حجة إبليس١

جعلت أَتنقَّل في قراءة الكتب بين جحيم «دانتي»، وجحيم «ملتون»، وجحيم «الْمَعَرِّي» حتى أدركني النعاس، فنمت ورأيت في الحلم «إبليس»، وكان جميل المُحَيَّا، قد توَّجَهُ الجحيم بتاج من النار والنور عليه ثياب وَضَّاءَةٌ، وله نظرة تَنْفُذُ إلى صميم القلب، فتضيء له ما يُضْمِرُه، فلما رآني حيَّاني، وقال: أجئت تنظر إلى ذلك الجريء الذي عصى ربه، ورأى أن الحرية في الجحيم خيرٌ من الذل في الجنة؟

فقلت: على رَسْلِكَ يا أبا مُرَّةَ، فوالله ما أنا بالرجل الذي تُغْوِيه بكلماتك، لست ممن تستذله جهنم وعذابها، ولا ممن تزدهيه الجنة ونعيمها، فإن في نفسي جنة وجحيمًا، وكفى بهما رادعًا عما تدعوني إليه من العصيان. وإني ما أتيتك بالإعجاب ولا بالْمَقْتِ. ولقد كنت أستشعر لك الرحمة، لولا أنك ترى في رحمة الرحيم، وإشفاق المشفق، إهانةً لك واحتقارًا.

قال إبليس: هوِّن عليك، وخَلِّ الرحمة لمن هو في حاجة إليها من البشر. هل ترى رحمة الرحيم من الناس قد أَوْدَتْ بشقاء أهل النَّحْسِ منهم؟ اذهب إلى مكانك من الأرض، وانظر في أكنافها، فإنك واجد من البؤس والشقاء ما تداويه بالرحمة إن كنت رحيمًا، وأكبرُ ظني أنك لست بفاعل.

أما إن الذل قد نال منكم مَنَالًا حتى مكن الرياء منكم، فصرتم تثنون على الخير وفاعليه، ولَلشر أحبُّ إليكم منه إليَّ. أما إنكم لَتلعنون «إبليس» كي تلفتوا الله عما هو فيكم من صفات الشر. وهيهات أن يستقيم ذلك، وتسبون الشر وفاعليه كي لا يُقال إنكم منهم، إنكم لتَحْتَالُون عليَّ كي أُغْوِيَكُم، فإذا لم أجد بُدًّا من إغوائكم رجعتم تَسْتَنْزِلُونَ عَلَيَّ اللعنات. أكان ذنبي إليكم يا بني آدم أن قد دَلَلْتُ «آدم» على شجرة العِرْفَان، وكان قبلها يعيش عيشة البهائم؟ أما إن الجاهل لَيبغض العِرْفَانَ كما تبغضونني، وإن الْأَرْمَدَ لَيشكو النور كما تشكونني، تقولون إني أضلكم فيا عجبًا كلَّ العجب! إنكم تحتالون عليَّ حتى أضلكم بالرغم مني.

لقد عانيتُ الليلة البارحة العناءَ كله من امرأة شَمطاء، ليس فيها للهوى مطمعٌ، جعلتْ تحتال عليَّ لأُغويها وأنا أَتمنَّع، حتى لم أجد بدًّا من إغوائها رحمة بها، وإذا شئت حدثتك حديث الشيخ فلان الذي يحتال عليَّ بدهاء قلبه ولسانه، كي أُضله، ويتوصل إليَّ، ويتضرع كل التضرع، كي أُمَكِّنَه من إظهار الرذيلة في لباس الفضيلة، حتى لم أجد بدًّا من إجابته. فيا بني آدم إني لو قمت بينكم واعظًا أُرشدكم إلى الخير، وأستعين بدهائي على هدايتكم لَمَا تابعني أحد منكم إلى الخير كما تتابعونني الآن إلى الشر، ولقلتم: قد كبر الشيخ أبو مرة، وخرف، وصار لا يقوى على إغوائنا، وطلبتم من الله أن يعزلني عما وَلَّانِيه من غواية الناس، وأن يجعل مكاني مَنْ هو أقدر على إغوائكم مني.

ثم إن الشهوات أيها الناس سبيل التجارب، والتجارب سبيل الحكمة، غير أن هذا السبيل محفوف بالمكاره، فمن الناس من كانت شهواته جنة ونعيمًا، ومنهم من كانت شهواته جحيمًا، وأنا إذا أغريتكم بإرضاء شهواتِكم فإنما أُغريكم بمزاولتها مزاولة العاقل اللبيب، الذي يُزَاوِلُهَا كي يُرَفِّهَ عن نفسه، وكي يستفيد مما يجده في مزاولتها من التجارب، وكي يَفْتِقَ ذهنه بما تجده النفس فيها من الراحة واللذة. فهل ذنبي إليكم أنكم لا تفهمون قولي، وأنكم تزاولونها مزاولةَ الجاهل البليد؟

يا بني آدم إن من يخشى النار خليقٌ أن لا يرى النور. أليست النارُ مصدر النور؟ وكذلك من خاف العذاب أخطأه نور العرفان (انظر إلى احتيال اللعين في ابتداع التشبيهات، ومهارته في ذلك)، يا بني آدم إن الماء الراكد يرث السم والوباء، وكذلك النفس الراكدة التي لا تحركها الرَّغَائِبُ ومطالب الحياة، فإنما أُريد أن تفتقوا بها أذهانكم، فما حيلتي إذا كنتم تنيمون بها ضمائركم.

يا بني آدم إن الإيمان المضلل شر من الكفر، انظروا إلى القدماء الذين كانوا يتقربون إلى الله بالضحايا البشرية، وانظروا إلى القسس الذين كانوا يحرقون الناس في محاكم التفتيش، وانظروا إلى الذين لا يقنعون إلا بتقطيع الأرجل، والأيدي وفقء الأعين. على أنكم تخالون أن المرء لا يعبد الله إلا إذا أهان نفسه له …

فلما رأيت أن «إبليس» يريد إغوائي، قلت له: دعنا من هذا الحديث؛ فإني ما جئت لأتعلم الدين والعبادة منك، ولا للمُحَاجَّةِ التي تُحاول بها أن تُوهم الناس أنك بريءٌ طاهر، وإنما جئت أستطلع الغريب من أمرك، وأرى أين تكون من الأوصاف التي تطير بها إشاعة السوء. فإن بعض أعدائك قد أشاع أنك قبيح الوجه، وأن لك في أسفل الكِفْلِ ذَنَبًا مثل ذَنَبِ الحيوان، فقال: أما الوجه فقد رأيته، فماذا رأيت زينًا أم شيئًا؟ قلت: زينًا، ولولا ذلك ما قَدَرْتَ على إغراء الناس. ولكن ما يدريني لعل لك أوجهًا كثيرة، فإنك تخدعنا بالجمال كما تخدعنا بالقبح، وربما كان جمالك مثل جمال السَّرَابِ، أو جمال أصبغ العاهرات. فضحك إبليس وقال: أما الذََّنَبُ فانظر إن كنت تجده، ثم كشف عن ظهره، فوالله العلي العظيم ما رأيت له ذَنَبًا، ولا ما يشبه الذَّنَبَ، ولكن ربما كان ذَنَبُه مثل تلك اللعب التي تنقبض وتنبسط، والعلم لله.

١  عكاظ، ١٧ من أبريل ١٩١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤