الأبناء والآباء

ليس هذا عنوان القصة، ولكنه موضوعها، فإني أريد أنْ أحدثك عن قصة تمثيلية صغيرة مُثلت في باريس منذ حين، ووصل إلينا نصها آخر السنة الماضية، وهذه القصة فصل واحد، تسمى «كبار الصِّبْية» أُعجب بها الجمهور في فرنسا، وأُعجب بها النقاد، وعُدَّت أثرًا من أحسن الآثار الأدبية لكاتبها «پول جرالدي».

موضوع هذه القصة — كما قلت — الأبناء والآباء، ويخيل إليَّ أن ليس من الشبان المتعلمين في مصر وغير مصر من لا يجد نفسه فيها إذا قرأها، فهي تصف شيئًا مشتركًا بين الناس جميعًا، وتمثل عاطفة يشعر بها الناس جميعًا، تصف هذا الفرق العظيم الواضح بين الآباء والأبناء، أو بين الشباب والشيب، أو بين الجيل الناشئ الذي يستقبل الحياة، وذلك الجيل الفاني الذي يودع هذه الحياة، لكل من هذين الجيلين شعوره وعواطفه ومناهجه الخاصة في التفكير، ومناهجه الخاصة في العمل أيضًا، ومع ذلك فالجيل الناشئ ابن الجيل الفاني، فهو في حقيقة الأمر استمرار له، ومرآة تعكس صورة من صوره، وإذن فهناك تشابه، وهناك تباين، وإذن فهناك اتفاق وهناك افتراق.

انظر إلى ما بينك وبين أبيك من صلة شعورية أو خلقية أو عقلية، تجد أنه قد أورثك أشياء كثيرة فورثتها عنه، ولكن هذه الأشياء التي ورثتها ونمَّتها فيك التربية الأولى، لم تخضع لسلطان أبيك في كل وقت، بل أفلتت من هذا السلطان، وخضعت لسلطان آخر، أو لأنواع مختلفة من السلطان، خضعت لسلطان المدرسة وما درست فيها، وخضعت لسلطان المعاشرة وما أحدث في نفسك من أثر، من هذا الأثر القويِّ الذي يُحْدِثه في النفس حب الصديق والميل إلى تقليده، وبغض العدو والنفور من محاكاته، وخضعت لسلطان الحياة العاملة، هذه الحياة التي تراها في الشارع وفي مجالسك العامة والخاصة، وحيثما ذهبت وأينما وجَّهت، وخضعت لسلطان ما قرأت وتقرأ في الكتب والصحف، وما سمعت وتسمع من أحاديث، خضعت لهذا كله فتغيرت، واستحلت قليلًا أو كثيرًا، وأصبحت تشبه أباك وتخالفه، ونشأ عن هذا الشبه حب وعطف، ونشأ عن هذه المخالفة بعد ونفور، فلن تستطيع مهما تحاول أنْ تنكر أنك تبعد من أبيك وتنفر منه، وتحيا حياة خاصة تكتمه إياها الكتمان كله، وتأبى أنْ يظهر منها على شيء قليل أو كثير، تشعر بأشياء لا يشعر أبوك بها، وتحرص على أنْ يجهل أنك تشعر بهذه الأشياء، تميل إلى أشياء لا يميل إليها، وتجتهد أنْ يجهل أبوك أنك تميل إلى هذه الأشياء، وتطمع في أشياء ينصرف هو عنها، وتخفي على أبيك أنك تطمع في هذه الأشياء، فإذا جلس أحدكما إلى صاحبه كان الحديث بينكما عسيرًا ضيقًا، محدود النواحي والأطراف؛ لأن وجوه الشبه بين نفسيكما أقل مما تظنان، فلك طريقك في الشعور والتفكير والحكم على الأشياء، وله طريقة في الشعور والتفكير والحكم على الأشياء، فإذا تحدثتما فقلما تتفقان، وكثيرًا ما تختلفان، وللخلاف أثر سيء ونتائج خطرة على ما بينكما من مودة، وعلى ما للأسرة كلها من صلة، وإذن فأنتما تجتهدان اجتهادًا خفيًّا لا تُحسَّانه ولا تشعران به، تجتهدان في ألَّا تلتقيا، فإذا التقيتما اجتهدتما في ألَّا تتحدثا، فإذا تحدثتما اجتهدتما في ألَّا تتعمقا في الحديث، وفي ألَّا يمس هذا الحديث هذا الجزء الخاص من الحياة الذي هو أعزُّ أجزاء الحياة على الإنسان، هذا الجزء الذي يمسُّ حياة القلب والعاطفة وحياة العقل والتفكير، لا تتحدثان في ذلك إلا قليلًا، وحين تُكرهان على هذا الحديث، وإنما تتحدثان في الجو والمطر، وفي أخبار الناس، وما يعرض لمن تعرفان من خير أو شر في هذه الأشياء، التي ليس بينها وبين الحياة الخاصة صلة، والتي ليس لها على القلب والعقل من سلطان.

أليس هذا حقًّا! أليس هذا ما يشعر به الشاب أمام أبيه الشيخ! والأب أمام ابنه الشاب! أليس هذا ما يشكو منه الآباء والأبناء جميعًا! أليس هذا معنى تغير الزمان! أليس هذا معنى قول الأب ينكر حياة أبنائه ومناهجهم فيها: «لقد أصبحنا في آخر الزمان!» ومعنى قول الأبناء ينكرون حياة آبائهم ومناهجهم فيها: «لقد مضى بذلك الزمان!» نعم هو هذا! هو الجهاد المتصل بين القديم والجديد، وبين ما تضيئه شمس هذا الجيل، وما أضاءته شمس الجيل الماضي، وما ستضيئه شمس الجيل المقبل! هذا هو! ولكننا لا نلتفت إليه ولا نفكر فيه، ولا نحاول فهمه وتقصِّي أسبابه.

ولو أنا التفتنا إليه ودرسناه، لأذعنَّا له، وقبلناه لا ساخطين ولا منكرين — كما نُذعن لقوانين الطبيعة المادية — وما نستتبعه من لذة وألم، مجتهدين في أنْ نسخِّر هذه القوانين، فنكثر آثارها الحسنة، ونقلل آثارها السيئة ما استطعنا، نعم! لو فكرنا وتفهمنا لاسترحنا، ولكنا لا نفكر ولا نتفهم، فنحن في ألم يعقبه ألم، وحسرة تتبعها حسرة، ويكفي أنْ تجلس إلى الآباء وتسمعهم يندبون سوء حظهم، وخيبة أملهم في أبنائهم، فهم لا يشكون في أنَّ هؤلاء الأبناء قد درسوا فأحسنوا الدرس، وسعوا فأحسنوا السعي، ووصلوا بعد هذا وذاك إلى المنازل الاجتماعية، التي تليق بهم وتُرضي فخر آبائهم، ولكنهم برغم هذا كله متكبرون، أو مسرفون في الصمت، أو متفرنجون هم على غير ما كان الآباء ينتظرون.

الآباء راضون لأن أبناءهم قد ظفروا، والآباء ساخطون؛ لأن شيئًا ما يَحول بين هؤلاء الآباء وأبنائهم، ويمنع كل فريق منهم أنْ يفهم صاحبه.

وكذلك حديث الأبناء إذا جلست إليهم، فهم يعرفون لآبائهم الرحمة والبر وما كلَّفتهم الرحمة والبر من عناء، وما حمَّلاهم من مشقة، ويعرفون لآبائهم أنهم كدُّوا نهارهم وأرقوا ليلهم؛ ليربُّوهم ويُعِدُّوهم للجهاد واحتمال أثقال الحياة، وأنهم مدينون لآبائهم بما بلغوا من منزلة، وما ارتقوا إليه من مرتبة، ولكن هؤلاء الآباء يفكرون على الطريقة القديمة، ويشعرون على الطريقة القديمة، فهم لا يفهمون ما نفهم، ولا يشعرون بما نشعر به، وكثيرًا ما تضيق نفوسهم بأشياء نراها نحن هينة مقبولة، بل مستحبة محمودة، تسمع ذلك وهذا إذا جلست إلى الآباء والأبناء، بل تشعر بهذا وذاك إذا جلست إلى أبيك، ثم خلوت إلى نفسك، وتمر الحياة وتتوالى الأيام، وبينك وبين أبيك إلى جانب الحب والمودة والعطف والبر شيء من سوء الظن، ومن الاحتياط ليس إلى محوه ولا إلى اتقائه من سبيل.

هذا هو الذي ذهب «پول جرالدي» إلى تصويره في قصته الصغيرة فأحسن وأجاد، ووُفِّق التوفيق كله في اللفظ والمعنى جميعًا.

•••

يرتفع الستار عن شاب هو «جاك» قد جلس في غرفته، التي هي غرفة نومه وغرفة عمله، جلس إلى مائدته يقرأ، فيدخل عليه صديقه «دورى» فيتحدثان في أشياء يتحدث فيها الشبان إذا خلا بعضهم إلى بعض، ويكتمونها آبائهم، يذكر «دورى» أمر صاحبته، وأنه كان معها وأنه سيلقاها، ويذكر «جاك» أمر خطبه أو أمر التي سيخطبها، وأنه قد وصل إليه منها كتاب، فيسأله متى الزواج؟ فيجيب «جاك» بأنه ينتظر أنْ يجد لنفسه عملًا، فيسأله فمتى الخِطبة الرسمية؟ فيجيب بأن ليس إلى ذلك من حاجة، بأنه لا يريد أنْ يعلم أبوه بشيء من هذا، وهنا يظهر هذا الخلاف بين الأب والابن في طريقة التفكير والشعور، ذلك أنَّ «جاك» يعلم بأن أباه في حالة مالية سيئة، وهو يستنبط ذلك استنباطًا؛ لأن أباه لم يذكر له منه شيئًا، يعلم ذلك فلا يريد أنْ يتزوج حتى لا يُثقل على أبيه، ولا يريد أنْ يُنبئ أباه بحبه حتى لا يتكلف هذا الأب لإسعاد ابنه ما لا يطيق، أو حتى لا يحس هذا الأب الألم لعجزه عن إسعاد ابنه، وإنهما لفي ذلك، وإنَّ «جاك» ليُظهِر صديقه على كتاب خطبه إذ يدخل الأب، فيطلب الصحف إلى ابنه، فيدفعها هذا إليه مُتبرِّمًا ضيِّق الذرع ملحًّا على أبيه في الخروج والمشي؛ لأنه متعب، ولأن الأطباء قد رسموا له الخروج والمشي، يُلِحُّ الابن ويتثاقل الأب فيجلس، ويشعر الفتى بأن أباه قد قرر ألا يخرج فيضيق بذلك ذرعًا، لا يستطيع أنْ يخفي ضيق نفسه فينصرف مُظهرًا شيئًا من السخط، ويترك أباه وصديقه معًا.

يتحدث الأب والصديق، وموضوع حديثهما «جاك» بطبيعة الحال، يسأل الأب ما بال ابنه يسخط ويتبرم؟ ما باله يسرف في الصمت؟ ما باله لا بذكر له حبه؟ فهو يعلم أنَّ ابنه يحب ويريد أنْ يزوجه، وهو يريد أنْ يأتي إليه ابنه فيتحدث إليه بأسرار نفسه وعواطف قلبه، ولكن هذا الابن صامت بخيل بالكلام، فينبئه الصديق بحياء الفتى، وبأن ابنه يألم أيضًا؛ لأن الأب لا ينبئه بأعماله، ولا يتحدث إليه بما يلقى في هذه الأعمال من شدة أحيانًا ومن لين أحيانًا، فينفجر الأب بالشكوى؛ لأنه كثيرًا ما حاول أنْ يتحدث إلى ابنه — كما يتحدث الصديق إلى الصديق — فلم يجد منه إلا نفورًا وإعراضًا، فهو سيئ الحظ، يشكو صمت ابنه وثرثرة ابنتيه، وهو لم يأتِ إلى هذه الغرفة ليطلب الصحف، وإنما اتخذ الصحف وسيلة إلى أن يتحدث إلى ابنه، فينبئه ابنه بما لديه؛ ليتبين منه أسراره ونياته في أمر حبه، ولكنه لم يجد إلا هذا الإعراض الذي تبعه الانصراف.

فهذا المنظر الذي خلا فيه الأب إلى صديق ابنه، هو منظر قد خصص لشرح ما يشكو منه الابن؛ لأن الأب يتحدث عن نفسه، والصديق يتحدث عن صديقه، ثم يعود «جاك» وينصرف أبوه، فيكون الحديث بين الصديقين، يلح «دورى» على «جاك» أنْ يتلطف بأبيه، وأنْ يظهر له شيئًا من العطف والمودة مكان هذا النفور والإعراض، وهذا المنظر مؤثر جدًّا؛ لأن «دورى» قد فقد أباه، وكان يسير معه سيرة «جاك» مع أبيه، فهو الآن يأسف لذلك أشد الأسف، ويندم عليه أشد الندم، وهو يفعل بعد موت أبيه ما لم يفعل في حياته، فيتحدث إلى أبيه ميتًا بكل ما يفعل، وما يريد أنْ يفعل، ويتحدث إلى أبيه ميتًا بما يَسُرُّه ويُحزنه، ويؤثِّر هذا الحديث في نفس «جاك»، وإنْ لم يتكلم إلا قليلًا، فإذا انصرف صاحبه أخذ «جاك» كتاب خطبه وهم بالخروج؛ ليظهر الكتاب لأبيه؛ وليذكر له أمر حبه، فيفتح الباب فإذا أبوه، ويدخل الأب فيتحدث عن «دورى»، ويحاول «جاك» أنْ يسأله عن أعماله الخاصة، فكلما ألح عليه في ذلك ألح الأب في الفرار من هذه الأسئلة، فيغضب «جاك» قائلًا لأبيه: «أتكره أنْ أحدثك عن صديقك؟»

فيشكو الابن من صمت أبيه وإعراضه، ويشكو الأب من صمت ابنه وإعراضه، ويشتد بينهما خصام مصدره سوء الظن، هذا الذي وصفناه، فَيَهِمُّ «جاك» بالانصراف، ويطرده أبوه مغضبًا، ولكنه لا يكاد يخرج حتى تنحلَّ قوى الشيخ، ويتبخر غضبه فيبكي، ويعود ابنه فجأة، فيحاول الشيخ أنْ يُخفي ضعفه ويستأنف غضبه، فلا يُفلح، ويحاول الابن أنْ يستعطف أباه فيُظهر الكتاب، ولكنه لا يجد لفظًا يعبر به عما يريد من أمر حبه؛ لأنه لم يتعود أنْ يتحدث إلى أبيه في مثل هذا الأمر، فيرى أبوه اضطرابه وحياءه ووقوف لسانه، فيفتح ذراعيه، ويلقي «جاك» بنفسه على صدر أبيه.

•••

هذه هي القصة قد بالغنا في تلخيصها، وحذفنا منها أشياء كثيرة هي زينتها، وحذفنا الحوار بين الصديقين، وما في هذا الحوار من مزاح لذيذ، وحذفنا الحوار بين الأب وصديق ابنه، وما فيه من حكمة بالغة وحق بيِّن، وحذفنا أشياء كثيرة لو ترجمت لخلبت نفس القارئ.

ولكننا حرصنا على أنْ نعطي فكرة عن موضوع القصة، فإذا أردت أنْ تنتفع وتستمتع، فاقرأ نصها في مجلة «الألستراسيون»، التي صدرت في ٢ ديسمبر سنة ١٩٢٢.

يناير سنة ١٩٢٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤