الفصل الثالث

نظرات على الحقبة المعاصرة

بعد السيريالية: أهمية قصيدة النثر في جميع التوجهات المعاصرة للشعر:

(١) الشعر الفوضوي
  • (١)

    شعر التمرد و«تفكيك» اللغة، «أ. أرتو» وفكر ما قبل الكلمات، التمرد على اللغة: الحرفية «بيشيت».

  • (٢)

    خلق أسطورة حديثة: «ل. ب. فارج»، أسطورة باريس وقصيدة النثر: «جاماتي»، «ماك أوريان»، «ج. دي بوسشير».

  • (٣)

    الشعر الفانتازي والحلمي، عالم «ميشو»، سرد فانتازي وسرد الحلم: «بيالو»، «ب. ج. جوف».

  • (٤)

    الدعابة، الدعابة والفانتازيا: «ميشو»، «بيالو»، الدعابة والهزل: «م. سوفاج».

(٢) شعر الواقع

ريفيردي وتأثيره، «ب. شار» والواقع المجيد، «بونج» والرأي المبتسر عن الأشياء، «م. دي شازال»، «سان–جون بيرس» والإخلاص لمفهوم الشعر.

***

لا شك أنني توقفت عند عام ١٩٣٠م في دراسة السيريالية «النضالية»١ بطريقة اعتباطية إلى حد بعيد، والواقع أن «م. نادو» يذهب بعيدًا للغاية بكتابه «تاريخ السيريالية»،٢ ويمكننا القول إن قصائد نثر «موريس بلانشار» («سارتروفيل»، ١٩٣٦م، و«مروج أفروديت المشقوقة»، ١٩٤٢م)، وقصائد «جوليان–جراك» («حرية كبيرة»، ١٩٤٦م)، تدرج — على سبيل المثال — في سلالة السيريالية: قصائد الأول، ذات الغنائية واللون:
خلال أمسيات الريح الكبيرة كان صوت المسجونين يمر عبر المدينة، وأناشيد الحرية تمر عبر الأفواه المغلقة، وعلى كل حجر ينتصب ثعبان، ينتصب محارب، شرارة في روعة الريح.٣
وقصائد الثاني ذات الإعداد الأكثر تمحيصًا،٤ والجمال المتحذلق إلى حدٍّ ما، تستدعي المطر، «الحسابي المخشخش لدرع الكريستال»،٥ أو «الطريق اللبني للثلج» الذي يضيء «العالم من أسفل»،٦ ونستطيع ذكر أسماء أخرى (من قبيل «أ. بيير دي منديارج»، الذي يحتوي ديوانه «في الأعوام الكريهة»٧ على بضع قصائد نثر ذات إلهام سيريالي للغاية، مثل «براكين القطب»، أو «الطريق الشمالي»)، وعلينا أن نعترف على نحو خاص — مع «جايتان بيكون» — أن السيريالية «ما تزال أيضًا هي شعرنا دائمًا»، إلى حدٍّ كبير، بمعنى أن «كل شعر، في الوقت الراهن، يريد أن يكون شيئًا آخر سوى قصيدة، صناعة إيقاعية، لعبة مسالمة للصور والكلمات: اختلاط محتدم بالحياة»،٨ وينبغي — رغم هذا — أن نذكر أنه منذ عام ١٩٣٠م (تاريخ نشر «البيان الثاني» لبريتون) تفككت المجموعة السيريالية الأولى، ولم تعد «دروس» الساعات الأولى، والكتابة الآلية، والتلاعب بالألفاظ، تمارس كثيرًا إلا من جانب بعض المتحمسين، فقد تحول كثير من الأتباع إلى السياسة أو — وهو الأخطر — إلى «الأدب»، لكن إلى جانب السيريالية، ظهرت اتجاهات شعرية جديدة، وأحيانًا ما ولدت من السيريالية أو استرشدت بها، وفي هذا الفصل الأخير، غير المكتمل والتقريبي بالضرورة، ما دام ينبغي أن نذكر فيه الشعراء الذين ما يزال أغلبهم على قيد الحياة، يكتبون ويجددون أنفسهم، لا أريد أن أرسم اللوحة التفصيلية للنشاط الشعري من عام ١٩٣٠م إلى وقتنا الراهن، بقدر ما أشير إلى المكانة التي تحتلها قصيدة النثر في التجليات الرئيسية لهذا النشاط، وأوضح كيف ارتبط هذا النوع الهيولاني بأكثر مظاهر الشعر تنوعًا في هذه السنوات العشرين الأخيرة.

فقصيدة النثر تصبح، أكثر فأكثر بعد عام ١٩٣٠م، شكلًا شعريًّا ذا أهمية من الدرجة الأولى، ولا يستجيب للطموحات التقنية بقدر استجابته لينابيع إلهام جديد، فبعد عام ١٩٣٠م، لم تعد قصيدة النثر تُعامل باعتبارها «نوعًا» مستقلًّا، وضربًا من تمارين إثبات البراعة، فهي أحد الأشكال، وليست الأقل استخدامًا، الذي يمكن للعمل — خلال تأليفه — أن يطالب به، إلى جانب الشعر التقليدي والشعر الحر، والواقع أن نوعًا من صدمة التراجع قد وقع بعد الهجوم السيريالي الكبير، وعاد بعض الشعراء (مثل «دينو» أو «أراجون») إلى سحر الشعر الموزون، مدفوعين بفعل الظروف، أو بفعل مزاجهم الشخصي، لكن مبدأ الحرية الشكلية أمر واقع حاليًّا إلى حدٍّ بعيد: وإزاء شعراء يظلون مخلصين للشعر التقليدي، يستخدم آخرون حسب الضرورة الداخلية للقصيدة، الشعر الحر، والآية، والنثر، أحيانًا بشكل متعاقب داخل نفس القصيدة، وأحيانًا بشكل تبادلي، ولا يشعر آخرون أيضًا بالارتياح إلا في النثر، رغم أنهم يكتبون قصائد حقيقية.

ومن المستحيل هنا أن نذكر كل الشعراء المعاصرين الذين كتبوا أو يكتبون قصائد نثر، وتقدم لنا مختارات «الشعر الحي» في جزئها الثاني، نخبة من تسعة وعشرين اسمًا،٩ وبعض هذه الأسماء موجودة، مع أسماء أخرى أيضًا من شعراء النثر، في موجز «مختارات الشعر الفرنسي منذ السيريالية»، الذي يصرح «م. بيلان» في بدايته:
إن الشعر الذي يسحرنا تجدده يبدو في الريا الداخلية التي تعبر عنها بإتقان غنائية واحدة من قبيل رونيه شار، وابتكارات واحد من قبيل ميشو، أو حتى التحليل المنهجي للواقع الأكثر موضوعية (ومن هنا يكمن هدمه) لواحد من قبيل فرانسيس بونج، أكثر مما يبدو في الإيقاعات الخارجية تمامًا التي يدرسها فن النظم.١٠
ولاضطراري للتحديد، سأكتفي إذن بالشعراء الكبار والراسخين الآن، أو الشعراء الذين أعتقد أنهم يحددون أكثر المظاهر لفتًا للانتباه في الشعر المعاصر، ومثلما يحدث دائمًا، سيُطرح نفس السؤال: لماذا اختاروا النثر؟ وسنرى كل مرة أنه كان هناك — بالنسبة لهم — شيء مختلف للغاية في النثر عن الشعر، شيء ما لا يختزل في الشعر: إمكانيات، ونبرات، وبنية تتيح لهم التعبير عن رؤيا خاصة للعالم؛ وإذ لم يعد الأمر يتعلق عمليًّا الآن بقصيدة «المقاطع»، أو بتقنيات شكلية تمامًا، فيمكننا الاستمرار في تمييز الاتجاهين الكبيرين في قصيدة النثر، اللذين قاداها دائمًا نحو القطبين المتعارضين: الاتجاه الفوضوي، الذي ساهم تأثير السيريالية في تطويره، واتجاه سأسميه منظِّمًا  organisatrice، يميز حاليًّا — على عكس الاتجاه السابق — الرغبة في التوافق مع الواقع والتفاؤل، لكن في ظل غياب أية «مدرسة»، وأي تجمع، تتأكد كل ذاتية وتنعزل في طرقها الخاص، مما يجعل كل محاولة للتصنيف اعتباطية تمامًا، ورغم هذا، سأحاول أن أجمع — في البداية — المظاهر الرئيسية للشعر الفوضوي واللاعقلاني، لأنتقل بعد ذلك إلى الشعراء الذين يتميزون بالعودة إلى الواقع، ومفهوم الشكل، وبالتالي الصرامة، في آن.

(١) الشعر الفوضوي

«إن حشود الكلمات المفككة بشكل حرفي التي حرص «دادا» والسيريالية على أن يفتحا المجال لها، بقدر المستطاع، ليست من النوع الذي يتقهقر عبثًا إلى هذا الحد»، حسبما كتب «بريتون» عام ١٩٣٠م في «البيان الثاني»، لقد بدأ الإنسان ﺑ «النظر بذهول» إلى الكتب واللوحات والأفلام السيريالية، «وهو يحيط نفسه بها الآن ويوكل إليها على استحياء إلى هذا الحد أو ذاك، الاهتمام بإثارة الاضطراب في طريقته في الإحساس»،١١ والواقع أن السيريالية قد بدأت — خلال هذه الفترة — في نشر الخمائر الثورية لا في فرنسا فحسب، وإنما أيضًا في الخارج، ومن المفيد أن نرى، بالضبط في عام ١٩٣٠م هذا، مجلة «كاييه دي سود» وهي تعيد نشر بيان للشعراء الشبان الأمريكيين الذين يرون، ضمن أشياء أخرى، أن على السرد ألا يكون مجرد حكاية بسيطة، وإنما «عرضًا لتحول الواقع»، ويطالبون ﺑ «الحق في تفكيك المادة الأولية للكلمات»، واختراع الكلمات، وحق إهمال تركيب الجملة، واعتبار الكلمة وحدة مستقلة، ويعلنون أن «الزمن طغيان ينبغي إزالته»، وأن «الكاتب لا يعبر ولا يبلغ»،١٢ ثمة هنا، مثلما يضيف «بريتون» الذي يردد هذه التصريحات، «موقف عمل»، إنه إبطال الأوامر الفنية والمنطقية: فالشعر يصبح مسعًى ضد العقلانية، فوضويًّا، يثير الاضطراب عن عمد في الأفكار المسلم بها والطرق القديمة في التفكير، وهو — على نحو جوهري — تمرد ضد ما هو كائن، وفي فرنسا نفسها، خارج المجلات السيريالية بحصر المعنى، نرى مجلة مثل «كوميرس» (التي يديرها «فارج» و«فاليري لابرو» و«بول فاليري») تتلقى — في نفس الفترة تقريبًا — لا نصوصًا سيريالية فحسب، بل أيضًا نثريات مدمرة بشكل معقول لآرتو وميشو وبريفير، على سبيل المثال،١٣ فشعر التمرد والفوضوية يجد تعبيره الطبيعي، بلا شك، في النثر (أو — إذا شئنا — في «قصيدة النثر» بالمعنى الواسع للكلمة):١٤ تعبير يبدأ من صرخة التمرد الخالصة إلى محاولة «خلق لغة» أو «تفكيك المادة الأولية للكلمات»، إلى السرد الفانتازي أو الحلمي، إلى أكثر أشكال الدعابة تقريبًا، من هنا، يعثر الشعراء والسيريالية، ويستعيرون الطرق التي رسمها «رامبو» و«لوتريامون».

(١-١) شعراء التمرد و«تفكيك» اللغة

ويصاحب التمرد على «الوضع الإنساني»، بالنسبة لكثير من الشعراء الذين يستفيدون من التحرر السيريالي، تمرد على القوانين المنطقية للغة، وعلى طرق الحديث الجاهزة (والتفكير بالتالي)، وسبق أن ذكرت، كمثال على الشعر الفوضوي حيث الكلمات «ليست كلمات إنسانية»، شعر «إيميه سيزير»، وهو شاعر زنجي كبير اكتشفه «أندريه بريتون»،١٥ وأعمال «سيزير» سيريالية بالتأكيد — لكنها سيريالية «ديناميكية»، يعصف فيها جنون التمرد — الذي يجد للتعبير عن نفسه الصور المتوهجة، والجمل الممزقة التي تتصادم فيها الكلمات بعنف، لكن قبل ذلك بكثير، كان شعر «أنطونان أرتو» — برغم اختلاف عالمه — قد عبر عن نفسه الرفض للتحالف مع تساهلات التعبير.

أنطونان أرتو وفكر ما قبل الكلمات

يبدو «أرتو» — الذي طرده «بريتون» منذ عام ١٩٢٦م من المجموعات السيريالية؛ لأن موقفه لم يكن «خالصًا» إلى حدٍّ بعيد — أكثر المتمردين نقاءً من كل التشوهات، فهو يرفض بشكل تام وببساطة الوضع الإنساني، ويعلن أنه «غير مشروط» (وهو عنوان أحد مؤلفاته): «أستطيع القول، أنا، حقًّا، إنني لست في العالم وإن هذا ليس موقفًا فكريًّا بسيطًا»، مثلما يكتب إلى «ج. ريفيير»: وعندما تحدث عام ١٩٤٧م، قبل وفاته بقليل، في «فيو كولومبييه»، أمام مستمعين نتعرف فيهم على «جيد» و«بريتون» وعدد من أصدقاء «أرتو»، يعترف «جيد» أنه أرغمنا على الدخول في لعبته المأساوية في التمرد ضد كل ما هو مقبول منا، وظل بالنسبة له الأكثر صفاءً، ولا يغتفر … شعرنا بالخزي من أن نأخذ مكانًا في عالم حيث الرفاهية فيه مشكَّلة من الشبهات».١٦
لا شيء أقل «أدبية» من مؤلفات «أرتو»، إذا ما كان يمكننا الحديث عن مؤلفات بصدد هذه النصوص الحارقة، المنبثقة من خبرة داخلية مؤلمة، «حيث يقترح آخرون مؤلفات، لا أدعي شيئًا آخر سوى إظهار روحي»، مثلما يصرح في بداية «مركز الدائرة»،١٧ وهو يرفض، شأن السيرياليين، وضع تراتيبة لملكاته، ومنح المكانة الأولى للعقل والذكاء، إنه يقترح «أنا» في قالب واحد: «فلنعذر حريتي المطلقة، أرفض لنفسي أن أقوم بالتمييز بين أيٍّ من دقائق نفسي، لا أعترف بفكر التصنيف»،١٨ يصدر هذا الموقف الفوضوي، مثلما لدى السيرياليين، من رفض تقطيع الكائن الداخلي.
لكن — مع التمايز عن السيرياليين، الذين يعتقدون أنهم يلتقطون، من خلال أداة الكتابة الآلية، ما يقال «في الممرات المظلمة للكائن»،١٩ ويستوفون كنوز الكائن السحيق — ينغمس «أرتو» ويضيع في هذه المتاهة الداخلية، وبينما يكشف «بريتون» وأتباعه تيارات الحلم، والكلمات، والصور التي تعبر أعماق الحياة الذهنية، ويعتقدون أنهم يلتقطون فكرهم هكذا في الحالة الجنينية، ينغمس «أرتو» على العكس في الباطن، ويسعى — بيأس، دون أن يصل أبدًا — إلى اللحاق بفكرته، السابقة على كل تعبير، والانسلال إلى «مادة واقعها»:

يقولون لي إنني أفكر لأنني لم أكف تمامًا عن التفكير ولأن فكري، رغم كل شيء، يتماسك في مستوى معين ويقدم من حين لآخر براهين وجودي، التي لا يراد الاعتراف بأنها واهية وتفتقر إلى الأهمية، لكن التفكير بالنسبة لي شيء آخر غير ألا أكون ميتًا تمامًا، فهو الاندماج في كل اللحظات، هو عدم الكف في أية لحظة عن الشعور بوجوده الداخلي، في الكتلة غير المصاغة لحياته، في مادة واقعه، هو الشعور دائمًا بأن فكره مساوٍ لفكره، أيًّا ما كانت من ناحية أخرى مثالب الشكل القادر على منحه له.

مثلما يكتب في نص رئيسي من «مركز الدائرة»٢٠
ويمكننا أن نتخيل عندئذٍ إلى أي حد هي صعبة، ومتناقضة ظاهريًّا، محاولة أن نترجم بالكلمات حالات ذهنية غير قابلة للوصف أبدًا، ما دامت سابقة — بالضبط — على أي «تجميد» للفكر في كلمات، فأرتو لا يبحث عن كتابة «قصائد»، بل بالأحرى عن تقديم كشف حساب لتجربة داخلية لا معادل لها في اللغة، وكي يمررها على المستوى اللغوي يلجأ إلى كل الوسائل، مستخدمًا — على سبيل المثال — المفردات المادية لوصف حالة ذهنية:
كان الفضاء يرمي قطنه الذهني المترع حيث لم تكن أية فكرة قد اتضحت ولا أعادت حمولتها من الأشياء، لكن رويدًا رويدًا، دارت الكتلة مثل غثيان غريني وقوي، نوع من سائل دموي نباتي ودائري …٢١
لكننا نشعر — خلال هذه الجهود — بعجز الإنسان الذي يصفه «باولو أوتشيللو» بأنه «في حالة تخبط وسط نسيج ذهني شاسع، حيث فقد كل طرق روحه، وحتى شكل وارتكاز واقعه»،٢٢ وسيكتب «أرتو»، في نهاية حياته، مقارنًا نفسه بفان جوخ الذي يصف هذيانه قائلًا: «أنا أيضًا مثل فان جوخ المسكين، لم أعد أفكر، لكنني أقود كل يوم — عن كثب أكبر — فورانات داخلية رائعة».٢٣
ورغم هذا، وإذا افترضنا أن القصيدة ليست بناءً فنيًّا خاضعًا لبعض القواعد، وإنما هي عرض لعالم داخلي في لغة أصيلة بشكل كامل، وتتمتع بقوة إيحائية مجهولة، فعلينا الاعتراف بأن «أرتو» يخلق شكلًا شعريًّا جديدًا: ولأنه مجبر — إذا جاز القول — على أن «يخلق» لنفسه «لغة»، وأن يخضع جملة النثر لضلالاته (لم يستخدم كثيرًا النظم، الأقل مرونة)، فهو يخترع شكلًا مدهشًا ليدفع القارئ إلى المشاركة في حالاته الواعية، يكتب «آ. أداموف»: «إن الجملة لا تصدر فحسب صريرًا بشكل غير إنساني، وتتكسر وتتهدم، لكنها تنتظم على مستوى أعلى، أقل ما يمكن قوله عنه إنه يتيح أصداءً لم تشهدها القصيدة أبدًا حتى الآن»،٢٤ وهذا الشعر، الغريب عن كل «مؤثر» فني أو أدبي، يؤثر من خلال قوته الصدامية، وهو يؤلف شكلًا خاصًّا من الغنائية لن يترك أحدًا لا مباليًّا.
وينبغي أن نضيف أن تمرد «أرتو» على الوضع الإنساني هو تمرد على جميع أشكال التعبير الإنساني في نفس الوقت، ولا سيما على اللغة، ثمة طلاق، في الحقبة الحالية، بين الحياة التي ينبغي عليها أن تمنح الكلمات نسغها، والكلمات التي نستخدمها، التي لم تعد سوى أشكال مفرغة، متصلبة، «وإذا كانت علامة الحقبة هي الاضطراب، فإنني أرى في أساس هذا الاضطراب قطيعةً بين الأشياء والكلمات والأفكار والإشارات التي تمثل تقديمًا لها»، مثلما يكتب في «المسرح وقرينه»،٢٥ «كل الكلمات مجمدة، غارقة حتى عنقها في دلالتها، في مصطلحاتها التخطيطية والقاصرة»،٢٦ وهي الفكرة التي سيعبر عنها بقوة متزايدة في أعماله الأخيرة، ولا سيما في «خطاب ضد القبلانية»، حيث يكتب:
لماذا يفعل عالم مثل هذا، سأقول أيضًا بهذه الدرجة من الغباء، هذا العالم الأبجدي، الحسابي والألفبائي،
ولم لا يكون عالمًا بلا أرقام ولا حروف، مصنوعًا فحسب من أجل الأميين الذين لم يعرفوا أبدًا الحساب،
يام كامدو yam camdo
يان دابا yayan daba
كامدورا camdoura
آ دابا رودو a daba roudou
من لا يرى الآن بالضبط أن هذا الإطار المتأصل من الأرقام والحروف الذي انتهى بخنق الإنسانية وضياعها بصورة وراثية.
لصالح ماذا، ومن، ومن أجل من وماذا؟٢٧
ومثلما نرى، يذكرنا تمرد «أرتو» بتمرد الدادائيين والسيرياليين على الكلمات التي تخوننا، التي تسجننا في الأطر الجاهزة للغة، لكن اتهام السيرياليين للكلمات كان أقل من اتهامهم لكيفية استخدامها، وأرادوا «إعادة الكلمة الإنسانية إلى براءتها وفضيلتها الإبداعية الأصلية»،٢٨ وتبنوا موقفًا قبلانيًّا،٢٩ أما «أرتو»، فهو لا يأمل — بتركه الكلمات تتداعى في حرية، خارج سيطرة الوعي — أن تعثر على قوتها البدائية، فهو لا ينتظر شيئًا من الكلمات: «إنني أكتب للأميين»، حسبما يصرح،٣٠ فهدفه النهائي هو التمكن من الاستغناء عن اللغة، واللحاق بالفكر فيما قبل الكلمات.

التمرد على اللغة

هكذا نصطدم، مرةً أخرى، مع «أرتو»، بمشكلة التعبير:٣١ مشكلة أليمة للفنان الذي يمكن أن ينقاد نحو انعقاد لسان حقيقي إزاء عجز الكلمات، نحو «لم أعد أستطيع الكلام» لرامبو، ونحو رفض لاستخدام اللغة، وإذا ما تم تعميم موقف متطرف إلى هذا الحد، فستلغى بالتأكيد كل إمكانية للشعر، لكننا نلاحظ، دون التوغل بعيدًا، أن التمرد على اللغة هو إحدى السمات المميزة للشعر الفوضوي المعاصر، وأن محاولة «إيجاد لغة» لم تصحبها أبدًا من قبل إرادة هدم كهذه لا إزاء قواعد النحو والمنطق فحسب، بل أيضًا بإزاء الكلمات نفسها، فالكتاب يخترعون كلمات جديدة، مثل «فارج»،٣٢ وهم يقترحون استخدام كلمة محل أخرى، مثلما تفعل إحدى شخصيات «ج. تاردو» التي تفكر في إصدار مرسوم «ثورة فوضوية للغة»،٣٣ و«إعادة توزيع الكلمات» حسب «الإصاتة المحاكية» لكلٍّ منها،٣٤ فهم (الكتاب) يفككون الكلمات، ويفتتونها، ويعيدون عجنها مثلما في بعض قصائد «ميشو»،٣٥ لينتهوا إلى تفتيت الكلمات إلى عناصر بسيطة ويصلوا إلى «الحروفية».
ومن قبل، قدمت لنا أكثر قصائد «تزارا» فوضوية حالة من التفكيك السابقة على اللغة،٣٦ ومع «الحروفية» أو «الحرفية»، تهجر اللغة كل طابع عقلي وكل إرادة دالة لتصبح موسيقى محاكية خالصة: «الحروفية هي الفن الذي يقبل مادة الحروف المختزلة التي أصبحت نفسها ببساطة (لتُضاف أو تحل محل العناصر الشعرية أو الموسيقية بكاملها) والذي يتخطاها كي يصب في قالبها أعمالًا متوافقة …» مثلما يصرح «إيزيدور إيزو»،٣٧ وفي «القصائد» الحروفية لن تتحقق الوحدة في الجملة بالطبع، ما دام لم تعد هناك جملة ولا كلمات، لكن الحروف تنتظم في وحدات إيقاعية يمكن تسميتها «أبياتًا»، ولن أتوقف عند ذلك أكثر مما ينبغي، إلا للإشارة إلى أن محاولة «إيزيدور إيزو» لم يكن لها فائدة سوى الفوضوية العابرة ومعاداة العقلانية، فعلى الصعيد الشعري، من الواضح للغاية أن «الشعر» الحروفي لا يمكنه إلا أن ينتهي إلى الفشل، وإن لم يعد ممكنًا للقصيدة أن تكون سوى انسجام محاكاتي، وإذا ما تخلت عن القيمة الإيحائية والإبداعية للكلمات، فالموسيقى تصبح أفضل عندئذٍ، فالشعر، مهما فعلنا، مرتبط باللغة بشكل لا فكاك منه.
وبسذاجة ما أيضًا، يتمرد «هنري بيشيت» على الشعر عندما يصرح برغبته في أن يكون لا شاعر: «فما دام الشعر الحالي لا يعدو أن يكون لعبة قرود رسميين أو أشخاص متخلفين عقليًّا يلهثون في نهاية المهازل، والسلم القصير إلى السياسة، والسباق في المديح … سأكون لا شاعر»،٣٨ والطريقة الحقيقية لأن تكون لا شاعر هي الكتابة في أكثر أشكال النثر الممكنة ركاكة وتسطيحًا، والواقع أن «لا قصائد نثر» بيشيت هي أيضًا محاولة لهز وتمزيق وإعادة اختراع اللغة من أجل العثور على مؤثرات شعرية جديدة: ومرة أخرى، «يرتمي» الإرهابي «في قلب اللغة لأنه أراد تجنبها»، حسب تعبير «بولتان»٣٩ (الذي يرى أن «بيشيت» — من ناحية أخرى — يبدو سعيدًا إلى حدٍّ مفرط لأنه يائس، ويصفه بخبثٍ شديد بأنه «شاعر – ملعون – من – ناس – العالم»،)٤٠ والمؤلف أن حلي «بيشيت» ليست من صنعه حقًّا: فقد استفاد، وربما بشكل مفرط، من محاولات «دينو» والسيرياليين عندما يكتب: «أنا أجلجل، وأتوفى، أنا كلب بحر فضي، أطلق إعصارًا حلزونيًّا مثل شتوكا»٤١  ،٤٢ أو «أغادر بومبي مثل منغولي فخور، القمر أصلع، إضراب في مكان العمل، أنت تجعلني أحس بالغربة، مفتاح الأرض، أرجوحة بهلوان، خيال المآتة المحتشم يخلع ملابسه عندما يجيء الليل … إلخ»،٤٣ ويستعيد أيضًا «فارج» و«رامبو» بشكل مفرط للغاية في أغلب الأحيان:
بدل الأطفال السيوف الخشبية، صوبت بقوة على قوس قزح، وأتلفت السحب، شعرت بالخوف من الشفافية، والدم، والكتابة، وغسلنا القرى التي خدشتها العاصفة بالأحراش السوداء، أرجأنا الوداعات، إلى المداعبات.٤٤

هكذا (رغم بعض النجاحات اللفظية، ورغم المواهب الغنائية الواضحة)، تفتقر هذه القصائد، التي كادت أن تكون فوضوية من جراء المبالغة في النزعة الفردانية، إلى بعض الفردية، فنحن أمام لقى لا أمام شعر.

ورغم الأهمية التي يمكن أن يبدو عليها التمرد «الميتافيزيقي» في ذاته على اللغة، فلا يكفي وحده لخلق شعر: فحركته مدمرة بشكل مفرط، ولا يتم الحكم على شاعر بما يدمره، بل بما يخلقه.

لكن ثمة أشكالًا من شعر النثر تستخدم، على النقيض، اللغة الدارجة لترجمة رؤيا للعالم فردية بجرأة، وتستمد قوتها الشعرية لا من الكلمات وإنما من العالم نفسه الذي تدخلنا فيه، عندئذٍ، ننتقل من شعر فوضوي بفعل الشكل الذي تم تبنيه، وتشويش الكلمات واللغة، إلى شعر مكتوب في نثر بلا مؤثرات وبلا «نزعة إرهابية»، فيتجلى فوضويًّا بفعل جوهره، وبفعل رؤيا «مشوشة» للواقع (ويحدث — فضلًا عن ذلك — أن نرى لدى نفس الشاعر، على سبيل المثال لدى «ميشو»، تتابع أو ترابط الشكلين، تشوش اللغة وتحول الواقع).

ونجد في هذا الشكل الثاني أنواعًا محجوزة حتى الآن للنثر الحقيقي، مثل السرد أو الوصف التعليمي، وقد تحولت وارتقت إلى المستوى الشعري، وبالتحديد بقدر ما تكون مشحونة بهذه القوى «المزعجة»، التي أشاعت السيريالية غالبيتها: الفانتازي، والعبثي، والدعابة، لم يعد في الشعر المعاصر الحد الفاضل القاطع بين الفانتازيا الجديدة، على سبيل المثال، وقصيدة النثر: ولا معايير سوى الإيجاز، والتركيز، وتقنية خاصة أيضًا: إنها طريقة معينة في ترك السرد بلا خاتمة، وتقديم شيء ما أو حالة ذهنية منفصلة، بما يجعل النص شعريًّا ﺑ «عزله»، بإحاطته بهامش، وفصله عن الزمان والمكان الذي ينبغي أن يحيط به بشكل طبيعي، لكننا نستطيع أن ننكر حاليًّا لا وجود تأثير متبادل فحسب، وإنما انصهارًا في أغلب الأحيان بين بعض أنواع النثر وقصيدة النثر: وسأعود الحديث حول هذه الملحوظة الهامة فيما بعد.

وسنكتشف، عن الدراسة المطردة المظاهر الكبرى التي اتخذها هذا الشعر: خلق أسطورة حديثة — الشعر الفانتازي أو الحلمي — الدعابة، التي ينبغي البحث هنا عن جذورها ومقدماتها في الحكاية، والسرد، والأقصوصة، والرواية نفسها.

(١-٢) خلق أسطورة حديثة

والواضح، على سبيل المثال، أن الكُتاب لم ينتظروا عام ١٩٣٠م كي يبثوا قوةً شعرية في النثر بإدخال الغرائبي في السرد، ومنذ عهد بعيد، ينعون فقر الشعر الكلاسيكي، الخاوي من الروح الأسطورية التي كانت تنعشه في الأزمنة البدائية، فلم تعد الأساطير القديمة تحادث أرواحنا، على الأقل في شكلها الكلاسيكي، ونحن نحتاج، كي نعيد إلى الشعر وظيفته الكبرى ﮐ «خالق للأساطير»،٤٥ إلى أسطورة حديثة، ومنذ القرن التاسع عشر، ثمة شعور بوجود تعارض بين هذه الأساطير الجديدة لعهدنا الحديث والأشكال الصارمة التي استخدمت قوالب لأساطير الماضي: وحده النثر، كشكل أكثر حرية، أكثر «انفتاحًا»، وأقل ارتباطًا بالاعتبارات الشكلية الخالصة، من (ارتباطه) بإبداع مناخ أو «نغمة» خاصة، هو الذي يمكنه تلقي هذه الأساطير، فمن خلال نثر الرواية (من «البؤساء» إلى «خفايا باريس»)، ومن خلال نثر الأقصوصة (من «إدجار آلان بو» إلى «بودلير» فالمعاصرين)، تتطور الأساطير الجديدة عن الحياة المدينية،٤٦ هذه الأشكال، وقد تم تصفيتها من عناصرها النثرية، ستصبح قصائد نثر بطبيعة الحال.
وقد بذلت السيريالية الكثير، برغبتها في إيجاد معنى «الرائع» الذي جففته العقلانية، من أجل إرهاف حس أرواحنا إزاء هذه الأسطورة الحديثة، ويكتب «أراجون» عام ١٩٢٦م، كمدخل ﻟ «فلاح من باريس»، «مقدمة إلى أسطورة حديثة»، ويصرح أن «أساطير جديدة تولد تحت كل خطوة من خطواتنا»،٤٧ وهو يكتشف، في بعض أحياء باريس، وبشكل خاص في ممر الأوبرا، «الضوء الحديث للغريب»:٤٨ دكان بائع القصب، يستحم في «ضوء مخضر، تحت مائي بطريقة ما»،٤٩ ومحلات مصففي شعر السيدات، وبيوت الدعارة، والمقاهي حيث الصور «تتدلى مثل قصاصات الورق الملون»،٥٠ إنه عالم الخوارق، بلا قرار، مليء بالرقى الغامضة، ينفتح أمام الشاعر ويعيده إلى العجائب البدائية: «أستحق الشنق حقًّا إن كان هذا الممر شيئًا آخر سوى منهج لتحرير نفسي من بعض العراقيل، ووسيلة للوصول إلى ما هو أعلى من قواي في مجال لا يزال محظورًا»، حسبما يكتب.٥١
ومع أن «م. شابلان» قد أدرج بعضًا من أكثر تطورات «أراجون» إثارة للدهشة في مؤلفه «مختارات من قصيدة النثر»،٥٢ فلن نستطيع الحديث عن قصيدة نثر في «فلاح من باريس»: فهو نثر شعري بالأحرى، لكن العجائب نفخت فيه إلى حد أن يقترح هو علينا أيضًا «منهجًا» من أجل تحريرنا من العراقيل العقلانية، كي نصل إلى «مجال لا يزال محظورًا»، ولنُشر إلى أن مبدأ هذه الأسطورة المدينية نفسه قد ألهم كتابًا من قبل مثل «لافيسيير»،٥٣ ومن قبله «بودلير»، فلدينا هنا أحد الموضوعات الأساسية للشعر المعاصر: فالأمر يتعلق بالإطلاق من الواقع الحديث المألوف، وبشكل خاص ذلك الذي نلتقي به كل يوم في المدن الكبرى («المدن الهائلة» لبودلير)، بما يجعلنا نشعر تحت المظاهر اليومية بشيء ما خفي، غامض هو «الوجه الآخر للواقع» الذي تحدث عنه «بريتون»،٥٤ فملاك «العجيب» يحوم حول هذه المشاهد المدينية.
حيث كل شيء، حتى الهول، ينقلب إلى رقى.٥٥

محطات القطار هذه، وهذه الممرات، وهذه الزوايا المظلمة، التي يشبه المارة فيها الأشباح، حيث أكثر اللقاءات غرابة تشبه إرادات القدر، وحيث يلتقي «فيسيير» مع «آنا ستيل»، و«بريتون» مع «ناديا»، ولهذه الأسطورة أبطالها، المنبثقون من الظل والظلمة في أغلب الأحيان (عاهرات امتدحهن «بودلير»، و«شووب» و«لافيسيير» و«كاركو»، وقطاع طرق ومحتالون، وإشراقيون مثل «ناديا»)، هذه الأماكن العالية (نعلم الدور الذي لعبه «برج سان–جاك» في أسطورة «بريتون» و«مقهى سيرتا» في أسطورة «أراجون»)، وهذه العمليات السحرية (وعناصرها الأفيون والحشيش، والتنويم المغناطيسي، وكشف الطالع بالكوتشينة …) وقد استطعنا من قبل اكتشاف هذا الوريد الإلهامي في روايات كهذه مثلما في «خفايا باريس»، لكنها ستزود شعر النثر بحصر المعنى بوسيلة نجاح ثرية للغاية، وينبغي أن نضيف بجانب اسمي «لافيسيير» و«كاركو» أسماء «فارج» و«ج. دي بوسشير» و«ماك أورلان»، وأسماءً أخرى أيضًا.

ج. ب. لافارج، جوَّال باريس

بعد تواطؤ قصير مع المجموعة السيريالية، انفصل «فارج» عن الحركة، وأخذ — عام ١٩٢٤م — اتجاه مجلة «كوميرس» مع «بول فاليري وفاليري لابرو»، وفي قصائد النثر التي قدمها إلى «كوميرس» وجمعها فيما بعد في كتاب، سنرى مظهرًا جديدًا للشعر الفارجي،٥٦ مظهرًا مزدوجًا بالأحرى؛ إذ أحيانًا ما يتسع (الشعر) حتى منظورات كونية («انتفاخ»، «كثافات»)، وأحيانًا ما يقودنا — عبر أساطير باريس — من عام ١٩٠٠م حتى عام ١٩٥٠م، في البدء ساد المظهر الأول (يعود تاريخ «انتفاخ» إلى عام ١٩٢٨م، وكثافات إلى عام ١٩٢٩م)، في الوقت الذي أخذت فيه لغة «فارج» قوةً وروعةً لفظيتين غير متوقعتين، وفيما بعد، سيصبح «فارج» أكثر فأكثر، «جوال باريس» («حسب باريس»، ١٩٣١م، «جوال باريس»، ١٩٣٩م، «تعرجات نهر»، ١٩٤٦م)، لكن من الصعب — في أغلب الأحيان — فصل هذين العنصرين عن الأسطورة الفارجية: فالرؤيا المحولة التي تولد بمناسبة حلم يقظة عن الأتوبيس، أو من نزهة في الشارع الكبير، توسع من الواقع في المكان والزمان: فالأتوبيس يصبح حيوانًا غريبًا من عصر ما قبل الطوفان، «ماموث غريب»، مستمدٌّ من أرض جيولوجية، مغطاة بصفائح من الميكا المنضدة، بفعل «بيجماليون عالم الحفريات»،٥٧ وعربة جياد «فياكر» التي «لا بد أنها كانت في البدء مخلوقًا متحولًا»، يرسم لنا «فارج» مبحث نسلها المدهش٥٨ (كان «فارج» في شبابه يرتاد باستمرار «المتحف»، ويعكف على علم زيمرمان في الحفريات،)٥٩ ويؤدي بلاط العاصمة إلى خيالات هاذية، ومشاهد كابوسية: «تصعد امرأة، الشعر مستقيم، والتنورة ملتفة مثل رأس شمعدان … وآخرون منغرسون في حاجز مسامي، وممتصون مثلما من نشاف»،٦٠ وها هي كيفية وصف «فارج» لهذه «الجغرافيا الغامضة» لباريس:
بالنسبة للإنسان الذي يريد أن يتعب نفسه، مثلما بالنسبة للشاعر الجيد ذي النعل الحديدي، باريس مدينة مثيرة للفضول، لها تعرجاتها، وانقطاعاتها، ومناطقها الواطئة، وأجزاؤها المغلقة أمام عربات الكارو ونزعتها النارية (…) هناك أحياء في مفترق طرق وأحياء مسكونة بالأشباح، بحيوانات النمس المجنحة الكبيرة مثل زرافات، وشوارع تنفجر مثل يرقة بعوض الحمى الصفراء، وتقاطعات طرق تمتلئ بالمارة الذين يتعلقون بالبيوت مثل أشباح، وطرق مسدودة مكتظة بالحشرات المجنحة (…) أحياء تفوح برائحة اللحم، والتجليد، ودبغ الجلود، والزبادي، والحرث، أو القراض، وأحياء أخرى في النهاية حيث الأرواح تجري مهرولة الواحدة وراء الأخرى تحت نعال البوليس، حيث نلحظ خرافًا وملائكة، وهياكل عظمية قديمة لشحاذين سيقانهم مرفوعة، وسلال أحاسيس، وأعضاء صبية وثقوبًا جهنمية.٦١
ودون أن نغادر العاصمة، نشعر بأنفسنا وقد انتقلنا إلى عالم مجهول، ويتضاعف اغترابنا من واقع أن اللغة، هي أيضًا، تهرب من المعلوم من أجل القيام بهجمات غريبة بمفردات شاذة: وكأن الدوار أصابها، تأخذ أكثر الكلمات إدهاشًا وندرة (المستعارة من الجيولوجيا وعلم الحفريات والطب) في الدمدمة وتسقط في جملتها، ليس هذا كافيًا، فالشاعر يضيف ألف تورية، وتشكلات مضحكة واختراعات لفظية جديرة برابليه (ليس من قبيل الصدفة استخدام اقتباس منه كعبارة توجيهية في «عزلة سامية»)، فهو ينتشي بالكلمات التي يشوهها، ويحولها أو يغير معناها واستخدامها، وكل هذه الكلمات الجديدة تصبح كائنات، وتقرقر على البلاط الباريسي مخلوقات مجهولة: «يا إلهي! محصلو الأتوبيسات تحولوا، هذه الليلة، إلى بيض عيد الفصح! غدًا، سيكون دور مطببي الأرجل، ثم يأتي دور سعاة البريد، وصانعي النظارات، ودابغي الجلود، والعلماء والنبلاء، وأشباه حيوان الزيبلين، ومرضى العيِّنات، وجامعي الضرائب ضخام الأقدام، وحلاقي شعر البهائم»،٦٢ بينما في «تعرجات النهر» تنتشر حيوانات كابوسية:
إنها بهائم تمر، الجيوفوث، في لون الميموزا مُحب الركب والأركان، الخنزير البري — المحراث الذي ينقض على تراجعي في أضحية من قلنسوات، ومصافي الصودا الكثيفة، الذين يُدعون أيضًا غربان الأمراض، الدبلوم المعقعق، وأم قرفة، التي تسحب فجأة من جسدها وهقًا للنمل في شكل أناناس أسود.٦٣
هكذا يكثف نثر «فارج» — بطريقته هذه — الرغبة في «إعادة اختراع» اللغة التي سبق أن تحدثت عنها، لكن المقصود بالنسبة له لا هدم اللغة، وإنما إثراؤها بإبداعات جديدة، وينبغي القول إن هذا التدفق بالكلمات المضحكة والاختراعات الباروكية يهدف — في أغلب الأحيان — إلى تسلية القارئ، مثلما يتسلى «فارج» نفسه، ويشير «س. شوميه» عن حق إلى أي مدى «يظل التلاعب بالألفاظ، والتناغم، وأصول الكلمات، لعبة، في حين أنها ترتقي مباشرة لدى «أندريه بريتون» الخطير للغاية، إلى مستوى المفاتيح السرية للعالم».٦٤
لكن هذه الغزارة الرابلية (نسبة إلى «رابليه»)، تمنع القصيدة — من ناحية أخرى، في أغلب الأحيان — من التبلور: فلم تعد المسألة غير نثر كثيف بشكل غير مألوف، عذب وشعري بلا شك، لكنه لم يعد يستجيب للضرورات الداخلية للقصيدة، وأعمال «فارج» الأخيرة، «تعرجات النهر» و«عزلة سامية»، هي على الأغلب مجموعة ذكريات أو أحلام يقظة شعرية أكثر مما هي قصائد: ولكن حتى في الدواوين السابقة، فإن البلاغة والإحصاء والنزعة اللفظية تتخطى بنا الأطر الصارمة للقصيدة الموجزة، وتقودنا إلى صيغة ركيكة بشكل فريد لقصيدة النثر، تختلف تمامًا عن الصيغة المتبناة في «قصائد» عام ١٩١٢م، ويبدو تمامًا أن هذه المتعة اللفظية التي تمنع «فارج» من مقاومة سيل الكلمات، وتجعله يبحث بشراهة الفنان عن إصاتات مفاجئة وكلمات شهية، توقفه وتحتجزه على حافة المنحدرات الميتافيزيقية الكبرى، «لا يذهب فارج إلى تجارب الشعر القصوى والخطرة»، مثلما يكتب «س. شوميه»،٦٥ فمجاله هو التخييل لا التمرد، وعلى أية حال، فهذا الشاعر المنشد المدهش يثبت لنا أن جملة النثر الفظة والممتلئة بالحلي اللغوية، التي كان «رابليه» يستخدمها، تحافظ على قوتها الإبداعية، ويمكنها أن تبرز في — قلب القرن العشرين الباريسي — عالمًا بنفس فانتازيا كائنات ما قبل التاريخ.

أسطورة باريس وقصيدة النثر

هذه «الجغرافيا الخفية» لباريس، التي يقترحها علينا نثر «فارج»، ليست ازدهارًا ﻟ «أسطورة باريس» التي شهدنا ولادتها، كما قلت، لدى «بودلير» وروائيي القرن التاسع عشر، والتي تتطور خلال بداية القرن العشرين في نفس وقت تطور الحياة الحديثة والمدينية نفسها، ويمكننا أن نوضح أن منحنى هذه الأسطورة الجديدة، في قصيدة النثر، يمر من خلال العجائبي الحداثي، في الحقبة التي افتتن خلالها الشعراء بالرؤى الخارقة الجديدة، التي ولدت من السرعة وتسارع الحركات، ثم بعجائب الغريب والمظاهر الغريبة لباريس، وهو اتجاه يتأكد مع السيريالية، للوصول في النهاية إلى الفانتازيا الخالصة التي تحطم أكثر فأكثر الروابط مع الواقع.
وقصائد «ب. جاماتي» — المنشورة عام ١٩٣٨م مصحوبة بمقدمة «ل. ب. فارج»، لكن المكتوبة في غالبيتها عام ١٩٢٤م٦٦ — تكشف بما يكفي أول هذه الاتجاهات، وتذكرنا بحماس الشعراء «الحداثيين» أمام روائع «اليوم العميق»،٦٧ فثمة فانتازيا جديدة تولد من أشكال الحياة الفعلية، من المترو على سبيل المثال: «روح العواصف تحكم هذه المملكة التي تخفف عني رائحتها تحت الأرضية وأصبح ظلًّا بين الظلال»، وتستثير السرعة أوهامًا مفاجئة: «اثنان يتعانقان في كل محطة: هما نفسهما بلا شك، يتمتعان بموهبة شاملة، ثلاثة آلاف نظرة من دقيقتين لدقيقتين تستوليان على القبلة: وتبعثر السرعة الشظايا على كل الأفواه»،٦٨ لقد تحول المنظر، وألغي مفهوم المكان، والكائنات المتباعدة في الواقع تجد نفسها داخلة في تماسات بشكل وحشي:
صاحب البار، خلف مشربه، يطيح بزجاجة «بيكولو» ويلتقطها في طيرانها ويسكب محتواها في قوارير الصيدلي، تاجرة الخردوات، وهي تفتح بابها، تنفخ في غاز مصفف الشعر، بينما سكين الفاكهاني المرفوعة تقطع فطيرة منزلية مثل جبن هولندي …٦٩
ويغذي اتجاه شعري حداثي أيضًا قصائد نثر «ماك أورلان»، المكتوبة أيضًا في الفترة بين عامي ١٩٢٥م و١٩٢٦م:٧٠ هو أيضًا رفيق «أبوللينير» و«سالمون» القديم، يبحث في الحياة المدينية الأكثر يومية عن شعر جديد، مليء بالتصويرية، والمغامرة، والكوزموبوليتانية: «تكمن المغامرة في عربة أطفال ذات ثلاث عجلات»، حسبما يقول في «منتجات استعمارية»،٧١ وتصبح «الصيدلية» سفينة مضاءة على استعداد لرحلات خيالية: «ضوء أحمر على يسار السفينة، ضوء أخضر على اليسار، الصيدلية في المرساة، على حافة الرصيف، أمام موج نهاية اليوم»،٧٢ وينبغي الإشارة إلى أن فانتازيا ماك أورلان تتوجه — في أغلب الأحيان — صوب الفانتازيا العلمية، كرؤيا لعالم تحوله قوى النزعة الآلية المتعددة: هكذا عندما يصف «المرآة المراكمة» أو «الحلوى الآلية»:

لهذه الحلوى الآلية، ينبغي أن تكون هناك أفواه زبائن آلية، وبطون آلية، وعيون آلية كي ندحرجها بارتياح في الاتجاهات الأربعة للصليب اللاتيني.

عندما نمكث فترة طويلة للغاية في هذا المكان حيث تدحرج التوربينات وتدير سيورًا تصل إلى أسناننا، نشعر أننا مأخوذون بحاجة قهرية إلى التهام كل ما يحيط بالمرء.

وبعد فطائر الحلوى وكعكة الفاكهة، والبسكويت وأقراص العسل، سنلتهم مع الموسيقى الراقصة البائعات البدينات، وستبتلع صرخة أخرى الطباخين الذين لا يراعون قواعد الصحة ونظامهم الشَّعري …٧٣
وقد يمكن لصيغة شعرية جديدة أن تولد من هذه التوقعات، على غرار «ويلز»، الأكثر تأثيرًا لأنها أكثر إيجازًا، ودعابتها (التي تجعلنا نتذكر أحيانًا «جاري») تزيد من قوتها الصادمة، ألم يحكِ «ماك أورلان» ﻟ «ب. بيرجيه» أن «الإنسان من كثرة إمساكه بالمقود سيفقد ساقيه، رويدًا رويدًا، سيتحول إلى وحش شبه مخروطي ومعدني تمامًا»؟٧٤
لكن هناك في قصائد «ماك أورلان»، وبشكل خاص في «دكاكين»، جانبًا من الخارق الغريب، والعجائبية التي تمتزج هي أيضًا بالدعابة: فهو مأخوذ بغرابة من الكائنات التي شاهدها، أو تخيلها، في قلب دكاكينهم، والتي يقدم لنا حرفاتهم المنظور إليها من زاوية فانتازية: الخباز الغارق في عجين فطيرته، «مرتديًا دميةً عارية من خزف»،٧٥ ومصفف الشعر، الذي يعرض في واجهته الزجاجية رأسًا من الشمع للسيدة «دي لامبال»، و«شعرها أفضل تصفيفًا من الجمهورية»،٧٦ وصانع الرخام في علاقاته بهاملت،٧٧ أو بائع التيجان:
عندما يموت بائع التيجان، سيحدث جيشانًا فوق الطبيعي.
ستقع مؤامرةً للأشياء والزهور الصناعية مثلما في ليلة البورجي.
كل التيجان المصنوعة من اللؤلؤ وباقات الخزف الصيني ستغطي بوثبة إجماعية عربة موتى المرحوم.
والناس الذين يسيرون وراء الجثمان سيقولون:
— أي شخص رائع هذا الذي نشرفه؟ ها هي إهداءات رفيعة: «إلى زوجي»، «إلى أخي»، «إلى عمتي»، «إلى زوجتي»، «إلى حبيبي» «أصدقائه، تلاميذه» … إلخ.
هذه اﻟ «إلخ» تزعج منظم الموكب.٧٨
هكذا تتوفر لنا أكثر من صدفة، في الدكاكين، وفي الأحياء القديمة، لملاقاة الأشياء الغريبة في منعطف إحدى الحارات، أو تخيلها خلف واجهة مرصوصة، و«الغامض»٧٩ «ج. دي بوسشير»، هو أيضًا، يهتم بتخيل هذه الموجودات على هامش الحياة الطبيعية، وما نلاحظه في الممرات المظلمة «على ضوء عود ثقاب»:
(بالأمس) … رأيت فتاةً تحلم بالقرب من مربع زجاجي هو نافذتها، لا يلمس النهار أبدًا هذا الزجاج، إذا امتلكت الفتاة ساعة حائط، لكان لها أن تعرف رغم هذا متى تقترب الظهيرة.
كل يوم، قبل أن تقترب المدينة، في ظلمة حجرتها يعلن لها «أنجيلوس» في أجراس «نوتردام» أن الشمس أشرقت في البلاد التي يسير فيها حلمها في خوف.٨٠
تمتلئ «الأشياء المرئية» التي يحفل بها دفتر ملاحظات «الغامض في باريس» بمشاهد أو شخصيات وحشية أو خيالية، «وحوش الباستيل»،٨١ و«أم العجل ذي الرأسين»، و«الإنسان الآلي» الحي … كل هذه «الوحوش المزعجة»٨٢ التي تلتقي بالكاتب، وتذكرنا بملحوظة «بودلير»: «أية غرابات لا نجدها في مدينة كبيرة، عندما نعرف كيف نتجول وننظر؟ الحياة تشغي بوحوش ساذجة»،٨٣ تستمد من غرابتها نفسها طابعًا شعريًّا: فكثير من فقرات من هذا القبيل من مذكرات «الغامض في باريس» هي فقرات وسيطة بين «الشيء المرئي» وقصيدة النثر.
خطوة إضافية واحدة وسيغزو الخارق — تمامًا وعمدًا — شرايين العاصمة، فتحت تأثير السيريالية، تستفيد قصائد ما بعد عام ١٩٣٠م من القوة التغريبية ومن المؤثرات الشعرية الجديدة التي يقدمها ما يسميه تزارا «الواقع المشوش»،٨٤ وقد سبق أن تحدثت عن «ل. ب. فارج» والرؤى القيامية الغريبة التي يدفعها إلى الظهور من أركان الشوارع الباريسية، و«جان كوكتو»، في الفصل الأخير من «نهاية بوتوماك»، «أنقاض باريس»،٨٥ يصنع لنا لوحة فانتازية عن فناء باريس، و«ج. جراك»، في إحدى قصائده النثرية من «حرية عظيمة»، يؤسس للشطط في قلب العاصمة: «تنفجر بعض مجلدات الكتب ذات شعارات النبالة على أرفف أرصفة السين (…) على جبل سانت جنفييف، يعلنون من وقت لآخر، عن وابل متراص من كرات من أزرق الغسيل …»،٨٦ إنه الواقع الأكثر صلابة، هذه المرة، الذي يستولي عليه الدوار، والذي يتصدع تحت هجمة الفانتازي التي لا تقاوم، فنشعر باهتزاز الإطار الهادئ لحياتنا اليومية، ونفقد توازننا.

ورغم هذا، أبسبب هذا الطابع الهجين لا تتمكن قصائد الفانتازيا المدينية هذه، التي تمنح نفسها عن عمد إطارًا جغرافيًّا محددًا، إذا ما زعزعت أسس عالمنا اليومي، من نقلنا تمامًا إلى عالم آخر؟ فالإحالات إلى الواقع المألوف للأحياء الباريسية تمنحها طابعًا تصويريًّا، واقعيًّا، ساخرًا أحيانًا، يمنعها من الوصول إلى مستوى النثريات الكبرى لواحد من قبيل «رامبو» على سبيل المثال، أو من قبيل «إيلوار»، أو من قبيل «ميشو» المعاصر لنا، مبدعي العوالم الشعرية المستقلة، وستجد قصيدة النثر، في شعر أكثر حرية ومجانية، فانتازي أو حلمي، أفضل إنجازاتها؛ لأنها ستقطع حقًّا علاقاتها مع «الشيء المرئي»، وستهرب من إغراء هذه الواقعية، التي ترصدت لها دائمًا منذ «بودلير».

(١-٣) الشعر الفانتازي والحُلمي

عالم ميشو

إذا كان الشعراء السابق ذكرهم قد خلقوا شعرًا من فانتازيا اليومي، فيمكننا القول، على النقيض إن شعر «ميشو» هو يومي الفانتازي، فبدلًا من الانطلاق من العالم اليومي، فهو يلقي بنا دفعة واحدة في عالم مختلف مجهول، حيث يعيش الناس حياة كل يوم، رغم أن عاداتهم وأعرافهم لا يمكن التعرف عليها بسهولة أبدًا، وحيث تتخذ الأفعال التي نتعرف عليها (لأننا نقوم بها كل يوم في عالمنا نحن) مغزًى، وتؤدي إلى نتائج مذهلة، فنحن نرى فيها، على سبيل المثال، «شخصًا اسمه بلوم» (الذي منح اسمه إلى أحد دواوين «ميشو» الأول)،٨٧ وهو «رجل مسالم» لا يفكر إلا في النوم في قلب الكوارث الجنونية:
مادًّا يديه خلف السرير، اندهش «بلوم» لأنه لم يلتقِ بالحائط، «عجبًا، فكر، لا بد أن النمل قد أكله …» وعاود النوم.٨٨

ويسافر «بتواضع» دون أن يتمرد على ما يكنونه له من عدم الاعتبار المدهش:

لا يستطيع «بلوم» القول إن هناك اعتبارًا زائدًا له خلال السفر، فالبعض يمرون فوقه بلا تنبيه، والآخرون يجففون أيديهم بهدوءٍ في بذلته، وانتهى به الحال إلى اعتياد الأمر، فهو يفضل السفر بتواضع، وكلما سيكون هذا ممكنًا، فسيقوم به.٨٩

وعندما سافر إلى مناطق الإكوادور وبيرو والبرازيل، تحقق «ميشو» من وجود حياة يومية قادرة على أن «تضلل حتى الموت» من يأتي من بلد آخر:

اليوم يتظاهر بأنه البرجوازي، إنه يحدث في كل مكان، ورغم هذا يمكن ليومي أحد الأشخاص أن يضلل حتى الموت إنسان اليومي الآخر، أي الغريب، سواء كان هذا اليومي الأكثر تفاهة، أو الأكثر اكفهرارًا، أو الأكثر مللًا لأهل البلد.٩٠
ألا يمكننا، من ثم، تخيل «عالم إضافي» (حسب تعبير «جاري») يكون فيه اليومي مُضللًا إلى حد أن يقلب تمامًا رؤيتنا للأشياء؟ وكلما تم تقديم هذا العالم بموضوعية، وطبيعية (وهنا تتدخل ضرورة النثر) تزايدت قوته المزعجة، كانت «إكوادور» دفتر ملاحظات مسافر (وبالمثل، فيما بعد، ﻟ «بربري في آسيا»)، وفيما بعد، لن يكف «ميشو» عن أن يكتب لنا «من بلد بعيد»:٩١ وسواء كان اسم البلد «جاراباني الكبرى»، أو «بوويما» أو «بلد السحر»، فهو يقع دائمًا في هذا «البعيد الداخلي»،٩٢ حيث يصبح الغريب هو القاعدة، دولة «الهاكيين» النهمين للمعارك و«المشاهد» الوحشية، الذين يستمتعون بأن يلقوا في المدينة ﺑ «ثلاثة أو أربعة نمور رقطاء تعرف، رغم رعبها، كيف تسبب جروحًا فظيعة، إنه المشهد رقم ٧٢»،٩٣ وبلاد أهل «الكور» العطشى للدين، وبلاد أهل «هيفينيزيكيس»، المتعجلين دائمًا والراكضين من شيء إلى آخر، إلى حد أنه «في المسرح، يبدأ الممثلون بمسرحية كوميدية، وينزلقون إلى الفصل الثاني من دراما، ويشتبكون في مقطوعة أخرى من أعمال سابقة، لينتهوا بارتجال ماهر»،٩٤ يصف لنا «ميشو» عادات هذه البلاد بموضوعية، وجفاف، بلا مؤثرات أسلوبية، ولن نصدق كثيرًا أننا نقرأ تحقيقًا صحفيًّا قدر تصديقنا أننا نقرأ مراسلات أحد الجغرافيين، ومن الوصف الدقيق للغاية للأقطار التي لا وجود لها، ينفلت، مثلما لاحظ «جيد»، «نوع من الشعر الغامض، ولكن أيضًا قلق مبهم»،٩٥ والواقع أن هذه العادات، وهذه الأديان، وهذه الملذات التي تبدو لنا عبثية للغاية، ربما لا تحتاج إلى تغيير كبير في زاوية الرؤية التي تذكرنا بشكل فريد بالعبثية الخاصة بعالمنا «المتحضر»، «وبعد كل شيء، سيقول المرء لنفسه، فكل هذا الذي بلا وجود، يمكن أن يكون له وجود، وكل ما نعرف أنه موجود يمكن تمامًا ألا يتوفر على حقيقة، فما يحدث على هذه الأرض ليس — على وجه الإجمال — أكثر معقولية مما يرسمه لنا ميشو»،٩٦ ولتدعيم تأملات «جيد» هذه، أترك هذه المقطوعة عن أهل «هاك» لتأمل القارئ:

يدبر أهل «هاك» أمورهم ليصوغوا كل عام بعض الأطفال الشهداء الذين يخضعونهم لمعاملات سيئة ومظالم واضحة، مخترعين للكل أسبابًا محبطة، مجبولة من أكاذيب، في مناخ من الرعب والغموض.

ولهذه الوظائف، يتم اقتراح رجال قساة القلب وحوش، يقودهم زعماء طغاة أكفاء.

وبهذا الشكل، صاغوا فنانين كبارًا، وشعراء، وأيضًا قتلة للأسف، ولا سيما مصلحين، ورجالًا جرافات لم يُسمع بهم.٩٧
ولارتباطه بهذا الطريق، أصبح «ميشو» مستعدًّا للعثور على آثار «فولتير» في «ميجاس الصغير»، و«مونتسكيو» في «رسائل فارسية»، بل حتى جاري في «فاوسترول» أو «تأملات»،٩٨ ويتمثل الأسلوب في جعلنا نشعر بالغرائبية الظاهرة، وغرابة بعض الإيماءات أو بعض المظاهر المألوفة لقارتنا، أو لكوكبنا، بافتراض أن من يراهم شخص أجنبي يقومون بتضليله، هكذا نصل إلى زعزعة أكثر مبادئ عالمنا رسوخًا، وإلى أن نشك، للحظة خاطفة، في مجانيتها وربما عبثيتها، واستخدم «كينو» هذا الأسلوب عندما حكى لنا أنهم في بلاد أهل «مديان» «يدهنونك بالهوية»، وهي مادة لزجة لا تُمحى، وهم «يثبتون فاعلية هذا الدهان بفعل أوراق تسمى أوراق الهوية، التي تتفاعل بنفس طريقة أوراق عباد الشمس في وجود مادة ما قاعدية أو حمض»،٩٩ ويجعلنا «ميشو» نرى، في مظهر غريب، لا عادات حياتنا اليومية فحسب، بل أيضًا الطبيعة، والسماء والسحب:

أنتم لا تتخيلون كل ما هو موجود في السماء، ينبغي أن تكونوا قد رأيتموها كي تصدقوها، هكذا، خذوا … لكنني لن أقول لكم اسمها على الفور.

ورغم مظاهر الوزن الثقيل للغاية واحتلال أغلب السماء تقريبًا، فهي لا تصل رغم ضخامتها إلى وزن مولود جديد.

نحن نسميها الغيوم.

وصحيح أنها تخرج من الماء، لكن ليس بكبسها ولا بسحقها، فذلك ما سيكون عبثيًّا، طالما أنها لا تمتلك سوى القليل.

ولكن من كثرة ما احتلت أطوالًا وأطوالًا، وعروضًا وعروضًا، وأعماقًا أيضًا دفعتها إلى الانتفاخ، فقد نجحت على المدى البعيد في أن تُسقط بضع قطيرات ماء، نعم، ماء، ونحن مبلولون تمامًا.١٠٠
بذلك، تتوجه قصيدة النثر نحو بعض أنواع النثر المتاخمة لها، الحكاية (الطويلة إلى هذا الحد أو ذاك، والساخرة إلى هذا الحد أو ذاك)، والخطاب المستعار (مثلما في «أكتب لكم من بلد بعيد»)، ودفتر الرحلات: ففي «ميشو» — مثلما يشير «ج. بيكون» — يكمن «ناثر جاف وخفيف، حاد وسريع»، يذكرنا بكتاب القرن الثامن عشر.١٠١
ورغم هذا، فميشو شاعر حقًّا، وليس ناثرًا على طريقة «فولتير» أو «مونتيسيكيو»، وأفضل النصوص التي تستحق في أعماله اسم قصائد هي التي تكشف لنا لا ألاعيب ذهن مبتكر ولاذع فحسب، وإنما أيضًا التجربة العميقة، والدراما الداخلية لإنسان يسعى، في رفضه لقبول العالم كما هو، إلى خلق عالم له، حيث يستطيع التدخل حسب رغبته، وحيث يمكنه أن يصنع التحولات في كل لحظة، وأن يتصرف حقًّا كمبدع، وتبدو هذه التجربة، مثلما يصفها لنا في «إكوادور»،١٠٢ كأنها قاعدة صحية ذهنية وتعويض داخلي، في آن، عن عدم الرضى عن حياة محبطة، فيها الطفولة «لم تنَل حقها» من السعادة،١٠٣ لكن ميشو — إذ يتخطى هذا المستوى الأناني — يرى في هذه المحاولة للإبداع الذهني «عملية في متناول الجميع»، مفيدة «للمضطهدين وغير المتوائمين من كل نوع»،١٠٤ ولكل من يجرحهم شر الوجود، والواقع أن «ميشو» يقدم — إلى كل من يتمرد على الوضع الإنساني — ثأرًا وتحررًا: والقيمة الحقيقية لعمله، مثلما أوضح «ر. بيرتيليه» جيدًا، قيمة أخلاقية.١٠٥
من هنا، تكمن أهمية كتاب مثل «قدراتي» المنشور عام ١٩٢٩م، ففي هذا «المكان الخاص بالدواخل»، يخلق ميشو «لحسابه»، ويحول وفقًا لرغبته، الكائنات والأمكنة: فهو يخرج من أستاره — حسب هواه — زهور ربيع أو أفيالًا،١٠٦ ويستخرج من جمجمته «خزانات ضخمة، وآلات نفخ نحاسية»، وأوركسترا كاملًا،١٠٧ ويضع رافعة سفن في سوق هونفلور،١٠٨ ويبني لنفسه — في عزلة غرفته — «رصيف ميناء حتى البحر»،١٠٩ ما من شيء يقاوم سلطته السحرية، لا الكائنات، ولا المشهد الطبيعي:
قديمًا، كنت أكن كثيرًا من الاحترام للطبيعة، كنت أجلس أمام الأشياء والمشاهد وأتركها تتصرف.
ذلك انتهى، الآن سأتدخل.١١٠
والواقع أن فكرة التدخل أساسية: ومثلما أوضح «ر. برتيليه» بشكل جيد للغاية في دراسته، فنحن دائمًا بصدد «اختبار سلطات الروح وقيادتها بشكل رياضي نحو حرية فعل مطلقة»،١١١ نجد أنفسنا إذن — مرة أخرى — إزاء شعر فوضوي مدرَك كتمرد للفرد، كرغبة في انتزاع الإنسان من عبوديات عالمنا، ومنحه قوى جديدة تحرره، في النهاية، من الواقع اليومي وقوانين المادة،١١٢ ومن هنا، تكمن عناوين من قبيل «قدراتي» و«افتتان» و«عرض» و«تدخل»، وتكمن هذه السهولة (وهي ثمرة تدريب طويل) في «عرض» مشهد ذهني في الواقع، أفرزه بكامله خيال الراوي، الذي ننتقل من خلاله بسهولة:
وفجأة حوالي الساعة الثامنة، لاحظت أن كل هذا المشهد الذي تأملته طوال النهار، كان انبعاثًا من ذهني فحسب، وكنت راضيًا للغاية، إذ كنت قد لمت نفسي قبل قليل بالضبط على أنني قضيت أيامي لا أفعل شيئًا.١١٣
لكن هذه الكائنات، وهذه المشاهد الطبيعية والأشياء، التي خلقنا «ميشو» بهذه الطريقة، نلاحظ أنها تقاومه كأشياء، أيًّا ما كانت درجة ذاتيتها: فهو ليس سيد خيالاته، فأحيانًا ما تصلب «المخلوقات» بالإغماء حتى قبل الوصول إلى حالة التماسك، مثلما يحدث في النص الأساسي المسمى «قدراتي»، حيث نرى الكاتب يقول لنفسه أن بلشونًا أبيض، على سبيل المثال، «مُجيد» في قدراته، وسيتعلم «كل ما يشكل حياة الحيوان»، لكن، مثلما يضيف، «عندما أحاول نقله إلى قدراتي دائمًا ما تنقصه أعضاء أساسية»، أم، هل يتمكن من نقله كاملًا؟ «أهتم بغذاء القادم الجديد، بهوائه، أغرس له أشجارًا، أزرع له خضرة، لكن تلك هي قدراتي التي أكرهها، والتي إذا ما أدرت عيني، أو استدعوني لحظة في الخارج، لا يتبقى شيء منها عندما أعود، أو كأنها طبقة من الرماد الذي سيكشف عند الضرورة فحسب عن ذرة أخيرة من طحلب شايط … عند الضرورة»،١١٤ وهم يائس، «خيبة أمل دائمة لروح لا يمكن لها أن تغتني ما دام لا وجود حقًّا لشيء خارج نفسها، ولا الدخول في مشاركة، ما دام لا وجود لكيان لا يتلاشى عند اقترابه منه، ولا يكشف عن جزء من نفسه»، مثلما يشير «رولان دي رينيفيل»،١١٥ وأحيانًا على النقيض، وفضلًا عن ذلك لنفس الأسباب، تتخذ الأشباح التي تولدت من ذهنه وتغذت من مادته، مظهر أكثر هواجسه مأساوية: فهي تقدم لنا صور المرض، واللااجتماعية، والرعب … «الرءوس التي لم تعد تتصل بالبطن إلا بالنباتات المتسلقة، إما جافة أو رطبة، التي لا تزال تفكر (البطن) في أن تحادثها، أن تكلمها بشكل حميم، أي بشكل طبيعي دون فكرة مسبقة، وبشفاه من زنك أية رقة ما تزال ممكنة؟»،١١٦ لم يعد المبدع سيد مخلوقاته، فعليه الآن أن يصارع جسدًا لجسد منهك؛ لأنه لم يعد يستطيع إلغاء هذه اليرقات المنبثقة من أعماق لا وعيه، مثل هذا الملك الذي لا تمنعه أكثر الشراسات دوكاسية من أن يجلس بقسوة في ليل الغرفة:
في الليل، ألاحق مليكي، أنهض بالتدريج وألوي عنقه.
يستعيد قواه، أعود إليه، وألوي عنقه مرة أخرى.
أهزه، وأهزه مثل شجرة خوخ عجوز ويرتجف تاجه على رأسه.
ورغم هذا، هو مليكي، أعرف ذلك، ويعرف ذلك، وأنا بالتأكيد في خدمته.
… والآن أطرحه أرضًا، وأجلس على وجهه (…) لن أذهب إلا عندما أمل من الجلوس.
وإذا ما التفت، فإن وجهه الرصين يتولى الحكم دائمًا.١١٧
عندئذٍ، تتحول لغة «ميشو»، من لغة جافة لا شخصية تقريبًا، مثلما كانت في أوصافه لعشائره الخيالية، وتشحن بالغنائية، لتصبح شكلًا حيويًّا تتوافق انتفاضاته وانبساطاته وتموجاته مع ديمومة حيوية هي أيضًا ديمومة الحياة الداخلية للكاتب، فهي مباغتة ومبتورة في لحظات التعب عندما يستسلم المرء، ولن نقول إنها تتقولب على الشعور إلا قليلًا تمامًا: فهي الشعور نفسه متخثرًا في كلمات، ويكتسب هذا النثر، في أقصى لحظات التوتر، إيقاعًا قلقًا، وحيوية تجعلها أكثر تأثيرًا الصياغات المختصرة، والمحاكاة الصوتية للغة الشفاهية، وهكذا في «مشاغلي»:
نادرًا ما أستطيع رؤية أحد دون أن أضربه، هناك آخرون يفضلون المونولوج الداخلي، أنا، لا، أفضِّل الضرب.
هناك أناس يجلسون أمامي في المطعم ولا يقولون شيئًا، يبقون بعض الوقت؛ لأنهم قرروا أن يأكلوا.
وها هو واحد.
أمسك به لك، توك.
أعيد خطفه لك، توك.
أشنقه على المشجب،
أقطِّعه.
أعيد تعليقه.
أعيد تقطيعه.
أضعه على المائدة، أكومه وأخنقه …١١٨
وعلى النقيض، تتباطأ الجمل في لحظات الإحباط، متلعثمة دون أن تكون لها القدرة على الاكتمال، فالبناء من خلال تجاوز الجمل المعزولة محل البنية المنظمة المألوفة: لم يعد للجمل هيكل عظمي، وقد سبق أن أوردت مثالًا على جملة من هذا النوع، مُستمدة من «بين المركز والغياب»،١١٩ وها هو جزء آخر من نص تتخذ فيه «الفراغات»، من خلال طبقات الصمت الذي توحى به، أهمية تساوي أهمية الكلمات نفسها:
آه، تعب، مجهود هذا العالم، تعب كوني، مودة!
لوريللو، لوريللو، أنا خائف … في لحظات الظلمة، في لحظات الخرير.
أنصتي، أقترب من همسات الموت.
لقد أطفأت كل مصابيحي.
أصبح الهواء كله فارغًا، يا لوريللو.
لكن اليدين، يا له من دخان! إذ كنتِ تعرفين … لا حزمات، لا تحميل بعد ذلك أبدًا، لا تستطيعين، لا شيء، أيتها الصغيرة.
تجربة: بؤس، كم هو مجنون حامل الراية!
… وهنا دائمًا المضيق الذي ينبغي تخطيه.١٢٠

وفي لحظات التوتر الغنائي الأكبر، ينحو هذا النثر — الموقع أكثر فأكثر بعصبية — إلى الشعر، وأحيانًا ما ينجح في الانتقال من شكل «النثر» إلى شكل «الأبيات»، أبيات هي أحيانًا صرخات حقيقية:

سأبني لكم مدينة من الخِرق، أنا
سأبني لكم بلا تخطيط ولا أسمنت
بناءً لن تهدموه
يثيره نوع من البداهة
سيدعم وينفخ، من سيأتي لينهق هازئًا بكم،
وفي الأنف المتجمد لأهلكم من البارتينون، وفنونكم العربية، وأهلكم من ميونيخ.
(…) دقة حزن! دقة حزن! دقة حزن عليكم جميعًا، عدم على الأحياء!
نعم أؤمن بالله! وهو بلا شك لا يعرف عن ذلك شيئًا!١٢١
لكن التأثير الذي تحدثه هذه اللغة المدهشة، سواء كانت نثرًا أو شعرًا، لا ينتج أبدًا من تنميق الأسلوب، والحلي الشكلية الخالصة: إنه العنف الصدامي للتعبير، في أغلب الأحيان، وإيقاع الجملة الخاص للغاية — بالذات — هما اللذان يحفزان تأثير الصدمة، ومثل «لوتريامون»، الذي يعجب فيه ﺑ «زميل في العبقرية»،١٢٢ يدرك «ميشو» الشعر لا كفعل تحريري فحسب، وإنما أيضًا كقوة هجومية حقيقية، ويذكرنا عنفه العدواني — أحيانًا كثيرة — بعنف «مالدورور»،١٢٣ فالتهكم، والميل إلى الرعب،١٢٤ والفظاظة المتعمدة أحيانًا هي لدى الكاتبين أشكال لتمرد جارف على «ما هو موجود»، ولكن إذ يستخدم «لوتريامون» لغة مهيبة، ذات عظمة لفظية كبيرة، في أغلب الأحيان، ينتج بطؤها مؤثرات التضاد مع سرعة الفعل، يدفع «ميشو» الجمل، ويطرق الكلمات، ويتقدم في وثبات وبلا انتظام، وينبغي إضافة أن لدى أحدهما، مثلما لدى الآخر، نثارات ولحظات يرتخي فيها التوتر، حيث يترك العنف مكانه إلى الاسترخاء وإلى نوع من النشوة، عندئذٍ تهدأ النغمة وتتحول، ويقترب الشكل الأكثر اتساعًا وزخرفة من شكل معروف جيدًا في قصيدة النثر، وهو الابتهال: الابتهال إلى الرياضيات، في «أناشيد مالدورور»: «أيتها الرياضيات الصارمة، لمَ أنساك …»١٢٥ والابتهال إلى الجبال الجليدية في «الليل يتحرك»:

جبال الجليد، بلا حاجز، بلا حزام، حيث تجيء طيور البجع العجوز المنهكة وأرواح البحارة الموتى حديثًا لتتكئ على الليالي الساحرة المغالية.

جبال الجليد، جبال الجليد، كاتدرائيات بلا دين للشتاء الأبدي، مغلفة في القلنسوة المثلجة لكوكب «أرض» …١٢٦

في هذه اللحظات، نرى شعر «ميشو» يتوجه نحو شكل أكثر سحرية إلى حدٍّ بعيد، قريب للغاية من الآية، ويستعيد التأثير الفتان لتكرار الكلمات: ﻓ «جبال الجليد» المكتوبة عام ١٩٢٤م تنبئ من الآن بهذا اللجوء إلى قوة الكلمات وطاقتها السحرية.

ويبدو أنه خلال هذه الأعوام الأخيرة، بالفعل، ولا سيما من خلال محاولات السحر اللفظي، شرع «ميشو» في «استثارة» الطاقات المعادية للعالم الخارجي، وعالمه الداخلي، أيضًا فالأمر لا يتعلق، في أغلب الأحيان، بهذه الاختراعات اللفظية التي بفضلها يسعى أحيانًا، مثلما فعل «فارج»، إلى منح الوجود لعصبة خيالية بكاملها، وخلق كائنات ذات صفات في نفس غرابة أسمائها، «اﻟ «كارتيف» برأس لها شكل الكمثرى، واﻟ «ميج»، اﻟ «إمو» بصديد في الأذنين، واﻟ «كورتيليان» بمشيتها كرجل خصي،١٢٧ أو اﻟ «شيريبيبود» الذين يتوفر لهم عدة قوائم بلا فائدة تتدلى منهم مثل خرق»،١٢٨ وإنما بالأحرى بالاستخدام المنهجي لهذا «القرع الدقيق للكلمة» الذي سبق رؤيته في «إكوادور»، مصاحبًا ومنغمًا نزهة الشاعر على الجواد في «الأنديز»،١٢٩ لكن «ميشو» — من خلال التكرار المستعاد أبدًا لكلمة ما — يسعى حاليًّا لا إلى خلق حالة افتتان وتنويم مغناطيسي، وإنما — على النقيض — إلى مراكمة الطاقة: «الاستثارة، ورد الفعل بقوة، في هجمة مطرقة، هي قصيدة السجين الحقيقية»، مثلما يكتب في مقدمة «تعازيم» (١٩٤٣م)، من لم يسمع رجلًا غاضبًا يكرر مرةً بعد أخرى نفس الإهانة، بقوة متزايدة؟ ذلك ما يقوله لنا «ميشو» بصدد اللعنات بشكل خاص، من أن «الكلمات هي هنا أسلحة»،١٣٠ وأنه بإسقاط غضب المرء الشديد على الكلمات، يحرره — من ناحية — «إذ لم نعد نشعر بالألم؛ ولأننا انطلقنا من العاطفة، نصبح في الفعل»،١٣١ ونشحن الكلمات، من ناحية أخرى، بكهرباء حقيقية، بقوة سحرية خاصة، والقصيدتان المنشورتان في «كاييه دي لابلياد» تحت عنوان «شعر من أجل المقدرة» لم تعودا نثرًا، ولا أبياتًا منظومة: إنهما تجعلاننا نفكر بالأحرى في نوع الصلوات البربرية، وهي — للحق — صياغات سحرية:
أجذف
أجذف
أجذف ضد حياتك
أجذف أتضاعف في (شكل) مجذافين بلا حصر
كي أجذف بشكل أقوى ضدك.١٣٢
وينبغي الاعتقاد أن هذه النصوص المؤثرة عن قصد قد احتوت فعلًا على شحنة إلكترونية واضحة غير معروفة كثيرًا، إذا ما حكمنا طبقًا للكوارث التي انهالت كشلالات على فريق «رونيه دوران» منذ أن قرر نشرها،١٣٣ ولا شك أننا نخرج هنا من إطار الأدب لنعثر على مفهوم بدائي للغاية للشعر، الشعر — من أجل — المقدرة، لكن أليست كل مؤلفات «ميشو» هي رفض للأدب، ومحاولة من أجل «تغيير العالم» وضمان سيطرة الفكر، بمنح الإنسان قدرات تمكن من التدخل.

السرد الفانتازي والسرد الحلمي

يحلم «ميشو»، كما تبدى لنا، بأكبر قدر من التنوع في الأشكال: من الأقصوصة إلى التحقيق المستعار، من الوصف الموضوعي ظاهريًّا إلى أكثر الاندفاعات الغنائية عنفًا، «فالشعر، سواء كان فورة أو اختراعًا أو موسيقى، هو دائمًا الخفايا التي يمكن أن توجد في أي نوع، والتوسيع المفاجئ ﻟ العالم» مثلما يكتب بالفعل «ميشو»، وعلى الشعر أن يكون، قبل كل شيء، هبة ممنوحة، وليس نتيجة جهد متعمد: ﻓ «الطموح وحده لصنع قصدة يكفي لقتلها».١٣٤
مرة أخرى، نجد أنفسنا أمام هذا الرفض ﻟ «الأدب»، لهذه الرغبة في القطيعة مع الأشكال والأنواع، التي ربما تمثل — منذ «دادا» والسيرياليين، على نحو خاص — أحد التجليات الأساسية للفوضوية في الشعر؛ ولهذا، يمكننا الاعتقاد أن أغلب الكتاب الذين يمثلون، حاليًّا، هذا الاتجاه في قصيدة النثر، سيوقعون على هذا التصريح ﻟ «م. بيالو»:
لا أعرف ما هي قصيدة النثر، يحدث لي أن أخضع لإغراء النشيد وأكتب نظمًا، أو أن أرفض الخضوع له، فينتج من ذلك هذه النصوص القصيرة التي تسمى قصائد نثر، هذه البطاقات بلا أهمية بالنسبة لي، فما يبدو لي أنه يميز الشعر الحديث هو الإيجاز وحده.١٣٥
كل الأنواع قابلة لأن تصبح شعرية، وجميعها يمكنها — تحت شروط إيجاز معينة (مما يلغي، بشكل خاص، الرواية) — بلوغ «قصيدة النثر»: ثمة معاينة حققناها من قبل بصدد «تعددية الأشكال» في نهاية القرن الماضي،١٣٦ لكننا رأينا الشعر في هذه الحقبة يتسلل بشكل خاص إلى النثر، ويقدم أنواعًا جديدة من النثر الشعري بدلًا من أشكال جديدة لقصيدة النثر: اليوم يحدث النقيض إلى حدٍّ ما، أي إن قصيدة النثر (التي لا تريد أن تكون شيئًا آخر) تتمثل تقنيات أنواع مثل السرد أو الحكاية، وتستخدمها لأغراضها الخاصة بها، لتفسدها أحيانًا بغرابة.
ويبدو أن شكل السرد قد فُرض تقريبًا على كتاب قصيدة النثر على نحو خاص، من أجل توليد الشعور بالفانتازي، فانطباع التغريب لا يمكن أن يولد من الغنائية، وإنما — على النقيض — من خلال حدث يسرد بشكل موضوعي، ففي هذا العالم الذي لا يزال عالمنا، لكن الذي لم نعد نتعرف عليه، تنتظم الأحداث بشكل مغاير، وتؤدي إلى نتائج غريبة، وأحيانًا إلى لا نتائج على الإطلاق؛ إذ إن مزية السرد الفانتازي تكمن في أنه — في أغلب الأحيان — عندما يصبح قصيدة، يقودنا إلى لا مكان، ولا يمكننا إعفاء أنفسنا هنا من ذكر «كافكا» الذي لا يمكن إنكار تأثيره لا على كثير من الروائيين الفرنسيين فحسب، وإنما أيضًا على عديد من شعراء النثر: فأكثر أقاصيص «كافكا» إيجازًا، «طبيب من الأرياف» و«أمام القانون» و«رسالة إمبراطورية»١٣٧ يمكن أيضًا تسميتها «قصائد نثر»، والشعر لا يتأتى فيها من مؤثرات شكلية، بل من الغرابة العصية للمناخ الذي يُخلق منذ السطور الأولى، والتوتر غير المحتمل الذي يثيره حصر الحديث في بضع صفحات في آن، حدث مكثف للغاية في مجمله، شبه جنوني، وفي نفس الوقت ساكن بشكل يبعث على الدوار، ما دام لا يصل أبدًا إلى نتيجة: فالطبيب يهيم أبدًا في الطرق منقادًا بفعل جياده فوق الطبيعية،١٣٨ والرسول:
دائمًا يتعجل المرور من خلال شقق القصر المركزي، أبدًا لن يتخطاها، وإذا ما تغلب على هذه العقبات، فلن يتقدم أكثر، ففي مهبط السلالم سيكون عليه أيضًا أن يتعارك، وإذا ما وصل إلى أسفل فلن يكون قد تقدم، فسيتحتم عليه عبور الأفنية، وبعد الأفنية القصر الثاني الذي يحيط بها، ومن جديد سلالم وأفنية، ومن جديد قصر، وهلم جرًّا على مدى قرون القرون …١٣٩
نحن، مثلما يكتب «م. بلانشو» عن صواب، في «نفق لا نستطيع — ما إن ندخله — سوى التقدم، ليس بلا أمل في الخروج منه أبدًا فحسب، وإنما أيضًا بعد أن نكون قد فقدنا كل ما يذكرنا بوجود شيء آخر في العالم غير هذا العالم الذي لا مخرج له».١٤٠
والمُدهش أن نلاحظ إلى أي حدٍّ (جزئيًّا، بلا شك، تحت تأثير «كافكا») أصبح الهدف الذي يبتعد كلما سرنا نحوه، أو — حسب الحالات — (موضوع) الجهد الذي لا ينتهي والمتجدد المستمد من «سيزيف»، أو النفق الذي لا مخرج له، مستغلًّا بشكل خصب في قصائد نثر هذه الأعوام الأخيرة، فسنعقد مقارنة، على سبيل المثال، بين نص «ميشو» الذي يصف فيه مرواحة تتزايد سرعتها ودائمًا عبثية١٤١ — الذي يصف فيه «أ. سيلفير» سلسلة من العقبات تعرقل أبديًّا الوصول إلى قصر ريفي، لن نعرف كيفية الدخول إليه، حتى لو نجحنا في بلوغه؛ إذ «ليس له باب»١٤٢ — وبين قصيدة «بيالو» التي تحمل عنوان «خطاب هام»: خطاب يتوقف عليه مصير الراوي، لكنه لا يتمكن أبدًا من كتابته خلال النهار لأن مشاغله تحتكره، وخلال المساء، لأنه متعب للغاية من جراء يومه، وفي:
صباح اليوم التالي كان كل شيء يبدأ من جديد، كل شيء يبدأ من جديد، هكذا ينقضي الوقت، وحياتي أيضًا كانت تنقضي كيفما اتفق، وكنت أرى تمامًا أنني لن أتمكن من كتابة هذا الخطاب أبدًا، وما الفائدة، من ناحية أخرى، كنت أقول لنفسي أحيانًا؛ إذ يبدو أن المرسل إليه قد مات منذ زمن طويل.١٤٣
وسنقول عن طيب خاطر إن نصوصًا كهذه تمنحنا انطباع الكابوس: فمن منا لم يجرب هذه الكوابيس المنهكة، التي لا تنجح فيها جهودنا المضاعفة إلا في غمرنا في وضع لا مخرج له؟ وينحو هذا النوع من السرد الفانتازي — في أغلب الأحيان، بالفعل — إلى «سرد الحلم» الذي يتميز بالضبط باستحالة الوصول إلى خاتمة (في حين أن السرد — بحكم تعريفه — عليه أن يقود الحكاية إلى خاتمتها)، ثمة هنا، بالتحديد، طريقة في الهروب من الزمن، بالاستقرار في ديمومة لا تنتهي، في دائرة أحداث تُستعاد من جديد دائمًا، وتمنح هذا النوع من السرد طابعًا شعريًّا،١٤٤ فالحلم ينحو إلى أن يصبح أبديًّا، لم يعد ممكنًا إنهاؤه — أي العودة إلى المجال الزمني — إلا بالاستيقاظ.

وقصائد نثر «م. بيالو»، التي تمنحنا في أغلب الأحيان الشعور الكافكاوي بنفق لا مخرج وبمصير مجهول لكنه محتوم، توضح — على نحو لافت للنظر — هذا النوع من الشعر الذي يقع في منتصف الطريق بين السرد الفانتازي والسرد الحلمي، وعناوين الدواوين نفسها — مثل «مذكرات الظلام» أو «تجربة الليل» (وهذا الأخير عمل روائي) — تبين لنا أنها تقع في عالم ليلي غريب رغم أنه يومي، ولنلاحظ — فضلًا عن ذلك — أن «بيالو» يستخدم في أغلب الأحيان لا زمن السرد (الماضي البسيط) وإنما زمن السرد الحلمي المفضل: الماضي الناقص، الذي يدل اسمه وحده على عدم اكتمال الفعل الذي لا يصل أبدًا إلى نهايته: فنص «خطاب هام» السابق ذكره، كُتب كله في الماضي الناقص.

ولا تتوفر أغلب «النصوص السردية» لبيالو على بداية أو نهاية: فالحدث يستمر فيها، لكن بلا نقطة بداية (أو هي تظل في الظلمات)، ولا شيء يسمح بالتنبؤ بحل أوضاع هي — فضلًا عن ذلك — بلا مخرج: هكذا في «حياة سرية» و«المرأة الغيور» و«سيد وحيد على السفينة»،١٤٥ إذ لو كان ثمة مظهر لحل الحبكة، فلن يؤدي إلا إلى أن يجعل الوضع أكثر إبهامًا (في «زواج»، يلاحظ الراوي أنه — في اللحظة التي يكون على وشك النطق بكلمة نعم الرابطة بالزواج — أنه متزوج من قبل، ويخلص: «وفي النهاية، عدنا أنا وزوجتيَّ الاثنتين إلى البيت الذي كانت تحيط به دائرة غريبة من قبل»)،١٤٦ فلم تعد القصيدة غير القمة الساطعة لمدار نجهل بدايته ونهايته: فهي تشكل — معزولة، وخارج الزمن — كلًّا، لكنه مفتوح، ثري بكل الاحتمالات، ونتذكر هذه «الوصفة» الشعرية التي اخترعها «مالارميه»: «ينبغي دائمًا أن نحذف بداية ونهاية ما يكتب، لا بداية ولا خاتمة»١٤٧
هذا الزمن، الذي يقع خارج الزمن، هو زمن الحلم كما قلنا، وكما في الأحلام أيضًا، يحل الغريب في قصائد «بياليت» في قلب اليومي، فثمة قوة تحولية تغير المظاهر، والأشكال، والنفوذ: فذات صباح جميل (تغير) ملامح الراوي «من شكلها»،١٤٨ أو يصف لنا كل مساوئ «أن تكون كلبًا»،١٤٩ وإحدى قصائد ديوان «الإناء الزجاجي» المثيرة للدهشة تنجح في أن تجعلنا نشعر بتحول الراوي إلى سمكة من خلال الصور المستخدمة نفسها («أحاطتني بمداعبة الأنهار»، «واتخذت الجدران التي تحيط بي لمعان الكريستال»،)١٥٠ فموضوع الواقع المتحول — الأجمل أحيانًا كأنه مشع («الأمسية» و«عربة الخيل»،)١٥١ والمتدهور أحيانًا على النقيض كأنه مشوه بالوميض الجهنمي للفظاظات والبشاعات («عجوز مجنونة» و«المتشردون البشعون»)١٥٢ — يسري، فضلًا عن ذلك، عبر قصائد «بيالو»، ويساهم في مظهرها الحلمي: أحلام عذبة أو كوابيس شرسة، ورغم هذا، فخيال «بيالو» أكثر مرضية وجنائزية عن قصد، وفكرة العالم الآخر تلاحقه، بشكل خاص، فكرة حياة ما بعد الموت، وهذا الوجود الآخر، الليلي هو أيضًا، لا يقل كابوسية عن الحلم، ومثل الأحياء، لا يستطيع الموتى التفاهم، والتلاقي، إنهم معزولون بنفس كثافات الصمت والاستحالة («باقة زهر اللؤلؤ» و«في موعد الغرقى»:)١٥٣ «بيني وبينها كانت هناك أمكنة من الظلمات والصمت»، مثلما يخلص العشيق في «في موعد الغرقى»، وحتى محاولات «إعادة تناسخ» الموتى تبوء بالفشل («الموت»).١٥٤
هذا العالم الغريب اللاعقلاني والمتسق رغم هذا، الذي يمتلئ بالأشباح والمحن التي لا تنتهي أبدًا، والذي رسم مساره لنا من قبل «لوتريامون» و«كافكا» و«ميشو»، «هذا العالم (…) أصبح بالتدرج واحدًا من أكثر غزوات شعر الوقت الحاضر أصالة»، حسبما يكتب «ج. روسيلو»،١٥٥ ونلاحظ بالفعل، عندما نجوب — على سبيل المثال — مختارات «قصائد النثر» المكتوبة خلال هذه السنوات الأخيرة أن كثيرًا من الكتاب الشبان يضعون نثرهم في هذا العالم في منتصف الطريق بين الحلم والواقع، في مناخ حلمي وفانتازي في آن: وعناوين دواوينهم وحدها تثبت ذلك، «مسرح منتصف الليل»،١٥٦ «اكتشاف الليل»،١٥٧ «النص المجهول»،١٥٨ «الليل يسهر»،١٥٩ «مصباح الصمت»١٦٠ … وتنحو «القصائد» الأقل تنميقًا إلى أن تكون «سرديات أحلام» خالصة وبسيطة، مثل تلك التي طال انتظارها من السيرياليين في بدايات الحركة، لكن الشعراء يتذكرون بشكل عام تمييز «إيلوار»: «لا نعتبر سرد الحلم قصيدة، كلاهما واقع حي، لكن الأول ذكرى تستهلك فورًا وتتحول، وهو مغامرة، فيما الثاني لا يفقد شيئًا، ولا يتغير». فالقصيدة تتيح للإنسان الرؤية بشكل مغاير، ورؤية أشياء أخرى، «فرؤيته القديمة ميتة، أو خاطئة، إنه يكتشف عالمًا جديدًا، ويصبح إنسانًا جديدًا»،١٦١ ﻓ «تقنية» قصيدة الحلم ليست طريقة فحسب (سرعان ما ستنقلب إلى شيء مبتذل)، إنها أيضًا — وهي في ذلك استمرار للسيريالية — أداة تحرير وتوسيع للذهن.
وينبغي منح مكانة خاصة، ضمن هذه القصائد «الحلمية»، إلى ما يمكن تسميتها قصائد «رمزية»، تلك التي تستفيد من القوة الشعرية الكامنة في الرمزية الغامضة للأحلام، مستفيدة من أبحاث «فرويد»، الذي لم يبحث من جانبه إلا عن حل شفرات لا وعي مرضاه من خلال هذه الرموز، وأفضل مثال سيقدم هنا لنا هو أكثر حكايات «ب. ج. جوف» إيجازًا في «حكايات دامية»، وهي حكايات — مثلما يقول هو نفسه — محفورة «في قاع أحلامنا»،١٦٢ وفي «المقدمة» التي يستدعي فيها «كريستوفر كولومبس» القارة الداخلية: «سيجموند فرويد»، يذكر «جوف» ما هو أساس شعره كله: إنهما القوتان الأساسيتان لدى الإنسان، «حاسة الموت»، أي الرغبة في هدم الحياة، و«حاسة الحياة أو الجنس»،١٦٣ وغالبية هذه «الحكايات» — مثلما يقول المؤلف — «تقدم حالات طفل، مثلما تبدو في استمراريتها من خلال الرجل، مضطربة أو مشحونة بالحنين إلى ذكريات الفردوس»،١٦٤ وكان بمقدورنا، على ضوء التحليل النفسي، تفسير رمزية الشباك التي تنبثق — على سبيل المثال — في حديقة «الممرات»:
لكن كل هذه الشباك! وبهذه القوة، وشباك عالية ومؤثرة تمامًا! كم هو غريب ومثير للشجن أن تتنامى كل هذه الشباك في ثلاثين عامًا في حديقة «الممرات».١٦٥
أو التي تدافع عن مدخل «القصر»،١٦٦ لكنني أعتقد أن المثير للاهتمام — على نحو خاص هنا — هو الإشارة إلى أن القوة الشعرية لهذه النصوص تكمن بالأساس في الانطباع الذي تمنحه لنا بامتلاك خلفية، والاحتفاظ بسر يتصل لا بالحقائق العميقة للروح الإنسانية فحسب، وإنما بأعماق روح الراوي، فالغرابات والعجائبيات الأكثر مجانية ظاهريًّا يتم أيضًا تبريرها بالعلاقة الضرورية، التي تربطها بالتجربة العميقة للكاتب، وهو ما يلخصه «م. بلانشو» على النحو التالي: «بقدر ما يصبح مؤلف ما خياليًّا، دون أن يتلاعب بالمغزى القابل للإدراك، بقدر ما سيكون على هذا المؤلف أن يقترب من التجربة الحيوية لمن كتبه»،١٦٧ فعندما يكتب «نودييه» «الساحرة ذات الفتات»، وعندما يكتب «بو» «ليجيا» أو «بيرنيس»؛ وإذ يعتقدان أنهما يؤلفان أعمالًا من الخيال الخالص، فإنهما لا يتحدثان — في واقع الأمر — إلا عن نفسيهما وهاجسهما الجوهري، والأمر هكذا تقريبًا بالنسبة لجوف، فنحن نشعر بوطأة الخطيئة على مؤلفه، تلك الخطيئة الأصلية، المرتبطة بالحنين إلى الفردوس المفقود،١٦٨ وحكاية «القصر» الأصلية، تزاوج — بأكثر الطرق إزعاجًا — بين الموضوع المزدوج السابق ذكره (موت–جنس) وموضوعات الخطيئة والتحريم، وينبغي ملاحظة أن «القصص» — التي تتوفر على قوة وكثافة القصيدة — مكتوبة بصيغة المتكلم، مثل «القصر» أو «الممرات» (في أعمال أخرى، مثلما في «الأحمر»، حيث الراوي امرأة، تظل الرمزية على السطح، ويجرف التحليل النفسي الشعر).
وأخيرًا، علينا أن نضيف أن «الحكاية» الموجزة التي يتسم أسلوبها بالتطور، ولغتها بالتركيز — قياسًا على الحكايات الطويلة (من قبيل حكايات «نودييه» أو «بو») — إنما تحتفظ بقدرة أكبر بكثير على الإيحاء والغموض، باختصار، بقوة شعرية أكبر، شرط ألا يصرفنا فيها أي طموح للجمال الشكلي أو «الأدبي» عما هو جوهري، وبعض «حكايات دامية» يشكل نصوصًا سردية بشكل حقيقي والأخرى، مثل «القصر»، هي أشكال وسيطة بين «سرد الحلم» وقصيدة النثر («وأخيرًا استيقظت، بعد أن شعرت أنني نجوت»، مثلما نقرأ في السطر الأخير)، وأخيرًا بالنسبة ﻟ «الممرات»، يفرض اسم قصيدة النثر نفسه عليها، بفعل إيجاز النص (لا يكاد يزيد عن صفحتين)، لا بفعل طابعها السكوني واللازمني بالتالي: إنه بالأحرى وصف لا سرد، و«الخلاصة» التي سبق أن ذكرها لا تخلص إلى شيء، ولا تفسر شيئًا (ما الذي تؤكد عليه هذه «الشباك الثقيلة المزخرفة»، إن لم يكن ضرورة رمزية؟) وبدلًا من إغلاق القصيدة، تتركها مفتوحة على آفاق غريبة، و«ب. ج. جوف»، الذي يذهب بالنثر، في بعض قصائد الآيات من ديوان «لسان»، إلى حدود الأبيات بأن يشحنها بالغنائية، يستخدم النثر الخالص هنا ليبني قصائد أصيلة، مُثقلة بالتجليات عن عالمنا الداخلي مثلما عن عالمه الخاص.١٦٩

(١-٤) الدعابة

يمكننا ملاحظة أننا نفقد في الحلم كل شعور بالدعاية، وهو ما سيكون بالفعل تعريفًا للدعابة باعتبارها نزوعًا إلى نفاذ البصيرة وتسامي أرواحنا، وإذا ما كانت الدعابة، حسب تعبير «بريتون» (الذي استعاده «ل. ب. كينت») «تمردًا ساميًا للروح» على عبثية الأشياء،١٧٠ وتأكيدًا (مثلما يقول «فرويد» أيضًا) على حصانة الأنا، التي «ترفض أن تُترك للتآكل، وأن تفرض عليها الوقائع الخارجية المعاناة»،١٧١ فلا يمكن أن تكون سوى حقيقة روح يقظة تمامًا، ورغم هذا، فإن سرد الحلم، ذاته، يمكنه أن ينطوي على دعابة، عندما يقوم الراوي، المتيقظ الآن والرافض أن يبقى مخدوعًا بحلمه، بترك موقفه السلبي ويستخرج الجانب الفكه أو العبثية التافهة للمشاهد التي عاشها، فهناك على سبيل المثال، دعابة تهكمية إلى حدٍّ ما في السرد الذي قدمه «بيالو» عن مباراة كابوسية بأوراق اللعب يجري اللعب فيها «بقصاصات بسيطة من الكارتون لا شيء تحتها»، وتنتهي إلى العبث مثلما بدأت (نتذكر فقرة كهذه في «أليس في بلاد العجائب»)، «ثم نهضنا جميعًا بين ضوضاء المقاعد المقلوبة، مما كان يعني، لارتياحي الكبير، أن المباراة، بداهةً ستنتهي»،١٧٢ مثلما يخلص الراوي، وعندما يتم السرد بضمير الغائب، يصبح من الأسهل أيضًا وضع مسافة بين الحلم والراوي (قارن تحول «إرنست» إلى حصان في «المملوك الروسي» — من «حكايات دامية» — وهو يتقدم بشهامة وسط هتاف الجمهور، الذي «أبرز الانفعال عروقه»،)١٧٣ ورغم هذا، لا تظهر الدعابة مع سرد الحلم (أو القصيدة الحلمية) نفس الروابط المقامة مع السرد الفانتازي، سواء كان أقصوصة أو قصيدة، فمع القصيدة، ثمة جزء مربوط بها، إن جاز القول، وذلك منذ بدايات النوع (قارن ﺑ «هوفمان»).
هذا الاتحاد المتواتر للغاية بين الدعابة والفانتازيا قد يبدو غريبًا: فكيف يمكن لنفاذ البصيرة هذا، وهذا «الحضور للروح»، أن يتعايشا مع عالم فانتازي، أي عبثي، دون هدمه؟ ألن تتمكن الدعابة، باستعادة حقوق الفكر الواعي، من منعنا من دخول اللعبة؟ والواقع أنه ينبغي أن نرى جيدًا أن الفانتازي والدعابة لا يهدمان بعضهما بعضًا، بل يتواصلان من أجل تحرير الإنسان من سطوة العالم الذي يعيش فيه، ليتيحا له تجاوزه والحكم عليه، وبينما يصف لنا الكاتب الساخر عبثيات العالم كما هو (بأن يدخل فيه «بلشونًا» أو «ميكروميجا» كي يبديا دهشتهما منه)، فإن كاتب الدعابة يصف لنا بكثير من الطبيية عالمًا عبثيًّا، عالمًا بلا وجود، هو «جاربانيا الكبرى» أو العالم «الإضافي» لجاري، فالضحكة، هنا، تولد من الإحالة التي نُدعى ضمنيًّا إلى عقدها بين هذا العالم الخيالي وعالمنا، وهي ضحكة هدامة، فيمكننا في الحلم — بجدية تامة — أن نلعب بأوراق اللعب المكونة من قطع الكارتون الأبيض، لكننا عند الاستيقاظ لن يصل ضحكنا إلى هذا الحد من الغرابة الذي يصل إليه حلمنا، إلا بقدر ما في جدية لاعبي الورق من غرابة، فعندما يحكي لنا «ميشو» عن أهل «هاك»:
في هذا اليوم، أغرقوا رئيس الوزراء وثلاثة وزراء، كان الرعاة غاضبين، وقد دفعتهم مجاعة شتاء بكامله إلى نفاد الصبر، وخشيت للحظة أن يأتوا لنهب حيِّنا الأكثر ثراءً، «لا، لا، قيل لي. لا تخشوا هذا الموضوع، فهذا هو المشهد رقم ٩٠ كما هو واضح بملحقاته الطبيعية، رقم ٨٢ و٨٤ …»١٧٤
أو عندما يدعونا إلى أن نضع نساءنا، يوم «العرس»، «في بئر كي يبتللن طوال الليل»،١٧٥ نشعر جيدًا أن فتوره لا يصبح دعابة إلا بسبب التقارب الذي نجبر على إقامته بين هذه العادات الغريبة وعادات مجتمعنا «المتحضرة»، وإذا ما كان كاتب مثل «ميشو» يبرهن بشكل متكرر على وجود الدعابة في قصائده، فذلك بالتحديد لأنها — بالنسبة له، مثلما يلاحظ «بيرتيليه» — وسيلة تدخل ممتازة: ﻓ «من خلال الدعابة يحقق الإنسان حريته فيها»،١٧٦ فالدعابة هي مظهر هذه الفوضى الهدامة التي تقوض — من الأساس — الواقع المعطى لتحرير الفرد بشكل أفضل والمطالبة بتسامي الفكر على ما يحيط به؛ ولأنها شكل عدواني بالتحديد، فيمكن لهذا النوع من الدعابة السوداء أن يرقى إلى الشعر، لدى «ميشو» و«جاري»١٧٧ و«لوتريامون».١٧٨
وينبغي التأكيد هنا، مرة أخرى، على أن الدعابة — التي تتنافر إلى حدٍّ ما مع النظم الكلاسيكي١٧٩ — تحتل، على العكس، مكانها على الوجه الأكمل في قصيدة النثر؛ ولذلك أسباب داخلية سبق ذكرها بصدد جمالية النوع،١٨٠ ونظرًا لطابعها الهدام، واللامتثالي، وغير الاجتماعي، لا تلائم الدعابة على الإطلاق نظم الشعر الكلاسيكي، المبني على النظام والتناغم، وعلى الشعور بالتوافق بين الإنسان وعالمه، وعلى النقيض، يتقبل النثر ويستخدم بنجاح روح العنف والتحرر التي تجلبها له الدعابة: وبشكل خاص في قصائد النثر من النمط «الفوضوي»، حيث يمنحها التكثيف الأقصى لذعة إضافية أيضًا: وقد رأينا أمثلةً لذلك لدى «برتران»، الذي ينقسم ليرى نفسه وهو يناور في عالمه الفانتازي، ولدى «بودلير» (في «لنقتل الفقراء» و«بائع الزجاج الرديء»)، حيث تصبح الدعابة شكلًا من الروحية العدوانية، ولدى «لوتريامون»، الذي يستخدمها كمجال اختصاص أساسي ﻟ «الآلة الجهنمية» التي يملكها، ولدى «جاري»، الذي كان عليه — في النهاية — أن يصنع من وجوده قصيدة دعابة لا امتثالية، ولدى السيرياليين — القريبين منا — الذي رأوا في الدعابة «الموضوعية» وسيلةً للتحرر من ضغوط العقلانية،١٨١ ولدى «ل. ب. فارج» و«ماك أورلان»، وفي وقتنا الراهن، يعتبر «ميشو» أفضل ممثل لدعابة الفانتازيا التي تحاكي تعاقبات الوقائع أو الأفكار التي نقابلها عادة في نصوص السرد، من أجل توحيدها بشكل أفضل، إن منطق العبث، و«تمرد الأساليب على الغايات»،١٨٢ و«التدخلات» لإقامة الشطط عن عمد في قلب الواقعي،١٨٣ هي من الأساليب التي يستخدمها عن قصد كثيرًا، لكننا نستطيع أن نذكر، على حدود القصيدة والسرد الفانتازي أو العجيب، نثريات عديدة معاصرة، مشدودة نحو القصيدة بقدر ما تمتلك من «شحنة» دعابة (مثلما نقول شحنة كهربائية): نثر يحمل توقيع «أ. فريدريك»١٨٤ و«ر. مالييه»١٨٥ و«ر. دي أوبالديا»،١٨٦ ضمن آخرين.
لكن هناك شكلًا آخر للدعابة، أكثر نقاءً بمعنى ما؛ لأنه أكثر مجانية وأكثر انفصالًا عن نوع «السرد»، لكنه سرعان ما يثير الضجر رغم هذا؛ لأنه يحطم — ما إن يتكون — كل تسلسل للوقائع (ألم يؤدِّ هذا التسلسل إلى لا شيء)، وكل تتابع منطقي للأفكار (هذا المنطق ألم يكن منطق العبث)، ففي الهزل، وفي التداعيات المفاجئة للألفاظ، وفي الشعوذة المرحة مع الكلمات، والصياغات والصور، يعثر هذا الشكل من الدعابة على قوته الهدامة، الشعرية أيضًا أحيانًا، ويمكن للتمرد على اللغة، الذي تحدثت عنه من قبل، أن يتخذ شكلًا دعائيًّا: وسنجد بعض الأمثلة في اختراعات «فارج» و«ميشو» اللغوية، ولا ينبغي رغم هذا أن نخلط بين التمرد المأساوي لواحد من قبيل «أرتو» و«سيزير»، وهزليات واحد من قبيل «ل. ب. فارج»: فنحن — لديه — إزاء لعبة، دعابة أكثر «سوادًا، لكنها مبرقشة بكل أنواع الإبداع.١٨٧
وفي هذا التلاعب ﺑ «الكلمات في حرية»، الذي لم تعرفه القرون السابقة، كان «ماكس جاكوب» هو المؤسس، وبعده، مثلما رأينا، يستعيد «كوكتو» فكرة تداعيات الألفاظ والصور، ويكرس هو أيضًا اللقى اللفظية، وهذا النوع من شعر الألعاب النارية مهجور إلى حدٍّ ما، في وقتنا الراهن، ورغم هذا، فقد نجد عددًا ما من قصائد «الدعابة اللفظية» في ديوان «مؤلف ذهبي» لمارسيل سوفاج، أحد أصدقاء «ماكس جاكوب» ومن المعجبين به، «قصيدة نثر: منتهية بطريقة باردة وموجزة لا غنائية ولا جلجلة، في ضربات مفاجئة عليها أن تتسع لما بعد الهوامش والصياغات»، إنه التعريف الذي يذكره «سوفاج» ونجد فيه أفكارًا أثيرة على «جاكوب»: الإيجاز، وغياب الغنائية، والخطابية، ومؤثر الصدمة،١٨٨ وها هي — على سبيل المثال — بداية قصيدة تذكرنا بشدة بتلاعب «جاكوب» بالكلمات:
الدجاجة ذات العينين الذهبيتين
كل شيء طيب لها: الدودة في الماء والماء في الكوب، قاع الكوب، وخضرة القاع.
في أرض المرارة المسورة حيث يدق السندان تحت المطرقة هو مشهد طبيعي مع دجاجة.١٨٩
وبداية «مناجاة إلى الموازين»، ألا تحتوي مثلما يحدث لدى «جاكوب» و«كوكتو» — على تداعيات للألفاظ والصور في آن (من الانقلابات المفاجئة للجدول saute-ruisseau إلى نطة الخراف saute-mouton، ومن الخراف إلى الأمواج المزبدة)؟
الانقلابات المفاجئة للجدول تلعب نطة خراف الصدفة.
للصدفة ظهر جميل — صوف وتراب وزبد الأمواج — إنها تسوق خرافًا تجول بها الريح في الحركة الدائمة.١٩٠
ولن نندهش من رؤية أسماء حقيقية أو خيالية تختلط وتتصادم، محتشدة من أجل متعتنا اللفظية في قصيدة تذكرنا، هذه المرة، ببعض نصوص «ميشو»، «بوئيون وبوئياتون أو بايوناسيون بعيون زرقاء، أبرنكايتون، ومدريليون، وماندوليون، وتريكور وبيترو كوريون من الأراضي البائرة المبللة (…) وذلك من أجل صنع عالم جميل لدى أسلافنا الغاليين ذوي الشوارب الضخمة»،١٩١ نشعر أننا ننزلق، مثلما يقول «سوفاج»، من الحديث ا لمختال إلى الهزل بسبب أو بدون (سبب) على الحواف المرهفة للكلمات»،١٩٢ ونجد أنفسنا وقد رجعنا إلى نظريات السيريالية عن حياة الكلمات وطاقاتها الكامنة عند قراءتها في نص من الجزء الأخير من «مؤلف ذهبي» (وهو نوع من «فن الشعر» الخاص بالمؤلف):
كانت الكلمات تعمل، والحروف أكثر أيضًا داخل الكلمات، وتحررت مقاطع لفظية لتهذي وتجرب التحامات جديدة وتنال بالصدفة طاقة مجهولة.١٩٣
ويبنغي أن نضيف أيضًا أن هذه القصائد «على طريقة ماكس جاكوب» ليست الأغلبية في «مؤلف ذهبي»، وسنُكوِّن فكرةً خاطئة تمامًا عن الديوان إن لم يستوقفنا سواها، فلسنا — في أغلب الأحيان — إزاء لعبة لفظية، وإنما إزاء قصائد «منحوتة مباشرة من الحياة»،١٩٤ غنائية رغمًا عنها، وحيث الدعابة نفسها ليست إلا الوجه الآخر من مسعى قلق وتجارب ممزقة موضوعها الناس والحياة والطبيعة والله، وسيكون من الخطأ ألا نرى، على سبيل المثال، سوى الهزل في هذا التراكم للأمكنة المشتركة والعبارات الجاهزة، حيث غياب التكوين و«الأدب» يجعل الإرهاق أكثر تأثيرًا:
تحطمت خطوط الواقع على مستوى الإنسان، مرمِّم الخزف ينتحب في زاوية الشارع، الشوارع مسدودة، لم يعد للمرمم نار في كوته، والريح التي تهب في عرض البحر حوله تئن تحت أبواب العربات، إنها الريح تبحث عن الريح السوط الذي يستشيط غضبًا والمنجل الكبير الذي لا نراه، هذا لا شيء، إنه الإسراع الضال الحياة المهجورة الفم المقفل الباب الضيق المائدة المعدَّة وأدوات مائدة الغائبين.١٩٥
وهل ينبغي القول إن القصيدة التالية (وأوردها كاملةً) هي قصيدة مُضحكة:

الاهتمام بالحياة

تلقيت اعترافات زهرة، والزهرة أدينت، رغمًا عني، أدينت بألا تكون سوى قليل من السلطة.
أخذت موعدًا في مرآة، وعندما ظهرت كأنت المرآة محطمة.
محطمة إلى شظايا من عشرين سنتيمًا، من قطع معدنية مزيفة وعملة من النحاس.
في غرف باردة ماتت عصافيري، والأخير، عندما كان يغني … أين كان هذا؟ لقد نسيت بالفعل، على الضوضاء أن تكفينا الآن.
قليلٌ من زبد الضوء على الورق المصقول يخدعنا ويرضينا، لقد أظلم العالم منذ أن راحوا يصورونه.١٩٦
ويستعيد شعر «مارسيل سوفاج» فكرة «جاكوب» عن إمكانية استخدام كل شيء باعتباره «عنصرًا شعريًّا»: ذكريات القراءة، لغة العامة في المحادثة، ما يحدث على الجانب الآخر من الإكوادور، الانطلاقات المفاجئة، نغمة الحلم، النتائج غير المتوقعة، تداعيات الكلمات والأفكار …»١٩٧ لكن، إذا ما كان لجاكوب فضل تحرير قصيدة النثر من عدد معين من التقاليد، والوعي بضرورات معينة للنوع في آن، فإنه قليلًا ما كان ينجح في تحريك شعورنا:١٩٨ محاكاة ساخرة مفرطة، كثير من سقط المتاع، ألاعيب بهلوانية مفرطة ومجانية إلى حد بعيد في النهاية، وإذا ما كان «مارسيل سوفاج» يستخدم الشكل «إلى حدٍّ بعيد (المبتذل عند الضرورة)، والنزعة الاختصارية، والإيجاز الصدامي للصياغات، وصدمة الكلمات والصور، فهو يستخدمها كي يجعلنا على تواصل مع تجربته الحميمة، وسيمكننا مثال أخير من الإحساس بذلك أفضل من التعليقات المطولة:

بعض الرجال الذين يتحدثون بصوت خفيض يقولون إنهم التقوا بالحرية، لا نعرف أين، يؤكدون أنه في مصادفات الحياة كان كل واحد يأكل خبز بؤسه في الماضي مغموسًا في الدموع، كان ذلك أقل قسوة.

في وقتنا الراهن لم يعد للبؤس دموع، فالحياة أدارت ظهرها للحياة، والعيون جافة، والخبز جاف، لقد أثمر تاج الشوك.١٩٩
كيف لا نرى في هذا الشعر إذن مغزاه ودلالته على الصعيد الإنساني، وأنه، رغم النزعة الإيجازية، والخشونة المتعمدة، والدعابة العدوانية أحيانًا، والصور الباروكية المظهر أحيانًا،٢٠٠ فهو الشعر بلا قيثارة، ولا زخرف، لكنه — رغم هذا — غنائي؟

(٢) شعر الواقع

هكذا يصل شعر «مارسيل سوفاج» — المنطلق من دعابة لفظية على نحو خاص، ومن اللجوء القصدي إلى العبث٢٠١ — إلى غنائية تجد فيها الواقعية، الرائعة أو المعذبة، مكانًا لها: وبشكل خاص في الجزء المسمى «طبيعة» من «مؤلف ذهبي»، حيث تقدم بعض القصائد رأيًا مسبقًا عن الواقعية، وحيث تذكرنا قصائد أخرى بريفيردي، فيما يتعلق بالريح، والطريق والأشجار،٢٠٢ ففي الشعر الفوضوي، لا تتدخل الطبيعة، بل تصبح عندئذٍ طبيعة فوضوية وفانتازية، تحفزها حياة مثيرة للقلق، غير طبيعية،٢٠٣ وبما أن الشعر الفوضوي (والمنتمي إلى الفوضوية) يمثل محاولةً لهدم العالم الحقيقي ليُحل محله عالمًا آخر (غير خاضع تمامًا للسيطرة ويمتلئ بالخيانة في القصيدة الفانتازية، ساطعًا ومشعًّا في «الإشراقة»)، فالواضح أن القوانين التي ستحكم هذا العالم الجديد ستكون مختلفة جذريًّا: لا المكان، ولا الزمان، ولا الحب، ولا الحقد سيكون هم أنفسهم فيه، وسنرى فيه الزهور تجأر، والحيوانات تتكلم، وكل عوالم الطبيعة تتبادل فيه الأشكال والخصائص.
لكننا رأينا — في القطب الآخر من قصيدة النثر — لا التمرد، بل التوافق بين الإنسان وعالمه، وبدلًا من الفوضوية الهدامة، الرغبة في الانسجام، والحق أن شروط الشعر قد تغيرت منذ مائة عام، والقصيدة الشكلية المكونة من «فقرات» أو مقاطع منتظمة، بمؤثرات التماثل واللازمة الغنائية وتكرار العبارات، إنما هي شكل ساكن بإفراط و«فني» بصورة زائدة بالنسبة لحقبتنا ذات الاضطرابات والتفجيرات الجذرية، وعندما نقرأ اليوم، فيما يتعلق بقصائد النثر الحديثة، أن «ثمة أشكالًا شبه منتظمة»، وأن «بعض هذه القصائد تعطي الانطباع بأنها سوناتات نثر»،٢٠٤ يتملكنا الانطباع بوجود تفاوت ما، ونشعر بتراجع في الزمن إلى الحقبة التي قال فيها «هنري دي رينييه» نفس الكلام عن «أغاني بيليتيس»،٢٠٥ ورغم هذا، وإذا ما كان القليل من الشعراء يكتبون اليوم سونات منتظمة، فهو ما لا يستبعد — لدى البعض — العودة إلى مفهوم القصيدة، أي الشكل المنظم والمبني، فالأساليب وحدها هي المختلفة.

وما دامت هذه الرغبة في النظام، والتنظيم، والصرامة، تسير مع قبول بالواقع، بل حتى — في أحيان كثيرة — مع تمجيده، فسيكون من الأفضل إذن أن نواجه شعراء الشعر الفوضوي والهدام ﺑ «شعراء الواقع»، وأبادر بالقول إن هذا المصطلح المبهم ملائم، بالضبط لأنه عام إلى حدٍّ بعيد بما يسمح بتجميع شعراء مختلفين بدرجة كبيرة مثل «رونيه شار» و«بونج» و«سان–جون بيرس»، الذين لا يوجد بينهم أي معيار مشترك سوى توافقهم وتضامنهم مع الحقيقي، وشعورهم المتفائل في الأساس الذي يستخلصه القارئ، لكن الواقع له ألف وجه (هناك واقع إنساني، وواقع مادي، وواقع تاريخي …)، وكل شاعر يتفاعل معه حسب طبيعته العميقة الخاصة به، ونحن نقترح شعرًا يتوفر هو أيضًا على واقعه الخاص به، وبذلك، سأكتفي بالإشارة إلى الأشكال التي تبلور الواقع، في النثر، لدى بعض من شعراء حقبتنا الكبار.

ريفيردي وتأثيره

ليس من العبث أن نذكر أولًا بأن «ريفيردي» — الذي تحدثت عنه في الفصل السابق، في سياق الحديث عن «غنائية الواقع»،٢٠٦ والذي كان يشبه القصائد منذ عام ١٩٢٧م ﺑ «بللورات وضعت بعد الاتصال الجياش للروح مع الواقع»٢٠٧ — لا يزال يواصل الكتابة، وجمع في «يد عاملة» القصائد التي كتبت من عام ١٩١٣م إلى عام ١٩٤٩م، فشعر «ريفيردي» واحد إلى حدٍّ بعيد مما مكنني من دراسة القصائد التي كتبت خلال ثلاثين عامًا ككتلة واحدة، لكن ينبغي الإشارة إلى أن هذا الشعر لم يكف عن التأثير في العمق، «فعلاقته بالأدب الراهن أوثق، وأكثر حيوية من شعر فارج، وكوكتو، وماكس جاكوب (…) فريفيردي يبدو لنا، أكثر فأكثر، كشاعر وأيضًا كباحثٍ جمالي، أستاذًا …»،٢٠٨ مثلما كتب «ج. بيكون» عام ١٩٤٩م، فمن خلال نظريته عن الصورة، ورغبته في «الانغماس إلى أبعد ما يمكن وبأقصى الأشكال الممكنة للمغامرة»، في هاويات الكائن الداخلي٢٠٩ استحق «ريفيردي» بالفعل أن يعتبره السيرياليون أستاذًا لهم، واليوم أيضًا، نشعر بتأثيره في الكثير من القصائد التي تحدثنا عن عزلة الإنسان والقلق الأليم إزاء الواقع، ذلك ما يتبدى في «خمس قصائد نثر» ﻟ «ج. دي لابرادا»، التي تمثل قصائد عن الغياب والعزلة، لتذكرنا أحيانًا بريفيردي بنبراتها عن القلق الأليم الغامض، وبطريقتها في تقديم سرد لا يحدث فيه شيء، لكن حيث تنوء العزلة بوطأتها بلا أمل: «من بار في مقهى، يعبر، وهو يراقب الوجوه، بلا قدرة على العودة إلى غرفته في الفندق، وبلا شجاعة على الاقتراب من كائن؛ لأنه أن لا وجود لأحد هنا حقًّا …»٢١٠ وبالمثل، ففي قصيدة «ميشيل مانول» هذه، يبدو تأثير «ريفيردي» واضحًا، مثلما يقول «ج. روسيللو».٢١١

نظرة أخرى

كل شيء مُسمَّر على هذه البلاطة الغائرة، على امتداد هذه الحوائط السوداء، حيث حككتُ جبهتي، في الظلام المبعثر، في هذا الصخب من الدم الذي يغطي تقهقري.
أنا وحيد وأصرخ فوق بؤسي، عبر الحلقة المقيدة بالتعاطف، على الطريق الصارم حيث أنهار، بعد أن أغلقتُ أبواب البحر.٢١٢
ومن خلال غنائية رثائية معينة، نجد هنا اتجاه «ريفيردي» إلى استخدام عناصر الطبيعة الخارجية كإشارات، ومعادلات للواقع الداخلي،٢١٣ لكن الأمر يتعلق بواقع «معين» تترجمه المشاهد الطبيعية المتحجرة، والمساحات المهجورة، والريف الصامت حيث يلقي بوطأته نوع من التساؤل القلق الأليم. إن شعر «ريفيردي»، ومن تبعه، رغم تجذره العميق في الواقع، يقودنا دائمًا «نحو المجهول، نحو العمق»،٢١٤ ولن يكون من المبالغة القول إننا نكاد نشعر فيه، دائمًا تقريبًا، بشعور مأساوي بالحياة والمصير الإنساني، وبذلك، فهو يقدم لنا واقعًا مختلفًا عن الواقع الذي يتجسد في قصائد «شار» و«بونج» و«سان–جون بيرس».

رونيه شار والواقع

إذا أمكننا القول إن «ريفيردي» قد أعطى، إلى حدٍّ ما، دروسًا للسيرياليين، فيمكن القول أيضًا إن «شار» على النقيض (وهو الذي ساهم عام ١٩٣٠م في «رالنتير ترافو»،٢١٥ ونشر في نفس العام قصيدة نثر، «أرتين»، السيريالية بشكل واضح) قد تلقى وحفظ درس السيريالية في الأساس: الشعر نظام للمعرفة متناقض وأرقى من المعرفة المدعاة «علمية»، فهو «فعل إعادة اكتشاف وإعادة خلق عالم الحقائق»،٢١٦ لكن صيغة «شار» — الذي يمثل الشعر بالنسبة له «معرفة منتجة للواقع»٢١٧ — أقل إبهامًا، وتوضح بشكل أفضل الوظيفة الشعرية الحقيقية، التي لا تمثل فحسب اكتشافًا، وكشفًا متحققًا، وإنما إبداع.
ولا ينبغي أن ننسى، فضلًا عن ذلك، أن السيريالية قد اقترحت أيضًا كلًّا من الحلم والواقع باعتبارهما «حقائق»،٢١٨ وأن رغبتها في منح المكانة الأولى للحلم واللاوعي قادتها إلى اقتراح سلوك سلبي بشكل أساسي على الشاعر، وقصيدة «أرتين» السيريالية، هي متتالية من الرؤى الحلمية، ونوع من «فن الشعر» السيريالي في آن:
حالة الفتور التي سبقت «أرتين» جلبت العناصر التي لا غنى عنها لعرض انطباعات مدهشة على شاشة الأطلال الطافية، والألحفة المشتعلة في الهاوية التي لا حد لها للظلمات دائمة الحركة.٢١٩
لكن كلمات «أرتين» الأخيرة تشير إلى الرغبة في العودة إلى الواقع: «ولأن شار قد اختار الواقع — الكلمة الأخيرة للقصيدة — «قتل الشاعر نموذجه»، أي «تخلى عن كل ما من خلاله يمكن للحلم وللاوعي ولغير الواقعي أن يصبح عالمًا يدعي الاكتفاء بذاته ويستغني عن الحقيقي»، مثلما يكتب «ج. مونان» في دراسته الهامة،٢٢٠ فالشاعر لا يستطيع الاستغناء تمامًا لا عن الخيال ولا عن الواقع، وعليه، مثلما يقول «شار»، «أن يمسك بكفتي الميزان متعادلتين بين العالم الفيزيقي للسهر وسهولة النعاس الرهيبة»،٢٢١ وفضلًا عن ذلك، فإن مجانية الصور، وإلغاء الاختيار والعمل الواعي، ربطت الشعراء بمنحدر ذي سهولة مرعبة، فمنذ عام ١٩٣٠م، خُلق نمط سيريالي، وأصبحوا يصنعون «قصائد» بمعونة اللاعقلانية والصور المتطرفة، هذا الاستغلال الواسع للثروات السيريالية هو الذي سيشكو منه «شار» عندما سيدعو — في «قسمة شكلية»٢٢٢ — «مُدخري النوم» إلى تطوير «غرابتهم الشرعية» وإلى رد «الحلي» الحقيقية أو الزائفة التي أمدتهم بها سرقاتهم الليلية.
أما بالنسبة لشار، فسرعان ما أدرك أن القصيدة — كي تصبح بدورها واقعًا يتوافق مع الواقع الداخلي للشاعر — تتطلب جهودًا أخرى: فاسم شاعر معين لن تكون له أية دلالة إن كان الشعر كنزًا متاحًا دائمًا، في متناول أي شخص، فالشاعر يصنع نفسه في صناعته للقصيدة، ومثلما يؤكد «م. بلانشو»، «لا يعني الإلهام سوى أولية القصيدة بالنسبة للشاعر (…) فالشاعر لا وجود له إلا بعد القصيدة، والإلهام ليس هبة سر أو كلمة منحت لشخص موجود بالفعل، فهو هبة الوجود لشخص لا وجود له بعد»،٢٢٣ وعندما يكتب «شار»:

جرأة أن تكون ذاتك — في لحظة ما — هي الشكل المكتمل للقصيدة.

رفاهية استشفاف تلألؤ المادة– الشعور المتوجة في الحال.٢٢٤

فالواضح أن كل جهده بالتالي لا بد أن ينحو إلى أن تصبح هذه القصيدة الكامنة واقعًا، وأن يمنحها الشكل الذي تطالب به.

هذا الشكل سيتنوع، كل مرة، حسب الضرورات الداخلية للقصيدة خلال فترة الكتابة، وينفر «رونيه شار» من القوالب المعدة سلفًا مثلما ينفر من التعبيرت الجاهزة، ويصرح بأن الشاعر «عليه ألا يخشى استخدام كل المفاتيح المسرعة في يده»،٢٢٥ وقصيدة «صحبة التلميذة» مكونة من ثمانية مقاطع لفظية منتظمة مجمعة في مقاطع شعرية من ثمانية أبيات:٢٢٦ وقصيدة «حضور عام» (ضمن قصائد أخرى) تبدأ ببيت الشعر الحر القصير للغاية إلى البيت الحر الطويل للغاية،٢٢٧ و«كلهم رفاق سرير» مكتوبة في آيات،٢٢٨ وفي «تبعية»، يختفي بيت الشعر في هيئة النثر،٢٢٩ وأخيرًا، فإن قصائد النثر (القصيرة للغاية في أغلب الأحيان) كثيرة جدًّا، ومن الصعب — فضلًا عن ذلك — أن نجزم بما إذا كانت هذه القصيدة مكتوبة شعرًا أو نثرًا، مثل «عصفور الصفارية» على سبيل المثال:
دخل عصفور الصفارية عاصمة الفجر
وأغلق سيف غنائه السرير الحزين
وكل شيء انتهى للأبد.٢٣٠
أو إذا كانت حكمة كهذه (شكل الحكمة من أشكال التنبؤ لدى «شار») لا تستحق، في واقع الأمر، أن تُسمى قصيدة:
يا فتيات الأرض الجميلات، ينابيع الهناء، اللاتي نضاجعهن، اللاتي نتأثر بهن، اللاتي نلجهن، اللاتي نفككهن حتى الاختصار، لماذا لا تزلن تنادين من بعيد، أيتها الأطلال المعطرة؟٢٣١

ولنلاحظ للوهلة الأولى، على أية حال، أننا مع نثر «شار» نبتعد عمدًا عن السرد، عدا استثناءات (لكن عندما يتدخل السرد في «تنويم مغناطيسي» على سبيل المثال، لا يعود الأمر يتعلق بقصيدة نثر، وإنما بنثر حقًّا)، ليس هناك تلاحق، وتتابع، مثلما لدى «ريفيردي» على سبيل المثال، حيث تشكل عناصر القصيدة أحداث منتقاة حسب قيمتها الرمزية، فشعر «شار» محاول من أجل تخليد اللحظة، وحسب صيغته الجميلة:

إذا سكنا برقًا، فهو قلب الأبدي.٢٣٢
هذا الشعر ساطع مثل شعر «رامبو»، وقاسٍ في نفس الوقت ومعدني مثل شعر «مالارميه»، إذا جاز القول، وينبغي الحديث هنا عن هرقليطية «شار» وعن الطريقة التي يتمكن بها شعره من حل المتناقضات،٢٣٣ مثبتًا ومضة الشعور، «المادة–الشعور المتوجة في الحال»، لنصنع منها شيئًا أبديًّا، ونجعل هذا الشعور متجددًا بلا نهاية، وموحدًا «طابع الأشياء الصلبة غير المنقوص، وسريان الصيرورة، وكثافة الحضور والوميض الذي يطلقه الغياب»،٢٣٤ مثلما يقول «بلانشو».

وجانبٌ كبير من قصائد نثر «شار» مكتوبة في المضارع، إنه الزمن المفضل لشعره، فهكذا تبدأ قصيدة «مارت» الجميلة:

«مارت» التي لا تستطيع هذه الجدران القديمة أن تتملكها، نبع يتجلى فيه سلطاني المنفرد، كيف يمكنني أن أنساكم أبدًا ما دام ليس لي أن أتذكركم: إنكم الحاضر الذي يتراكم.٢٣٥
وعلى النقيض، يندر استخدام الماضي البسيط، زمن السرد، وكثيرًا ما ننتقل من الماضي المستمر (المعاد بناؤه والموصوف في اكتماله) إلى المضارع، لكن ما هو أكثر جدارة بالملاحظة أن كثيرًا من القصائد مكتوبة في المستقبل والأمر، أو تستخدم صيغة نصف الفعل Le subjonctif للأمر أو التمني، وهو ما يقودنا إلى ملاحظة جديدة، هي أن شعر «رونيه شار» ليس فحسب وصفًا، وتجميدًا لبعد من الزمن المنساب، وإنما هو أيضًا فعل، ليس تخليدًا فحسب لما هو موجود، وإنما خلق أيضًا لما لم يوجد بعد، أداة للمقدرة، فنهاية «إجازة للريح»٢٣٦ — ونهاية «مارت» و«سمك القرش والنورس»٢٣٧ — مكتوبة في زمن المستقبل أو الأمر، وطبيعي أن هذه الصياغات تجد مكانها بشكل خاص في القصائد المكتوبة خلال فترة المقاومة: نعلم أن «شار» كان قائدًا لرجال المقاومة في «بروفونس»، ونجد انعكاس سنوات النضال هذه في الصفحات الواثقة وذات الملمح الرجولي في «قصيدة مدمرة» و«وحدهم يبقون»، وعلى سبيل المثال في «نشيد الرفض»،٢٣٨ وتكشف بعض هذه القصائد، بطبيعة الحال أيضًا، حركة إيقاعية وإحساسًا بالمناجاة الكبرى، وبلاغة لا يلهمها أي سعي أدبي، وإنما حيوية لا تُقاوم فحسب: «أيتها المرأة يا من تتوافقين مع كلام الشاعر (…) أيتها المرأة يا من تنامين في لقاح الزهور، ضعي على كبريائه نداك الفضي من وسيط بلا حدود، حتى يظل إلى ساعة شجيرة العظام الميتة الرجل الذي، كي يعبدك بشكل أفضل، كان يدفع فيك بلا نهاية نوبة صباح ميلاده، وضربة ألمه، وأفق انتصاره».٢٣٩
وكثيرًا ما تم التأكيد على النبرة الرجولية لهذا الشعر، حيث «كل شيء يتآمر كي يجعلنا نستشف الأسطورة الخماسية لرجل منتصب» مثلما يقول: ج. بيكون»:٢٤٠
سلام على من يمشي بثقة إلى جواري، في نهاية القصيدة، سيعبر في الغد واقفًا تحت الريح.
مثلما يكتب «شار»،٢٤١ فالشعر — بالنسبة له — هو صيرورة الإنسان: «في كل انهيار للبراهين، يجيب الشاعر برشفة من المستقبل»، مثلما يصرح في «قسمة شكلية» التي تمثل — إن صح التعبير — «فن الشعر الخاص به»،٢٤٢ وفي «قصيدة مدمرة» يُعرف الشعر على النحو التالي: «الشعر هو الحياة المقبلة داخل الإنسان المعاد تأهيله»،٢٤٣ هكذا يؤسس «شار» شعره على تمجيد الإمكانيات الإنسانية، وعلى الإيمان بمستقبل أفضل: «نحن من طراز عظمة بلا مثيل»، مثلما قال عام ١٩٣٣م في «قصائد مناضلة».
هذه الرجولة، وهذا العنفوان المؤثر يمنحان قصائد نثر «شار» نبرةً شخصية للغاية: شعر أقل عاطفية، وأكثر «حركية» من شعر «إيلوار»، رغم أننا نجد فيه أيضًا قصائد حب جميلة للغاية ومشاعر أخوة إنسانية مشابهة له، شعر يبدو مُشمسًا بشكل أساسي،٢٤٤ إزاء شعر ليلي في أغلب الأحوال لواحد من قبيل «ريفيردي».
هذا الشعر الساطع كثيف للغاية، مكثف وصلب مثل الماس، وما سبق أن قلته عن بلاغته لا ينبغي أن يجعلنا نعتقد في احتمال أن يكون لفظيًّا: هنا أيضًا تتحد المتناقضات، ويوفق شعر «شار» بين الاندفاعات الغنائية وتبلور الشكل، وعلى نقيض الشعر السيريالي، لا ينحو شعر «شار» إلى الآلية، إلى التدفق اللفظي، بل — على النقيض — إلى صرامة الشكل، الذي لا يكف عن الانضباط كي يحافظ بأقل الكلمات الممكنة على أكبر طاقة كامنة، وتبهرنا الصور على نحو خاص بدقتها الساطعة وإيجازها المدهش في آن: «صوَّان الظهيرة الصامت»،٢٤٥ الريح «التي تجوب عامًا في ليلة»،٢٤٦ الشاعر «حامل الطمي المشتعل»،٢٤٧ ويمكن لكلٍّ من هذه التعبيرات أن يكون موضوع تعليق تفسيري كبير غير مجدٍ تمامًا؛ وذلك لأن الشعر يستخدم بالتحديد كي يبث فينا الانفعال الذي لا يستطيع النثر التحليلي أن ينقله لنا،٢٤٨ لكنه سيثبت لنا عدم مجانية أي من هذه الصور، فصور «أرتين» و«المطرقة بلا معلم»٢٤٩ لم تكن تقدم هذا الطابع من الضرورة، ورغم هذا يشير أندريه بريتون عام ١٩٣٢م إلى أن «التبلور» الذي لا يكف شار عن الحصول عليه من فكره يمنح كل سطر من «أرتين» و«فعل العدالة انطفأ» شفافية وصلابة قصيدتين خاصتين به وتحفظانه من كل مبتذل سيريالي آخر …»٢٥٠ وإذا ما كان ثمة غموض في هذه الصور، فسيرجع ذلك — مثلما في قصائد «مالارميه» — إلى كثافتها، لا — مثلما في النصوص السيريالية — بفعل الارتخاء في آليات اللغة.
ولا يمكن إطلاقًا القول إن شعر نثر «شار» أقل إحكامًا أو أكثر سيولة من شعره المنظوم، فهو — على النقيض — يتخذ أحيانًا شكلًا نحتيًّا يتركنا مشدوهين أمام نبوءة عراف، وحتى في القصائد التي تتكون من عدة جمل لا ترتبط هذه الجمل الواحدة بالأخرى، فكل واحدة تبدو منبثقة من الصمت مثل حكم معزول، وينبغي إعاة تشكيل الروابط التحتية التي توحدها من جديد، وقد قام «ج. مونان» بالتعليق على قصيدة «تقويم»٢٥١ الصعبة والمستغلقة للوهلة الأولى:

لقد ربطت اعتقاداتي الواحد بالآخر وضخمت حضورك، منحت مجرى جديدًا لأيامي بإسنادها إلى هذه القوة الشاسعة، وصرفت العنف الذي كان يحد من صعودي، أخذت بلا صخب معصم اعتدال الربيع، لم يعد العراف يُخضعني، أدخل: أشعر أو لا بالنعمة …

والقارئ الذي لا يعرف أي شيء عن شعر «شار» سيجد هذه القصيدة مستغلقة بلا شك، والواقع أنه يتطلب «فهمًا  compréhension» شعريًّابالمعنى المادي للكلمة — إذا ما أردنا الشعور بالإمساك بكلية هذه المتتالية من التصريحات التي تشكل أساس تجربة «شار» الشعرية، المرتبطة بعمق بما نعرفه عن موضوعاته الجوهرية: رفض الخضوع للاوعي (العراف)، والحضور المتزايد للشعر الحقيقي «القوة الشاسعة»، والشعور بثبات الزمن، الذي يجد نقطة توازنه («اعتدال الربيع»)، والقبول ﺑ «صعود» الشاعر … هكذا، تجد كل قصيدة من قصائد «شار» نفسها في موقع تقاطع لشبكة من الاستعارات والتلميحات يُفسر ويثُري بعضها بعضًا (وكي نأخذ مثالًا آخر، لا يمكننا «اختراق» قصيدة «زمن القصب»٢٥٢ إن لم نعد إلى النصوص الأخرى، حيث يستدعي «شار» المستنقعات الفولكلورية من مسقط رأسه «بروفونس»، «أرض جرونيد للقصب هذه»،٢٥٣ وحيث يعرض «الشعر الذي يسير عاريًا على قديمه المجبولتين من قصب، على قدميه المجبولتين من حصى»،٢٥٤ فعالم الشاعر الداخلي يبدو لنا إذن عالمًا متسقًا، حيث تترسخ أصداء وتقاربات على المستويات المختلفة للتجربة الشعرية، مثلما يبدو لنا أيضًا عالم «رامبو»، أو عالم «إيلوار»، أو عالم «ريفيردي»، كي لا نذكر سوى بعض الشعراء الذين يسمونهم غامضين، فعالم «شار»، المغمور بالمكان والضوء،٢٥٥ هو عالم متوهج، حيث يلتقط كل شيء في جوهره الصلب وفي تحوله في آنٍ بفعل النار الشعرية التي تحرقه، فيما تطهره، لتكشف صورة «هرقليطية» مثل «عصفور المعادن الأحمر»٢٥٦ تحول المعدن الثقيل الذي يصبح الشرارة الغنائية التي يحدثها، فشعره هو شعر الواقع المجيد.

بونج والرأي المسبق للأشياء

عند الانتقال من شار إلى «بونج»، يتملكنا الشعور الغريب بالوطأة، وبأننا أسرى المادة ومتورطون في قلب الجوهر من خلال شاعر يقترح لكل امرئ «رحلة في كثافة الأشياء»،٢٥٧ فلنقرأ هذا التعريف ﻟ «الماء»:
أكثر انخفاضًا مني، دائمًا أكثر انخفاضًا مني يوجد الماء، أنظر إليه وعيناي دائمًا منكستان، مثل الأرض، مثل جزء من الأرض، مثل تعديل للأرض.
أبيضٌ ولامع، بلا شكل وندي، سلبي ومستمر في رذيلته الوحيدة: الثقل، متمتعًا بوسائل استثنائية لإشباع هذه الرذيلة: محيطًا، مخترقًا، قارضًا، نافذًا.٢٥٨
ها نحن بعيدون عن «النهر المشع» لشار، وعن كل المياه الشفافة، الهاربة، اللامعة، التي تنساب في الشعر من «فرجيل» إلى «م. د. جيران» و«كلوديل» … لكن ها هو ما هو أفضل، أو أسوأ: المطر:
لكل واحد من أشكاله مظهر خاص: ثمة إجابة لها صوت خاص، والكل يعيش بكثافة مثل آلية معقدة، محددة بقدر ما هي خطرة، مثل ساعة حائط زنبركها هو ثقل كتلة من بخار في حالة اندفاع.٢٥٩
وصف، مثلما يقول «م. ساييه» (العنيف تجاه «بونج» إلى حدٍّ بعيد)، يحيلنا بالتناوب «إلى دليل «رويه»، وإلى صحيفة «روستيكا»، وإلى الكتب الموجزة المبسطة في الفيزياء والكيمياء»،٢٦٠ ويمكننا القول، على أية حال، إن مسألة الاختيار بين الشعر والنثر لم تطرح نفسها على «بونج»: فهذا البطء الثقيل، وهذه النثرية المتعمدة، وهذا النوع من التعليمية المثابرة، لا نرى إطلاقًا كيف يمكن للشعر المنظومة أن يتقبلها، ﻓ «شعر» بونج لا يقصد إبهار آذاننا، ولا إعجاب خيالنا، فهو يسخر من الإنسان ومن «صفاته المثيرة للشفقة»،٢٦١ وهو لا يدعونا إلى أي هروب نحو بلاد الحلم، وإنما إلى تأمل الواقع اليومي فحسب:
إزاء كل رغبة في الهرب، هناك معارضتها بالتأمل ووسائله، السفر عبثي: التحول إلى الأشياء التي تغمرك بانطباعات جديدة، وتقترح عليك مليون صفة غير معهودة.٢٦٢
التحول إلى الأشياء: لا إلقاء نظرة إنسان وشاعر على الأشياء، بشحنها بالرموز، وبتحويلها، وإنما «الدخول» بشكل حقيقي في هذه الأشياء، والكمون في أقصى خصوصياتها، للتعبير عن كل منها في جوهره الأساسي، في خصائصها النوعية، فبونج لا يريد أن يصف مظهر الماء، ولا سيما مظهر هذا الماء (هذه البحيرة أو هذا الجدول)، ولا هو يصف هذه الحصاة الملساء، وإنما الحصاة الملساء: «إنه غير منشغل ﺑالصفات وإنما بالوجود»، مثلما أوضح «ج. ب. سارتر» في دراسته الهامة التي خصصها له،٢٦٣ إنه — على نحو إجمالي — جوهر الأشياء الذي يريد إدراكه، ورغم أن «ظاهرية» بونج (حسب كلام «سارتر») مختلفة تمامًا، ما دامت مادية، عن «المثالية» المالارمية، فإننا نرى — رغم هذا — أن هناك ما هو مشترك في مسعييهما: هذه الرغبة في الالتصاق بالشيء في ذاته (قارن ﺑ «الوردة»، «الغائبة من كل الباقات»)، في حقيقته الجوهرية، لا في مظهره العابر.
وبالنسبة لبونج — كما بالنسبة لمالارميه أيضًا، وإن يكن على نحو خاص بالنسبة لكل شعراء ما بعد الحبر (حرب ١٩١٨م) — تحتل مشكلة اللغة مكانة أولية: ولن نشك في ذلك عندما نقرأ الملاحظات التي جُمعت في «مقدمات»: فبونج، الذي يكتب منذ عام ١٩١٩م، رغم أنه لم يُعرف إلا عام ١٩٤٢م مع عمله الرئيسي «الرأي المسبق للأشياء»، يُنتقد على استخدامه للكلمات، شأن الدادائيين والسيرياليين؛ لأنها مستهلكة، وأضعفها الاستخدام الطويل، ومجردة بشكل مفرط، ومنفصلة عن الأشياء التي تدل عليها في آن: كلمات جاهزة، بلا لون، خالية من كل قوة إيحائية، وهو يتساءل، وتلك هي، فضلًا عن ذلك، مشكلة كل شاعر بامتياز: كيف نمنحها قدرتها؟ كيف نقيم بين عالم الحقائق وعالم الكلمات تيار تبادلات تصبح فيه الأشياء كلمات والكلمات أشياء؟٢٦٤ بالنسبة لبعض شعراء النثر، تظل مشكلة التعبير ثانوية؛ لأن اهتمامهم بالتأثير على الشكل أقل من اهتمامهم بالمضمون، فيمكن استخدام تعبيرات عادية، عندما نصف عالمًا فانتازيًّا، أو عندما نسرد حلمًا، لكن بالنسبة للكاتب الذي يتمسك بما هو كائن، والذي يقترح لا هدم العالم المادي لصالح عالم اللغة، وإنما وضعنا في حالة اتصال حميم مع الأشياء من خلال اللغة،٢٦٥ فلا توجد مشكلة أخرى سوى مشكلة التعبير.٢٦٦

إن الوسائل التي يتمتع بها الكاتب ثلاثية، وسنرى «بونج» وهو يؤثر في البدء على الكلمات نفسها، المادة الأولية للغة، ثم على بنية الجملة (ما دام يرفض؛ لأنه يكتب نثرًا، إمكانية خلق كلمة «كلية» و«جديدة» مع الشعر، مثل «مالارميه»)، وأخيرًا في المرتبة الثانية، على البنية الكلية للقصيدة.

ولا يتعلق الأمر، على وجه الإطلاق، مثلما بالنسبة لبعض الشعراء الفوضويين، باستخدام الكلمات خارج معناها، أو اختراع مفردات جديدة:٢٦٧ يريد «بونج» أن يهزم اللغة بمنابع اللغة نفسها، وللبدء، سيأخذ كلمة لا في معناها المستخدم، الذي أصبح عاريًا ومسطحًا، لكن في ثراء كينونته، مثل عضو حي ومعقد: هو الذي يسمي دواوينه «تمارين إعادة تريبة كلامية»،٢٦٨ ويدعي أن الأدب يتيح «إعادة صنع العالم، بكل معاني كلمة إعادة صنع، بفضل الطابع المادي والمجرد، الداخلي والخارجي في آن ﻟ «الكلمة»، بفضل كثافتها الدلالية»،٢٦٩ وكلمة كثافة هذه تعجبه لأنها توحي ﺑ «ثورة أو تقليب مماثل لما يفعله المحراث أو الجاروف، عندما تظهر فجأة، ولأول مرة، ملايين من القطع الصغيرة، والشذرات، والجذور، والدود، وحيوانات صغيرة، كانت مطمورة حتى ذلك الحين»، ويصرخ «بونج»: «أيتها المنابع التي لا تنضب لكثافة الأشياء، المعبر عنها بالمنابع التي لا تنضب للكثافة المرتبطة بعلم دلالة الكلمات»!٢٧٠ والواقع أنه يستخدم هذه الكثافة الدلالية، أي من خلال المعاني المتراكبة، سواء بفعل أصل الكلمة أو بفعل الاستخدام، التي تمنحها ألوان قوس قزح وتثريها بالمفاهيم المختلفة للشيء الذي يتحدث عنه: البراعم «تظهر بحذر مخدرة، ومضرجة بالحمرة» (وهو ما ينبغي إدراكه بالمعنى الأخلاقي والفيزيقي في آن)،٢٧١ و«المجلد البحري» الذي «تتصفحه» الريح يسمى ضخمًا (بالمعنى المزدوج لكلمة volume،٢٧٢ والإرباك، عندما نتحدث عن الحصاة، يربط المعنى المجازي بالمعنى الأصلي للكلمة،٢٧٣ وعندما يقال لنا إن البحر يجتر ressasser الصخور، في نفس الوقت الذي نفهم الاستعارة (ressasser يجتر، أي ينخل الدقيق، الذي سيخرج في حالة التراب الناعم، مثل الصخور التي تتحول في النهاية إلى رمل)، نسمع صوت البحر هذا، الذي يتكرر بلا كلل،٢٧٤ وإذا ما كان اللجوء إلى المعنى الاشتقاقي للكلمة أقل تكرارًا مما لدى «مالارميه»، فإن التلاعب بالألفاظ، المؤسس على المعنى المزدوج للكلمة، يرقى إلى مستوى الأسلوب الشعري، ويبني «بونج» قصيدة بكاملها حول المعنى المزدوج لكلمة mûres «فاكهة الأغصان» و(كصفة) «مشتقة من النضج»،٢٧٥ نجد هنا الفكرة السيريالية عن وجود حياة كامنة في الكلمات، طاقة خلاقة؛٢٧٦ ولهذا، فإن «التوريات» التي يستنكرها «م. ساييه»،٢٧٧ «في منتصف الطريق من القفص إلى الزنزانة تملك اللغة الفرنسية «سلة من قصب»،٢٧٨ «على نقيض خَبَث الفحم النباتي الذي هو ضيف الرماد الساخن، تحب الحلزونات الأرض الرطبة، هيا، إنها تتقدم ملتصقات بها بكل أجسادها»،٢٧٩ إذا كانت قيمتها الشعرية، محل شك! فهي ليست كلامًا فارغًا سخيفًا، لكنها جهد فكري يبحث عن اكتشاف تقارب خفي بين الشيء واسمه، عن توافق سري؛ لأن الاسم هو الشء نفسه الذي أصبح كلمة،٢٨٠ هكذا سيقول «بونج» عن الميموزا: «ولمعرفة الشجيرة واسم الميموزا، يصبح من الصعب العثور على شيء أفضل لتعريف الشيء من هذا الاسم نفسه»،٢٨١ ويستسلم لجهد غريب من أجل اكتشاف التوافقات بين مدرس الرياضة والحروف التي تشكل اسمه،٢٨٢ وهذا العمل في التسمية غير كافٍ، فضلًا عن ذلك، للإيحاء بالأشياء، وأيضًا لم يعد الاسم يناظر الشيء على وجه الإطلاق (وهو ما لاحظه «مالارميه») بتنوع اللغات التي تعددت منذ بابل: ﻓ «jour = نهار» اسم «مظلم» في حين أن إضاءات «nuit = ليل» منيرة، وهو قصور موفق يعزز دور وضرورة الأدب: فالكلمات المجتمعة في جملة يمكنها أن يزيد بعضها بعضًا، ثراءً وتنوعًا، وتعكس بالتبادل ألقها، أو تفجر من صدمتها شرارة التناقضات، وهو ما يحدث عندما يتحدث «بونج» عن عالم من السخافات والسذاجات»،٢٨٣ وعن «سعار قريب من الذهول»،٢٨٤ أو أن يقول عن الفراشة إنها «تتسكع في الحديقة»،٢٨٥ وهو تعبير «غير مدهش — مثلما يشير «سارتر» — إلا إذا ربطنا فكرة التجول على طول موجات مكانية، وجعلناها متضمنة في كلمة vagabondage (تسكع)، بما فيها على النقيض من تسوير وتدقيق بعناية كاملة في كلمة حديقة».٢٨٦
والواقع إننا — رغم هذا — لن نجد لدى «بونج» مثلما لدى «مالارميه» أو «رونيه شار»، هذه التعبيرات المكثفة والمبهمة والثرية للغاية إلى حد التنقيب بلا نهاية عن معانيها، لينتهي الأمر بحقائق متعارضة، كل منها فوق الأخرى، إلى أن تلغي نفسها بالتبادل، مشكلة حقيقة روحية جديدة أسمى، فلدى «بونج» لسنا — على النقيض — بصدد جدلية المتناقضات ولا تحويل الواقع من خلال الفكر، وإنما إزاء خضوع للواقع، للشيء: «على القصيدة ألا تقترح أبدًا فكرة علينا، وإنما شيئًا، أي إن الفكرة لا بد أن تتخذ شكل الشيء»،٢٨٧ فقصيدة «يونج» تقدم لنا شيئًا من الواقع «المعاد صنعه» بسلطان الكلام (شيئًا واحدًا كل مرة)،٢٨٨ وفي هذه القصيدة، تتخثر الكلمات، على نحو ما، لتشكل تراكم شكل وامتدادًا متنوعًا حسب الشيء الذي تقدمه، مثلما يتغير شكل قوقعة الرخويات حسب الأنواع،٢٨٩ فالجهد الذي يقوم به «بونج» ليقلد — إذا جاز القول — الشيء الذي يصفه، يقوده إلى تنويع مظهر وبنية جمله بلا نهاية، فقطعة اللحم؛ لأنها «مصنع» وخزان طاقة، تتطلب شكلًا صلبًا، وديناميكيًّا:
كل قطعة لحم نوع من المصنع، مطاحن ومعاصر للدم.
فتحات أنابيب، أفران عالية، براميل تتجاور فيه مع المطارق الآلية، وسائد من دهن.
البخار يندفع منها وهو يغلي، ونيران معتمة أو مضيئة يحمر لونها.٢٩٠
ويتوارى الجمبري بالمقابل في تعرجات الكلام المعمَّى:
ثمة عدة مميزات أو ظروف تجعل من أحد الأشياء أكثرها تحفظًا في العالم، وربما طريدة تأمل أشرس من حيوان صغير لا يهم بلا شك تسميته بقدر ما يهم استدعاؤه بحذر، وتركه يدلف في حركته الخاصة به في مجرى الكلام المعمى، والوصول في النهاية من خلال الكلام إلى النقطة الجدلية حيث يضعه شكله ووسطه، وظرفه الصامت وممارسة مهنته الدقيقة.٢٩١
وبتشبث حقًّا، وصلابة مدهشة، يستدعي «بونج» الحصى الأملس،٢٩٢ من خلال جمل موصولة بعناء، باستدلالات مندمجة ستتطلب استشهادًا مطولًا بشكل مفرط، بينما «مدرس الألعاب الرياضية» (الذي يجعل منه «بونج» شيئًا، «ممثل نوع حيواني»، مثلما يشير «سارتر»)٢٩٣ يتم وصفه بأجزاء من جمل موزونة، بل مسجوعة، تقدم نفس المظهر الراقص للاعب الرياضي، متأرجحًا على امتداد حبله:
إنه يكتسح كل القلوب، لكنه يلتزم بأن يكون عفيفًا وسبابه هو كفى!
أكثر وردية من الطبيعة، وأقل براعة من قرد يقفز إلى جهاز الرياضة مأخوذًا بحمية خاصة …٢٩٤
إن الرغبة في قولبة الجملة على الشيء تقود «بونج» أحيانًا إلى القطيعة مع تركيب الجملة التقليدي، وإلى إعادة توزيع الكلمات في نسق يحترم بشكل أفضل واقع الأشياء (هنا أيضًا نتذكر «مالارميه»،)٢٩٥ وهكذا، عندما يريد استدعاء القفزات الهاربة، وانتقالات الجمبري في كل الاتجاهات: «من خلال قفزات نشطة، متقطعة، متتالية، متراجعة تليها عودات بطيئة، يلاحظ علامات صغيرة تهتز بطريقة خاصة من مكان إلى آخر على امتداد بصره …»٢٩٦ أو من خلال العكس، فيرحِّل اسم المفعول إلى نهاية الجملة، كي يقدمه لنا معزولًا، مقتطعًا، يدافع عنه المفعول به مثلما تدافع عن زهرة الدغل أغصانها الشوكية:
هكذا إذن، قال لنفسه، تنجح في حالات كثيرة الجهود المثابرة لزهرة رقيقة للغاية، وإن يكن بفعل تشابك عسير للأشواك يدافع عنها.٢٩٧
فحركة القصيدة، مثلما لاحظ «سارتر»، لا تنتشر من جملة إلى أخرى، مثلما يحدث عادة: وذلك — بالتحديد — لأن «بونج» لا يريد الإيحاء بحركة مستمرة، وصيرورة، وإنما بشيء في وجوده وفي جوهره، وتأتي الحركة المولدة في أغلب الأحيان ﻟ «تتلاطم بعنف وتتوقف فجأة عند مصدر النقطة»،٢٩٨ والجملة الأخير من «فراشة» — التي يذكرها «سارتر» كمثال — تُذكر كثيرًا ببعض «خلاصات» رونار، الموجزة كأنها تجمدت فجأة:
شراع للأجواء صغير للغاية تسيء معاملته الريح في تويجة حشوية، إنه يتسكع في الحديقة.٢٩٩
تكمن هنا نتيجتان: قبل كل شيء، صلابة المظهر المتحجر الذي تتخذه الجملة في أغلب الأحيان، فحتى وهي طويلة، لا تعطينا الإحساس بالتموج، والفوران الذي نشعر به — على سبيل المثال — مع «بودلير»، فإزاء أمواج «بودلير»، تستدعي جمل «بونج» تسميات معدنية، في كومات، وبللورات … وهي في هذا تتوافق مع انجذاب «بونج» العميق نحو الصلب والمحسوس: «تغمره حصاة بشكل أعمق من النهر، شيء أكثر من أية حركة، وإذا ما جرؤنا على القول، هيكل عظمي أكثر من أي جسد حي»، مثلما يقول «ج. بيكون» عن حق تمامًا،٣٠٠ وسبق أن رأيناه يقدم الماء «مثل تعديل للأرض»،٣٠١ وبالمثل، ليست شعلة الشمعة — بالنسبة له — هذا العنصر العابر، الدقيق للغاية، الذي نسميه النار، لكنها «ورقة ذهبية» مثبتة «في تجويف عمود صغير من المرمر بساق سوداء تمامًا»٣٠٢ والنبات، يقدمه لنفسه عن قصد باعتباره «تطريزًا»، و«نسيج» قماش «ينتمي إلى العالم مثل إحدى قواعده»:٣٠٣ مشروع غريب من أجل تعدين العالم يؤدي به إلى تصوير ما هو أكثر حيوية في الإنسان، الكلام، باعتباره «إفرازًا»،٣٠٤ والقصيدة كشيء، وإلى التلذذ بالحلم بعهد يختفي فيه الإنسان، دون أن يترك وراءه سوى هذه الشواهد على وجوده التي تحولت إلى عظام، ونُصُب وأعمال فنية، مثلما تبقى القواقع على قيد الحياة بعد الرخويات …٣٠٥ والنتيجة الثانية، التي تتعلق هذه المرة بتكوين القصيدة، هي الصلابة، وانعزال كل جملة، بما يجعل القصيدة تنبني بفعل التجاور، وتخضع لجمالية المتقطع، فهي لا تتكون مثل لحن غنائي، بل مثل قطعة موزاييك، من خلال سلسلة من الفقرات على فكر القارئ أن يقوم بتركيبها معًا، وهو أمر واضح للغاية، على سبيل المثال، في قصيدة «الماء»، أو في الفقرات الصغيرة المفككة في «إله الريف ونباتات محلية»، وقد أكد «سارتر» عن حق على جمالية التجاور هذه، التي يجد لها معنًى خاصًّا للغاية:
هذه الفقرات التي تزورها دائمًا ذكرى فقرات أخرى لا تستطيع الانتظام معها، هذه الجمل التي تدوي في وحدتها اللاعضوية بنداءات إلى جمل أخرى لا تستطيع اللحاق بها، ألا تشبه جهدًا محضًا يقوم به الحجر نحو الوجود المنظم، نجد هنا صورة حدسية، يمنحها لنا الأسلوب والكتابة، بالطريقة التي يريد «بونج» بها أن يجعلنا نرى «الأشياء».٣٠٦
ولا شك أن خطر هذا البناء، من خلال التجاور، يكمن في أنه يحافظ — بدرجة أقل قوة — على الوحدة العضوية للقصيدة، وهو خطر محدود بالنسبة إلى «بونج»، هذا حقيقي، بفعل أن القصيدة لا تنفصل — هي نفسها — عن الشيء الذي تقدمه، ليقل انشغالنا بالوحدة الشكلية منذ اللحظة التي تتحقق فيها وحدة أساسية، ويبدو — رغم هذا — مثيرًا للقلق إلى حدٍّ ما أن نستطيع اقتباس أجزاء منفصلة، من «رأي مسبق للأشياء»، وأن يتوفر لنا أيضًا الانطباع، في أغلب الأحيان، بأن «قصيدة» ما يمكن مواصلتها بلا نهاية (مثل «الماء» أو «الحصاة الملساء» أو «سلة من قصب»، التي يضع لها «بونج» نقطة نهائية لأنه «يجدر بها»، مثلما يقول عن مصيرها، «ألا تسهب طويلًا»،)٣٠٧ وفي حالات معينة، فهذا البناء من خلال فقرات منعزلة، وأضلاع، وهذا الافتقار إلى الروابط يشدان القصيدة نحو النثر، ويدفعاننا إلى الشك فيما إذا كنا نقرأ قصيدةً حقًّا، أم «مدونات نثر».٣٠٨
وينبغي رغم هذا — كي ننهي الحديث — التأكيد على فكرة أن «بونج» ليس مراقبًا بسيطًا، أو عالم طبيعيات يسجل الملاحظات، ويصف الأشياء من الخارج، فقد أراد «أن ينتقل في الأشياء»، ويصفها في ذاتها لا في علاقتها بالإنسان، لكن الواضح تمامًا أنه لا يستطيع إعارة صوت إلى الأشياء إلا بواسطة شخصيته الخاصة: فعندما تريد الأشجار التعبير عن نفسها، «تفلت سيلًا، وإفرازًا من خضرة»، لكنها «لا تنجح أبدًا إلا في تكرار نفس التعبير، ونفس الورقة مليون مرة»،٣٠٩ إنه الشاعر الذي يصبح شجرة ليتكلم بدلًا منها، لكن كيف لا يعبر، في نفس الوقت، عن الشاعر؟ و«بونج» يعرف ذلك جيدًا: فلا تستطيع القصيدة أن تكون الشيء نفسه، إنها شيء واحد، أي موضوع، وعمل فني، ومهمة الشاعر لا تكمن في نقل العالم، بل في إعادة صنعه، وهي فكرة تتكرر عدة مرات في «مقدمات»، من هنا، يكمن هذا الالتباس بين القصيدة–الإفراز للشيء والقصيدة–إبداع الشاعر، وهكذا، فعندما يتحدث «بونج» عن الخبز، يلغي الإنسان بمعنًى ما، ما دام يصف لنا الخبز لا حسب المعايير الإنسانية، ولا في قيمته النفعية للإنسان، وإنما كعالم خاص، موجود في ذاته — لكنه يعيد إدخال الشاعر — «بونج» من خلال تفرد زاوية الرؤية:٣١٠
إن سطح الخبز رائع أولًا بسبب هذا الانطباع شبه البانورامي الذي يقدمه: كأن تحت تصرفنا وفي متناول أيدينا (جبال) الألب أو طوروس أو كورديلييه في الأنديز.٣١١
هذا التضخيم الذي يطبق على الخبز هو وسيلة فنية ووسيلة «في نزع الأنسنة» في نفس الوقت (وقد استخدمها «بونج» عدة مرات،)٣١٢ هو وسيلة الشاعر التي يجدد بها طزاجة الإحساس بها: ﻓ «كل عمل بونج يكمن في إيقاظ العين النائمة في اعتياد المدركات اليومية»، حسبما يقول «ج. مونان».٣١٣
عندئذٍ، يصبح السؤال المطروح هو التالي: هل عثر «بونج» حقًّا بشكل حدسي على حياة الأشياء نفسها، أم أنه ببساطة أعارها حياةً وتصرفات مستمدة — في الحقيقة — من تجربته الإنسانية؟ أيمكن العثور في الأشياء على شيء آخر غير أنفسنا؟ وعلى سبيل المثال، عندما يصف لنا «بونج» تصرف البحر إزاء الحصى الأملس «الذي يحافظ عليه، ويضمه، ويؤرجحه، ويلاطفه»،٣١٤ أيفعل شيئًا آخر غير منح البحر حساسية أمومية؟ هنا تُطرح بوضوح مسألة الاستعارات.
فالشيء يكون، وهو يكتفي بالوجود دون المقارنة بالأشياء الأخرى: ووجود الاستعارة يشير إلى تدخل الفكر، وبالتالي الشاعر، وينبغي لشعر حقيقي للأشياء أن يتجرد من الاستعارات، لكن هناك الكثير منها في شعر «بونج»، ولا شك أنها محكومة — مبدئيًّا — بإقامة معادل بين الأشياء والإنسان، بأنسنة الأشياء ونزع إنسانية البشر، بطريقة تضعهم جميعًا على مستوى واحد، طبقًا لإرادة مادية حازمة (وقد أوضح سارتر تمامًا هذا الموقف)،٣١٥ ويمكننا أن نضيف بلا إلحاح أن القصائد التي خصصها «بونج» للبشر، «الأم الشابة»، «ر. سي. سين رقم»، «مطعم لومونيه بشارع لاشوسيه دانتان»، هي أقل قصائده نجاحًا، بلا شك لأنها مكتوبة بلا أدنى درجة من التعاطف)، لكن الواقع أن كثيرًا من الاستعارات تبدو — «في رأي مسبق للأشياء» — مجانية حقًّا «وفنية» بشكل زائد، وقد أوضح «مونان»، على سبيل المثال، أن من الرعونة حقًّا، بعد الحديث عن الريح التي «تتصفح» و«تنفخ» في «المجلد البحري الضخم»، أن نتخلص من الاستعارة بالحديث عن «الحاجة إلى المعلومات»،٣١٦ وثمة مجانية أيضًا إلى حدٍّ بعيد في الوصف الوارد في «نهاية الخريف»، مع التلاعب الانتقائي بالألفاظ حول «تجرد» الطبيعة: «يتم التجرد بفوضى، تفتح كل أبواب قاعة الاقتراح وتغلق، وهي تصطفق بعنف»،٣١٧ وقد لاحظ «سارتر» نفسه أن «بونج» يضع أحيانًا في الشيء ما يدعي فيما بعد العثور عليه فيه (بصدد «الغسالة»)،٣١٨ عندئذٍ، يصبح الخطر الذي يتربص بالشاعر هو الحذلقة، والتلاعب المجاني بالفكر: وفي الذوق الرديء، تذهب حذلقة «بونج» بدرجة كبيرة إلى نفس المدى الذي يبلغه «ج. رونار»، فماذا نقول عن هذه النكتة: «كما في الإسفنجة، يوجد في البرتقالة امتصاص يستعيد سعتها بعد الخضوع لتجربة العصر»؟٣١٩ وأعتقد أن وصف لب الخبز بأنه «رخوية تحتية وبشعة»٣٢٠ ليس عودة فحسب — مثلما يلاحظ «م. ساييه» — إلى أسوأ انحرافات اللغة الرمزية،٣٢١ بل هو أيضًا إقحام لحكم أخلاقي في الوصف، وبالتالي لرؤية إنسانية للأشياء، تتناقض مع مشروع «بونج» نفسه، لكن من الصواب، رغم هذا، القول إن «بونج» قد نجا — إلى حدٍّ ما — من التفاهة التي يمكن أن يقود إليها هذا الذوق الرديء من خلال طريقة ما من عدم أخذ الأمور بجدية، بأن يوجه لنا طرفة عين متواطئة عندما يسقط على هذا النحو في الأنسنة أو الحذلقة، في تناقض مطلق مع مشرعه (على سبيل المثال، في حديثه عن الغسالة و«غيظها المغلي»، أو عن الحلزونيات التي «يسيل لعابها كبرياءً» لأن لها قوقعة لحماية ما يخص الذات»،)٣٢٢ ولدى «بونج» نوع من المزاج الطيب والبشاشة (وأسلوبه أقل «تشنجًا» بكثير من أسلوب «ج. رونار»)، وامتعاضه من تفخيم الكلام يمنعه من التعالي في سلوك «الفنان» و«المفكر»:٣٢٣ فهو يطرح نفسه بدرجة أقل كفيلسوف عميق، رغم طموحاته الكونية، من طرحه لنفسه كصديق للأشياء التي يعرف التعاطف معها وتذوق المباهج البسيطة التي تنشرها في آن، ويريد أن يعيد تعليمنا هذا التعاطف وهذه المباهج،٣٢٤ وينبغي قراءة قصائده للتحرر، مثلما يقول، من «الإزعاج الميتافيزيقي»،٣٢٥ وللاستمتاع بحميمية مُستعادة مع أشياء عالمنا المألوف، وأخيرًا لإيجاد أسباب «للحياة، وللاستمرار في الحياة، والحياة في سعادة».٣٢٦
ولنعقد مقارنة بين «بونج» و«مالكوم دي شازال»، رغم أن هدف هذين الشاعرين، والحق يقال، مختلف للغاية في النهاية، ولا شك أن كليهما يكشف عن رغبة في «التحول إلى الأشياء»: «كل شيء يحدث كأنني امتزجت بحياة الأشياء، وكأن عالم الأشياء قد دخلني، حسبما يكتب «م. دي شازال»،٣٢٧ لكن بونج سيهز كتفيه أمام ادعاءات «م. دي شازال» في «تصور الحياة»، واعتبار الحياة الخارجية مادة نفسية ينبغي إدخالها في ذاته الخاصة،٣٢٨ وفي حين أن هدف «بونج» شعري بشكل أساسي، بالمعنى الأول للكلمة، ما دام يريد إعادة صنع الخليقة، يسعى «م. دي شازال» إلى استخلاص فلسفة من الإحساس، ويمكننا، مثلما يقول «بولان» الذي كتب مقدمة ديوانه الأول «إحساس تشكيلي» (عام ١٩٤٨م)، ويمكننا، مثلما يقول «بولان» الذي كتب مقدمة ديوانه الأول «إحساس تشكيلي» (عام ١٩٤٨م)، أن نسميه خفائيًّا، بمعنى أنه يبحث في كل المرئي عن انعكاس اللامرئي، وأنه يتتبع في الكائنات والأشياء التشابهات الإنسانية لغايات فلسفية، لا جمالية.٣٢٩
ورغم هذا، فإن الأسلوب الذي يستخدمه لاكتشاف وحدة العالم من خلال التوافقات بين إحساس وآخر، وبين المادي والروحي، هو حقًّا أسلوب شاعر، لقد لجأ «شازال»، حسبما يقول «بولان»، إلى «الممرات والدهاليز الواقعة بين الحواس، مستعدًّا في كل لحظة للانزلاق من واحد إلى آخر– إلى شرح ما هو غير مسموع من خلال الرؤية، وما هو قابل للشم من خلال اللمس»،٣٣٠ وليست نظرياته الفلسفية ما يجعل عمله هامًّا إلى هذا الحد،٣٣١ قدر هذه الطريقة القوية والأصيلة في المعاناة والتوفيق بين الأحاسيس، والقول، على سبيل المثال، أن «البنصر هو أداة اللمس الأعمق، والإبهام أداة اللمس الأكثر إشباعًا في اليد، وعندما يتلامس البنصر والإبهام، يتحقق الإحساس بالإبهام داخل البنصر»،٣٣٢ أو تعريف الأحمر بأنه «توهج دائري، ضوء في طوق، خاتم خطوبة خالد في إصبع الشمس».٣٣٣
وبسبب مقصده نفسه، وأيضًا لأن الصورة وسيلة للانتصار على «نثرية» الكلمات العاجزة عن استعادة تعقيد الإحساس،٣٣٤ كان «م. دي شازال» مدفوعًا إذن إلى أن يجعل من الصورة وسيلته المفضلة، وبلا شك، لا يمكن إنكار جدة وأصالة لغته الاستعارية، لكن يمكننا أن نأسف — رغم هذا — على أنه خضع (مثل «رونار» و«بونج») للتكلف أحيانًا، وأحيانًا أيضًا لنوع من الاستسهال: فيمكن أن نحب «نتوءات الجبل هي العمود الفقري للريح»،٣٣٥ وحتى «نباتات الغابة تجعل الضوء ممتلئ الخدين»،٣٣٦ لكننا سنجد «النباتات المتعرشة هي كتيفات الطبيعة»٣٣٧ ذات ذوق رديء حقًّا، وأي تفكير سطحي مثلما في «النظرة اللامبالية هي وداع دائم»،٣٣٨ أو «الصمت محام يترافع بعينيه»؟٣٣٩ وعندما نتأكد أن «للتمرد نظرة لانهائية»، لا أعرف ما إذا كان مناسبًا حقًّا إضافة: «في أي توجه يكون شكل الثمرة، لا نستطيع أن نحدد موقع نظرتها»،٣٤٠ والمثير للفضول ملاحظة أنه مع الحديث عن أكثر الأشياء ألفة تنقاد، من أجل إنعاش الأحاسيس التي تمنحها لنا، إلى السقوط في الافتعال.
هل يمكن الحديث عن قصائد، فيما يتعلق بدواوين «م. دي شازال»؟ لا شك أن الإرادة الشعرية ليست محل شك، ومن المفيد أن نورد السطور التي يبرر فيها استخدام النثر كشكل شعري:
البحث عن مشد للقافية، سلة سلطة أقدام بيت الشعر، والطوق الحديدي لعدد الأبيات (…) أستبعد كل هذا غريزيًّا بشراسة، لأضع الشعر قبل كل شيء في الحياة، ولا أحاول تشويه إيماءاته المجنحة في أغلال وكبس أقدامها الهشة في حذاء كبير.٣٤١
لكن الواقع أن هذا الشعر الذي يريد أن يكون مرنًا وسلسًا وتشكيليًّا إلى هذا الحد، ينتهي إلى رفض الطوق الحديدي لكل شكل ليحافظ بشكل أفضل على قدراته اللانهائية في التوسع، فأحيانًا ما نكون أمام تدوينات بسيطة (مثل تلك التي ذكرتها من قبل)، وأحيانًا تختلط المقاربات والصور والاعتبارات من كل نوع وتملأ عدة صفحات، وثمة نوع من التعليمية التي تلقي بوطأتها إلى حدٍّ بعيد على أكثر الرموز توفيقًا:
الدوامة هي أخطبوط من الماء يتشابك مع نفسه– إلى حد أن من يسقط لا يعرف أين تبدأ وتنتهي «قوائمه»، من يسقط في دوامة يشعر أنه ممسوك من كل مكان في آن، إلى حد أنه سرعان ما يفقد الإحساس باﻟ «ذات» ويشعر برأسه كأنها أصبحت رأس الدوامة نفسها، وجسده، في قلب الأسلاك العملاقة للماء الذي يدوم، كأنه في لا مكان وفي كل مكان في آن، ألم تكن هذه، من قبيل الصدفة، هي الصورة–النمط للموت التي وضعناها الآن؟٣٤٢
نثر شعري إذن أكثر من كونه إبداعًا حقيقيًّا لقصائد، أي «كيانات شعرية» مميزة، لكن هذا النثر جدير بالاعتبار، رغم هذا، كمحاولة لصياغة شعرية للكون، والتماهي بالأشياء على نحو خاص،٣٤٣ يدعونا «مالكوم دي شازال» إلى الضياع فيهما، كي نجد أنفسنا بشكل أفضل: «يتمثل فن الحياة كله في الهروب من الذات كي لا نكون وحدنا، في الهروب من النفس بالبحث عنها، وفي العثور على ذاتها الضائعة في العالم، وفي إعادة التوحد مع الذات، وأن نضع كل مواردنا في نفس السلة، وأن نكون فكرًا واحدًا، وجسدًا وروحًا واحدة».٣٤٤

سان–جون بيرس والإخلاص لمفهوم القصيدة

كثيرًا ما ابتعدنا — خلال الصفحات السابقة — عن مفهوم القصيدة، أو انقدنا إلى توسيع مفهومها كثيرًا، إلى حد أن الأمر سينتهي بنا إلى التساؤل عما إذا كانت القصيدة، كهوية شكلية، لم تنتقل إلى قائمة المخلفات النظرية الخالصة، وعلينا الاعتراف حقًّا بأن الأمر كذلك إلى حدٍّ ما بالنسبة لقصيدة النثر، وأن طبيعتها نفسها تؤدي إلى اشتباهات مستمرة مع أنواع متاخمة لها، مثل السرد أو «التدوين» (الفلسفي أو الوصفي على سبيل المثال)، واليوم، يرفض بعض الشعراء كتابة «القصائد» عن عمد، ويطالبون — مثل «م. دي شازال» — بحرية التعبير الكاملة، وسيعتقد البعض عن طيب خاطر أن «الشكل» هو أكبر عدو للشعر …

ومع شعر «سان–جون بيرس»، الذي يتخذ شكل آيات، نعود إلى مفهوم «القصيدة» الشكلي، وليس غريبًا تمامًا أن نلاحظ أن هذا الشاعر المتباعد إلى هذا الحد عن الحركات الأدبية، واللامبالي تمامًا بالشعبية (أصبحت مؤلفاته الآن سهلة للجميع في مجملها،)٣٤٥ يعتبره الكثيرون الآن أستاذًا، ويشير «ج. بيكون» إلى أنه إذا كان في الفترة التي نُشرت فيها دواوينه الأولى، «مدائح» و«أناباز»،٣٤٦ «لم يكن هناك أي شيء يمضي عكس التيار أكثر من شعر بيرس»، فذلك تحديدًا لأن كل اهتماماته «انصبت على تكوين القصيدة»، وهو ما لم يعد كذلك تمامًا الآن، «ففي التطور الذي يقود البعض من الانقطاع إلى الاستمرارية الشعرية، يبدو «بيرس» رائدًا، ونموذجًا على نحو خاص».٣٤٧
ومنذ عام ١٩٢٦م، و«فاليري لاربو» معجب بالبناء المعماري الباهر ﻟ «أناباز»، بأصالة وثراء اللغة الشعرية الجديدة التي أبدعها «بيرس»، والتصميم الملحمي الواسع لهذه «الحركة الشعرية الكوكبية»،٣٤٨ ومنذ ذلك الحين، وبعد صمت طويل استمر سبعة عشر عامًا، توصل الشاعر، في منفاه في أمريكا،٣٤٩ إلى كمال فنه مع «منفى، أمطار، ثلوج»، ولا سيما في القصيدة المذهلة «رياح»، أكثر أعماله رحابة، وهي ملحمة ونظرية عن نشأة الكون في آن.
شعر منظم مثلما قلتُ من قبل بصدد «مدائح»، وهي صفة حقيقية تنطبق على كل أعمال «بيرس»، سواء مع مجمل أعماله أو مع الأجزاء، وينبغي إضافة أنه شعر مترابط، حيث كل شيء متماسك، ولا شيء مجاني، أو معزول، بحيث تتقدم القصيدة ككل معماري، منسجم، تتجاوب فيها الأجزاء المختلفة وتتوازن، فمن آية إلى أخرى، تنشأ الوحدة من خلال اللعب البارع لاستعادة التعبيرات أو الإصاتات، والرنين والأصداء، وبينما توجد الاستعادات الصوتية في النظم من خلال القافية بصورة إلزامية، فإننا نجدها هنا موزعة على امتداد الآية: فينبغي الحديث عن «قافية داخلية»، مع مؤثرات التماثل والتكرارات الجزئية في أغلب الأحيان، هكذا (كي لا نذكر سوى مثال واحد) في بداية «رياح»، حيث نلاحظ الاستعادات المتنوعة المقدمة من خلال التعبير «رياح ضخمة للغاية» — وتكرار «كل الوجوه» و«عالم» و«قش» — والقافية الداخلية «vents–vivants = رياح–حية» — والتكرارات الصوتية «liasse–laissaient = بهجة» — كانت تتركنا» و«aire–erre = وجهة–مشية»:
كانت رياح ضخمة للغاية على كل وجوه هذا العالم، رياح ضخمة للغاية في بهجة عبر العالم لا تملك وجهةً ولا مأوى.
لا رقيب لها ولا معيار، وتتركنا أناسًا من قش.
وفي عالم القش على مشيتهم … آه! نعم، رياح ضخمة للغاية على كل وجوه الأحياء!٣٥٠
فمن كلمة إلى أخرى، ومن آية إلى أخرى، تتقدم القصيدة من خلال تحولات متتالية لا نكاد نشعر أحيانًا بها، وقد أوضح «ر. كايوا» بشكل جيد٣٥١ استخدام «بيرس» البارع ﻟ «الميتاجرام» الذي يدرج الظلال وينوع القصيدة من خلال تعبير حرف واحد صامت أحيانًا، دون قطع استمراريتها، وذلك في «رياح» على نحو خاص:
على كل الأشياء الفانية périssables، على كل الأشياء القابلة للإدراك saisissables.٣٥٢
التي تغنينا هول l’horreur أن تحيا، وتغنينا شرف l’honneur أن نحيا …٣٥٣
النبيذ الجديد ليس أقل حقيقة vrai، والكتان الجديد ليس أقل نضارة frais٣٥٤
أو استعارة «نُصُب ألفية ومسلات نذرية» من خلال «كل حجر يوبيلي وكل مسلة مغلوطة»،٣٥٥ ولا يتعلق الأمر هنا، بالتأكيد، بوسيلة شكلية سهلة إلى حدٍّ بعيد في نهاية الأمر، وإنما — بالأحرى — بمحاولة خلق لعبة علاقات وتوافقات في القصيدة، وتنوع في الوحدة، مثلما يوجد في العالم، «كلية معقدة لا تنقسم»، حسب تعبير «بودلير»،٣٥٦ فالقصيدة تنتظم في عالم صغير، والمشاكل «الصوتية» التي يسعى إلى حلها تعيدنا إلى المشاكل الجوهرية للغة وإلى السؤال الأبدي عن العلاقات بين الصوت والشيء المدلول، إلى حد أنني أتساءل عما إذا كانت العلاقة بين الحب والبحر — في آخر نص نُشر لبيرس، «ضيقة هي المراكب»٣٥٧ — التي تدعم وتنظم كل القصيدة، هي — في الأصل — علاقة إصاتة.٣٥٨
وليس من آية إلى آية فحسب، بل من فقرة شعرية إلى أخرى، تتقدم القصيدة بالمثل، فالوحدة التي تعلو الآية هي ما أسميها الفقرة الشعرية، التي تتكون أحيانًا من متتالية من الآيات الموجزة (مثل في بداية «رياح»)، وأحيانًا من جملة واحدة كبيرة وواسعة تتنامى مثل موجة، وكثيرًا ما تراكم متتالية من التفاصيل، أو الرؤى الدالة: مثل الرصد الشهير للمهن في «أناباز»٣٥٩ أو وصف قوى الريح التي تبعثر أبنية الإنسان في «رياح»،٣٦٠ وتتحقق وحدة القصيدة من جديد، من فقرة شعرية إلى أخرى، بفعل عودة عناصر من نفس الطول والإصاتة المماثلة: هكذا بالنسبة للفقرات الشعرية الثلاث الأولى (التي تتكون كل منها من ثلاث آيات) من الجزء الثالث من «منفى»، حيث الآية الأولى:
دائمًا كانت هناك هذه الجلبة clameur، ودائمًا كانت هناك هذه الروعة splendeur.٣٦١
تُستعاد كل مرة، مع التحول الوحيد ﻟ «splendeur = روعة» إلى «grandeur = عظمة»، ثم إلى «fureur = عنف»، وستتقدم، من جزء إلى آخر — بطبيعة الحال — بنفس الطريقة، فيمكن للتكرارات أن تقيم جسورًا بين جزأين متباعدين للغاية أحيانًا: هكذا نجد، رابطًا، في «رياح»، بين نضارة الأشياء التي تُلهم الشاعر (في النشيد الثالث):
سحر النهار في ميلاده … النبيذ الجديد ليس أقل حقيقية، والكتان الجديد ليس أقل نضارة …

ونضارة الكلمة التي يستخدمها الشاعر في قصيدته (في النشيد الرابع):

أيتها النضارة، أيتها النضارة المستعادة بين ينابيع اللغة! النبيذ الجديد ليس أقل حقيقية، والكتان الجديد ليس أقل نضارة.٣٦٢
وعند الابتعاد، سنلاحظ أنه يمكننا — على امتداد القصيدة — متابعة تطور الموضوع المتولد الذي يعاود الظهور ويتنوع، وهو موضوع استعاري في أغلب الأحيان: «رمال المنفى»،٣٦٣ «ثلوج الغياب»،٣٦٤ يوحد بين الملموس والمجرد، لكن هذا الموضوع الأصلي يتطور، ويتحول، مثلما يحدث مع الموضوع الموسيقي: على سبيل المثال، سرعان ما سيصبح الثلج، رمز الغياب والانتظار، رمزًا للحلم والصمت و«اللذة الخالصة بلا شكل خطي»،٣٦٥ ويقود الشاعر في النهاية إلى «هذه الصفحة التي لم يعد يُكتب فيها شيء»، وقد أكد «ف. كمب» (الذي يشبه قصائد «بيرس» ﺑ «حواء» لبيجي و«الرباعيات الأربع» لإليوت) على المظهر الموسيقي والسيمفوني، مثلما يمكن القول، لشعر كهذا: ﻓ «العنصر الملحمي المستعاد اعتباره لم يعد يتطور حسب المؤثر العاطفي الزخرفي، نوع من الرسم لتاريخ ومشاهد بانورامية في شكل الرابسودية، إنه يتخذ طريق التأمل الموسيقي، بمعنى أن كثرةً من التفاصيل المتعددة الأشكال تمتصها بعض العناصر الكبرى للخلفية لتتبادل وتتشابك فيما بينها»،٣٦٦ وهكذا، في ملحمة «رياح» الكبرى، التي تجعلنا نشهد انطلاق «العالم الجديد» في الزمان والمكان، تصبح الريح المصدر الإحيائي الذي يولد منه كل شيء وينتظم، لا المدن والغزوات فحسب، وإنما القصيدة نفسها أيضًا، فهي أحيانًا الحركة التي لا تقاوم التي تقود البشر نحو الغرب، وأحيانًا النفس الداخلي الذي يحيي القصيدة، ودائمًا ما يتجاوب استدعاء الحضارات الوليدة وحضارة «الشاعر» في معبر «القرن»،٣٦٧ معدًّا قصيدته ومذكرًا الرجال بأن الأمر يتعلق بالإنسان»:٣٦٨
وبنفس الحركة وفي كل هذه الحركة المرتبطة، تركض قصيدتي التي لا تزال في الريح، من مدينة إلى مدينة ومن نهر إلى نهر، في أضخم التموجات الأرضية الصاخبة، زوجات وبنات لأمواج صاخبة أخرى …٣٦٩
ونرى هنا — أكثر مما في القصائد السابقة، «مدائح» أو «أناباز» — ظهور ما يسميه «أ. بيجين» ﺑ «الشعر الموزون»،٣٧٠ لا في التفاصيل فحسب، وإنما أيضًا في تتابع الموضوعات وجمل الارتكاز التي تعاود الظهور من جزء إلى جزء، بينما تنبني القصيدة على الصعيد الثلاثي، التاريخي والإنساني والشعري.
وينبغي إضافة أن الانطباع بوجود نظام متناغم وشعر «موزون» يأتي أيضًا من الاستخدام المتكرر والمؤكد عليه كثيرًا للبحر السكندري (الذي يمثل أساس إيقاع «بيرس»)، وأيضًا من التماثلات الإيقاعية المتعددة، فمنذ قصائده الأولى، لم يكف «بيرس» عن إيثار استخدام الأوزان الزوجية وبيت الشعر المنظم، داخل آيته، ﮐ «أحد الثوابت الإيقاعية»، وما علينا إلا أن نفتح مؤلفاته كي نجد أمثلة:

دوق شعب من صور لاقتياده إلى «البحار الميتة»،/أين نجد المياه الليلية التي ستغسل عيوننا؟

عزلة! …/جماعات نجوم تمر على حافة العالم/ويلحق بها نجم منزلي بالمطابخ.٣٧١
وتأتي التماثلات أيضًا لتضيف إلى هذا الإيقاع الثنائي عناصرها المقدمة اثنين اثنين:
Ah! toute chose vaine au van de la mémoire, ah! toute chose insane aux fifres de l’exil: le pur nautile des eaux libres, le pur mobile de nos songes.
آه! كل شيء عبثي في ناقلة الذاكرة، آه! كل شيء مجنون في مزامير المنفى: القوقعة الصافية للمياه الحرة، الحافز الخالص لأحلامنا.٣٧٢
ويزاوج شعر «بيرس» فضلًا عن ذلك، مثل شعر «كلوديل» إلى حدٍّ ما، بين وسائل البلاغة ووسائل الشعر: فالتماثلات أداة خطابية بقدر ما هي شعرية، وبالمثل المناجاة: «أيها الشاعر، أيها المزدوج اللغة، بين كل الأشياء التي تشبه القدوم، وأنت نفسك خصومة بين كل الأشياء المتخاصمة– الرجل الذي انقض عليه الإله! (…) وأنت،٣٧٣ الشمس التي من أسفل، وحشية الكائن بلا جفن، خذ عين الأسد التي لك في كل كتلة الجواهر هذه!»٣٧٤ وأيضًا ما يسميه «كلوديل» بالعنصر motif، كنوع من «نموذج ديناميكي»٣٧٥ لفكرة أولية تمنح حركتها لكل الفقرة الشعرية أو لجزء كامل من القصيدة، والمدهش ملاحظة أن هذه الصيغة الأولية — لدى «سان–جون برس» — تكاد تقدم دائمًا رصيدًا معينًا: «مع …» في النشيد الثالث من «رياح»،٣٧٦ و«و» في الثاني،٣٧٧ وعلى نحو خاص «من»، وهو «عنصر» مفضل لديه نجده في «رياح»: «وماذا نقول عمَّن ورث ثروة صغيرة من العائلة (…) عمن كان تبث الهدوء فيه كرامة صغيرة في الحقول»،٣٧٨ وفي الرصد الكبير في «أناباز»، الذي يستدعي «جميع أنواع البشر في طرقهم وأساليبهم»:
… من له وجهات نظر حول استخدام ثمرة كرنب، من يجرجر نسرًا ميتًا خلفه مثل عبء أغصان (والريشة تُهدى، ولا تُباع، لرشقها في السهام)، من يجني اللقاح في وعاء من خشب (متعتي، كما يقول، هي في هذا اللون الأصفر)، من يأكل الفطائر، ودود النخيل والتوت، من يحب طعم نبات الطرخون، من يحلم بثمرة فلفل صغيرة، أو أيضًا من يمضغ قطعةً من صمغ متحجر، من يضع صدفيةً في أذنه، ومن يراقب عطر العبقرية في التصدعات الحديثة للحجر …٣٧٩
أو في الجزء السادس من «منفى»، حيث الرصد الواسع ينبني كله على استعادة «من …» المتكررة بلا نهاية.٣٨٠
ذلك ما يقودنا إلى الحديث عن المفردات الموسوعية حقًّا لسان–جون بيرس: فنحن نجد في عمله تعدادًا حقيقيًّا للمواد والمهن والعطور والأذواق والعادات عبر الزمان والمكان، مع تفضيل لا فحسب للكلمات النادرة والغريبة وإنما الأشياء أيضًا، ومن متاحف أوروبا التي عبرها، استرعى انتباه «سان–جون بيرس» «في الكريملين بموسكو، سوار امرأة ذات رسغ حصان محشو بالقش، تحت سرج غليظ لغاز مرتحل، وفي أرميريا بمدريد، دروع لطفل ملكي، وفي وارسو، رسالة أمير على ورقة ذهب مطروقة، وفي الفاتيكان، رسالة مماثلة على جلد ماعز، وفي «بريم»، مجموعة تاريخية من صور غير واقعية لأرضية علبة سيجار …»٣٨١ وبنفس المتعة، سيرصد سان–جون بيرس» هذه «الكتب النادرة»: «كتب الفلك، ودليل السواحل، وكتب الحيوان»،٣٨٢ وأعياد البشر هذه في كل المناطق:
… أعياد «باليلي» و«بانوني»، رأس السنة وعيد الفصح وعيد التقدمة ويوم الشكر.٣٨٣
أو المهن المجهولة، خاصي الخيول، «المشرف على صيد الأسماك، المعالج بالإبر، وتاجر الملح»،٣٨٤ وينبغي التأكيد — رغم هذا — على أن المسألة لا تتعلق هنا بقعقعة كلمات شاذة أو باذخة تهدف فحسب إلى جعل اللغة أكثر ثراءً على غرار البارناسيين، وإنما بعنصر أساسي التقينا به من قبل في «مدائح» عندما قال «بيرس»: «مُسميًا كل شيء جاهرت بأنها كانت عظيمة، مسميًا كل حيوان بأنه كان حيوانًا جميلًا وطيبًا»،٣٨٥ والشاعر، مثلما يقول «كايوا»، «يشرع في وضع قائمة جرد بثروات العالم»،٣٨٦ وهو يريد أن يحتضن في شعره عالم الأشياء كلها،
أشياء حية، أيتها الأشياء الرائعة!٣٨٧

وواحدة من أكثر الفقرات إدهاشًا في «رياح» هي التي يمنح فيها، من خلال عظمة ألفاظه، تكريسًا شعريًّا لأحدث أشكال العلم:

وها هي الآن قوى جديدة تثور تحت خطواتنا، في المدار الخالص للحجر، في المعدن وفي الأملاح المسماة حديثًا، في المادة المذهولة حيث تذهب الأرقام منفقة على وقائع محتدمة.
(…) ستنكشف! أيها الرقم الجديد: في الرسوم البيانية للحجر وعلامات الذرة …٣٨٨
إذ إن الشاعر هنا يمضي «على طريق رجال زمنه المعبد»،٣٨٩ ويقوم بدوره ﮐ «محتفل بالقداس»، مثلما يقول عن حق تمامًا «ج. بيكون»، «هذا الشاعر لا يضفي مثالية على العالم الذي لا يقبل به: إنه يكرسه»،٣٩٠ ويستعيد الشعر وظيفته الطقسية في هذه التعدادات الواسعة التي تجعلنا نرى كل الأشياء منظمة وفي مكانها، في طقوس العالم الشاسعة، منتزعة من العارض والصدفة بفعل اللغة الشعرية: وثراء الكلمات يساهم في ذلك، فهي تقدم لنا في أغلب الأحيان عدة مستويات للمعنى من خلال اللجوء البارع إلى الاشتقاق (فسان–جون بيرس يحب «السير على غير هدًى بين أقدام طبقات اللغة»،٣٩١ وبذلك يحدد معنى الكلمات):٣٩٢ فقبعة «dont on séduit le bord = نجذب حافتها»٣٩٣ تضيف إلى المعنى الحديث ﻟ «séduire = يُغوي» فكرة القيادة (في الشكل المطلوب) مستمدة من ducere، و«bêtes onéreuses = حيوانات باهظة»٣٩٤ و«abominer la nuit = كراهية الليل»٣٩٥ لا يمكن فهمهما بشكل كامل إلا إذا عدنا إلى أصلهما اللاتيني، ومثلما يمنح المعنى الاشتقاقي للكلمات (والأشياء) امتدادات في الزمان، فإن استعارات بيرس الجريئة دائمًا، والصائبة والجميلة بشكل مدهش، تمنحها امتدادات للأصداء في المكان: «شجرة تين المطر الهندية ترسي قواعدها على المدينة»،٣٩٦ «صيف الغجر يشحذ حديد رماحه في جراحنا»٣٩٧ فالماضي يجيب الحاضر، والملموس يرد على المجرد، والقوى الأساسية على الاندفاعات الإنسانية، وعالم القصيدة على عالم الأشياء، كل شيء ينتظم بشكل متناغم تحت بصر الشاعر، بما فيه قصيدته: «الفكرة أكثر عريًا من السيف»، مثلما يقول،
سيعلمني الطقس والمعيار إزاء نفاد صبر القصيدة.٣٩٨
ينبغي التأكيد على ذلك: فهذا الميل إلى النظام، إلى المعيار والعظمة أيضًا (فتعبيرات مثل «عظيم»، و«من مقام رفيع»، تتكرر دائمًا في شعر «بيرس»)، يترادف مع الشعور المتفائل إزاء الخلق، والرغبة في الاحتفال بكل شيء «حي» و«رائع»: فالشاعر لا يحتاج إلى الهروب من الواقع، ولا تحويله (مثل «ميشو») أو تغيير وجهه (مثل «بريتون»)، فهو يكتفي بالتراجع الضروري حتى يراه خارج اللحظة، فريسة منذ الأزل لنفس القوى الأبدية، وتوسيع رؤاه يبجل اللحظة الحاضرة، «يرى الشاعر المطر يسقط على مدينة من عصره، ويصبح هذا المطر شقيق محاربي آشور، وهو يتحدث في اللحظة — لحظة المنفى، والانفصال — لتصبح هذه اللحظة على الفور أسطورية»، مثلما يقول «ج. بيكون»٣٩٩ بشكل جيد للغاية، هكذا يلتقط العالم في روعته وفي ديمومته (حتى الموت ليس إلا الوجه الآخر من الحياة، ونفس قوى الرياح، التي تدمر أبنية البشر الغابرة، هي في نفس الوقت القوى الخالقة لحضارة جديدة)،٤٠٠ وينتزع الكون من الزمن من خلال الشعر، الذي يكرسه ويخلده، وكي نستعيد التعبير الذي استخدمته في الحديث عن جمالية قصيدة النثر «الشكلية» أو «الدائرية»، نحن هنا أمام شعر «الحاضر الأبدي».٤٠١
باختتامنا هذا الجرد السريع لشعراء النثر المعاصرين بسان–جون بيرس، نعود من الشعر «الفوضوي» إلى «الشعر المنظم»، من قوى التمرد والهدم إلى قوى النظام والسلطة،٤٠٢ فهل يعني هذا أن «سان–جون بيرس» يمثل أكثر الاتجاهات معاصرة في الشعر؟ أخشى ألا يكون ذلك حقًّا؟ فهذا الشاعر «خارج الزمن» يواصل أعماله في الاتجاه الذي بدأه منذ أربعين عامًا،٤٠٣ وإذا ما كان قد حاز إعجاب الجميع، وإذا ما استطاع تعيين طريق للبعض، فقد أثار قليلًا من الأتباع الحقيقيين، وسنرى ذلك في الخاتمة، فثمة فرص قليلة لتسمح اضطرابات وتمزقات عصرنا للشعر بالعثور فورًا على المناخ الملائم للانسجام والاستقرار.
١  لم أخشَ أيضًا مخالفة هذا الحد المصطنع قسرًا، لأتحدث بشكل أشمل، على سبيل المثال، عن «إيلوار» و«بريتون»: يتبقى، بطبيعة الحال، أنه لا يمكن إقامة حواجز عازلة في تاريخ الأدب.
٢  طبعة «سوبي»، ١٩٤٥م.
٣  14 Juillet, Les Pelouses fendues d’Aphrodite, La main à la plume, 1942 (٢٠ صفحة غير مرقمة).
٤  حسب «ج. بيكون»، فإن محاولة «جراك» (في الرواية وقصائد النثر) «تذهب في اتجاه تكامل التجربة السيريالية مع التجربة الأدبية التقليدية» (Panorama de la nouvelle littérature française, Gallimard, 1949, p. 121).
٥  L’averse, Liberté grande, Corti, 1946, p. 49.
٦  Un hibernant, Liberté grande, p. 66.
٧  Gallimard, 1948.
٨  G. Picon, Panorama de la nouvelle littérature française, Gallimard, 1949, p. 34.
٩  Poésie vivante, t. II: Poèmes en prose, présentés par Louis Guillaume et André Silvaire, Librairie Les Lettres, 1954، ويمكن إضافة الاسم الثلاثين للقائمة المكونة من تسعة وعشرين اسمًا التي يذكرها الموجز: اسم «أ. سيلفار» نفسه، وهو مؤلف ديوانين من قصائد النثر، «إخفاقاتنا» و«صباحات الفرحة» (١٩٤٥م).
١٠  Anthologie de la poésie française depuis le Surréalisme, éd. de Beaune, 1952, Préface, pp. 16-17.
١١  Second Manifeste du Surréalisme ، في Manifestes du Surréalisme, 1947, pp. 132-133.
١٢  بيان الشعراء الشبان الأمريكيين في Transition (no 16-17)، أعيد نشره في Cahiers du Sud, Avril 1930, pp. 234-235.
١٣  نشرت Commerce «مقتطفات من يوميات جحيم» لأرتو (العدد ٧، ربيع ١٩٢٦م)، و«حقبة أصحاب الإشراقات»، لميشو (العدد ١٢، صيف ١٩٢٧م)، و«ريشة ما» لنفس المؤلف (العدد ٢٥، خريف ١٩٢٩م)، و«محاولة لوصف عشاء من رءوس» لجاك بريفير (العدد ٢٨، صيف ١٩٣١م).
١٤  نتذكر الموقف الصارم لبريتون إزاء ما يسميهم «ناظمي الشعر الرديء» (قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث)، وحول استخدام النثر كأداة فوضوية و«آلة جهنمية» موجهة ضد مجمل الخلق، قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٥  قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٦  Antonin Artaud في Combat, 19 Mars 1948.
١٧  L’Ombilic des Limbes, N.R.F., 1925, p. 11.
١٨  السابق، في الجزء المشار إليه سابقًا، ص١٢.
١٩  قارن ﺑ Breton, Le message automatique, 1933, p. 246.
٢٠  Lettre à Monsieur le législateur de la loi sur les stupéfiants في L’Ombilic des Limbes, N.R.F., 1925, p. 51, en note، وسنجد تعليقًا حصيفًا على هذه المحاولة «الأنطولوجية» في Panorama critique des nouveaux poètes français, de J. Rousselot, Seghers, 1952, pp. 63-64.
٢١  L’Ombilic des Limbes, N.R.F., 1925, pp. 14-15.
٢٢  Paul les oiseaux في L’Ombilic des Limbes, N.R.F., 1925, p. 23.
٢٣  Van Gogh ou le Suicidé de la Société (1942)؛ بعد Lettres de Van Gogh, Grasset, 1952, p. 7.
٢٤  L’œuvre indéfinissable d’A. Artaud ، في K. revue de la poésie, Juin 1948, p. 9.
٢٥  Le Théâtre et son Double, Gallimard, 1938, Préface, p. 8.
٢٦  Lettre sur le Langage ، بعد المقالات التي جُمعت في Le Théâtre et son Double, p. 119، ونعرف — فيما يتعلق بالمسرح بشكل خاص — أن «أرتو» يرى ضرورة امتلاك لغته الخاصة به، «المادية والملموسة»، وأن هذه اللغة «ليست مسرحية حقًّا إلا بقدر ما تهرب الأفكار التي تعبر عنها من اللغة المنطوقة» (La mise en scène et la métaphysique, Le Théâtre et son Double).
٢٧  Lettre contre la Kabbale, à J. Prévert, Humont, 1949، غير مرقمة.
٢٨  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٢٩  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٣٠  في مدخل كتب كمقدمة لمؤلفاته، وأعيد نشره في Nouvelle Revue Française, Décembre 1954, p. 1138، «لم تكن المسألة بالنسبة لي هي معرفة ما سينجح في التسلل إلى أطر اللغة المكتوبة، وإنما في نسيج كينونتي في حياتي»، حسبما يقول هو أيضًا بطريقة بليغة (ص١١٣٦).
٣١  قارن بما سبق قوله عن الدادائية، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٣٢  قارن بما سيلي، الفصل الثالث من القسم الثالث، انظر أيضًا الحكاية المسماة Boulene en Formentor في Fugues de P. Miomandre, Laffont, 1943.
٣٣  Le Professeur Froeppel ، في Un mot pour un autre, Gallimard, 1951, p. 25.
٣٤  على سبيل المثال، تتوافق كلمة «coffre = صندوق» (من زاوية الإصاتة المحاكية) مع الإيحاء بالقطار بشكل أفضل من استخدام كلمة «train = قطار»، و«flaque = مستنقع صغير» أفضل بكثير (من زاوية الإصاتة المحاكية) للإيحاء ﺑ «الليل» من كلمة «nuit = ليل»، وسنقول — بالتالي — «انختم الصندوق في المستنقع الصغير»، بدلًا من «كان القطار يوغل في الليل» (السابق، ص٧٧).
٣٥  قارن — في L’Espace du dedans, Gallimard, 1944 ﺑ - Le grand combat, p. 16:
Il l’emparouille et l’endosque contre terre;
Il le rague et le roupète jusqu’à son drâle;
Il le pratèle et le libucque et lui barufle les ouillais;
Il le tocarde et le marmine, etc …
يستولي عليه ويصدئه ويطرحه أرضًا؛
يبليه ويجعله خرقة بالية،
ليصبغه بالأخضر ويؤرجحه ويجعل أذنيه مثل الفيل؛
يجعله قبيحًا وسائلًا مثل حساء … إلخ
ملحوظة: يستخدم الشاعر كلمات مركبة ومحرفة ومختلطة بين اللاتينية والفرنسية؛ لذا فهي كلمات غير قاموسية، والترجمة الحالية تحاول أن تكون الأقرب إلى النص والسياق (م).
٣٦  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٣٧  Bilan du Lettrisme ، في Fontaine, no 62, Octobre 1947.
٣٨  Apoèmes, Fontaine, Paris, 1948, p. 48.
٣٩  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٤٠  De la paille et du grain, Cahiers de la Pléiade, Printemps 1948, p. 160.
٤١  قاذفة قنابل ألمانية.
٤٢  Apoèmes, p. 52، قارن ﺑ Poémes-langage cuit لدينو فيما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٤٣  Apoèmes, p. 25.
٤٤  Apoèmes, p. 17.
٤٥  قارن ﺑ Y. Belaval, La recherche de la poésie, N.R.F., 1947, p. 122.
٤٦  قارن بدراسة «كايوا» الهامة عن «أسطورة باريس» في Le Mythe et l’homme, Les Essais, VI, Gallimard, 1938, pp. 180–206.
٤٧  Le Paysan de Paris, Gallimard, 1926, p. 14.
٤٨  المرجع السابق، ص١٨.
٤٩  المرجع السابق، ص٢٠.
٥٠  المرجع السابق، ص١٠٠.
٥١  المرجع السابق، ص١٠٨.
٥٢  يمنحها عناوين: «شقرات» و«حديقة» و«الليل» و«امرأة» (Anthologie du poème en prose, Julliard, 1946, pp. 317–324)، وسنجد هذه النصوص في Le Paysan de Paris على التوالي.
٥٣  قارن بما سبق، الفصل الأول من القسم الثالث.
٥٤  قارن بما سبق، الفصل الخامس من القسم الثاني.
٥٥  Baudelaire, Les petites vieilles.
٥٦  حول بداية «فارج»، انظر، الفصل الخامس من القسم الثاني، ولم يكتب «فارج» شيئًا تقريبًا بين عامي ١٩١٢م و١٩٢٤م.
٥٧  Réverie sur l’omnibus ، في D’après Paris, Gallimard, 1932, p. 57.
٥٨  المرجع السابق، ص٢٧.
٥٩  قارن ﺑ Rolland de Renéville, La poésie de L.-P. Fargue، في Univers de la Parole, Gallimard, 1944, p. 87.
٦٠  La drogue ، في Epaisseurs (أعيد نشرها مع Vulturne في Espaces, Gallimard, 1942, p. 27).
٦١  Géographie Secrète, Haute Solitude, Emil Paul, 1941, pp. 52-53.
٦٢  Danse mabraque, Haute Solitude, 244.
٦٣  Méandres, éd. du Milieu du Monde, Genève, 1946, pp. 233-234.
٦٤  Léon-Paul Fargue, Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, 1950, p. 73.
٦٥  المرجع السابق، ص٧١.
٦٦  Poèmes, Denoël, 1938، وكثير من هذه القصائد نشر في مجلة Rythme et Synthèse عام ١٩٢٤م.
٦٧  قارن بما سبق، الفصل الأول من القسم الثالث.
٦٨  Métro, Poèmes, p. 61.
٦٩  Poèmes, p. 62، حول هذا «الإدغام» للمسافة، قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٧٠  Poèmes en prose, Emil-Paul, 1946، الذي يضم Boutiques (1925) et Fêtes foraines (1926).
٧١  Boutiques في Poèmes en prose, p. 15.
٧٢  La Pharmacie, Boutiques ، في Poèmes en prose, p. 48.
٧٣  Pâtisserie mécanique, Fêtes Foraines ، في Poèmes en prose, pp. 99-100.
٧٤  قارن بدراسة P. Berger في Pierre Mac Orlan, Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, 1951, p. 33.
٧٥  Poèmes en prose, p. 46.
٧٦  Le Coiffeur ، المرجع السابق، ص١٨.
٧٧  Le marbrier ، المرجع السابق، ص٧٩-٨٠.
٧٨  Le marchand de couronne ، المرجع السابق، ص٥٥-٥٦.
٧٩  عن بدايات «ج. دي بوسشير»، قارن بما سبق، الفصل الأول من القسم الثالث، وفيما بعد، و«لأنهم لاموه على الغموض، تذكر كلمة باربي دورفيي: «أجمل أسماء الرجال هي التي أطلقتها عليهم أعداؤهم» التي وضعها «بلوي» كعبارة توجيهية ﻟ «شحاذ عاق»، واتخذت اسم «غامض» «المستعار»، حسبما يكتب «ت. بريان» في المقال الخاص بتراجم الموتى الذي كتبه عنه (Le Goëland, Oct.–Déc., 1952, p. 3).
٨٠  L’Obscur à Paris, Denoël, 1947, p. 9.
٨١  المرجع السابق، ص٦٧–١٠٥.
٨٢  المرجع السابق، ص٢٤.
٨٣  Mademoiselle Bistouri, Le Spleen de Paris, Œuvres, Pléiade, t. II, p. 487.
٨٤  Le Désespéranto في L’Antitête, éd. des Cahiers Libres, 1933, p. 185.
٨٥  La fin du Potamak, Gallimard, 1940.
٨٦  Liberté grande, Corti, 1946, Surprise-partie في la maison des Augustines, p. 115.
٨٧  Un certain plume, éd. Carrefour, 1930.
٨٨  Un homme paisible, Un certaine plume , في L’Espace du dedans, Gallimard, 1944, p. 105.
٨٩  Plume voyage ، المرجع السابق، ص١١١.
٩٠  Ecuador, Journal de voyage, Gallimard, 1929, p. 166.
٩١  Je vous écris d’un pays lointain ، وهو عنوان نص من Lointain intérieur.
٩٢  Lointain Intérieur ، ديوان نشر عام ١٩٣٧م في édition de la N.R.F..
٩٣  Voyage en grande Garabagne في L’Espace du dedans, Gallimard, 1944, pp. 162-163.
٩٤  المرجع السابق، ص٢٠١.
٩٥  Découvrons Henri Michaux (نص محاضرة كان «جيد» سيلقيها عن «ميشو») Gallimard, 1941, p. 41.
٩٦  Découvrons Henri Michaux.
٩٧  Voyage en grande Garabagne في L’Espace du dedans, Gallimard, 1944, pp. 165-166.
٩٨  «إنها إحدى الخرافات الإنسانية، عندما يرغب المرء في الحديث مع أحد الأقارب المبتعدين مؤقتًا، أن نلقي — لهذا الغرض — في الفتحات، التي تشبه فتحات البالوعات، بالتعبير الكتابي عن حنان المرء، بعد أن نكون قد شجعنا ببعض الصدقات التجارة الكبرى للتبغ، رغم نحسها المشئوم للغاية، وبعدأن نكون قد كسبنا في المقابل صورًا صغيرة مباركة بلا شك، نقبلها بورع من الخلف، ولا مجال هنا مطلقًا لانتقاد تنافر هذه المناورات»، مثلما يكتب «جاري» على سبيل المثال في Jarry, Spéculations (Œuvres complètes, éd. du Livre, Montecarlo, t. VI, p. 257).
٩٩  Saint-Glinglin chez les Médians, Poésie 44, no 21, p. 44.
١٠٠  Je vous écris d’un pays lointain ، في Lointain intérieur، جمعت في L’Espace du dedans, pp. 245-246.
١٠١  Panorama de la nouvelle littérature française, Gallimard, 1949, p. 180.
١٠٢  «عاة لا تخص سواي، ها هي الظروف: ذلك عندما أكون ممددًا ولا يأتيني النوم رغم هذا، عندئذٍ، أغمر نفسي، أمنح نفسي ذهنيًّا كل ما يحلو لي الحصول عليه، ومنطلقًا من الوقائع الشخصية الحقيقية دائمًا ومن خطٍّ معقول للغاية، أنجح بهدوء في أن أتوج ملكًا على عدة بلدان، أو شيئًا من هذا القبيل، هذه العادة لها نفس قدم ذاكرتي، ولا أمكث عدة أيام دون الترضية» (Ecuador, Gallimard, 1929, p. 49).
١٠٣  قارن بالتلميحات التي قام بها «ر. برتيليه» إلى هذه الطفولة الوحيدة الممتلئة بالانطواءات والرفض، في مقدمة Michaux, Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, p. 23.
١٠٤  Postface à Mes Propriétés (Fourcade, 1929).
١٠٥  المرجع السابق، ص٦٢.
١٠٦  Conseils aux malades, Mes Propriétés في L’Espace du dedans, p. 58.
١٠٧  Crier ، المرجع السابق، ص٥٧.
١٠٨  Intervention ، المرجع السابق، ص١٢.
١٠٩  La jetée ، المرجع السابق، ص٥٥.
١١٠  Intervention ، المرجع السابق، ص٦٢.
١١١  مقدمة Michaux, Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, p. 49.
١١٢  حول هذا المفهوم الفوضوي للشعر، قارن بما سبق في الفصل الخاص ﺑ «جمالية قصيدة النثر»، الفصل الثالث من القسم الأول.
١١٣  Projection ، المرجع السابق، ص٦٠.
١١٤  Mes Propriétés ، في L’Espace du dedans, p. 42.
١١٥  Le Domaine d’Henri Michaux ، في Univers de la Parole, Gallimard, 1944, p. 105.
١١٦  La Nuit des Embarras, Un certain Plume ، في L’Espace du dedans, p. 91.
١١٧  Mon Roi, La Nuit remue (1934)، في L’Espace du dedans, pp. 135-136.
١١٨  Mes Occupations, Mes Propriétés في L’Espace du dedans, p. 35.
١١٩  قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
١٢٠  La Ralentie, Lointain intérieur ، في L’Espace du dedans, pp. 227-228.
١٢١  Contre!, La Nuit remue ، في L’Espace du dedans, p. 151.
١٢٢  قارن ﺑ Michaux, Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, p. 121.
١٢٣  حول «الجنون الفعال» للوتريامون، قارن بما سبق الفصل الثالث من القسم الأول.
١٢٤  سنعقد مقارنة، على سبيل المثال، بين «الوجه المنزوع» في Au pays de la Magie (L’Espace du dedans), p. 269 و«المشنوق» الذي جعلته والدته وزوجته شهيدًا في النشيد الرابع من «أناشيد مالدورور»، وبين العلاج المفروض على «مليكي»، الذي ذكرت مقتطفًا منه من قبل، وما يفرضه «مالدورور» على «الخالق» (Chants de Maldoror, Livres II et III).
١٢٥  Les Chants de Maldoror, Chant II, éd. Corti, 1938, p. 111.
١٢٦  L’Espace du dedans, p. 153.
١٢٧  Notes de zoologie, Mes Propriétés في L’Espace du dedans, p. 64.
١٢٨  Nouvelles Observations ، المرجع السابق، ص٧٢، قارن — أيضًا — بالاختراعات اللفظية في «يوم الأحد في الريف»، حيث نكون بصدد «أساسات وتدويرات البحر» وقرية «من قش متحللة يدويًّا» (Lointain Intérieur في L’Espace du dedans, pp. 219-220)، وأيضًا «سر الوضع السياسي» في Face aux verrous, Gallimard, 1954, p. 85.
١٢٩  قارن ﺑ Ecuador, p. 49:
«بالأمس كانت موسيقاي،
على الحصان،
على الحصان،
كنت أذهب على الحصان.
وأجيء على الحصان في الأنديز
أقضي وقتي على الحصان
جمل قليلة، القرع الأمين لكلمة»
١٣٠  Tentative de Commentaire sur les malédictions, Cahiers de la Pléiade, Printemps, 1950, p. 124، هامش رقم ٢.
١٣١  المرجع السابق، ص١٢٣.
١٣٢  Poésie pour pouvoir, Cahiers de la Pléiade, Printemps 1950, p. 120.
١٣٣  قارن بالسرد الساخر إلى حد بعيد ﻟ «م. تابيه»، المرجع السابق، ص١٢٦–١٢٨.
١٣٤  ورد ذكره في مقدمة Michaux, Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, p. 68.
١٣٥  ورد ذكره في مختارات Poésie vivante (t. II: Poèmes en prose), Librairie Les Lettres, 1954, p. 21.
١٣٦  قارن بما سبق، الفصل الرابع من القسم الثاني.
١٣٧  نشرت بعد La Métamorphose, Gallimard, 1946.
١٣٨  Un médecin de campagne, La Métamorphose, p. 144.
١٣٩  Un Message Impérial, La Métamorphose, p. 167.
١٤٠  Du Merveilleux, L’Arche, no 27, Mai 1927, p. 126.
١٤١  «أنتظر مكالمةً تليفونية»، Face aux verroux, Gallimard, 1954, pp. 144–146.
١٤٢  L’Obsédante Journée ، في Matinées de la joie, Librairie Les Lettres, 1945, p. 41؛ ولهذا النص عبارة توجيهية مستعارة من «نيرفال»: «هنا بدأ بالنسبة لي ما سأسميه انسكاب الحلم في الحياة الحقيقية».
١٤٣  Mémoires de l’ombre, Gallimard, 1944, p. 18، وبالمثل، في Les Répétitions لبيير دي مانديارج، «كل شيء لا يزال يبدأ ليبدأ بلا نهاية» (في Les années sordides, Gallimard, 1948, p. 30).
١٤٤  حول الجوهر اللازمني للشعر، قارن بما سبق الفصل الأول من القسم الثاني، وأترك جانبًا الناحية الرمزية لقصائد كهذه: فأن نرى فيها رموزًا للمصير الإنساني، وجهود الإنسان وإخفاقاته، فذلك بدهي؛ ولهذا لا تبدو لنا عبثية، بل عميقة. كل هذا سبق قوله بشكل خاص عن «قصر» كافكا الذي يدور حول نفس الموضوع.
١٤٥  Mémoires de l’ombre, Gallimard, 1944, pp. 27, 49, 79.
١٤٦  Mariage ، المرجع السابق، ص٨٥.
١٤٧  خطاب إلى «كازاليس»، ٢٥ أبريل ١٨٦٤م، Propos sur la poése, éd. du Rocher, Monaco, 1953, p. 42.
١٤٨  Fausse alerte, Mémoires de l’ombre, Gallimard, 1944, p. 115.
١٤٩  Le chien ، المرجع السابق، ص١١٥.
١٥٠  المرجع السابق، ص١١٠، وبالطبع يمكن المقاربة بين كل هذه التحولات و«تحول» كافكا.
١٥١  Mémoires de l’ombre, Gallimard, 1944, pp. 148 et 150.
١٥٢  المرجع السابق، ص١٤٤ و١٢٣.
١٥٣  المرجع السابق، ص٦٧ و٨٩.
١٥٤  المرجع السابق، ص٧١.
١٥٥  Panorama critique des nouveaux poètes français, Seghers, 1952, p. 115.
١٥٦  قارن ﺑ Poésie vivante, (t. II: Poèmes en prose), Librairie Les Lettres, 1954, p. 13 (المؤلف هو «ج. نويل بارييه»).
١٥٧  المرجع السابق، ص٤٥ (المؤلف هو «ر. دلاهاي»)
١٥٨  المرجع السابق، ص٤٩ (المؤلف هو «م. فاردوليس– لاجرانج»).
١٥٩  Poésie vivante, t. II: Poèmes en prose, 1954, p. 61 (المؤلف هو «أرميل جيرن»).
١٦٠  المرجع السابق، ص١٠٩ (المؤلف هو «أ. روبيك»).
١٦١  Donner à voir, Gallimard, 1939, p. 147، قارن بما سبق ذكره الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٦٢  Histoires sanglantes, Gallimard, 1932, p. 195 (نوع من تمهيد موجز لمقدمة).
١٦٣  Histoires sanglantes, Considérations sur le sujet, p. 11.
١٦٤  المرجع السابق، ص١٦.
١٦٥  Histoires sanglantes, Les Allées, p. 118.
١٦٦  Le Château ، المرجع السابق، ص١٨٥.
١٦٧  Du Merveilleux, L’Arche, no 27-28, Mai 1947, p. 127.
١٦٨  قارن بدراسة إيجيلدنجر عن P.-J. Jouve، في Poésie et tendance, La Baconnière, Neuchâtel, 1945، وSpiritualité de P.-J. Jouve, par Rolland-Simon في le no 19-20 de Fontaine, Mars-Avril 1942, pp. 145-146.
١٦٩  هذه القصائد، وعددها أربع (Langue, Mercure de France, 1954, pp. 28, 30, 32 et 33)، أعيد نشرها ووصفها ﺑ «قصائد نثر» في مختارات Poèmes en prose de la Librairie les Lettres, pp. 69–72، والواقع أنها آيات، وسيطة بين الشعر المنظوم والنثر.
١٧٠  قارن ﺑ Breton, Anthologie de l’humour noir, éd. du Sagittaire, 1940, p. 10.
١٧١  المرجع السابق، ص١٢.
١٧٢  Mémoires de l’Ombre, p. 43.
١٧٣  Histoires Sanglantes, p. 173.
١٧٤  Voyage en Grand Garabagne ، في L’Espace du dedans, Gallimard, 1944, p. 166.
١٧٥  Nuit de Noces في La Nuit remue, L’Espace du dedans, p. 146.
١٧٦  مقدمة Michaux, Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, 1946, p. 63.
١٧٧  قارن بما سبق، الفصل الخامس من القسم الثاني.
١٧٨  قارن بما سبق، الفصل الخامس من القسم الثاني.
١٧٩  تكاد «مختارات من الدعابة السوداء» تضم — فقط — نصوصًا من النثر، كثير منها — من ناحية أخرى — مقتطفات من روايات، وأقاصيص أو أقوال مأثورة، وليست قصائد نثر.
١٨٠  قارن بما سبق، في الفصلين الثالث والخامس من القسم الثاني، وأيضًا ما يتعلق بجاري، وسنلاحظ أن الفانتازيا، بالمثل، نادرة في نظم الشعر الكلاسيكي (على الأقل في البحر السكندري).
١٨١  «الدعابة الموضوعية» و«الصدفة الموضوعية» هما، مثلما يقول «بريتون»، «القطبان اللذان تعتقد السيريالية أنه يمكن أن تتفجر فيما بينهما ومضاتها الأطول» (Limites non Frontières du Surréalisme, Nouvelle Revue Française, 1er Février 1937, p. 206)، حول تعريف «الدعابة الموضوعية»، المستمد من «هيجل»، حيث الدعابة «وهي تحافظ على طابعها الذاتي والتأملي تترك الشيء وشكله الحقيقي يأسرها»، قارن ﺑ Breton, Anthologie de l’humour noir, p. 10.
١٨٢  أستعير هنا هذا التعبير من «سارتر» في مقاله حول Aminadab ou du fantastique considéré comme un langage, Situations I, Gallimard, 1947, p. 129 رغم أن الموضوع لا يتعلق بالدعابة، وإنما بنوع من الفانتازيا المعاصرة (فانتازيا «كافكا» أو «بلانشو»)، وسنلاحظ — على سبيل المثال — في نص ميشو السابق ذكره، الذي يستند إلى عادات أهل هاك (ص٨٦٩)، كيف تتولد الدعابة من التفاوت بين الوسائل (قتل ومذبحة) والنهاية الساخرة (مشهد رقم كذا).
١٨٣  قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثالث.
١٨٤  Histoires Blanches, Gallimard, 1945، قارن — على سبيل المثال — ﺑ Voyage, p. 126، أو Le Bœuf, p. 130.
١٨٥  قارن بالقصائد المذكورة في Poésie vivante (t. II: Poèmes en prose), Librairie Les Lettres, 1954، وخاصة Identification, p. 76.
١٨٦  مؤلف ديوان قصائد نثر في شكل حكايات قصيرة Les richesses naturelles, Julliard, 1953، وهذه الحكايات غير المألوفة، التي تخلط الدعابة بالشراسة، كثيرًا ما تذكرنا بميشو: على سبيل المثال في «عرس فاس»، ص٦١، أو «حرائق»، ص٦٣.
١٨٧  Poésie vivante (t. II: Poèmes en prose), Librairie Les Lettres, 1954, p. 113.
١٨٨  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٨٩  Œuvres d’or, Gallimard, 1952, p. 154، يكتب «م. سوفاج» الذي ولد عام ١٨٩٥م، قصائد نثر منذ عام ١٩٢٠م، وقد نشر الكثير منها في Rythme et Synthèse، ونشرت قصائد أخرى في دواوين غير متاحة اليوم، وقد فاز «مؤلف ذهبي» بجائزة «ماكس جاكوب»
١٩٠  Apostrophe aux balance, Œuvres d’or, p. 106.
١٩١  La famille, Œuvres d’or, p. 35، قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٩٢  Tentation Académique, Œuvres d’or, p. 214.
١٩٣  Amour délices et orge: Don Juan, p. 215، وذلك ما يتكرر في العناوين (قارن ﺑ La Poule aux yeux d’or, Je tue il, Quand on chant le thermomèter monte)، بأن يطلق «م. سوفاج» العنان لقريحته.
١٩٤  قارن بملحوظة Poésie vivante (t. II: Poèmes en prose), Librairie Les Lettres, 1954, p. 113.
١٩٥  Fin de la boîte à musique, Œuvres d’or, p. 12.
١٩٦  Œuvres d’or, p. 10.
١٩٧  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
١٩٨  ينطبق ذلك — على نحو خاص — على «كوب النرد»: فثمة في «رؤى جهنمية»، المكتوبة عام ١٩٢٤م، قلق ديني، وهلع إزاء الجحيم، تشعر بهما معاشين، ويمكن ﻟ «محاولة اغتيال»، رغم التلاعب اللفظي الرديء، أن يقدم لنا مثالًا لهذه «الطريقة الثانية»:
«في المنحنى يهددني رجل بسكين، وبمهارة أدهشتني، آخذ يديه، وهو محصن في كل مكان، يحيطون بي، وأتذكر أن العملاء كانوا يحدثونني وأنني ذكرت لهم اسم شارعي، لا أحد رآه: كان ورائي ويداه تختبرانني: عندئذٍ ضعفت: وغرس نصلًا في جنبي: كان قد سدد في الكبد أو اليقين، أعرف اليوم الرجل ذا السكين» (Visions infernales, N.R.F., 1924, p. 81).
١٩٩  La clef de meute, Œuvres d’or, p. 18.
٢٠٠  يمكن أن يبدو باروكيًّا أن نقدم الحياة الأبدية مثل «بقرة حلوب» ترعى في «المراعي السماوية»، لكن ذلك يتيح لنا أن نرى الشاعر وهو يقدم لنا الإنسان في مسيرته نحو الخلود، ذلك «الأخ البريء في الرضاعة، ممتلئ الخدين بالثلوج الأبدية»، «المراقب من الركام الجرفي للأطلال والندم» (Nous changeons les images, pp. 191-192).
٢٠١  وبعض القصائد — من قبيل «كل واحد يتسلى بقدر طاقته»، ص١٢٨ — ليست بعيدة جدًّا عن الفانتازي ذي «النزوع التدخلي» لميشو.
٢٠٢  قارن ﺑ Le monde du vent, p. 145, Vue de dos, p. 153: «الطريق الذي يصعد في المقدمة هرب من ندوب يديه الجافتين، وامتد بين عينيه من خلال الموزاييك في الهندسة المحروقة للمراعي الجرداء» … إلخ.
٢٠٣  مثلما يلاحظ «سارتر» عن حق، «لا نكشف عن الفانتازيا: فهي لا توجد أو تمتد إلى العالم كله، إنها عالم كامل تنم فيه الأشياء عن فكرة أسيرة ومضطربة، متقلبة ومترابطة في آن …» (Aminadab ou du fantastique considéré comme un langage, Situations I, Gallimard, 1947).
٢٠٤  J. Pourtal de Ladevèze, Mercure de France, 1er Juin 1952, p. 525، فيما يتعلق ﺑ Rencontres, par Christian Dautcourt.
٢٠٥  قارن بما سبق، الفصل الرابع من القسم الثاني.
٢٠٦  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٢٠٧  Le Gant de Crin, Plon, 1927, p. 15.
٢٠٨  Panorama de la nouvelle littéraire française, Gallimard, 1949, p. 133.
٢٠٩  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٢١٠  J. de Laprade, Cinq poèmes en prose، نشره «دينو» للمؤلف عام ١٩٤٧م، وغير مرقم.
٢١١  Panorama critique des nouveaux poètes français, Seghers, 1952, p. 280، كرس «م. مانول» دراسة بارعة لريفيردي في مقدمة Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, 1951.
٢١٢  Astrolabe, Cahiers de Rochefort, 1945, p. 32.
٢١٣  قارن بما سبق، الفصل الثاني من القسم الثالث.
٢١٤  Reverdy, Le Gant de Crin, Plon, 1927, p. 40.
٢١٥  مع «إيلوار» و«بريتون».
٢١٦  قارن ﺑ G. Hugnet, Petite Anthologie du Surréalisme, Bucher, 1934, p. 12.
٢١٧  Moulin premier, éd. G.L.M., 1936, p. 1.
٢١٨  «أعتقد أن الحل المقبل لهاتين الحالتين، المتناقضتين للغاية ظاهريًّا — وهما الحلم والواقع — إنما يكمن في نوع من واقع مطلق، نوع من فوق واقع، إذا جاز القول»، مثلما كتب «بريتون» في «بيان السيريالية» الأول.
٢١٩  Artine في Le Marteau sans maître, Corti, 1934, p. 40، وفي «ستجيء الوفرة» (١٩٣٢م، وجمعت في «المطرقة بلا معلم»)، نقرأ أيضًا قصائد نثر سيريالية للغاية، ويحذرنا «شار» من أن واحدةً منها، هي «مياه–أمهات»، إنما هي ترجمة لحلم.
٢٢٠  Avez-vouz lu Char? Gallimard, 1946, p. 77.
٢٢١  Partage formel ، نشرت بعد Seuls demeurent, Gallimard, 1945, p. 71.
٢٢٢  المرجع السابق، ص٧٥.
٢٢٣  René Char في Critique, Octobre 1946, p. 389.
٢٢٤  Moulin premier, éd. G.L.M., 1936 (غير مرقمة)، الصفحة الرابعة.
٢٢٥  Seuls demeurent ، ذكره «ج. مونان»، Avez-vous lu Char? p. 108.
٢٢٦  Placard pour un chemin des écoliers (1937)، في R. Char, Seghers, 1951, p. 104.
٢٢٧  Moulin premier, éd. G.L.M., 1936 (غير مرقمة).
٢٢٨  Dehors la nuit est gouvernée (1938) في R. Char, p. 107.
٢٢٩  «في شوارع المدينة يوجد حبي، لا يهم أين يذهب في الزمن المنقسم، لم يعد حبي، الكل يمكن أن يكلمه، لم يعد يتذكر، من بالضبط أحبه؟» La Fontaine narrative في (Fureur et Mystère, Gallimard, 1948, p. 257).
٢٣٠  Seuls demeurent في Fureur et Mystère, Gallimard, 1948, p. 30.
٢٣١  A une sérénité crispée في René Char, Seghers, 1951, p. 147.
٢٣٢  A la santé du serpent, XXIV في Fureur et Mystère, Gallimard, 1948, p. 231.
٢٣٣  قارن — في René Char, Seghers, 1951 — بالتوطئة التي كتبها «شار» لترجمة «قيرقليطيس» التي قام بها «إيفيز»، ص١٣١، وفي Portage formel, Seuls demeurent, Gallimard, 1945, p. 73، «يؤكد هيرقليطيس على التحالف العظيم للتناقضات»، وحل المتناقضات فكرة سيريالية (قارن ﺑ Mounin, Avez-vous lu Char? Gallimard, 1946, pp. 99–103).
٢٣٤  René Char, Critique, Octobre 1946, p. 398، ننقاد هنا إلى التفكير في الطريقة «الجدلية» التي يوفق بها «مالارميه» بين المتناقضات، الحضور والغياب، المطلق والمادة …
٢٣٥  Le poème pulvérisé في Fureur et Mystère, p. 223.
٢٣٦  Seuls demeurent, Gallimard, 1945, p. 11.
٢٣٧  Le poème pulvérisé في Fureur et Mystère, p. 222.
٢٣٨  Seuls demeurent, Gallimard, 1945, p. 48.
٢٣٩  Hommage et Famine, Seuls demeurent, Gallimard, 1945, p. 51.
٢٤٠  Panorama de la nouvelle littéraire française, Gallimard, 1949, p. 51.
٢٤١  Fenaison في Seuls demeurent, Gallimard, 1945, p. 33.
٢٤٢  Portage formel (١٩٤٢م)، وهو نص يتكون من ٥٥ ملحوظة حول الشعر والشاعر، وقد نشر مع «وحدهم سيبقون».
٢٤٣  A la santé du serpent, XXVI في (Le poème pulvérisé).
٢٤٤  نلتقط في شعر «شار» بضع كلمات–مفاتيح، مثل «واقفًا» و«نهر»، لكن كلمتي «شمسي» و«شمس» تبدوان لي — على الأقل — في نفس الأهمية، وما علينا إلا أن نفتح دواوينه كي نلتقي ﺑ «صعودك الشمسي» (A la santé du serpent, XXI)، وهيرقليطيس وبصره «كنسر شمسي» (توطئة لترجمة هيرقليطيس)، و«قوس الشمس» (Pulvérin في Le poème pulvérisé) … إلخ، وشعر «شار» — فضلًا عن ذلك — مغمور بالشمس والماء من خلال البلد الذي ولد فيه، في «فوكلوس»، بالقرب من «صورج» (قارن بمسرحيته Le Soleil des Eaux).
٢٤٥  في Seuls demeurent, Gallimard, 1945, p. 63.
٢٤٦  J’habite une douleur في Le Poème pulvérisé.
٢٤٧  Moulin premier, éd. G.L.M., 1936، صفحة غير مرقمة.
٢٤٨  يوضح «ج. مونان» — بشكل جيد للغاية، بعد أن قام ﺑ «نقل» نثري ﻟ «عصفور الصفارية» — أن القصيدة تنقل لنا «ما لا يعبر عنه بوجه آخر» (سبق ذكره، ص١٧).
٢٤٩  Le Marteau sans maître ، المنشور عام ١٩٣٤م ضمن éditions Surréalistes، ويضم قصائد «أرتين» و«الترسانة»، و«فعل العدالة توقف»، و«قصائد مقاتلة»، و«الوفرة ستجيء».
٢٥٠  خطاب «بريتون» إلى «رولان دي رونيفيل»، Nouvelle Revue Française, Juillet 1932, p. 154، ويعترف فيه «بريتون» بوضوح بوجود مخاطر «النقل poncif السيريالي».
٢٥١  Avez-vous lu Char? Gallimard, 1946, pp. 40–44، في Seuls demeurent, Gallimard, 1945, p. 18.
٢٥٢  في Le Poème pulvérisé (قارن بتعليق «شار» في Arrière-histoire du Poème pulvérisé, Nouvelle Revue Française, 1er Juin 1953, p. 1009).
٢٥٣  Placard pour un chemin des écoliers (1937)، قارن ﺑ مونان، سبق ذكره، ص٢٠.
٢٥٤  وردت «قسمة شكلية» عقب Seuls demeurent, Gallimard, 1945, p. 78، إن صورة المستنقع المرتبطة بصورة لا تقل عنها اعتيادية للسندان (السندان الذي عليه تفجر «المطرقة التي لا معلم لها» شرارة الشعر …)، تؤكد هذه الأبيات الثلاثة التي تبدو شبه مفككة لأول وهلة:
في زوارق السندان
يعيش الشاعر المنعزل
عربة نقل كبيرة للمستنقعات
(L’Action de la Justice est éteint في Le Marteau sans maître, Corti, 1934, p. 60).
٢٥٥  قارن بفصل «مونان» عن Espace et Lumière، في Avez-vous lu Char? pp. 23–32.
٢٥٦  Poèmes militantes ، في Le Marteau sans maître, Corti, 1934, p. 91.
٢٥٧  Proêmes, Gallimard, 1948, p. 139.
٢٥٨  Le Parti pris des choses, Gallimard, 1942, p. 40.
٢٥٩  Pluie ، المرجع السابق.
٢٦٠  Le poète Ponge, Mercure de France, 1er Juin 1949, p. 309.
٢٦١  Introduction Inédite au galet, Poésie 44, no 21, p. 22، وهذا النص الأساسي، الذي يرجع تاريخه إلى عام ١٩٣٣م، ونشر في البدء في Poésie 44، أعيد نشره في Proêmes, Gallimard, 1948.
٢٦٢  Introduciton Inédite au galet, Poésie 44, no 21, p. 21.
٢٦٣  L’homme et les choses ، في Situations I, Gallimard, 1947, p. 263.
٢٦٤  حول هذا المفهوم عن «الكلمة–الشيء»، انظر تأملات «سارتر» في Situations I, pp. 250–254.
٢٦٥  رغم هذا، يبدو أن «بونج» قد فكر في البدء في خلق «عالم اللغة» الموجود في ذاته، وفي نص يرجع إلى عام ١٩١٩م (قارن بسارتر، مرجع سابق، ص٢٥)، يقول ﻟ «حروف» الطباعة: «أريد أن أجعلهم يحبونكم لذاتكم، لا من أجل دلالتكم»، ويتمنى «ألا يمكن الاعتقاد بالتأكيد في أي وجود، في أية حقيقة، وإنما في بعض حركات الهواء العميقة فحسب أثناء عبور الأصوات، في زخرفة رائعة للورق أو الرخام من خلال أثر القلم» (نص أعيد نشره في Dix cours sur la méthode, Seghers, 1946, p. 15)، وسنرى فيما بعد أن فكرة القصيدة — الشيء والقصيدة — الخلق للإنسان بالتالي، تنطوي في تصميمها على التباس معين.
٢٦٦  كتب هذا الفصل عندما نشرت Nouvelle Revue Française «تحية إلى ف. بونج»، الذي أكد فيه الكتاب — مرة بعد أخرى — على أهمية مشكلة التعبير هذه بالنسبة لبونج، على سبيل المثال، «كامي» «بالنسبة لكم إلى حدٍّ ما، إيجاد الكلمة الصحيحة هو التوغل أبعد قليلًا في قلب الأشياء» (Lettre au sujet du Parti pris, Nouvelle Revue Française, 1er Septembre 1956, p. 390).
٢٦٧  ورغم أن «بونج» يتحدث عن اللجوء إلى «خطأ الكلمات» في النص الذي ذكرته، فلا نرى إطلاقًا أنه لجأ إلى ذلك عمليًّا، أما بالنسبة لاختراع الكلمات (من قبيل الكلمة اللافورجية «ازدواجية الطبيعة» في Parti pris des choses, p. 10)، فهو نادر للغاية ولنشر إلى أن كلمة Proême ليست إدغامًا ﻟ Poème en prose، لكنها كلمة نجدها في «ليتريه» وتعني «مقدمة أو مدخل».
٢٦٨  Proêmes, Gallimard, 1948, p. 160.
٢٦٩  المرجع السابق، ص١٨٠.
٢٧٠  Introduction Inédite au galet في Proêmes, p. 139.
٢٧١  La fin de l’automne, Le Parti pris des choses, Gallimard, 1942, p. 10.
٢٧٢  Bords de mer ، المرجع السابق، ص٣٦.
٢٧٣  «الرجل النبيه لن يمكنه إلا الابتسام، لكنه سيتأثر بلا شك، عندما سيقول نقادي: «ما إن بدأ كتابة وصف لحجر، حتى ارتبك» (Le Galet، المرجع السابق، ص٨٤).
٢٧٤  Le galet ، المرجع السابق، ص٧٨، قارن بما سيقوله «سارتر» عن المعنى الثلاثي للعنوان «الرأي المسبق للأشياء»، Situations I, p. 254.
٢٧٥  Les Mûres ، المرجع السابق، ص١٣-١٤.
٢٧٦  قارن بما سبق، الفصل الخامس من القسم الثاني.
٢٧٧  Le Poète Ponge, Mercure de France, 1er Juin 1949, pp. 308-309.
٢٧٨  Le Cageot, Le Parti pris des choses, p. 15.
٢٧٩  Escargots ، المرجع السابق، ص٢٩.
٢٨٠  حول الأهمية الميتافيزيقية للتسمية، قارن بسارتر، مرجع سابق، ص٢٦٤.
٢٨١  ذكره «سارتر»، المرجع السابق، ص٢٧٧.
٢٨٢  «مثلما يشير إليه حرف G، فإن مدرس الألعاب الرياضية، يحمل اللحية الصغيرة والشارب اللذين تصل بينهما خصلة شعر تكاد أن تكون ضخمة مثل السوالف، على جبين منخفض (Le Gymnaste, Le Parti pris des choses, p. 44)، والطريف أن نرى هذا المادي يلحق بالأفكار القبلانية حول التوافق بين الاسم والشيء، ويلتقي مع «هوجو» الذي كان معجبًا — على سبيل المثال — ﺑ «هذه الكلمة الغريبة Phoebe، التي تكاد أن تتكون كلها من أقمار كاملة، وأنصاف أقمار وأهلة» (Hugo, Œuvres, A. Michel, t. IX, p. 277).
٢٨٣  Le Restaurant Lemeunier, Le Parti pris des choses, p. 51.
٢٨٤  La bougie ، المرجع السابق، ص١٦.
٢٨٥  La papillon ، المرجع السابق، ص٣٤.
٢٨٦  Sartre, Situations I, p. 278.
٢٨٧  Proêmes, Gallimard, 1948, p. 54.
٢٨٨  «إن ثراء الاحتمالات الذي ينطوي عليه أصغر شيء يبلغ من الجسامة حد أنني لا زلت لا أدرك إمكانية أن ندرك من أي منها سوى أبسطها: حجر، عشب، النار، قطعة خشب، قطعة لحم»، مثلما يكتب «بونج» (Introduction Inédite au galet, Poésie 44, no 21, p. 22).
٢٨٩  إذا كنت أستخدم هذه الصورة، فذلك لأن فكرة الحيوان، الذي يفرز قوقعة مناسبة لكينونته، حيث لا يوجد «ما ليس ضروريًّا له، بصورة حتمية»، وهو في نفس الوقت «عمل فني، نصب» محكوم بأن يعيش بعده (قارن ﺑ Escargots, p. 33)، هي فكرة مألوفة لدى «بونج»، من ناحية أخرى، يرى «بونج» في الكلام «الإفراز الحقيقي المشترك للإنسان الرخوي» (قارن بما سيلي، الفصل الثالث من القسم الثالث)، لكن «بونج» هنا هو الذي يصبح حصاة، أو جمبريًّا أو حلزونًا ينبغي أن يفرز الجملة المقدر لها أن تقيم — مع الحصاة والجمبري أو الحلزون — علاقة متبادلة «ضرورية، وإلزامية».
٢٩٠  Le morceau de viande, Le Parti pris des choses, p. 43.
٢٩١  La crevette ، المرجع السابق، ص٦٩.
٢٩٢  Le galet, pp. 74–84، وهي مقطوعة المقاومة، إذا جاز القول، في Le Parti pris des choses، فيما تمثيل Introduction au galet نوعًا من «فن الشعر» الخاص ببونج.
٢٩٣  Situations I, p. 255.
٢٩٤  Le Gymnaste, Le Parti des choses, p. 44.
٢٩٥  قارن بما سبق، الفصل الرابع من القسم الأول.
٢٩٦  La crevette, Le Parti pris des choses, p. 69.
٢٩٧  Les mûres ، المرجع السابق، ص١٤.
٢٩٨  Sartre, L’homme et les choses في Situations I, Gallimard, 1947, p. 276.
٢٩٩  La Papillon, Le Parti pris des choses, p. 34، قارن بنهايات جمل «رونار» في Histoires Naturelles مثلما في نهاية «بجعة»: «إنها تسمن مثل أوزة»، ونهاية «طاوس» «يكرر مرة أخرى الاحتفال»، ونهاية «جدجد»: «في الريف الصامت، تنتصب الحور مثل أصابع في الهواء وتشير إلى القمر».
٣٠٠  Panorama de la nouvelle littéraire française, Gallimard, 1949, p. 196.
٣٠١  De l’eau, p. 40.
٣٠٢  La bougie, p. 16.
٣٠٣  Végétation, p. 73.
٣٠٤  قارن ﺑ Notes pour un coquillage, p. 78: «الإفراز الحقيقي المشترك للإنسان الرخوي (…) أعني الكلام».
٣٠٥  المرجع السابق.
٣٠٦  L’homme et les choses, Situations I, p. 275.
٣٠٧  Le cageot, Le Parti pris des choses, p. 15.
٣٠٨  قارن بعنوان من قبيل «ملاحظات من أجل قوقعة»، ولنشِر، فضلًا عن ذلك، إلى تصريح «بونج» هذا: «ليست قصائد ما أريد تأليفه، وإنما نشأة كونية واحدة» (Proêmes, p. 141)، إن «نثريات» بونج هي — بمعنًى ما — تمارين إعدادية، أو عناصر من أجل هذه النشأة الكونية.
٣٠٩  Faune et flore, p. 62.
٣١٠  ويوضح «بونج» أنه كان يأمل وصف الأشياء «من وجهة نظرها الخاصة بها. لكن ذلك نهاية أو كمال، مستحيل»: والواقع أنه «ليست الأشياء هي التي تتحدث فيما بينها، وإنما الناس هم من يتحدثون فيما بينهم عن الأشياء، ولا نستطيع قط الخروج من الإنسان» (ذكره Sartre, Situations I, p. 256).
٣١١  Le pain, Le Parti pris des choses, p. 23.
٣١٢  وعلى نحو خاص في Notes pour un coquillage, p. 55، حيث يقترح على نفسه دراسة قبضة رمل ذرة ذرة، «ولا أية ذرة من ذرت الرمال هذه ستبدو لي شيئًا صغيرًا أبدًا»، وبالمقارنة، ستبدو القوقعة المطروحة على الرمل «نصبًا هائلًا، ضخمًا وثمينًا في نفس الوقت».
٣١٣  L’Anti-Pascal, ou la Poésie et les Vacances: Francis Ponge, Critique, Juin 1949, p. 495.
٣١٤  Le Galet, Le Parti pris des choses, p. 78.
٣١٥  قارن ﺑ Situations I, pp. 254–256.
٣١٦  Francis Ponge, Critique, Juin 1949, p. 497، قارن ﺑ Bords de mer, Le Parti pris de choses, p. 36.
٣١٧  La fin de l’automne, Le Parti pris des choses, p. 9.
٣١٨  «الغسالة حامل بهذه الطريقة، إلى حد أنها — مع امتلائها بكومة من الملابس المتسخة — فإن الانفعال الداخلي، والغيظ المغلي الذي تشعر به، وقد تجمع نحو الجزء العلوي من كيانها، يتساقط كالمطر على هذه الكومة من الملابس المتسخة بما يصيبها بالغثيان — وذلك بطريقة شبه دائمة — وبما يصل إلى تطهير»، كما يكتب «بونج» (Liasse, N.R.F., 1948, pp. 51-52، ذكره «سارتر» في Situations I, p. 292)، ونص كهذا ينطوي على ما يرهق، إن لم نعتقد أننا نضبط من خلال وصف كهذا الابتسامة غير المباشرة لبونج الهزيل، ابتسامة تتأكد عندما يصرح أن على درس الغسالة أن … « يكهرب» القارئ.
٣١٩  L’orange, Le Parti pris des choses, p. 18.
٣٢٠  Le pain, p. 23.
٣٢١  Le poète Ponge, Mercure de France, 1er Juin 1949, p. 310.
٣٢٢  Escargots, Le Parti pris des choses, p. 30.
٣٢٣  أو (سلوك) الواعظ (بحروف البداية)؛ إذ أعتقد أن «بونج» يدعونا، بشيء من الخبث، إلى اتباع الدرس الذي تحدده لنا الحلزونيات: «هكذا، فهي تحدد للناس واجباتهم، فالأفكار الكبرى تأتي من القلب، أصلح نفسك أخلاقيًّا وستكتب أشعارًا جميلة، فالأخلاق وعلم الجمال يتلاقيان في طموح ورغبة الحكيم» (ص٣٣)، وعلينا الاعتراف — رغم هذا — بأن النبرة في «مقدمات» لا تفتقر إلى بعض الانتفاخ.
٣٢٤  قارن — على سبيل المثال — بالطريقة التي يتصف بها بونج «هذه البهرجة» بلمس الباب، و«دفع إحدى هذه اللوحات المألوفة أمام المرء برقة أو خشونة» (Les plaisirs de la porte, Le Parti pris des choses, p. 21)، وفي «ثمرة البطاطس»: «إن تقشير ثمرة بطاطس مسلوقة ومن نوع جيد لذة ممتازة» (Liasse; N.R.F., 1948, p. 42).
٣٢٥  Proêmes, Gallimard, 1948, p. 172.
٣٢٦  المرجع السابق، ص١٧٤.
٣٢٧  Sens plastique, Gallimard, 1953 (1er édition, 1948), p. 315.
٣٢٨  Sens plastique, Gallimard, 1953, p. 315.
٣٢٩  Préface de Paulhan à Sens plastique, p. XIV.
٣٣٠  المرجع السابق، ص١٣.
٣٣١  في كتابه الثاني «حياة مصفاة» (١٩٤٩م)، يسيطر على «شازال» توجهه الفلسفي: لم يعد يبحث عن كتابة قصائد، وإنما استخلاص «نتائج» من المقارنات التي يعقدها، و«تصفية» الأحاسيس والتجربة كي لا يتم الاحتفاظ إلا بجوهر الأشياء.
٣٣٢  Sens plastique, p. 133.
٣٣٣  المرجع السابق، ص٣٤.
٣٣٤  «الصعوبة التي تواجهني حاليًّا هي أن جرة اللغة مسامية بشكل زائد، وقارورة الكلمات ليست عميقة بشكل كافٍ، لاستيعاب وحصر ضخامة الإحساس» (Sens plastique, p. 316).
٣٣٥  Sens plastique, Gallimard, 1953, p. 16.
٣٣٦  المرجع السابق، ص٩.
٣٣٧  المرجع السابق، ص١١.
٣٣٨  المرجع السابق، ص١١.
٣٣٩  المرجع السابق، ص٣٣.
٣٤٠  المرجع السابق، ص٢٨٥.
٣٤١  مقدمة La Vie filtrée.
٣٤٢  Sens plastique, p. 169.
٣٤٣  القصائد المنشورة في مختارات Poésie Vivante, t. II: Poèmes en prose, Librairie Les Lettres, 1954 تقدم أمثلةً جيدة ﻟ «تقمص» الإنسان هذا المشهد الطبيعي.
٣٤٤  Sens plastique, p. 169.
٣٤٥  Saint-John Perse, Œuvres poétiques, t. I, Gallimard, 1953 (وتضم كل القصائد المنشورة حتى اليوم، عدا «منارات»، والشكل الأولي ﻟ «إليك، يا بحار»).
٣٤٦  حول بدايات «سان–جون بيرس» (آنئذٍ، «سان– ليجيه ليجيه»، قارن بما سبق، الفصل الأول من القسم الثالث).
٣٤٧  Panorama de la nouvelle littéraire française, Gallimard, 1949, p. 139.
٣٤٨  مقدمة ترجمة Anabase, Nouvelle Revue Française, 1er Janvier 1926, p. 67.
٣٤٩  «سان–ليجيه ليجيه» سفير، ثم سكرتير عام في الشئون الخارجية، أبحر في يونيو ١٩٤٠م إلى إنجلترا، ثم إلى أمريكا، بينما كان الألمان يفتشون منزله في باريس ويصادرون — ضمن أشياء أخرى — مخطوطات سبعة أعمال أدبية غير مكتملة كان يزمع نشرها، ما إن تنتهي مدة عمله الدبلوماسي (انظر مقدمة A. Bosquet, au Saint-John Perse de Poètes d’Aujourd’hui, Seghers, 1953, pp. 105-106, et Humanité de St-John Perse, par Raymond, Cahiers de la Pléiade, été-automne 1950, p. 125).
٣٥٠  Vents, Œuvres poétiques, I, Gallimard, 1953, p. 297.
٣٥١  Une poésie encyclopédique ، عدد خاص من Cahiers de la Pléiade مخصص لبيرس، صيف–خريف ١٩٥٠م، ص١٠١.
٣٥٢  Vents, I, p. 298 (كل إحالاتي ترجع إلى Perse, Œuvre Poétique, I).
٣٥٣  Vents, IV, 6, p. 442.
٣٥٤  Vents, III, 6, p. 400.
٣٥٥  Vents, I, 3, pp. 308-309.
٣٥٦  قارن ﺑ Richard Wagner et Tannhauser, Œuvres, Pléiade, t. II, p. 487.
٣٥٧  نشرت في Nouvelle Revue Française, 1er Juillet 1956.
٣٥٨  قارن ﺑ «أيا حبي الذي له مذاق البحر»، ص٤، «حب وبحر وطرق البحر»، ص١٨، «حب وبحر من نفس السرير، حب وبحر في نفس السرير»، ص٣٥ … إلخ.
٣٥٩  Anabase, X, pp. 190–193.
٣٦٠  Vents, I, 3, pp. 308-309.
٣٦١  Exil, pp. 210-211.
٣٦٢  Vents, pp. 400 et 411.
٣٦٣  Exil, p. 231، قارن ﺑ «أبواب مفتوحة على الرمال، أبواب مفتوحة على المنفى»، ص٢٠٥، «حيث تذهب الرمال إلى نشيدهم يذهب أمراء المنفى»، ص٢٠٨ … إلخ.
٣٦٤  «ثم أتت الثلوج، ثلوج الغياب الأولى»، ص٢٦٥، «ثلوج الغياب المذهلة»، ص٢٧١ (Neiges).
٣٦٥  Neiges, pp. 277 et 278.
٣٦٦  Renaissance du poème ، مترجم عن الألمانية، في العدد الخاص من Cahiers de la Pléiade، المخصص لسان–جون بيرس، صيف– خريف ١٩٥٠م، ص١٣٤.
٣٦٧  Vents, III, p. 393.
٣٦٨  المرجع السابق، ص٣٨٩ وص٣٩٤.
٣٦٩  Vents, II, 2, p. 342.
٣٧٠  Une poésie scandée, Cahiers de la Pléiade, été-automne 1950, p. 78.
٣٧١  Anabase, V, p. 165.
٣٧٢  Exil, IV, p. 217.
٣٧٣  قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثالث.
٣٧٤  Vents, II, 6, pp. 367-368، قارن — في نفس القصيدة — بالمناجاة الكبرى للشتاء، ص٣٤٦– ٣٤٨.
٣٧٥  Positions et Propositions, I, Gallimard, 1928, p. 30.
٣٧٦  Œuvre poétique, p. 390.
٣٧٧  المرجع السابق، ص٣٣٧– ٣٤٠.
٣٧٨  المرجع السابق، ص٤٣٥.
٣٧٩  Anabase, X, pp. 191-192.
٣٨٠  Exil, VI, pp. 221–228.
٣٨١  خطاب إلى «أ. ماك ليش»، ورد ذكره في Cahiers de la Pléiade, été-automne 1950, p. 155.
٣٨٢  Exil, VI, p. 227.
٣٨٣  Vents, I, 5, p. 316.
٣٨٤  Anabase, X, pp. 189 et 190.
٣٨٥  قارن بما سبق، الفصل الأول من القسم الثالث.
٣٨٦  Une poésie encyclopédique, Cahiers de la Pléiade, été-automne 1950, p. 105.
٣٨٧  Anabase, X, p. 188.
٣٨٨  Vents, III, 3, pp. 384 et 387؛ قارن — ص٣٨١ — باستدعاء «علماء الفيزياء، وعلماء الصخور وتركيباتها وعلماء الكيمياء» وهم يواصلون غزواتهم «في الجرافيت وأوكسيد الثيورانيوم».
٣٨٩  Vents, III, 6, p. 401.
٣٩٠  Le plus hautainement libreCahiers de la Pléiade, été-automne 1950, p. 73.
٣٩١  قارن ﺑ Neiges, IV, p. 276.
٣٩٢  أوضح «دوني ديفيلان» كيف «يكرس» بيرس الكلمات: «كانت كلمة كذا الفرنسية ترى معناها الحديث مدعمًا بفعل الإحالة إلى مبدأ النواة اللاتينية نفسه المشتقة منها»، والصعوبات التي تنشأ منها في الترجمة (Saint-John Perse à Washington, Cahiers de la Pléiade, été-automne 1950, pp. 87-88).
٣٩٣  Anabase, X, p. 188.
٣٩٤  «حيوانات باهظة منتفخة بحليبها»، Vents, I, 6, p. 329.
٣٩٥  Vents, II, 6, p. 368.
٣٩٦  Pluies, I, p. 235.
٣٩٧  Exil, I, p. 205.
٣٩٨  Pluies, II, p. 239.
٣٩٩  Le plus hautainement libreCahiers de la Pléiade, été-automne 1950, p. 72.
٤٠٠  قارن في Vents, I, 3 بالطريقة التي «تبعثر» بها «القوى الهائلة» للرياح «صروح البشر القديمة»، ثم توقظ الكتابات الجديدة المحبوسة في حجر النضيد المقبل …» (ص٣٠٨–٣١٠)
٤٠١  قارن بما سبق، الفصل الثالث من القسم الثاني.
٤٠٢  «سلطة على كل علامات الأرض …» (Anabase, VIII, p. 181).
٤٠٣  ينبغي بالمثل، أن ننحي جانبًا المحاولة التي تركها «فاليري» تحت عنوان «الملاك» L’Ange (Gallimard, 1946)؛ وهي المحاولة الوحيدة منذ عام ١٨٩٢م، إذا استثنينا اثنتي عشرة «نثرية» كتبت «لمصاحبة» رسومات حفر على الخشب ﻟ «ف. سيمون»، ونشرت عام ١٩٢٢م تحت عنوان «أنماط وطرق من وقتنا الراهن»، (Modes et Manières d’aujourd’hui, éd. Corrard)، فقصيدة النثر هذه، المكتوبة في مقاطع، وفي لغة مركزة وجميلة، لكنها فلسفية إلى حدٍّ كبير، تذكرنا — بالنسبة إلى «فاليري» — بأن المساعي الدائرة حول قصيدة النثر في «الحالة الخالصة» تكشف «إحساسًا بالتكوين» و«ميلًا إلى البناء» أشاد بهما هو نفسه في Eupalinos (قارن ﺑ L. Lefèvre, Entretien avec P. Valéry, Le Livre, 1926, p. 170) وبشكل عام، يبدو أن الشعر بالنسبة لفاليري — رغم هذا — كان فن الأبيات، وكان يضع نفسه، مثلما يقول لنا «دريو لاروشيل»، ضمن «كبار محتقري» قصيدة النثر (Le poème en prose, Les Nouvelles Littéraires, 5 Mai 1934).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥