عظم الوجود١

رأيت في الحلم مرة أني كنت نائمًا على الأرض في بستان أنيق، وجعلت أنظر إلى النجوم والظلامُ حولي كالعباءة، فبينما أنظرُ إلى السماء، رأيت عينين كبيرتين تُطِلَّان من السماء، وكل واحدة منهما في حجم القمر، ولكنهما كانتا مثل أعين الناس، ورأيت النار تنقدح فيهما كأن في كل عين منهما جحيمًا، ثم رأيت يدًا كبيرة كأنها يد جني مُدَّتْ من السماء إلى الأرض. فقبضت عليَّ ورفعتْني في كفها، حتى صارت الأرض في عيني — إذا نظرت إلى أسفل — مثل النملة، وصارت الشمس مثل التفاحة الصغيرة، والكواكب حولها كالنمل، فتملكني الرعب، حتى صرتُ من شدة الرعب لا أُحس به، ثم نظرت إلى ما فوقي، فرأيت كواكب وشموسًا غير الكواكب التي يراها الناس، وشموسًا غير الشمس التي يراها الناس، رأيت كل هذا وأنا في يد ذلك الجنيِّ.

ثم رأيت عينَي ذلك الجني في سمائي، والنارُ تتطاير منهما، فصِحْتُ قائلًا: من أنت أيها المخلوق الكبير؟ فضحك ضحكًا كاد يصم أذني، ضحكٌ صوتُه مثل صوت تصادم الكواكب، وتكسُّر الأفلاك، ثم قال: أنا أعظمُ من أن أكون مخلوقًا، أنا رُوح الأبد. أتحسب أيها المخلوق الحقيرُ أن كل شيء مخلوق مثلك؟ أتقيس قدرة الله بما أودع فيك من المقدرة؟ ثم قال: انظر أيها المغرور، ثم رفع صوته، وأمر الأفلاك من نجومٍ وشموسٍ أن تتصادم، فتصادمت وتكسرت، ثم غابت أشلاؤها في الفضاء. قلت: هل فنى الوجود؟

فضحك ضحكًا عاليًا، ثم قال: لا … انظر أيها المغرور، ثم رفع يده، فرفعني في يده، فرأيت أفلاكًا غير الأفلاك التي رأيتها قبل. وهكذا جعل يأمر الأفلاك فتتصدع، ثم يريني غيرَها حتى كدت أموتُ من جلالة ذلك المنظر وهوله، فصحتُ قائلًا: أرني الأبد الذي أنت روحه، فضحك وقال: إني لَيُعجبني غرورُ الإنسان، فإن غروره هو نتيجةٌ من نتائج الطموح، والطموح دليلٌ على الحياة، وعنوان العبقرية، اعلمْ أيها المغرور أنك جزءٌ حقير من الأبد، فكيف يفهم الجزء الحقير الشيء الكامل؟

قلت: إذًا كيف فهم الحكماء وحي الحق؟ قال: إن ضمائر الأفراد ثقوبٌ يُطلُّون منها على الحق، ويناجونه منها، ولكن مثلهم في تلك المناجاة مثل جماعة من العميان، لمس أحدهم خرطومَ الفيل، فقال: الفيل مثل الثعبان، ثم لمس أحدهم جانبه، فقال: الفيل مثل الحائط، ثم لمس أحدهم ذنبه، فقال: الفيل مثل الحبل الطويل، ولمس أحدهم رجله، فقال: الفيل مثل الدعامة المستديرة، وكذلك الحكماء، لا يرون الحق إلا كما ترى النور من ثقبٍ صغير، فكل عقيدة من عقائد الناس مكمِّلة لأختها، ومتممة لها. ولما انتهى إلى هنا، قال: اذهب إلى مكانك من الأرض، ولا تنس عِظَمَ الوجود، فإن إحساسك بعظمته فيه معاني العبادة كلها.

١  البيان: جمادى الثاني ١٣٣٠ﻫ/يوليو ١٩١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤