الفصل الثالث

عيوب الدمقراطية وفوائدها

١

إذا كانت الشيوعية والفاشية، وهما أحدث النظم المعارضة للدمقراطية لا يَفضُلانها في شيء، فليس معنى هذا أن الدمقراطية جديرة بالبقاء، فقد يكون ثمة نظامٌ آخَرُ خيرٌ منها لم يجرِّبْه الناس أو لم يعرفوه بعدُ، والحق أن للنظم الدمقراطية القائمة بالفعل عيوبًا كثيرة، وأن إيمان الدمقراطية بمقدرة الناس ورجاءها في إيجاد مجتمع متساوي الأفراد، يجب ألَّا يَحُولَا دون توجيه النقد إلى الوسائل العملية التي سارت عليها، لقد كان أكثر ما يعترض به على النظم الدمقراطية في أيامها الأولى، حينما كان أهم موضوعات الجدل السياسي هو حق الانتخاب وحكم الأغلبية، كان أكثر ما يعترض به عليها أنها مقيدة «للحرية»، ولما كان الغرض الأول الذي يعمل له أنصار الدمقراطية هو توسيع دائرة «الحرية»، فإن منشأ هذا الاعتراض الأول أن الحرية قد فُسرت تفسيرًا يُخالف من بعض الوجوه ما كان يفهمه منها الدمقراطيون الأوَّلون، لقد شُغل الناس في أوائل القرن التاسع عشر بالنضال للقضاء على الامتيازات التي كانت تتمتع بها بعض الطبقات والطوائف، وكان كلُّ المفكِّرين في ذلك الوقت يمتدحون «الحرية» وحق «الانتخاب» ذي الصلة الوثيقة بالحرية.١
ولم تكن الحريات التي نالها الشعب في العصور الوسطى إلا حقوقًا اعترف بها الأشراف والحكام، ولم يكن مبدأ «التخلِّي»؛٢ الذي ساد النظم الصناعية الأولى إلا سعيًا وراء نوعٍ من أنواع «الحرية»؛ ولذلك كانت «الحرية» التي يُجاهِد في سبيلها دُعاةُ الدمقراطية الأولون هي حماية الشعب من نزوات الحكام وأهوائهم الشخصية، وقد نال هذه الحماية بسن قوانين كان يفترض بحق أن سيراعيها كل مَن يباشر السلطات العامة، ثم صارت هذه الحرية «المدنية» فيما بعدُ هي بعينها حق كل إنسان في أن يُحاكَم، وأن يُحاكَم محاكمةً من نوعٍ خاص أمام محلفين، قبلَ أن تُستَخدَم معه وسائل الإكراه والعنف، وتقرَّر بذلك المبدأ الذي يُوجِب على مَن يتولَّوْن السلطات العامة أن يجيئوا بالمُتَّهَم أمام القضاء، وأن يُطيعوا حكم القضاء فيه على الفور، وبذلك أُلغيت عادات القبض على الناس سِرًّا، والحكم عليهم سِرًّا، وعقابهم من غير محاكمة، وهي المظالم التي أحياها عهد الدكتاتورية في هذه الأيام، وكانت الخطوة الثانية في سبيل الحرية جعل القوانين المعمول بها مطابقة للمبادئ الخُلُقية السائدة في وقتها، لا للمبادئ التي كانت سائدة في الأزمنة الماضية، وكان من أثر ذلك أن استُخدمت طرق جديدة للتشريع، فكان من المَعاني التي تتضمَّنها الحرية أن يكون لكل إنسان الحق في أن يُبدِي رأيَه فيما يجب أن يكون عليه القانون، ولما كانت معظم القوانين المُتَّبعة في ذلك الوقت قديمة العهد، خُيِّل إلى الناس أن سَنَّ القوانين الجديدة هو أهم ما يجب أن يتولَّاه «الشعب» من وظائف الحكومة؛ ولذلك سُمِّي اشتراك الشعب في وضع القوانين «بالحكم الذاتي»، وسُمِّي الشعب الذي يَضَع قوانينَه لنفسه شعبًا «حرًّا»، ووُسعت دائرة حق الانتخاب؛ ليزداد عدد الرجال والنساء الذين يتمتعون بهذا النوع من «الحرية»، وتغيرت طريقة وضع القوانين، فكان لا بد من أن يعاد النظر أولًا في الأوامر والنواهي القديمة ليرفض منها ما يستحق الرفض، وأن تحدد واجبات الأفراد الجديدة، وكذلك أصبح المعنى المفهوم من «القانون» هو تحديد الأعمال والواجبات الجديدة التي تقوم بها السلطة العامة،٣ وكانت الطريقة التي اتُّبعت لبلوغ هذه الغاية هي زيادة عدد أفراد الأمة الذين يُبدُون آراءَهم في هذه الأعمال والواجبات، وسُمِّي هذا الحق بحق «الحرية» السياسية، وهو أيضًا من الحقوق التي لا تسمح بها الدكتاتورية.
على أن العلاقة بين الدمقراطية وتوسيع دائرة «الحرية»، كانت علاقة مبهمة غامضة حتى في البلاد ذات التقاليد الدمقراطية، والدليل على ذلك أن بعض الناس أخذوا يقولون إن تقدم الدمقراطية قد زاد على الحد الواجب، وليس ثمة شك في أن اتساع دائرة حق الانتخاب قد أدَّى إلى سَنِّ شرائع ونُظُم جديدة خاصة بالصحة، ومكافحة الأوبئة ودُور العلم وشروط العمل في الصناعات المختلفة، فهل ضيَّقت هذه الشرائع والنظم دائرةَ «الحرية»؟ وقيل أيضًا إن في ازدياد عدد مَن يتمتعون «بالحرية» المدنية أو السياسة خطرًا على حرية العمل والتفكير، والحق أنه لم تَكَد تُحطَّم الأغلال التي وضعتْها في رقاب الناس الامتيازاتُ والنُّظُم القديمة، حتى بدا لبعضهم أن الواجب يقضي بتنظيم شروط العمل ومكافحة الغش والفساد، وبذلك أخذ التجار والصناع، الذين وقفتِ الدولة إلى جانبهم ضد مُلَّاك الأراضي، يَعُدُّونها شرًّا ووبالًا عليهم؛ لأنها قيَّدت جهودهم التي يبذلونها في كسب المال لمنفعتهم، والتي كانوا يسمونها «بالمغامرات الفردية»، وكان من العقائد التي يؤمن بها أنصار «الحرية» في الصناعة، المعارضون لبعض الامتيازات القديمة، أن هذه المغامرات الفردية ستحقق أكبر خير مستطاع للمجموع؛ ولذلك قال آدم اسمث Adam Smith:٤ إن منافسة الفرد لجميع الأفراد إذا سعى كل إنسان وراء مصلحته، هي «الحرية» الطبيعية في أبسط مظاهرها؛ وبناءً على هذا المبدأ كان يُظن أن كل قيد تقيِّد به الدولة شروط العمل يتعارض مع «الحرية»، ويلوح أن دُعاة هذا المذهب كانوا يفترضون أن كل فرد قد أوتي من القوة والعقل، ما يستطيع به أن يحصل لنفسه من الحرية على القدر الذي يتفق مع مصلحته، ويرى لأول وهلة أنهم لم يُدخِلوا في حسابهم المعتوهين، وأنهم قد أغفلوا إلى جانب هؤلاء اختلاف المراكز التي يشغلها في المجتمع أفراد الطبقات الاجتماعية المختلفة، وعدوا العادات والنظم التقليدية «من طبيعة الأشياء»؛ وقد نشأ من هذا أن المِلْك بمعناه الذي كان يُفهم منه في القرن الثامن عشر كان يُعَدُّ حقًّا «طبيعيًّا»؛ ولذلك كان على الدمقراطية أن تُحافِظ على «المِلْك» محافظتها على «الحرية».
ولما لاح في الأفق نجم الدمقراطية مبشِّرًا بتوسيع دائرة حق الانتخاب؛ لكي تشمل العمال في الصنائع اليدوية، أخذ أنصار المغامرات الفردية المعارضون لتدخل الدولة أيًّا كان نوعه يحتجون على العهد الجديد، وانضم إليهم في هذا الاحتجاج خلفاء «العقليين»٥ الذين كانوا يعيشون في القرن الثامن عشر؛ لأن هؤلاء كانوا يخافون أن تقيد الدمقراطية المعبِّرة عن «عقل الجماهير» حرية الفنانين والسابقين الأولين في التجارب الاجتماعية، ولا يزال بعض الناس حتى في وقتنا الحاضر يقولون إن «الدمقراطية» تُفسِد الذوق، وتخلق الضوضاء والاضطراب، وتقضي على قوة الابتكار، ويقول غيرهم إن مهاترات الجرائد تفيض بأسوأ مظاهر الدعوة الدمقراطية الموجهة إلى العامة والرعاع، وإن الفراغ الذي تطلبه للكافة لا بد أن يحط من شأن التنعم المتمدين؛ لأنه لا يترك للطبقة المستنيرة «حرية» اختيار ما يلائمها من التنعم الراقي، وقد استنتجوا من ذلك أن الدمقراطية الحقة يجب أن تقف عند الحد الذي بلغتْه في منتصف القرن التاسع عشر ولا تتعداه؛ لأن «الحرية» إذا زادت أصبحت «استهتارًا»، بل بلغ منهم أن قالوا إن النظم التي تساعد العمال أو الجَهَلة، من شأنها أن تنقص من حرية الذين كانوا يتمتعون من قبل بهذه الحرية.
ولما كانت النظم الدمقراطية تقيد حرية الذين نالوا كل ما يحتاجون إليه في مغامراتهم الفردية وفي الاستمتاع بالراحة، أخذت الطبقات الوسطى تناوئها، كما كان يناوئها من قبلُ طبقة المُلَّاك الأرستقراطية والمعجبون بها، فإذا قلتَ الآن لبعض التجار والكُتَّاب: تعالَوْا نطبق المبادئ الدمقراطية تطبيقًا يعطي العامل اليدوي الحرية الاقتصادية، عارضوا في ذلك، مع أن هذا المبدأ عينه هو الذي حرر التاجر والصانع وصاحب الرأي المخالف في الدِّين من سيطرة ملاك الأرض ورجال الكنيسة، ويرى كثيرون أن الناس يكفيهم من الحرية أن يمنحوا حق الانتخاب؛ لأنه يترك للمسيطرين على موارد الثروة الاقتصادية ما يكفيهم منها، ولقد كانت الصلة القديمة بين الدمقراطية والمحافظة على المِلْك والحرية سببًا في إظهار الدمقراطية، كأنها عقبة قائمة في سبيل الاستزادة من الحرية، ونتج عن هذه المشكلة تياران معارضان من الأفكار هما الفاشية والشيوعية، فالفاشية تدعو إلى الاحتفاظ بالمِلْكية الفردية مهما لاقت في سبيل ذلك من عناء، وتندد «بالدمقراطية»؛ لأن اتساع دائرة الحقوق السياسية يحد من حقوق المِلْكية، أما الشيوعية فترى أن الدمقراطية تضليل وخداع؛ لأن ما تقره من حقوق المِلْكية الفردية يضيق دائرة ما تهبه من الحرية وينقص من قيمته؛ ولذلك يقول الشيوعيون: إن هذه الحرية ليست إلا خداعًا ووهمًا من أوهام البورجوازي، ولا ندري هل معنى ذلك أنها ليست الحرية التي يرغب فيها هؤلاء القوم، أو أن كل أنواع «الحرية» في رأيهم تتعارض مع مصالح المجتمع؟ والذي تكشف عنه كل هذه الانتقادات التي يوجهها إلى الدمقراطية، «الحرية» الفردية والطغيان الجديد هو الحاجة إلى معرفة حقيقة ما نرغب فيه حينما نسعى إلى «الحرية»، ويجدر بنا أن نذكر أن الذي يهمنا هنا ليس هو التعريف الفلسفي للحرية، بل ما يجنيه عامة الشعب من ثمارها، لكن الصورة الأولى التي حدد الناس بها طلبتهم من الحرية، حينما سمَّوْها كذلك كانت ترتبط في عقولهم بعقيدةٍ أخرى، وهي أن كل فرد وحدة منفصلة أو ذرة تشترك مع غيرها من الذرات؛ ليتكوَّن من مجموعها مجتمع،٦ وذلك زعمٌ خاطئ؛ إذ ليس من المرغوب فيه الآن أن يَبقَى الناس منفصلين بعضهم عن بعض، وليس المَثَل الأعلى للشخصية أنها وِحْدة منفصلة، بل إنها عنصر متحد مع غيره من العناصر لتكوين المجتمع، فإذا طالَبْنا بالحرية فلسنا نعني بذلك قطع كل صلة لنا بالمجتمع، ولسنا نطلب الوقاية لأنفسنا من جميع مَن عدانا فحسب، بل نطلب أن نُمَكَّن من استخدام كل كفاياتنا، وأهمها الكفايات التي يترتَّب عليها تعاوننا الودِّي مع غيرنا في العمل المشترك؛ ولذلك كان من أهم مظاهر الحرية بمعناها الحديث قدرة الشخص على أن يعمل مع غيره من الأشخاص؛ ولهذا أيضًا لا تُعَدُّ الأنظمة التي تمكِّن سكان مدينة من المدن، من أن ينشئوا لأنفسهم نظامًا للمجاري أو لتوريد مياه الشرب مثلًا أنظمة مقيدة للحرية، بل بالعكس تعد موسعة لدائرتها، وقد يكون في كل نظام نقص أو عيب، ولكن لا بد من وجود نظام ما؛ لكي يستطيع الناس أن يعملوا معًا، وأنفع الأنظمة لهذا العمل المشترك هو النظام الذي ينشأ من المناقشة العلنية والموافقة على القرارات التي تعقب المناقشة، فالنظم التي تمكن الناس من أن يتناقشوا ويوافقوا، بدل أن يُفرَض عليهم ما يُراد بهم رغمًا عنهم، هي التي تتفق مع الحرية بمعناها الحديث، فإذا كانت النظم القائمة في الوقت الحاضر لم تبسط سلطان هذه الحرية في ميادين غير التي توجد فيها الآن، فإن كل ما يدل عليه ذلك أن المبدأ الذي تقوم عليه يجب أن ينتشر حتى يعم هذه الميادين، ولا يدل على ذلك أن الدمقراطية قد أفلست كما يتوهم الشيوعيون؛ وذلك لأن مبادئ الدمقراطية قد عَدَّلَتْ كثيرًا من النظم، ومنها حقوق المِلْكية الشخصية نفسها تعديلًا خطيرًا، ولا صحة مطلقًا للادِّعاء بأن حقوق المِلْكية المشروعة قد أفلحت في عصرٍ من العصور، في مقاومة الطرق التي تسلكها الدمقراطية لتوسيع دائرة الحرية، بل الحق أن حقوق المِلْكية القديمة كانت ولا تزال تتطور باستمرار، حتى إن لفظ «المِلْك» نفسه قد تبدَّل معناه عمَّا كان عليه من قبلُ، وكذلك لا نوافق على ما يدَّعيه الفاشيون من أن التوسع في تطبيق المبادئ الدمقراطية، سيَقضِي على الكفايات الممتازة التي تُستَخدَم في الظروف الاستثنائية؛ وذلك لأن هذه المبادئ نفسها تمكن كل شخص من استخدام كفاياته الاجتماعية، وتفسح المجال بنوعٍ خاص أمام الكفايات الاجتماعية الممتازة، التي يتمتع بها أي شخص من الأشخاص، ولكن الذي لا تفعله المبادئ الدمقراطية هو أن تقيم سلطة تقضي على الملكية بجميع أشكالها، أو تمكن أي إنسان مهما أوتي من الكفايات الممتازة، من أن تكون له السيطرة التامة على غيره من الناس، ولا مِراء في أن النظم الدمقراطية قابلة للإصلاح والتحسين، ولكن هناك أغراضًا لا تصلح لها هذه النظم بحالٍ من الأحوال، فإذا قَبِل الإنسان المَثَل الدمقراطي الأعلى، فلا بد أن يسلِّم بأن هذه الأغراض غير صالحة.

٢

والمطعن الثاني الذي يُوجَّه إلى الدمقراطية، وهو أحدث عهدًا من المطعن الأول، أنها تقوم على أساسٍ من التمويه إنْ لم نَقُلْ من الغش والخداع، فالمفروض في الأحزاب السياسية مثلًا أنها جماعات حرة، تتألَّف من أشخاص قد اختاروا لأنفسهم خطة من الخطط السياسية، ولكن الحقيقة أن معظم أعضاء أي حزب سياسي قد انضموا إليه اتباعًا لسياسة آبائهم؛ أو لوجود صلة واهية بين هذا الحزب وبين إحدى البيئات أو الديانات أو المصالح الاقتصادية، والحق أنه يستحيل على الإنسان أن يعتقد أن أغلبية الناخبين، يعنون ببحث ما يُلقَى على مسامعهم من الحجج المؤيدة لمقترحات الحزب الذي يُعطونه أصواتهم في النهاية أو الداحضة لها، وأقل من هذا احتمالًا أن يفكر الناخبون تفكيرًا جديًّا في صالح المجتمع بوجهٍ عام، حينما يختارون نائبًا يمثلهم في أحد المجالس النيابية، بل الذي يحدث بالفعل أن معظم الناخبين يصدرون أحكامًا سطحية تقوم على أسسٍ واهنة.

ذلك محصل هذا النقد، وأول ما يُرَد به عليه أن الالتجاء إلى أصوات الناخبين، عمل لا يشترط فيه أن يقوم على أساس من العقل بحالٍ من الأحوال، فإذا اتُّخِذ هذا أساسًا للطعن على الدمقراطية، فإن الناقد يَبني نقدَه على مبادئ علم النفس التي كان يقول بها الدمقراطيون القدماء، وهي مبادئ غامضة مشكوك في صحتها؛ وذلك لأنه يفترض أن الاستعانة بالناخبين يجب أن تكون قائمة على أساس «العقل»، بالمعنى الذي كان يُفهَم من هذا اللفظ في القرن الثامن عشر، وهو أن قوة الاستدلال العقلي لا تعدو أن تكون نوعًا خاصًّا من الإحصاء المجرد عن العواطف، شبيهًا بعض الشبه بعمليات الجمع والطرح الحسابية، وكانوا يعدون العقل أشبه شيء بآلة تعمل بنفسها، إذا قَدَّمتَ إليها الحجج الصحيحة من ناحية أعطتْك القرار الصحيح من ناحيةٍ أخرى، وذلك زعم خاطئ، فليس ثمة عيب قط في العواطف واستثارة العواطف، وقد يكون اعتقاد البعض أن فيهما خطرًا أثرًا من آثار الزهد أو البيورتانية Puritanism،٧ ولا شك في أن هذا الاعتقاد يرجع أيضًا إلى الخوف من «الحماس»، ذلك الخوف الذي كان متسلِّطًا على العقول في القرن الثامن عشر، ومهما يكن سبب هذا الاعتقاد، فإن كل استنتاج عقلي لا بد أن يتأثر بالعواطف تأثرًا يختلف في شدته؛ لأن الإنسان العادي ليس آلة حاسبة جامدة، فإذا اعترض البعض إذن على الدمقراطية بأنها لا تعامل الناس معاملة هذه الآلات، كان اعتراضهم غير وجيه، على أننا لا ننكر أن الاعتراض على استثارة العواطف ناشئ من وجود بعض العواطف المنحطَّة في الإنسان، فالشخص ينحطُّ بسبب الخوف والغيرة مثلًا، كما تسمو به الثقة وعزة النفس، وكل هذه عواطف، وعلى هذا يكون منشأ الشر الناتج من استثارة العواطف، هو انحطاط العواطف التي تُستثار بالفعل، وليس منشؤه العاطفة في حدِّ ذاتها، فمَثَل العاطفة كمَثَل القوة المحرِّكة لا يصح أن يَخشَى الإنسان بأسَها، وإن استخدمت في المفرقعات للتخريب والتدمير، فإذا تحدث الناس عن خطر الانفعالات النفسية في السياسة، كان مقصدهم أن العواطف الأولية المنحطَّة كثيرًا ما تستخدم لتأييد بعض الأشخاص أو بعض المبادئ السياسية، ولا حاجة إلى القول بأن هذا العيب ليس مقصورًا على الدمقراطية؛ لأن الخُطَب التي تُستثار بها الغوغاء وتُلهَب بها عواطف الجماعات من الأمور العادية في ظل الدكتاتوريات الحاضِرة، كما كان شأنها في ظل الحكومات الملكية والحكومات الألجاركية في الزمن القديم.

على أنه إذا سُلِّم بأن في استثارة بعض العواطف خيرًا ونفعًا، فقد يلوح أن الدمقراطية تظل من الوجهة العملية محتالة مخادِعة؛ لأنها تُتِيح الفرصة لمَن لا يتأثَّرون بالحجج لأن يُحاجوا ويُجادِلوا، وذلك اعتراض لا يُوجَّه في الحقيقة إلى الدمقراطية نفسها، بل يوجه إلى الخطط التي يَسِير عليها السياسيون، ولكن الناقدين في هذا أيضًا يفترضون في الدمقراطية أكثر من حقيقتها، إن الدمقراطية تكون مخادِعة حقًّا إذا كان من مستلزماتها التظاهر بالأدلة والحجج، ولكن نُقَّاد الدمقراطية كثيرًا ما يخلطون بين النظريات والأعمال، ويحكمون على العمل بالفساد إذا لم يتفق مع نظريةٍ بالية عتيقة، قد يكون صحيحًا أن قليلًا من الناخبين يحكِّمون العقل والمنطق قبل أن يُعطوا أصواتَهم، ولكن الدمقراطية لا تتطلب ذلك من جميع الناخبين، بل الذي تتطلَّبه أن تُتاح لكل إنسان الفرصة التي تمكِّنه من أن يستخدم من العقل ما يَرَى استخدامَه، وبذلك ينمِّي القليل الذي لدَيْه منه، والدمقراطية العملية لا تفترض أن يكون كل إنسان منطقيًّا يحكِّم عقله في كل مسألة، بل كل ما تفترضه أن يستطيع كل إنسان أن يكون كذلك في أية مسألة، وليس في ذلك الافتراض شيء من الغش والخداع.

وثمة اعتراض من نوعٍ آخر لا يقوم على طريقة الدعوة إلى سياسة ما، بل على طريقة ابتكارها الأول أو كشفها، ومجمل هذا الاعتراض أن الخطة التي يسير عليها حزب من الأحزاب لم تشترك في وضعها عقول معظم أعضاء الحزب، بل هي نتيجة تفكير عضو واحد أو طائفة قليلة من الأعضاء، فإذا قام «الرأي العام» يطالب بهذا الشيء أو ذاك، فإن الذي يحدث عادة أن يتولَّى عددٌ قليل من الأعضاء استمالة كثيرين منهم إلى إصدار قرارات أو تأييدها، في حين أن كثيرين من هؤلاء المؤيِّدين لا يفهمون منها إلا النَّزْر اليسير؛ ولهذا يَعُدُّ نقاد الدمقراطية الرأي العام وهمًا وخرافة؛ لأن كثرة الناس لا رأي لهم مطلقًا في كثيرٍ من الموضوعات التي تهتم بها السياسة العامة، وقد تسمع بعض الناس يقولون إن حكم «الشعب» ليس في حقيقته إلَّا دعوى باطلة، تستتر وراءها السلطة الحقيقية، سلطة الفئة القليلة المحرِّكة للإرادة التي تكوِّن الرأي العام، وإنك إذا تحرَّيْتَ الحقيقة وجدتَ الأغلبية العظمى للناخبين في حزبٍ من الأحزاب، أو في جهةٍ من الجهات تخضع لنفوذ عدد قليل من الأفراد، وهؤلاء الأفراد القلائل الذين يسيطرون بالفعل على الرأي العام عن طريق الصحافة بنوعٍ خاص، هم فئة الأغنياء ووكلاء الأغنياء؛ ولهذا يقولون إن الرأي العام إنما يتكوَّن من المعلومات التي يختارها أصحاب الصحف لبعض مآربهم، ومن شهوة السلطة والنفوذ المتمكنة من نفوس هؤلاء الكبراء، فهو في رأيهم لا يعدو أن يكون مظهرًا من غرارة الأغلبية، وليست الخطة التي يظن أن الرأي العام يؤيدها أو يوجدها، إلا سلطة «اليد الخفية» للفئة أو الطبقة الحاكمة، وهي «حلقة» أو زمرة من الرجال في مركز السلطة لا يعرف أعضاؤها إلا مصلحتهم الخاصة.

هذا هو الاعتراض الثاني، وقبل أن نردَّ عليه نقول إننا لا يَسَعنا إلَّا أن نسلِّم بأن «السياسة العامة»، في جوهرها من وضع عدد قليل من أصحاب النفوذ، وهذا أمر لا مفر منه في كل مجتمعٍ مهما كانت صفته، وإذا كان للأغنياء في مجتمعنا الحاضر معظم النفوذ، فليس الذنب ذنب الدمقراطية مطلقًا؛ لأن هذه الحال قد نشأت من روابطٍ سابقة لعصر الدمقراطية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، قائمة على أساس الثروة، ولا تزال باقية إلى الآن حتى في المجتمعات التي يتساوى أفرادها في حقوقهم القانونية والسياسية، على أننا إذا صرفنا النظر عن الفروق الاقتصادية بين الناس وحصرنا بحثنا في نقطة الخلاف الكبرى، لا بد أن نسلِّم كذلك بأن اختلاف الناس في شخصياتهم وذكائهم، من شأنه أن يجعل لبعض الناس سلطة على غيرهم عند وضع الخطط السياسية، فإذا كانت الدمقراطية تجيز هذا النوع من السلطة أو تساعد عليه، فلا يصح أن يكون ذلك موضعًا للاعتراض؛ لأنها لا تفترض مطلقًا أن الناس متساوون في عقولهم أو أنهم يجب أن يكونوا متساوين، ولقد قيل بحق إن تساوي الناس كلهم، ليس إلا افتراضًا تبدأ به الدمقراطية «لكي تتبيَّن به أصلحهم.»

وخير ما يجب أن يُفهَم من عبارة: «المستقبل المهيَّأ لذوي المواهب»، هو المبدأ الدمقراطي الذي يوجِب إتاحة الفُرَص المتساوية للوصول إلى السلطة والنفوذ، وهذه الفرص تمكن أكثر الناس كفاية ونزاهة وغيرة على المصلحة العامة من الوصول إلى السلطة، ولا يوجد مذهب من المذاهب الفكرية يُنكِر على أمثال هؤلاء حقَّهم في الاستحواذ على السلطة، بل إن مما يؤخذ على الخطط الدمقراطية في هذه الأيام، أن الفُرَص التي تُتاح للناس ليست متساوية؛ لأن أبناء الأغنياء يمتازون عن غيرهم في سعيهم لنيل النفوذ السياسي؛ ولأن مقايس الكفاية والنزاهة والغيرة على المصلحة العامة مقاييس ساذجة غير دقيقة، على أن هذا العيب نفسه لا ينهض حجة على الغرض الذي ترمي إليه الدمقراطية؛ لأن المقاييس يمكن دائمًا إصلاحها كلما انتشر التعليم، وقوي في الناس شعور الجماعة، وقلَّلت الوسائل الدمقراطية من الفوارق بين الثروات، أما محو الكفايات البارزة الممتازة فليس من أغراض الدمقراطية، ولا يفترض ذلك فيها إلا مَن يشوِّهون مبدأ المساواة أو يسيئون فهم معناه، ولا يوجد رجل واحد يعتقد أن أثر الرجل البطيء الفهم في تكوين الرأي العام، يعادل أثر العبقري الفذِّ، وليس ينقص من قيمة الرأي «العام» أنه تكوَّن بتأثير طائفة قليلة من الناس، إذا كان ما أُتيح لكل فرد من الفرص للاشتراك في تكوين هذا الرأي يُعادِل ما أُتِيح لغيره.

وقد يُقال أحيانًا إنه إذا وُزِّعت الثروة توزيعًا أكثر انطباقًا على العدل والمساواة، فقلَّت بذلك سيطرة أصحاب رءوس الأموال على تكوين الرأي العام، أصبحت الدمقراطية أنقى عنصرًا وأقوى أثرًا، وعندئذٍ تَحول التطورات الاقتصادية بين الفئة الغنية القليلة وبين استئثارها بالسلطة السياسية، وتمهِّد الدمقراطيةُ الصناعية السبيلَ لقيام الدمقراطية السياسية، ذلك قول سنبحثه فيما بعدُ، على أن ثمة اعتراضًا آخَر على الدمقراطية يبقى قائمًا حتى إذا مُحي سلطان الثروة من الوجود، ويقوم هذا الاعتراض على ما يفترضونه من عجز الرجل العادي أو المرأة العادية عن الحكم في مسائل الشئون العامة، أو اختيار أليق الناس لتولِّي المناصب العامة.

ومحصل هذا الاعتراض أن الدمقراطية تُعلِي مقام العجز، كما يقول إميل فاجيه Emile Faguet؛٨ لأن الأغلبية لا تختار إلا الشخص الذي تفهمه، ولما كانت الأغلبية قليلة الكفاية في ممارسة الشئون العامة، فإنها تفضِّل اختيار مَن هم على شاكلتها ليتولَّوا المناصب العامة، وأقصر طريق لديها للوصول إلى السلطة، حينما يكون الوصول إليها موقوفًا على أصوات الأغلبية، أن يلجأ الناس إلى أبسط الأفكار عن الموضوع المطروح للبحث، وهي عادة أبعد الأفكار عن الصواب، وإذن فالسياسي في الدمقراطية يَخدَع الجمهور ويُعلِي من قدْر العجز.

ليس من السهل أن نردَّ تهمة العجز التي توجَّه للنواب المنتخبين؛ لأن الناس يختلفون في معنى لفظ «العجز»، كما أن علماء النظريات السياسية يخطئون كل الخطأ في حكمهم على السياسيين العمليين، ذلك بأن المقياس الذي تُقاس به كفاية الحكام الإدارية أو مقدرتهم على إدارة دفة السياسة العامة، يجب أن يختلف عن المقياس الذي يقاس به علمهم، فالخطيب الذي يستطيع أن يؤثِّر في طبقة العامة، ليس لهذا السبب أقل كفاية من زميله الذي لا يستطيع أن يؤثر إلا في الفلاسفة، وإذا فضَّل العامة من الشعب رجلًا يبغضه المتعلِّمون أو المثقفون، فإن هذا التفضيل لا ينهض دليلًا على عجزهم عن اختيار زعيم لهم، والحق أن من الصعاب التي تواجهها الدمقراطية أن المقاييس القديمة التي تقاس بها الثقافة، والتي يؤمن بها عادة أعداء الدمقراطية، تفترض وجود مجتمع من طبقاتٍ منفصلة، إن لم نقل إنها تفترض وجود مدنية قائمة على الاسترقاق، وإن ما يسميه البعض سوء أدب قد يكون في حقيقته أدبًا لا يناسب نظامًا اجتماعيًّا باليًا عتيقًا، وقد لا يكون ما يسمونه عجزًا إلا عدم القدرة على فعل ما لم تبقَ حاجة إلى فعله، كإصدار الأوامر إلى المرءوسين، وفي الحق إننا نشك كثيرًا في مقدرة نَقَدة الدمقراطية أنفسهم على النقد؛ لأن المقاييس التي يقدِّرون بها الكفاية تقوم على فروضٍ غير صحيحة، وأهم هذه الفروض الخاطئة هو إعجابهم اللاشعوري بالأشخاص «المتفوِّقين»، الذين يحبون بطبيعة الحال أن يُعَدُّوا منهم، لقد لجأت الدمقراطية حتى الآن إلى استخدام الخبراء، واصطَفَتِ الأخصائيين لتحسين الأحوال الصحية، وإصلاح طرق التربية والنقل ونُظُم الضرائب والوظائف العامة، وفي عملها هذا أكبر حجة تُفحِم نَقَدة الوسائل الدمقراطية، كما سنبيِّن ذلك فيما بعدُ، وحسبنا هنا أن نقول إن حسن قيام الحكومات بهذه الأعمال، هو المقياس الصحيح الذي تُقاس به كفايتها، وليس ذلك القياس هو احتفاظها بثقافة تقليدية قديمة.

لقد كانت معظم الانتقادات التي بحثناها هنا خاصة بتطبيق بعض المبادئ على الخطط التي تسير عليها الحكومات، ولقد قَصَرْنا همَّنا على الانتقادات الأساسية التي يلوح أنها تُلقِي ظلًّا من الشك على الغرض، الذي قامت من أجله النظم الدمقراطية، لكن خير ما يُرَد به على مثل هذه الانتقادات بوجهٍ عام، هو وصف النتائج الواقعية التي أدَّى إليها قيام الدمقراطية في القرن الماضي.

٣

إذا كان صحيحًا أن قيمة الشيء لا تُعرَف إلا بعد تجربته، فإن قيمة نظام الحكم الدمقراطي لا تُقاس بسهولة تنفيذه، بل بالأثر الذي يُحدِثه في الحياة العادية لعامة الناس، ولا شك في أن ما تم على يديه حتى الآن لا يدعو إلى الاغتباط، وحتى إذا كانت النظم الدمقراطية قد أفادت العالم في خلال القرن الماضي، فقد تكون عديمة النفع في وقتنا الحاضر، لكننا يحسن بنا قبل أن ندرس مشاكلنا الحاضرة أن نتعرف كيف حلَّت مشاكل أخرى كانت قائمة من قبل، نَعَم، إن في العالم كثيرًا من المساوئ تنتظر العلاج، ولكن وجودها يجب ألَّا يحجب عن بصائرنا قيمة الوسائل، التي تخلَّص بها العالم من الشرور والمساوئ السابقة، وما أكثر الرجال والنساء والأطفال الذين يعانون في أيامنا الحاضرة آلام الفاقة والضعف، وكلنا ينوء بالعبء الباهظ الذي ألقاه على كواهلنا استعدادنا لاتقاء خطر الحرب المقبلة، لكننا لا نقاسي الآن ما كان يقاسيه أسلافنا من عجز المحصولات الزراعية في بقعةٍ من بقاع الأرض، أو من انتشار الطاعون والهيضة والتيفوس في المدن، أو من الجهل الفاضح والإدمان الوحشي للمُسكِرات، اللذَيْن كانا يسودان البيئات الصناعية في الأزمنة الماضية، لقد نجا العالم الآن من هذه الشرور، ويرجع معظم الفضل في نجاته منها إلى نظام الحكم الدمقراطي، الذي تقدَّم في ظلاله العلم، وانتشرت المعارف بين عامة الناس رجالهم ونسائهم، فكانت لهم من ذلك القوة التي تغلبوا بها على هذه الشرور والآثام.

لا ننكر أن تنظيم الحكم على المبادئ الدمقراطية لم يكن وحدَه سبب هذا التقدم، لكن لولا هذا التنظيم لما استطاع الناس أن ينتفعوا بالعلم، وأن تنتشر بينهم المعارف إلى الحد الذي نراه الآن، وليس أدل على ذلك من أنه حتى بعد استخدام العلم في حاجات الجمهور وانتشار التعليم الشعبي في بعض الأقطار، ظلت بلاد أخرى ترزح تحت مصائب المرض والقحط كما كانت ترزح تحتها في العصور الوسطى، أما الأقطار التي استطاع الشعب فيها أن يُشعِر أولي الأمر بسلطانه، ويؤثر في أعمالهم بنفوذه، فهي البلاد التي نَجَتْ كثرة الناس فيها مما كانت تُعانيه في العصور الوسطى، فبريطانيا العظمى وفرنسا والدول الصغرى في غرب أوروبا، وبعض البلديات الألمانية والولايات المتحدة الأمريكية والأملاك البريطانية المستقلة، هي البلاد التي نجحت في القضاء على الأوبئة والمجاعات أكثر من غيرها، أي إن النجاح كان حليف الحكم الدمقراطي.

على أن نجاح الحكومات الدمقراطية في القضاء على الأوبئة في القرن التاسع عشر حديث قديم قد بليت جِدَّته، وليس في الناس مَن يهتمُّ بالأخطار التي نجا منها، بل إنه إذا ما اطمأن لسلامته صبَّ اللعنات على مَن عمل لإنقاذه، ولاح له مَظهَر مُنقِذه مبتذلًا لا جِدَّة فيه؛ ولذلك لا يَرَى أحد في الغارات التي تُشنُّ على الوباء والجهل «مجدًا وفخارًا»، ألسنا نخرج سراعًا إلى ميادين القتال نحفر الخنادق، إذا نفخ في النفير ودقت الطبول، ولا نسير على أصواتها إلى حفر المصارف؟ وهل وجدتَ إنسانًا يقول إن في تصريف أقذار المدن، وفي مد أنابيب الماء إليها روعة وجمالًا؟ ولكن انظر إلى آثار هذه الأعمال؛ تجد أن آثارها هي نفوسنا الكريمة، فلولا ما أمدَّتْنا به الدمقراطية من وسائل لتحسين الصحة العامة، لكان كثيرون ممَّن جاوزوا الخمسين منَّا في عداد الأموات، ولأنهكت العِلَل مَن بَقِيَ منَّا على قيد الحياة، نعم، قد يكون في ذلك ضرر يلحق بالجيل الناشئ من الشبان، الذين ينتظرون الآن أعمالنا وأموالنا ليَنعَموا بها، ولكن يلوح بوجهٍ عام أن مِن الخير أن يكون المجتمع أقلَّ تعرضًا للموت والمرض مما كان عليه آباؤنا في العصور الوسطى، ولا ريب في أن رقيقي الحال في البلاد ذات الحكومات الدمقراطية، أقل تعرضًا للعِلَل والموت مما كانوا عليه في الأزمان الماضية، فلست ترى الآن بيننا طوائف المتسوِّلين من المرضى والمُقعَدين الذين كانوا يقفون على أبواب الكنائس في العصور الوسطى، وقد وصلنا إلى ما نحن فيه الآن بتحسين وسائل التغذية واستخدام العلم في علاج الأمراض، والفضل في كليهما عائدٌ إلى فن الحكم، نَعَم، إن مظاهر العظمة والفخامة في بعض العواصم، كانت من أعمال الحكومات التي يُسيطِر عليها الملوك أو الطبقات الحاكمة، كما كانت الحال في ألمانيا والنمسا قبل عام ١٩١٤، ولكن حتى في هذه الدول نفسها كانت نشأة الحكم الدمقراطي في البلديات، هي السبب في تحسين وسائل الصحة العامة.

وسنبحث فيما بعد في النظم والمنشآت التي أوصلتْنا إلى هذه الغاية، وحسبنا أن نلاحظ هنا أثر هذا النظام الجديد؛ لأن بعض الناس قد يَرَى أن تحسُّن الصحة أمر قليل الخطر، مع أنه قد خلق صنفًا جديدًا من الرجال والنساء تكوَّن منه مجتمع من نوع جديد، أعضاؤه أكثر تشابهًا في قواهم الجسمية والعقلية، وقد حدث معظم هذا التغير بفضل الحكومات «المحلية»، التي نظمت الصلات اليومية بين الأهلين المتجاورين، ولا تزال التقاليد تَرَى في ذلك العمل أمرًا عاديًّا خاليًا من الروعة، لكن الحقيقة أن تجمع الناس في المصانع والمدن منذ قرن من الزمان، على أثر انتشار النظام الصناعي الجديد وسهولة التبادل التجاري، زاد خطر المرض وضعف الصحة، وكانت المدن وقتئذٍ تحت سيطرة عدد قليل من ذوي الثراء، ولم يكن أحد يعرف أن المرض يمكن اتقاؤه بتنظيم وسائل الخدمة العامة، حتى بدت مساوئ الحالة الجديدة ظاهرة للعيان، فأثارت من الاهتمام والانتقاد ما أدَّى إلى اختراع نظم جديدة للعناية بالصحة العامة، ووسائل جديدة للوقاية من الأمراض، وكانت النتيجة التي لم تُقصَد لذاتها أنْ زاد متوسط عمر الشخص من حوالي ٣٤ سنة إلى ٥٩ في أقل من نصف قرن، كما زادت أيضًا مقدرة الناس على أن يَرَوْا ويسمعوا ويحسوا زيادة كبيرة.

يضاف إلى هذا أن التعليم قد نظم وتحسَّنتْ بعض وسائله في كنف الدمقراطية، وذلك أنه بعد أن اتَّسَعَتْ دائرة حق الانتخاب في أوائل القرن التاسع عشر، أنشأ ولاة الأمور في البلاد الدمقراطية مدارس لتعلم السواد الأعظم من السكان، ثم زادت رغبة عامة الناس في التعلم، كما تدل على ذلك الجهود التي بذلوها في سبيله دون معاونة الحكومات في أوائل القرن التاسع عشر، ورأى المسيطرون على القوة الاقتصادية أن الأوفق لهم، أن يستخدموا في الأعمال الصناعية على الأخص عمالًا نالوا حظًّا أوفر من التعليم؛ ولذلك نقصت نسبة الأمية في البلاد الدمقراطية، وأصبحت عادات الناس وطباعهم أرقى وأكثر حضارة مهما كانت أسباب هذا الرقي، وأُصلحت وسائل التعليم بتأثير العلماء الخبيرين، وبفضل السلطات العامة والمناقشات العامة، حتى أصبحنا الآن وإذا بنا نَرَى لأول مرة في التاريخ آباء الجيل الحاضر في البلاد ذات الحكومات الدمقراطية، دون غيرها ممن تعلموا في المدارس، نعم إن طرق التعليم المدرسي كانت طرقًا معيبة، وإن نظام التعليم الحاضر لا يفي بالغرض المقصود، ولكن من السخف أن نقابل الحالة الاجتماعية التي أدَّى إليها انتشار التعليم العام، بالحال التي كانت سائدة قبل قيام الحكم الدمقراطي.

وآخِر ما نذكره هنا أن أحوال العمل والعمال في عهد الدمقراطية، قد تحسنت عما كانت عليه في العهود السابقة، وأن الفضل في ذلك راجع بعضه إلى التشريع وبعضه إلى التنظيم الاختياري، الذي قام بها الأُجَراء من تِلقاء أنفسهم مستعينين بالحقوق التي خوَّلها لهم القانون، وهنا يجدر بنا أن نفرِّق بين وسائل الإنتاج الضرورية في العالم الحاضر وبين «الرأسمالية»؛ أي سيطرة رءوس الأموال ووكلائهم على هذه الوسائل، لا نُنكِر أن في التنظيم الصناعي مَخَاطرَ عِدَّة سببها، احتشاد جيوش العمال في المصانع وفي غيرها من الأماكن، لكن نظام الإنتاج الجديد كان نعمة وبركة ظاهرة عمَّتْ جميع الناس، فمِن مَنَافِعِه رخص الطعام والخدمات، وضمان العرض، وزيادة أنواع السلع النافعة، حسبنا هذا القول في فضل التنظيم الصناعي، أما الرأسمالية فقد كان من آثارها أن مزايا هذا النظام الجديد لم توزع بين الناس توزيعًا عادلًا يتساوى فيه الجميع، بل إن هذا النظام قد وضع مزايا استثنائية في يد فئة قليلة من الناس، استطاعت أن تنتفع بكل فرصةٍ سنحت لها للحصول على الثروة والاستئثار بها لنفسها، وساد الاعتقاد بأن الخير سيعم الناس جميعًا، بفضل الأعمال التي مكَّنتْ أفرادًا قلائل من الاستحواذ على الثروة الطائلة، ولكن الرأسمالية لم تجعل لهذا النظام الجديد من أثرٍ، إلا فتح أبواب لأنواع جديدة من النشاط، للتجارة بدل الزراعة، فأوجدت بذلك أصنافًا جديدة من الناس، وبقي المجتمع بوجهٍ عام كما كان من قبلُ لا تجد كثرته إلا الكفاف من العيش، ولكن مساوئ نظام المصانع، وبخاصة ما كان يقاسيه منها النساء والأطفال، قد أثارت عاطفة إنسانية كانت هي التي أعانتِ الدمقراطيين الأولين، وشجَّعت بوادر الثورة بين العمال، فأدَّى كل ذلك إلى سَنِّ القوانين للإشراف على جهود الفئة القليلة «المُغامِرة»، ولتقرير حق العمال اليدويين في تنظيم نقابات العمال، وغيرها من الجمعيات التي تعمل لمساعدة أعضائها وحمايتهم، ولم تستطع أية قوة، حتى قوة أصحاب رءوس الأموال في الصناعة الجديدة، أن تَحُول دُون ازدياد حرية العمال اليدويين والأُجَراء.

لكن عددًا قليلًا من نَقَدة الدمقراطية يحاجون، بأن التحسن الذي طرأ على حياة عامة الناس، لم يكن إلا طلاء من الذهب مُوِّهت به الأغلال التي في أعناقهم، وهؤلاء النقاد يُعارضون في الإصلاح الاجتماعي؛ لأنه يَجعَل كثرة الناس أقلَّ مَيْلًا إلى الانتقاض والثورة، لا نَعرِف قط حجة أوْهَى من هذه الحجة، ولكننا مع ذلك نسمح لأنفسنا بأن نناقش معناها، هذه الحجة تفترض أنه كلما زادت الحالة سوءًا كان ذلك أدْعَى إلى قلبها من أساسها، وذلك خطأ في فهم نفسية الناس؛ لأن الجياع والمرضى لا يصبحون أكثر نشاطًا وأعظم ذكاءً، بل بالعكس يضعف نشاطهم ويضمحل ذكاؤهم، أما الغذاء الصالح، فيجعل الناس أكثر استعدادًا للعمل لتحقيق رغباتهم، وحتى إذا كان لا بد من الالتجاء إلى العنف، لا إلى وسائل النصح والإقناع، فإن الصحة أقوى دعامة للثورة من المرض، ألَا ترى أن الأمراض التي كانت تفتك بأجسام الطبقات الفقيرة في العصور الوسطى، والجهل الذي كان مخيمًا على عقولهم، قد استعبَدَاهم أكثر ما استعبدتْهم القوانين؟ لكن عندنا لمَن يعيبون آثار الإصلاح الاجتماعي ردًّا أقل من الرد السابق مجاملة، إننا ليُخيَّل إلينا أن رغبتهم في السلطة أقوى من حبهم لسعادة عامة الشعب، لا ننكر أن الحرص على إصلاح صغائر الأمور، والرغبة في القضاء على «النظام» القائم من أساسه، قد يكونان في بعض الأحوال مما يُحمَد الإنسان عليه، ولكنهما قد يكونان في بعض الأحوال الأخرى من الأدلة على شهوة الحكم، المتمكِّنة من نفوس مَن لا يصلحون لإقناع غيرهم بآرائهم، إن أولئك الذين يحبون أن يصلوا إلى كراسي الحكم بأي ثمن، قد لا يشعرون في أنفسهم بتلك الرغبة؛ ولذلك لا تُعَدُّ رغبتهم فيه إثمًا يؤخَذون به، وقد تَظهَر تلك الرغبة بأشكالٍ وطرق متعددة، لكن الذين يتناولون السياسة العامة بالبحث في كنف الحكم الدمقراطي يحاذرون دائمًا، من الخطر الذي قد تؤدِّي إليه مطامعهم، فهم يخشَوْن دائمًا أن يُلهِيَهم عن تحسين حال طبقات الشعب المعيشية، تفكيرهم في ابتكار مشروع جديد أو إصلاح أداة في دولاب الإدارة، نحن نقر أن التقاليد الدمقراطية قد أساء إليها اندفاع دُعاتها وتسرُّعهم، ولكننا نقرِّر أيضًا أنها كانت على الدوام عونًا على تحسين حال الناس المعيشية؛ رجالهم ونسائهم وأطفالهم من نواحٍ معينة، وأن هذا التحسن قد جعل المجتمع كله في البلاد الدمقراطية أكثر اقتدارًا وذكاءً؛ ولذلك يخطئ مَن يقول إن ما أفاده الناس من الدمقراطية في شئون الصحة والتعليم والتنظيم الصناعي يحول بينهم وبين الرقي؛ إذ الحقيقة أنه يُتيح لهم الفُرَص ليبدِّلوا نظام المجتمع من أساسه.

١  إن لفظي Freedom، Franchise من أصلٍ واحد.
٢  مبدأ التخلِّي هو مبدأ جماعة الطبيعيين الذين كانوا يَدعون إلى الحرية في مرافق الحياة، وترْك الأفراد أحرارًا في الأعمال الصناعية والتجارية، وترْك البضائع تنتقل من مكانٍ إلى مكان من غير أن تُوضَع عليها قيود، وكانوا يَرَوْن أن خير نظام اقتصادي هو الالتجاء إلى القوانين الطبيعية، وأن لا فائدة مطلقًا من معاكسة الطبيعة، ويتلخَّص مذهبهم في العبارة المأثورة: اتركْه يعمل؛ اتركْه يَمُر Laissez Passez, Laissez Faire.
٣  انظر كتاب «البرلمان» للسير ش. إلبرت في هذه السلسلة.
٤  آدم اسمث (١٧٢٣–١٧٩٠) عالم اسكتلندي يُعَدُّ واضِعَ أساس علم الاقتصاد السياسي الحديث، اشتغل أستاذًا للمنطق والفلسفة الأخلاقية في جامعة جلاسجو، وخير كتبه كتابه الشهير «بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها»، وهو يوافق جماعة الطبيعيين الذين يقولون بترك الأفراد أحرارًا في أعمالهم التجارية والصناعية. (المُعرِّب)
٥  العقليون Rationalists أصحاب المذهب القائل بوجوب إخضاع كل شيء لطرق البحث والإثبات العلمي، وهم في الأخلاق لا يَرَوْن واجبًا إلا ما يوافق الضمير على أنه كذلك. (المُعرِّب)
٦  يشير المؤلف إلى نظرية الفيلسوف الإنجليزي هبز Hobbs الذي عاش في القرن السابع عشر، ومضمونها أن جماعة البشر مكوَّنة من ذرات سابحة في عالم الاجتماع، وهي ذرات متنافرة ليس بينها شيء من الجاذبية، ولا تحرِّكها سوى الرغبات والشهوات المتعارضة، وأن الناس لذلك كانوا في عراكٍ مستمر؛ لأن الإنسان الفطري في زعمه مخلوق شرس شكس، لا تنقطع بينه وبين أخيه الحروب؛ ولهذا اتفق الناس على أن يختاروا شخصًا يسلطونه عليهم لحماية أنفسهم وأموالهم من كل معتدٍ في الجماعة أو خارجها، وتعرف هذه النظرية بنظرية العَقْد الاجتماعي (ملخص من كتاب «الحرية والدولة»، تأليف الأستاذ محمد عبد الباري). (المُعرِّب)
٧  البيورتان Puritans هم البروتستنت المتطرفون، وقد كان لهم شأن ديني وسياسي عظيم في أيام كرمول. (المُعرِّب)
٨  إميل فاجيه: أديب وناقد فرنسي (١٨٤٧–١٩٠٦)، تخرَّج في كلية النورمال بباريس، وعُيِّن في عام ١٨٩٠ أستاذًا للآداب في السوربون، واختير عضوًا في المجمع العلمي الفرنسي (الأكاديمي) في عام ١٩٠٠، ومن أشهر مؤلَّفاته كتابه في تاريخ الأدب الفرنسي. (المُعرِّب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤