنصر
motif،
كنوع من «نموذج ديناميكي»
٣٧٥ لفكرة أولية تمنح حركتها لكل
الفقرة الشعرية أو لجزء كامل من القصيدة،
والمدهش ملاحظة أن هذه الصيغة الأولية —
لدى «سان–جون برس» — تكاد تقدم دائمًا
رصيدًا معينًا: «مع …» في النشيد الثالث من «رياح»،
٣٧٦ و«و» في الثاني،
٣٧٧ وعلى نحو خاص «من»، وهو «عنصر»
مفضل لديه نجده في «رياح»: «وماذا نقول
عمَّن ورث ثروة صغيرة من العائلة (…) عمن
كان تبث الهدوء فيه كرامة صغيرة في الحقول»،
٣٧٨ وفي الرصد الكبير في «أناباز»،
الذي يستدعي «جميع أنواع البشر في طرقهم
وأساليبهم»:
… من له وجهات نظر حول استخدام
ثمرة كرنب، من يجرجر نسرًا ميتًا
خلفه مثل عبء أغصان (والريشة
تُهدى، ولا تُباع، لرشقها في
السهام)، من يجني اللقاح في وعاء
من خشب (متعتي، كما يقول، هي في
هذا اللون الأصفر)، من يأكل
الفطائر، ودود النخيل والتوت، من
يحب طعم نبات الطرخون، من يحلم
بثمرة فلفل صغيرة، أو أيضًا من
يمضغ قطعةً من صمغ متحجر، من يضع
صدفيةً في أذنه، ومن يراقب عطر
العبقرية في التصدعات الحديثة للحجر …
٣٧٩
أو في الجزء السادس من «منفى»، حيث الرصد
الواسع ينبني كله على استعادة «من …»
المتكررة بلا نهاية.
٣٨٠
ذلك ما يقودنا إلى الحديث عن المفردات
الموسوعية حقًّا لسان–جون بيرس: فنحن نجد
في عمله تعدادًا حقيقيًّا للمواد والمهن
والعطور والأذواق والعادات عبر الزمان
والمكان، مع تفضيل لا فحسب للكلمات النادرة
والغريبة وإنما الأشياء أيضًا، ومن متاحف
أوروبا التي عبرها، استرعى انتباه «سان–جون
بيرس» «في الكريملين بموسكو، سوار امرأة
ذات رسغ حصان محشو بالقش، تحت سرج غليظ
لغاز مرتحل، وفي أرميريا بمدريد، دروع لطفل
ملكي، وفي وارسو، رسالة أمير على ورقة ذهب
مطروقة، وفي الفاتيكان، رسالة مماثلة على
جلد ماعز، وفي «بريم»، مجموعة تاريخية من
صور غير واقعية لأرضية علبة سيجار …»
٣٨١ وبنفس المتعة، سيرصد سان–جون
بيرس» هذه «الكتب النادرة»: «كتب الفلك،
ودليل السواحل، وكتب الحيوان»،
٣٨٢ وأعياد البشر هذه في كل
المناطق:
… أعياد «باليلي» و«بانوني»، رأس
السنة وعيد الفصح وعيد التقدمة
ويوم الشكر.
٣٨٣
أو المهن المجهولة، خاصي الخيول، «المشرف
على صيد الأسماك، المعالج بالإبر، وتاجر الملح»،
٣٨٤ وينبغي التأكيد — رغم هذا —
على أن المسألة لا تتعلق هنا بقعقعة كلمات
شاذة أو باذخة تهدف فحسب إلى جعل اللغة
أكثر ثراءً على غرار البارناسيين، وإنما
بعنصر أساسي التقينا به من قبل في «مدائح»
عندما قال «بيرس»: «مُسميًا كل شيء جاهرت
بأنها كانت عظيمة، مسميًا كل حيوان بأنه
كان حيوانًا جميلًا وطيبًا»،
٣٨٥ والشاعر، مثلما يقول «كايوا»،
«يشرع في وضع قائمة جرد بثروات العالم»،
٣٨٦ وهو يريد أن يحتضن في شعره
عالم الأشياء كلها،
أشياء حية، أيتها الأشياء الرائعة!
٣٨٧
وواحدة من أكثر الفقرات إدهاشًا في
«رياح» هي التي يمنح فيها، من خلال عظمة
ألفاظه، تكريسًا شعريًّا لأحدث أشكال
العلم:
وها هي الآن قوى جديدة تثور تحت
خطواتنا، في المدار الخالص للحجر،
في المعدن وفي الأملاح المسماة
حديثًا، في المادة المذهولة حيث
تذهب الأرقام منفقة على وقائع
محتدمة.
(…) ستنكشف! أيها الرقم الجديد:
في الرسوم البيانية للحجر وعلامات
الذرة …
٣٨٨
إذ إن الشاعر هنا يمضي «على طريق رجال
زمنه المعبد»،
٣٨٩ ويقوم بدوره ﮐ «محتفل
بالقداس»، مثلما يقول عن حق تمامًا «ج.
بيكون»، «هذا الشاعر لا يضفي مثالية على
العالم الذي لا يقبل به: إنه يكرسه»،
٣٩٠ ويستعيد الشعر وظيفته الطقسية
في هذه التعدادات الواسعة التي تجعلنا نرى
كل الأشياء منظمة وفي مكانها، في طقوس
العالم الشاسعة، منتزعة من العارض والصدفة
بفعل اللغة الشعرية: وثراء الكلمات يساهم
في ذلك، فهي تقدم لنا في أغلب الأحيان عدة
مستويات للمعنى من خلال اللجوء البارع إلى
الاشتقاق (فسان–جون بيرس يحب «السير على
غير هدًى بين أقدام طبقات اللغة»،
٣٩١ وبذلك يحدد معنى الكلمات):
٣٩٢ فقبعة «
dont
on séduit le bord =
نجذب حافتها»
٣٩٣ تضيف إلى المعنى الحديث ﻟ «
séduire
= يُغوي» فكرة القيادة (في الشكل المطلوب)
مستمدة من
ducere،
و«
bêtes
onéreuses = حيوانات باهظة»
٣٩٤ و«
abominer la
nuit = كراهية الليل»
٣٩٥ لا يمكن فهمهما بشكل كامل إلا
إذا عدنا إلى أصلهما اللاتيني، ومثلما يمنح
المعنى الاشتقاقي للكلمات (والأشياء)
امتدادات في الزمان، فإن استعارات بيرس
الجريئة دائمًا، والصائبة والجميلة بشكل
مدهش، تمنحها امتدادات للأصداء في المكان:
«شجرة تين المطر الهندية ترسي قواعدها على المدينة»،
٣٩٦ «صيف الغجر يشحذ حديد رماحه في جراحنا»
٣٩٧ فالماضي يجيب الحاضر، والملموس
يرد على المجرد، والقوى الأساسية على
الاندفاعات الإنسانية، وعالم القصيدة على
عالم الأشياء، كل شيء ينتظم بشكل متناغم
تحت بصر الشاعر، بما فيه قصيدته:
«
الفكرة أكثر عريًا من
السيف»، مثلما يقول،
سيعلمني الطقس والمعيار إزاء
نفاد صبر القصيدة.
٣٩٨
ينبغي التأكيد على ذلك: فهذا الميل إلى
النظام، إلى المعيار والعظمة أيضًا
(فتعبيرات مثل «عظيم»، و«من مقام رفيع»،
تتكرر دائمًا في شعر «بيرس»)، يترادف مع
الشعور المتفائل إزاء الخلق، والرغبة في
الاحتفال بكل شيء «حي» و«رائع»: فالشاعر لا
يحتاج إلى الهروب من الواقع، ولا تحويله
(مثل «ميشو») أو تغيير وجهه (مثل
«بريتون»)، فهو يكتفي بالتراجع الضروري حتى
يراه خارج اللحظة، فريسة منذ الأزل لنفس
القوى الأبدية، وتوسيع رؤاه يبجل اللحظة
الحاضرة، «يرى الشاعر المطر يسقط على مدينة
من عصره، ويصبح هذا المطر شقيق محاربي
آشور، وهو يتحدث في اللحظة — لحظة المنفى،
والانفصال — لتصبح هذه اللحظة على الفور
أسطورية»، مثلما يقول «ج. بيكون»
٣٩٩ بشكل جيد للغاية، هكذا يلتقط
العالم في روعته وفي ديمومته (حتى الموت
ليس إلا الوجه الآخر من الحياة، ونفس قوى
الرياح، التي تدمر أبنية البشر الغابرة، هي
في نفس الوقت القوى الخالقة لحضارة جديدة)،
٤٠٠ وينتزع الكون من الزمن من
خلال الشعر، الذي يكرسه ويخلده، وكي نستعيد
التعبير الذي استخدمته في الحديث عن جمالية
قصيدة النثر «الشكلية» أو «الدائرية»، نحن
هنا أمام شعر «الحاضر الأبدي».
٤٠١
باختتامنا هذا الجرد السريع لشعراء النثر
المعاصرين بسان–جون بيرس، نعود من الشعر
«الفوضوي» إلى «الشعر المنظم»، من قوى
التمرد والهدم إلى قوى النظام والسلطة،
٤٠٢ فهل يعني هذا أن «سان–جون
بيرس» يمثل أكثر الاتجاهات معاصرة في
الشعر؟ أخشى ألا يكون ذلك حقًّا؟ فهذا
الشاعر «خارج الزمن» يواصل أعماله في
الاتجاه الذي بدأه منذ أربعين عامًا،
٤٠٣ وإذا ما كان قد حاز إعجاب
الجميع، وإذا ما استطاع تعيين طريق للبعض،
فقد أثار قليلًا من الأتباع الحقيقيين،
وسنرى ذلك في الخاتمة، فثمة فرص قليلة
لتسمح اضطرابات وتمزقات عصرنا للشعر
بالعثور فورًا على المناخ الملائم للانسجام
والاستقرار.