الأمير جان

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «شارل ميري»

أما أنا فأعترف بأن هذه القصة لم تعجبني، ولو خيرت لتحدثت إليك هذا الأسبوع في قصة أخرى، ولكن أمرين اضطراني إلى أنْ أتحدث إليك فيها دون غيرها: الأول أني أجتهد في أنْ يلم قرَّاء هذه الصحيفة لا بفن التمثيل من حيث هو فحسب، بل بالحركة التمثيلية المعاصرة أيضًا؛ أي إني أريد أنْ يعلم قرَّاء هذه الصحيفة شيئًا — ولو قليلًا — من أمر القصص التمثيلية المستحدثة في فرنسا في هذا الفصل، الذي تستحدث فيه القصص عادة، الثاني أني قرأت من هذه القصص في هذا الأسبوع الماضي طائفة لم تعجبني، وكانت هذه القصة التي ألخصها اليوم آخر ما قرأت.

وهي لم تعجبني أيضًا فكنت بين اثنتين: إما أنْ أعدل عن الكتابة هذا الأسبوع، وإما أنْ أحدثك عن خير ما قرأت، فآثرت الثانية، ولم أوثرها عبثًا ولا رغبة في الكتابة، وإنما آثرتها؛ لأن النقاد كادوا يجمعون على استحسانها والرضا عنها، ولأن جمهور الفرنسيين فتن بها إلى غير حد، حتى أنَّ بعض النقاد تنبأ بأنها ستمثل مائتي مرة، ومع ذلك لم تعجبني، لم تعجبني؛ لأني حين أقرأ قصة تمثيلية إنما أبحث فيها عن فكرة أو رأي أو مسألة فلسفية أو خلقية أو اجتماعية، فأنا لا أقرأ قصص التمثيل من حيث هي قصص، وإنما أقرؤها من حيث هي غنية بما يغذو العقل أو يغذو الشعور أو يغذوهما معًا، ولا أكاد أتصور الفن الأدبيَّ منفصلًا عن اللذة العقلية الفلسفية، فأنا أَكْلَف بنوع خاص بقصص التمثيل، وليست هذه القصة التي ألخصها اليوم من هذه القصص، فهي لا تقصد إلى إثبات فكرة بعينها، ولا إلى تحقيق نظرية من نظريات الاجتماع والفلسفة والأخلاق، وإنما هي تقصد إلى شيء آخر، تقصد إلى إلهاء الجمهور والتأثير فيه دون أنْ يكون هذا اللهو مناقضًا لما ألف الناس من أخلاق وعادات ومن نظم وأساليب للحياة، هي قصة يراد بها القصص لا أكثر ولا أقل، ويظهر أنَّ هذا مصدر فوزها وكلف الجمهور بها، فإن الجمهور يريد أنْ يلهو، وأنْ ينفق في ملعب التمثيل جزءًا من وقته، يخضع فيه لطائفة من المؤثرات القوية، فيحسن فيه اللذة القوية مرة والألم القوي مرة أخرى، يستشعر فيه الخوف حينًا والرجاء حينًا آخر، وهو لا يكره في بعض الأحيان أنْ يُخَلَّى بينه وبين اللذة والألم والخوف والرجاء، دون أنْ يُضطر إلى التفكير العقلي للحكم على قضية من القضايا، أو تمحيص نظرية من النظريات، يريد الجمهور في بعض الأحيان أنْ يكون طفلًا يلهو بالقصص والأحاديث؛ لأنها قصص وأحاديث لا لأنها تفسر مذهبًا من مذاهب الفلسفة، أو تشرح رأيًا من آراء العلماء في الاجتماع، وفي هذا النحو من القصص يعتمد الكاتب على الخيال وحده، ويطلق لنفسه من الحرية ما لا يملك لو أنه تقيد برأي أو نظرية، وهو بهذه الحرية نفسها أقدر على أنْ يلهي الجمهور ويلذه، وهذا ما يقصد إليه كاتبنا الذي نتحدث عنه اليوم في طائفة غير قليلة من قصصه، فهو أشبه بالذين يضعون قصص التمثيل أو يلعبونها للسينما توغراف، فلا ينبغي أنْ نقارب بينه وبين «فرانسوا دي كوريل» أو «هنري بتايل» أو «هنري فدان» أو «برنستين»، وإنما ينبغي أنْ نقارن بينه وبين كاتب آخر فتن به الجمهور الفرنسي حينًا هو «ساردو»، ومن غريب أمر هذا الكاتب أنه يجتهد في أنْ يوفق بين خياله وبين حياته، أو بعبارة أصح يجتهد في أنْ يحقق خياله، فهو يتخيل موضوعه، ويخلق أشخاصه، وينظم قصته، ولكنه لا يبدأ في الكتابة حتى يمثل بنفسه تمثيلًا علميًّا أهم أشخاصه وأجلُّهم خطرًا، ويجتهد في أنْ ينشئ لنفسه الحوادث التي يريد أنْ يضيفها إلى شخص قصته أو إلى أشخاصها، فسترى في قصة اليوم أنَّ البطل شاب تكلف الأسفار، واقتحم طائفة من الخطوب، ونزل في بيئات مختلفة متباينة، ويحدثنا بعض النقاد أنَّ الكاتب بعد أنْ ابتكر هذا البطل تكلف أسفارًا، واقتحم خطوبًا، ونزل في بيئات مختلفة متباينة، ثم بدأ في كتابة قصته، ثم دفعها إلى الممثلين، فنالت ما نالت من الفوز.

•••

في مدينة بروكسل عاصمة بلجيكا أسرة غنية ممتازة؛ لأنها من أسرة الأمراء، هي أسرة «داكسيل»، تأتلف هذه الأسرة من زعيمها الشيخ وولده الثلاثة، جان، وليوبولد، وإيزابيل، فأما أكبرهم وأحقهم بوراثة اللقب وزعامة الأسرة فهو جان، وهو شاب قويٌّ، حسن الطلعة، ولكنه مشغوف بالحركة والإسراف فيها، فهو لا يستقر على حال، وهو كلف باللهو وفنونه، وبالعمل وضروبه، فهو يندفع باللهو إلى غير حد، ويتكلف طائفة من الأعمال يبدؤها في نشاط وقوة، ثم لا يلبث أنْ ينصرف عنها، وقد أصابه الإخفاق أو ما هو شرٌّ من الإخفاق، وقد جرَّت عليه هذه الخصال طائفة من المحن، فهو مقامر مسرف في القمار، يخسر كثيرًا ولا يربح شيئًا، وهو مع ذلك ملح في اللعب، وقد بدأ طائفة من الأعمال فأخفق فيها، وأضاع مقادير ضخمة من المال كان قد اقترضها أو اؤتمن عليها، وأراد أنْ يكسب ما أضاع من الميسر فلم ينله التوفيق، فبلغ به اليأس ذات ليلة أنْ حاول الغش، وأخذ وهو يحاوله، فافتضح أمره وضاع شرفه، وأكره على أنْ يستقيل من النادي الذي كان يختلف إليه، ولم يجد وسيلة للنجاة من السجن والفضيحة إلا أنْ يهرب، فترك المدينة من ليلته، وكان يحب فيها امرأة جميلة تحبه هي أيضًا، وهي «كلير دارلون»، فلما نزلت به هذه النازلة استحيا أنْ يراها، فهاجر دون أنْ يودعها، وانقطعت أخباره عن أهله وحبيبته ومواطنيه، حتى شاع في الناس أنه قد مات، ودبرت أسرته أمرها على أنه قد مات، فاجتهدت في إرضاء الدائنين، ولما مات أبوه ورث أخوه الأصغر لقب الإمارة وزعامة الأسرة، وأخذ يتصرف في الأمر كما لو كان حرًّا لا يشاركه فيه شريك، ولكن «جان» هذا لم يمت، وأسرته تعلم أنه لم يمت؛ لأنها ترقبه وتتبعه بالعيون والجواسيس، وهي حريصة كل الحرص على أنْ يعتقد الناس أنه قد مات، أو أنه قد غاب غيبة منقطعة، وحقيقة أمره أنه هاجر إلى فرنسا، فتطوع في فرقة الأجانب من الجيش، ثم أعلنت الحرب الكبرى فاقتتل وجرح ونال وسامًا، ثم أرسل في فرقته إلى سلانيك، ثم أرسل في فرقته أيضًا إلى أفريقيا الشمالية، فاقتتل في مراكش وأصاب عناء كثيرًا، وقد انتهت الحرب وأبلى في قمع ثورة من الثورات في مراكش بلاء حسنًا، ثم ردت إليه حريته فغادر الجيش، وقد اتخذ لنفسه اسمًا غير اسمه الحقيقي فتسمى «لوسيان جيرو».

•••

فإذا كان الفصل الأول من القصة، فنحن في مرسيليا في فندق من فنادقها مشرف على البحر، وفي قاعة هذا الفندق رجال ونساء يلهون ويلعبون، ينتظرون السفن التي ستقلهم إلى وجوه من السفر مختلفة، وهم كذلك إذ يدخل شاب غريب الأطوار، تردد قبل الدخول، ثم صحت عزيمته فدخل، فتلقاه صاحب الفندق مبتسمًا يسأله عما يريد، فإذا الشاب كان قد نزل في هذا الفندق منذ خمس سنين، ثم سافر وترك في الفندق متاعًا له، وهو الآن يريد هذا المتاع، أما صاحب الفندق فيتردد؛ لأنه لم يكن يملك الفندق حين نزل فيه هذا الشاب، وإنما اشتراه منذ عهد قريب، فلا يكاد ينبئ الشاب بذلك حتى يثور هذا الشاب، فينذر ويهدد مرة بالعصا وأخرى بالمسدس، فيضطرب صاحب الفندق ويجزع، ويذهب للبحث عن هذه الأمتعة، أما الشاب فقد جلس إلى مائدة ودعا بأجود الشراب فقدم إليه فهو يشرب، وما أسرع ما يتعرف إلى سيدات فيشاربهن ويداعبهن، ويأتي صاحب الفندق فينبئه بأنه قد وجد المتاع، ولكن إحدى هذه الحقائب مفتوحة وقد فتحت بأمره، ثم يقدم إليه كتابًا أرسله هو إلى صاحبه أنْ يخلي بين الذين يحملون هذا الكتاب وبين متاعه يأخذون منه ما يشاءون، فلا يكاد يظهر على الكتاب حتى يثور ثائره، ويعلن أنَّ الكتاب مزور، ويهدد بالقتل ويهدد بالشكوى إلى الشرطة، ويهدد بشيء كثير، وهو كلما بلغ منه الغضب أقصاه استطاع بشيء من الجهد أنْ يملك نفسه ويعود إلى صوابه.

أما من حوله من الناس فمضطربون يبلغ الخوف بهم أقصاه أحيانًا، ثم ينتهون إلى الضحك والإغراق فيه أحيانًا أخرى، ثم يتركهم هذا الشاب، ويصعد إلى غرفة طلب أنْ تهيأ له، وإنهم ليتحدثون في أمره بعد أنْ فارقهم إذ يدخل رجلان يظهر عليهما أنهما أقبلا من سفر بعيد، فيسألان عن «لوسيان جيرو»، فإذا أجيبا أنه في الفندق اطمأنا وجلسا ينتظرانه، يشك صاحب الفندق ومن معه في أنَّ الشاب لص، وفي أنَّ هذين الرجلين أقبلا يلتمسانه وهما من الشرطة، ثم يأتي الفتى، فإذا لمح الرجلين اضطرب وجلس ناحية، وأخفى وجهه في صحيفة يتكلف قراءتها، ولكنه لا يكاد يستقر حتى ينهض إليه أحد الرجلين فيدنو منه، وصاحب الفندق ينظر هذا في لذة وانتظار للحدث العظيم، فإذا بلغ الرجل الشاب حياه وانصرف عنه الشاب ورده ردًّا عنيفًا، فيلح الرجل في التحية والملاطفة، ويلح الشاب في الكف والانصراف، ولكن الرجل يستطيع أنْ يكرهه على الكلام فيتحدثان، فإذا هذا الرجل ليس شرطيًّا، وإنما هو رجل من أهل بروكسل كلف مراقبة الشاب والاجتهاد في منعه من العودة إلى المدينة، وقد أقبل يعرض عليه بلسان أخيه أنْ يختار من بلاد الله ما شاء أنْ يقيم فيها ناعمًا موفورًا تدر عليه الأرزاق في سعة وسخاء على ألا يعود إلى بروكسل؛ لأن الناس في بروكسل لا يشكون في موته؛ ولأن عودته إلى المدينة ستُذكِّر الناس بما كان من آثامه ومخازيه، فيضيع شرف الأسرة في غير نفع ولا فائدة، أما هو فلا ينتظره في المدينة إلا السجن والعار.

يسمع الفتى هذا كله مغضبًا مرة، مازحًا مرة أخرى، معلنًا عزمه على العودة، ولا سيما حين يعلم أنَّ أباه قد مات، وأنه يستطيع أنْ يرث اللقب وحظًّا ضخمًا من الثروة، وإذن فليس ما يمنعه من أنْ يعود فيصبح أميرًا، ويؤدي دينه ويسترد مكانته وشرفه، ولكن أخاه قد ورث اللقب، واقتسم الثروة مع أخته، وهو لا يريد أنْ يعود هذا الغائب فيفسد عليه ما يستمتع به من نعيم.

وبلغ اليأس والاشمئزاز من نفس الشاب أنْ كره الحياة، وازدرى الأحياء وأسرته بنوع خاص، فاقتنع بألا يعود، ورفض ما يعرض عليه من رزق، ولكنه سأل صاحبه قبل انصرافه عن حبيبته ما خطبها؟ فينبئه صاحبه بأنها سعيدة ناعمة البال، يفارقها زوجها أكثر الأحيان لأعماله، وقد اتخذت لها عشيقًا جديدًا، فهي تلقاه وتستقبله لا تخشى في ذلك رقيبًا ولا حسيبًا، وهو «البارون درانيم»، ينصرف الرجل وقد ألقى في قلب الفتى هذا النبأ، فوقع منه موقع الجذوة من الهشيم، فإذا نار الغيرة قد تأججت، وإذا الاضطراب قد ملك على الفتى أمره، فنسي كل شيء، ولم يذكر إلا شيئًا واحدًا وهو السفر إلى بروكسل؛ ليرى حبيبته الخائنة؛ ولينتقم من عشيقها الجديد.

•••

فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في مدينة بروكسل في منزل هذه الحسناء «كلير دارلون»، وقد أقبل المساء وهي تستقبل هذه الليلة، فإذا امرأة صديقة لها قد أقبلت قبل ميعاد الزيارة تريد أنْ تلقاها وتلح في ذلك، ويذهب الخادم لينبئها، ويدخل أثناء ذلك «درانيم» العشيق الجديد، فيكون بينه وبين هذه المرأة حديث تفهم منه أنهما متباغضان، ثم تقبل صاحبة البيت، وينصرف الفتى فتتحدث إلى صديقتها، فتنبئها هذه بعودة صاحبها القديم، وبأنه يريد أنْ يراها، أما «كلير» فلا تكاد تسمع ذلك حتى تضطرب ويملكها الغضب، وتذكر ما لقيت في ذلك الحب القديم من ألم، وتعلن أنها لا تريد أنْ ترى هذا الذي هجرها هجرًا غير جميل، فلم يسمع لها، ولم يودعها، ولم يكتب لها أثناء غيبته، وهي لا تريد أنْ تستأنف الألم الذي لقيته، أما صاحبتها فتتعطفها وتترضاها ولكن في غير نفع، فإذا يئست منها عمدت إلى التليفون تريد أنْ تأمر الفتى بألا يجيء، فتمسكها صاحبتها، وإذن فهي تألم، ولكنها ما زالت تحب، ونفسها تواقة إلى أنْ ترى هذا الشاب، وهما في هذا التردد إذ يقبل الزائرون جماعات، وفيهم أخو الشاب وأخته، وهما يطلبان إليها سرًّا ألا تستقبل هذا الفتى في بيتها؛ لأنها إنْ استقبلته حببت إليه المقام، وإنْ أبت استقباله يئس من كل شيء وعاد أدراجه، فيتم عزمها على ألا تستقبله مخافة الفضيحة، وتهم بأن تكلف صاحبتها إبلاغه ذلك، ولكن صاحبتها تتلكأ وتتشاغل بالزائرين، تتحدث إلى هذا وإلى ذاك، وفي أثناء ذلك يخلو إلى الفتاة عاشقها الجديد، فيتحدث إليها في حبه، ويطلب إليها الوفاء ويلح في ذلك، فنفهم أنَّ حبهما على قوته لم ينته إلى نتيجة، ولم يتجاوز الأماني والآمال، يلح الفتى وتجيبه المرأة في ازدراء وإباء، ولكن الفتى مشفق بعد أنْ علم بعودة العاشق القديم، فهو ينذرها ويخوفها نتيجة الإصرار على الإباء، وبينما هي مترددة في أمر صاحبها القديم أتلقاه أم ترده إذ يقبل هذا الصاحب، فلا تكاد تراه حتى تضطرب، ولا تكاد تتحدث إليه وتستمع له حتى يزول ترددها، فإذا هي عشيقته كما كانت، وإذا هو عشيقها كما كان، وإذا هو قد اكتسب من هذا الفوز قوة يلقى بها ما سينزل به من المحن وما يدبر له أخوه وأصحابه من كيد، وهي تنصح له أنْ يكتفي الليلة بهذا اللقاء وأنْ ينصرف، ولكنه يأبى ويتردد، وإذا القوم قد أقبلوا وفيهم أخوه وأخته فرأياه، ولم يبق بد من أنْ يبقى ويثبت لأعدائه وخصومه، وفي هؤلاء الناس خال له يحبه حبًّا جمًّا، ويعطف عليه عطفًا شديدًا، فتكون بين الشاب، وهؤلاء الناس على اختلافهم ضروب من الحوار المؤلم المر لا حاجة بنا إلى تفصيله، وإنما نذكر منها حوارًا بينه وبين أخيه، يدعوه أخوه إلى أنْ يستخفي فيأبى، ويشتد الخصام بينهما فيقول له أخوه كلامًا فيه تعريض بصحة نسبه لأبيه، فلا يكاد الفتى يسمع هذا التعريض حتى يشتد اللجاج بينه وبين أخيه، ويكاد الأمر ينتهي بينهما إلى الشر لولا أنْ يدخل بينهما خالهما فيصرفهما عما كادا يتورطان فيه، وتنتهي الليلة انتهاء سيئًا، تنتهي بخصومة عنيفة بين هذا الشاب وخصمه العاشق الجديد.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت على هذه الليلة أيام، وما زال الفتى مقيمًا في بروكسل، وقد استأنف حبه القديم، وأخذت أسرته وخصومه ودائنوه يكيدون له، يريدون أنْ يقفوه بين يدي القضاء، ونحن في بيت هذه الصديقة التي توسطت بين الفتى وبين صاحبته، ذلك أنَّ هذين العاشقين قد اتخذا بيت صديقتهما هذه مأوى لحبهما فهما يلتقيان فيه، فترى «كلير» قد أقبلت لموعدها، فانصرفت صاحبة البيت، وأخذت هذه تنتظر عاشقها، وإذا بالباب يطرق ثم يفتح ويدخل عاشقها الجديد: معذرة! لقد زرتك غير مرة، فأبيت استقبالي، ولا بد من أنْ أراك وأتحدث إليك، وقد ترقبتك حتى إذا خرجت من البيت تبعتك إلى هذا المكان، فلا بد أنْ تستمعي لي.

فإذا استمعت له أعاد عليها إلحاحه القديم، فرفضت مزدرية، ولكنه ينذرها فهو يملك في يده سلاحًا قويًّا، فإذا تبينت أمر هذا السلاح أظهر لها كتبًا كتبتها إلي عاشقها الأول، وفيها ما يثبت أنه سارق، وأنه مبدد لما لا يملك، ثم ينبئها بأن هذه الكتب ستدفع إلى القاضي ثم تنشر، وهي تكفي لسجن الفتى ولتلويث اسمها واضطرار زوجها إلى الطلاق، وهو يطلب إليها شيئين، الأول لا بد منه إذا كانت تضن بصاحبها على السجن وبنفسها على العار، وهو أنْ تقطع الصلة بينها وبين هذا العاشق، وأنْ تقنعه بمفارقة بروكسل، والثاني اختياري، تستطيع أنْ تطمئن إليه وأنْ ترفضه؛ ذلك أنه سيحتفظ بهذه الرسائل، فإذا كانت تريد أنْ تستردها لتأمن شرها فلا بد لها من أنْ ترضى له بما يريد، فإذا سمعت هذا تضرعت إليه، واستعطفته ليرد إليها هذه الرسائل، ولكنه يأبى إلا أنْ ترضى له، فتغضب وتطرده طردًا عنيفًا، أما هو فينصرف منذرًا وقد أجلها إلى غد.

ثم يقبل الفتى عاشقها الأول، فإذا هو مضطرب قد أخذ منه السكر، فهو يهذي ويتكلف الفرح والابتهاج، تشك في أمره وتسأله، فلا تتبين منه شيئًا، ولكنه يشهد اضطرابها، فإذا قصت عليه ما كان من أمر الرسائل أفاق من سكره، وظهر عليه حزن شديد؛ لأنه يشعر بأنه لن يهوي وحده، وإنما ستهوي معه هذه المرأة البريئة إذا ظلت هذه الكتب في يد هذا الخصم، وهو يفكر في ذلك إذ يدق جرس التليفون، فإذا سألت الخادم عرفت أنَّ أخا الفتى يسأل عنه يريد أنْ يراه، فيأمرها أنْ تنبئه بأنه ينتظره، وتخرج صاحبته «كلير» مضطربة، أما هو فيأمر الخادم أنْ تدعو خصمه «درانيم» باسم صاحبته؛ ليزورها الآن في هذا البيت فتفعل.

ويقبل أخوه فينصح له بالفرار؛ لأن النائب العمومي أمضى أمر القبض عليه، فيأبى، ويكون بينهما جدال عنيف، ينتهي بأن يظهر الفتى من أخيه على أنه ينكر نسبه إلى أبيه، وهو لا يقول هذا عفوًا، وإنما يقوله لأنه سمعه من أبيه، ولولا ثقته بأن نسبه غير صحيح، وأنه ليس أخاه حقًّا لما نازعه ولما كاد له، ولكنه يعلم أنه مدسوس في الأسرة، وأنه قد أساء إلى هذه الأسرة، فهو يريد أنْ يخلص شرف هذه الأسرة من فتى ليس منها في شيء، ثم ينصرف، ويظل الفتى محزونًا، وقد شك في أمره، وأصبح يتساءل أهو أمير حقًّا؟ أهو وارث لأبيه شرعًا؟ وأخذ ينظر في المرآة، فيتبين ملامح تخالف ملامح الأسرة، ثم تدخل صاحبته فينبئها بأنه دعا عاشقها الثاني وأنه مقبل الآن، فعليها أنْ تتلقاه، وسيستخفي هو لحظة حتى إذا جلس خصمه ظهر هو، فعليها إذن أنْ تتركهما حينًا، ويأتي «درانيم» فيستخفي الشاب، فإذا دخل «درانيم» تلقته المرأة مضطربة خافتة الصوت، فيجلس إليها ويستأنف إلحاحه وإنذاره، ولكن الفتى يظهر من مخبئه، وتتركهما المرأة وجهًا لوجه، وقد عمد الفتى إلى الأبواب فأحكم إغلاقها، فإذا خلا الخصمان طلب الفتى إلى خصمه الرسائل، فيتأبى، فيخرج مسدسه ويقسم ليردن الرسائل أو ليقتلن! يشك الخصم في هذا النذير، ولكن الفتى ينبئه بأنه سيقتل نفسه بعد قليل، فهو لا يخشى القضاء ولا العقاب ولا ما سيقول الناس، ويمهله دقيقة لرد الرسائل إليه، فلا يكاد خصمه يمانع؛ لأنه يرى المسدس قد صُوِّب إليه، فيدفع إليه الرسائل وينصرف، أما هو فقد أخذ الرسائل ووضعها على المائدة ودعا صاحبته، فتجيبه من وراء الباب المغلق وتدعوه إلى أنْ يفتح لها وتلح، ولكنه لا يفتح ولا يجيب إلا بكلمة الوداع، ثم ينصرف مسرعًا! وتأتي صاحبته فإذا لم تجده خرجت جزعة.

•••

فإذا كان الفصل الرابع فنحن في الريف في مكان موحش، وقد قام فيه قصر فخم تحيط به غابة موحشة، وفي هذا القصر يقيم خال الفتى، وهو شيخ فيلسوف قد كره الناس وحضارتهم وأخلاقهم، واحتقر الحياة الاجتماعية كلها؛ لأنها تفسد على الفرد حريته وتجعله كالكلب المستأنس، لا يمتاز من غيره إلا بقلادة في عنقه، هو إذن يحتقر الحياة والأحياء من الناس، ويؤثر عشرة الحيوان، وهو كَلِفٌ بالصيد ومعاشرة الحيوان، يربي بعضه ويقتل بعضه كما يقول، وله لذة هي المزاوجة بين الكلاب والذئاب، وقد أقبل إلى هذا القصر ذلك الرجل الذي رأيناه في الفصل الأول يتحدث إلى الشاب في مرسيليا، يطلب إليه ألا يعود؛ أقبل لأن صاحب القصر دعاه وقد علم ما كان من أمر ابن أخته،ومن أنه مقبوض عليه إذا لم يؤدِّ دينه، فهو يريد أنْ يؤدي عنه هذا الدين، وأنْ يصلح من أمره، وقد دعا إليه أيضًا أخا الفتى وأخته، وهو يريد أنْ يصلح بين هؤلاء جميعًا، وقد أبرق إلى النائب العمومي يعلن إليه أنه مؤدٍّ دَين ابن أخته، وهو في هذا الحديث إذ يقبل الفتى مضطربًا ذاهلًا، فيخلو إلى خاله يسأله أمره، وماذا يعرف من نسبه، فيحاول الشيخ أنْ ينكر أو يفر، ولكن الفتى يلح فيجيبه الشيخ بأنه لا يعرف من هذا الأمر شيئًا، إلا أنَّ أخته تزوجت كارهة من زوجها فلم تحبه يومًا، وعاشت معه سنين، ثم فارقها زوجها أعوامًا لمهمة سياسية في الخارج، وكانت في الخامسة والعشرين من عمرها، وكانت جميلة خلابة، وكان المفتونون بها كثيرين، ولكن لم يذع أحد عنها قالة سوء، وهو يعلم أنَّ أباه لم يكن يحبه ولا يميل إليه، وأنه كان يشك في نسبه.

ثم ما يزال الفتى بخاله حتى يذكر له طائفة من الذين فتنوا بأمه، فإذا ذكر منهم ضابطًا فرنسيًّا ألح في ذكره، وأشار إلى تشابه بينه وبين الفتى، فقد كان هذا الضابط جسورًا مخاطرًا مسرفًا في حب الحركة كارهًا للنظام، حتى إنه استقال من الجيش وذهب إلى أفريقيا الشمالية يستكشف الصحراء، فقتله هناك أهل البادية، لا يشك الفتى في أنه ابن هذا الضابط، وإذن فقد تغير كل شيء في نفسه، فهو ليس خصمًا لأخيه؛ لأنه ليس أخاه؛ ولأنه لا يستحق لقب أبيه لا يستحق ميراثه، وهو يريد أنْ يقتل نفسه ليتخلص من هذا الشقاء، وإنه ليتحدث إلى خاله إذ تدخل «كلير»؛ لأنها عندما افتقدته فلم تجده جزعت كما رأينا، وانصرفت تبحث عنه، فأقبلت تلتمسه عند خاله فوجدته، فيتركهما الشيخ، وينصرف إلى مكتبه ليدبر أمر هذا الدين وما بين الأخوين من الخلاف، ويخلو العاشقان فيكون بينهما حوار مؤثر حقًّا، يعلن إليها أنه مجرم، فتجيبه بأنها تحبه، ويعلن إليها أنه ليس لأبيه، فتجيبه بأنها تحبه، ويعلن إليها أنه فقد كل شيء، فقد الثروة، وفقد الشرف، وفقد اللقب، وفقد حتى النسب الصحيح، فتجيبه: ولكنك لم تفقدني فلم تفقد الحب!

ثم تعلن إليه أنها قد نظمت حياتها، فقطعت صلتها الزوجية، واعتزمت أنْ تعيش معه، وأنْ ترافقه إلى حيث يريد، وهما في هذا إذ يقبل خاله ومعه أخوه وأخته وزوجها والرجل الآخر الذي رأيناه أول هذا الفصل، فتنصرف المرأة، ويعلن خال الفتى إليه أنه قد تم كل شيء، فأما دَينه فقد أُدِّيَ عنه، وأما لقبه فقد رُدَّ إليه واعترف بذلك أخوه، أما هو فلا يكاد يسمع هذا حتى يأباه، ويجيب مبتسمًا: «هذا ما دبرتم، انتظروا فسأكتب لكم وصيتي» وينصرف، فإذا طالت غيبته على القوم افتقدوه فلم يجدوه، فيأخذ الشيخ جزع شديد، ويدعو ابن أخته بصوت عال تسمعه «كلير»، فتقبل جزعة، وقد اشتد اضطراب القوم، فهم يدعون الخدم يسألونهم ويأمرونهم بالبحث، ويقبل غلام معه كتابان، يدفع أحدهما إلى الشيخ والآخر إلى أخي الفتى، فيفض هذا كتابه ويقرؤه، فإذا الفتى يعلن إلى أخيه أنه قاتل نفسه وقاذف بها في هوة عميقة بعيدة عن القصر يسميها، فلا يكاد القوم يسمعون هذا حتى يأخذهم الهلع.

أما المرأة فقد أغمي عليها، وأما الشيخ فما زال هادئًا، ولكن تبدو عليه مظاهر اليأس، حتى إذا انصرف القوم جميعًا، يريدون أدراج الفتى، دفع الشيخ إلى المرأة — وقد أفاقت — كتابه مبتسمًا، وخرج فلحق بالقوم، أما المرأة فتنظر في الكتاب، ولكنها لا تكاد تمضي في القراءة حتى يدخل عليها الفتى، فتلقي بنفسها بين ذراعيه، وتدعوه باسمه «جان»، فيجيب: لا تذكري هذا الاسم، فإن «جان» قد مات، وقد ألقى بنفسه في تلك الهوة، أما الاسم الذي أمامك فاسمه «لوسيان جيرو»، وقد تركت على هذه الورقة عنواني في باريس، فإذا كنت تريدين أنْ تشاطريني ما بقي لي من هذه الحياة السيئة فالحقي بي، وإلا فكوني سعيدة، ولكن لا تقولي شيئًا، تجيبه سألحق بك غدًا.

•••

فأنت ترى إلى هذه القصة وإلى خلوها من كل فكرة قيمة، أو رأي ذي خطر، وإلى امتلائها بالحركة والأحداث والمواقف العنيفة التي تخلع القلوب فَرَقًا وتُرقِّصها أملًا، وأنت ترى إلى هذه القصة كيف استطاع الكاتب أنْ يصور الجزع حتى ملك على هؤلاء القوم وعلى الجمهور نفوسهم وأهواءهم، فلم يشكوا في أنَّ الفتى قد قتل نفسه، وهم في هذا الجزع العنيف، وإذا الفتى يظهر مبتسمًا هادئًا قانعًا من الحياة بما قسم له، وإذا شيء من الأمل الهادئ المتواضع يقوم مقام ذلك الأمل الضخم الذي لا حد له، ومقام ذلك اليأس الذي كاد يأبى على كل شيء.

أعترف بأن هذه القصة مما يلهي الجمهور ويرضيه، ولكني أعترف أيضًا بأنها لم تلهني ولم ترضني.

يناير ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤