الرجل المغلول

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «إدوار بورديه»

أما اليوم فسأحدثك عن قصة تمثيلية بالمعنى الصحيح، بالمعنى الذي أعجب به وأرتاح إليه؛ لأن فيها ما يرضي الخاصة والعامة معًا، فيها ما يسر الفيلسوف الباحث، وفيها ما يبتهج له النظارة الذين يختلفون إلى ملاعب التمثيل؛ ليقضوا فيها جزءًا من الوقت، وليجدوا فيها شيئًا من هذه اللذة المقدسة التي يخلقها الفن فينال بها العقول والقلوب.

ليست هذه القصة درسًا في الفلسفة، أو فصلًا من فصول العلم لا يفهمه إلا الأخصائيون، وليست هذه القصة بناء شامخًا كثير الحنايا والتعاريج، من هذه الأبنية التي يشيدها الخيال دون أنْ يسيطر عليه العقل أو تشرف عليه الفلسفة، وإنما هي قصة، للفلسفة فيها حظ وللخيال منها قسط، فهي — كما قلت — ترضي العقل لما فيها من فكرة وصدق وتحليل، وترضي القلب لما فيها من جهاد بين العواطف المختلفة المتناقضة، وهي من هاتين الناحيتين مرضية للعامة والخاصة، ولقد تبحث عن الفكرة التي قامت عليها هذه القصة، فلا تكاد تجدها، أو لا تكاد تشعر بأنها فكرة جديدة أو غريبة، ومع ذلك فالقصة لذيذة ممتعة للعقل، لا لأنها تشتمل على شيء جديد، ولا لأنها تفصل رأيًا من آراء العلماء أو نظرية من نظريات الفلسفة؛ بل لأنها تتناول نفسين أو نفوسًا ثلاثًا بشيء من التحليل الدقيق يظهر خفاياها، ويعلن ما كمن فيها من عاطفة أو شعور، ثم هي إلى هذا التحليل قد وفقت إلى طائفة من المواقف الدقيقة الرقيقة التي تؤثر في نفسك أقوى التأثير دون أنْ تصدمك صدمة قوية أو تهزك هزة عنيفة، وإنما هي تحدث في نفسك هذا التأثير قليلًا قليلًا، وتترقى بك في الألم شيئًا فشيئًا حتى تصل بك إلى أقصاه، مثلك في ذلك مثل الذي يصَّعَّد في جبل شاهق دون أنْ يلقى في تصعيده عناء؛ لأن طريقه إلى القمة سهلة معبدة.

فالكاتب لا يجذبك إلى ما يريد جذبًا، وإنما يماشيك إليه، ويقودك في لطف ورفق، كأنه يسرقك أو يختلسك، ذلك إلى حلاوة في اللفظ، وسحر في البيان، وتجنب للتكلف، واقتصاد في الحركة، والغريب من أمر هذه القصة أنك تشهدها أو تقرؤها، فلا تكاد تشعر بأنك تشهد قصة أو تقرؤها، وإنما يملكك شعور قويٌّ هادئٌ؛ لأنك تشهد فصلًا من فصول الحياة، أو تطلع على صورة من صور الحياة، ومن هنا كان ما تشعر به من لذة أو ألم صادقًا؛ لأنه لم يُتكلف ولم يُتعمد، وإنما نشأ في نفسك كما تنشأ فيها اللذات والآلام اليومية أمام هذه المظاهر الفطرية التي تبعث في النفس اللذة والألم، ومن هنا لم يختلف النقاد في أمر هذه القصة، وإنما اجتمعت كلمتهم على الإعجاب بها والثناء على كاتبها وانتظار الخير الكثير منه، ولعل مصدر هذا الإتقان الذي أجمع النقاد عليه أنَّ الكاتب هادئ محب للأناة، لا يتعجل الفوز، ولا يتهالك على التصفيق، ولا يحرص على كثرة الإنتاج، هو بطيء في إنتاجه؛ يتصور القصة، ثم لا يكتبها حتى تطول العشرة بينه وبين الصورة التي يتصورها، فإذا أصبحت هذه الصورة كأنها جزء من نفسه أقبل على قلمه فرسم هذه الصورة في هدوء وبعد عن التكلف، فإذا تم له من ذلك ما أراد ونالت قصته حقها من الفوز لم يطمعه ذلك، ولم يدخل إلى نفسه الغرور، ولم يبعثه على أنْ يستزيد من الفوز، وإنما يبعثه على أنْ يتمهل، ويستأني ويتيح لنفسه الفرصة التي تمكنها من الراحة والتجدد، فيمكث السنتين والسنين لا يكتب ولا يفكر في الكتابة، وإنما يستريح ويقرأ ويشاهد ويتنقل في مظاهر الحياة، متفهمًا لها محللًا إياها، حتى تعرض له صورة أخرى، وإذا هو يسلك معها سبيله مع القصة الأولى، فهو من أقل الكتاب الممثلين إنتاجًا، ولكنه من أغزرهم مادة وأحسنهم أثرًا، وهو ينال على ذلك من الفوز والمكافأة أكثر مما يناله غيره من المتعجلين.

•••

«ميشيل فردييه» محام معروف، عظيم الشهرة، بعيد الصوت، كثير العمل، لا تكاد تسمع لحديثه حتى تشعر بأنه ذكيُّ القلب، رقيق العاطفة، حاد المزاج، قويُّ الحس، وهو متزوج من امرأة يحبها حبًّا لا حد له، وتحبه هي كذلك حبًّا لا يعدله حب، واسمها «هيلين»، لا تكاد تسمع لحديثها حتى تتبين فيها مثلًا للمرأة التي تراها، فإذا أنت مأخوذ بإكبارها وإجلالها؛ لأنها جمعت إلى الجمال والفتنة نفسًا عالية، وقلبًا ملؤه الحنان، وأخلاقًا مستقيمة فُطرت على الطهارة والوفاء، وهي كزوجها رقيقة العاطفة، ولكنها قوية الحس، تراهما في الفصل الأول يتحدثان عن سياحة يعتزمان أن يسيحاها في إسبانيا.

أما هي فمبتهجة مغتبطة؛ لأنها سترى ما لم ترَ؛ ولأنها ستخلوا إلى زوجها أسابيع لا يشاركها فيه شريك، وأما هو فسعيد ولكنه يتعجل العودة؛ لأن عمله كثير؛ ولأنه لا يستطيع أنْ يؤجل هذا العمل إلا قليلًا، وتفهم من حديثهما أنهما قد تزوجا منذ ثلاث سنين، وأنهما تحابا قبل أنْ يتزوجا، وأنها أسلمت نفسها له قبل الزواج، أنكرته أسرته كلها، وما زالت تنكره وتزدري امرأته إلا أختًا له هي «جنڨييف»، وهي أرملة لا ولد لها، تحب أخاها وتكبر زوجه، وتضمر لها مودة قوية، يسألها ماذا تصنع هذا اليوم فتنبئه بأنها تنتظر جماعة من الزائرين، سيتناولون عندها الشاي، فإذا سألها عن مصدر هذا أنبأته بأن أخته تفكر في أنْ تُعرِّف فتاة إلى شاب، وهي تريد أنْ يكون بينهما زواج، أما هذه الفتاة فاسمها «كلودين أرفو» جميلة، ذكيَّة، مُثْرِيَة، ولكنها فقدت أمها، وهي تعيش مع أبيها الذي لا يحفل بها ولا يلتفت إليها، وإنما ينصرف عنها إلى لذاته وشهواته، فمن الخير أنْ تتغير حياتها، وأنْ تجد في الزواج ما ينقذها من شر هذه الوحدة التي تعيش فيها، وأما الشاب فهو «فيليب دارتيز»، وهو صديق هذه الأسرة، وهو جميل، حسن الطلعة، غنيٌّ، اشتغل بالمحاماة فتفوق فيها، وكاد يبلغ مكانة عالية لولا أنْ عرضت له امرأة نَصَفٌ ولكنها غنيَّة جدًّا، فأحبها وأحبته وعاشا حينًا، فما هي إلا أنْ صرفته عن العمل، فأصبح لا يعيش إلا لها، وأصبح يضحي بملكاته ومكانته في سبيل هذه المرأة، ومن الخير أنْ يتركها إلى حياة الزوجيَّة المنظمة التي تمكنه من إحياء ملكاته واسترداد مكانته في المحاماة، أما زوجها فلا يكاد يسمع هذا حتى يسخر منها ومن أخته، ومن عنايتهما بتزويج الناس بعضهم من بعض، ثم تقبل أخته فينصرف، ويقبل الزائرون قليلًا قليلًا حتى يتم اجتماعهم إلا الشاب فإنه لا يحضر، ومع ذلك فقد وعد بالحضور، وصاحبة البيت تنتظره وقد أعلنت مقدمه إلى الزائرين.

وهنا قسم لذيذ من القصة، فيه ضروب من الحوار مختلفة، كل واحد منها على قِصَرِه يصور لك تصويرًا صادقًا دقيقًا نفسًا إنسانية أو شخصًا من أشخاص هذه الحياة الخاصة: حياة الأغنياء والمترفين، فهناك في ناحية من نواحي الغرفة رجل وامرأة يتحدثان، يتحبب الرجل إلى المرأة ويغريها بالحب ولذاته، فتجيبه بأنها تفهم ذلك وتميل إليه فلا تنفر منه، ولكنها مع ذلك لا تورط نفسها فيه؛ لأنها تعودت ألا تكتم زوجها سرًّا، فهي تقص عليه أمر يومها إذا اجتمعا إلى مائدة العشاء، وهي تخشى إنْ اتخذت لها عاشقًا أنْ تقص أمره على زوجها لما تعودت من ذلك، ولكنه يغريها ويهون عليها الأمر، ويفتح لها أبواب الحيل، وما يزال بها حتى يظهر أنه قد ملك عليها أمرها، فيخرجان بعد أنْ يقسم لها أنها تستطيع أنْ تقص على زوجها كل ما سيحدثها به في الطريق، وهذه المرأة نفسها مشهورة بالتورط في طائفة من الأغلاط المنكرة كلما ظهرت في جماعة، ولم تخطئ حظها من ذلك هذا اليوم، فبينما هم إلى الشاي يذكرون «فيليب» وانتظاره إذ ذكرت صلته بتلك المرأة التي يحبها وتحبه، فسمعت الفتاة ذلك، وتكلفت صاحبة البيت مشقة لتصرف الحديث عن هذا الوجه.

وهناك في ناحية أخرى أبو الفتاة، وهو رجل قد كان يتقدم في السن، ولكنه شاب أو يتكلف الشباب، مكبٌّ على لذته، لا يعدل بها شيئًا آخر، وهو حريص على أنْ يزوج ابنته ليخلص منها ويفرغ للذاته، وحرصه هذا على تزويج ابنته ينسيه واجبه، فهو لا يتحرى من أمر الشاب الذي يعرض عليه شيئًا، وإنما يكل الأمر في خفة إلى «هيلين» و«جنڨييف»، فإذا أبطأ الشاب انصرف وترك ابنته بين هاتين الصديقتين.

وهناك الفتاة «كلودين» يظهر عليها أنها قد بلغت من السذاجة والبراءة حظًّا عظيمًا، ولكنها ليست بالساذجة ولا الجاهلة، فهي تعلم لم دعيت إلى هذا الشاي، وإنْ أخفوا ذلك عليها، وهي تفطن لكل ما تسمع من حديث، وهي تعلم من أمر هذا الشاب الذي يراد تقديمه إليها كل شيء، وهي تميل إليه؛ لأن خلقه جميل، وتنفر منه لمكانه من تلك المرأة، ولكن انتظار هذا الشاب يطول، فتنصرف «جنڨييف» والفتاة، وتبقى «هيلين» وحدها لحظة، ثم يدخل الخادم فينبئها بأن «فيليب» قد جاء حين كان عندها الزائرون، فلما عرف مكانهم انصرف على أنْ يعود بعد قليل، وقد عاد، فيدخل فتتلقاه «هيلين» ساخطة مغضبة؛ لأنها دعته إلى الشاي وكانت تريد أنْ تقدم إليه ناسًا، أما هو فيجيب بأنه أقبل ليراها لا يرى غيرها؛ لأن رؤية غيرها تؤذيه، ورؤيتها هي تسره، وقد أقبل ليُسَرَّ لا ليتأذى، ثم يكون بينهما حديث تظهر فيه قيمة القصة، وتبدأ فيه المعضلة التي سيعالجها الكاتب في الفصلين الآخرين، يتحدثان فتذكر له قصة الزائرين وقصة الفتاة، وأنها تريد أنْ تقدمها إليه فيتخذها له زوجًا، فيجيبها بأنه لا يريد أنْ يتزوج، فإذا ألحت عليه، أجابها في تبرم وسخط بأن ذلك لا يعنيها، وليس من حقها أنْ تفكر في أمره الآن، أو تحرص على سعادته بعد أنْ ازدرت هذه السعادة وضحت بها منذ ثلاث سنين، وإذن فقد كان بينهما حب قبل زواج «هيلين»، وقد ضحت هيلين بهذا الحب وتزوجت، ولكن الحديث يستمر بينهما فيوضح لنا هذه القصة، فنفهم أنَّ «فيليب» عرف هيلين هذه فأحبها ولم تحبه، ثم قدم إليها صديقه «ميشيل»، فأحبها أيضًا وأحبته، أو قل مالت إليه، وكانت بينهما صلات العاشقين، فتألم «فيليب» لذلك، ولكنه أخفى ألمه، ثم أصبحوا ذات يوم فإذا ميشيل قد سافر فجأة إلى أمريكا، وانقطعت أخباره ورسائله حينًا، فانتهز فيليب هذه الفرصة، واستأنف ملاطفة «هيلين» والتحبب إليها، وما زال يتبعها بحبه وإلحاحه حتى رضيت له، ومضت على ذلك أشهر، ثم أقبل «ميشيل» من أمريكا، فإذا هو لم يسافر إلا ليبحث عن الثروة وليضمن مستقبلًا سعيدًا، فلما ظفر بذلك عاد فعرض على «هيلين» الزواج، وكانت تريد أنْ تنبئه بخيانتها إياه، ولكنها رأته سعيدًا مبتهجًا، فأشفقت عليه من الألم، ورأت أنَّ المستقبل أمامها مبتسم سعيد، فأشفقت على نفسها من الحرمان، وكتمت خيانتها وقبلت الزواج، وكتبت إلى «فيليب» تقطع ما بينهما من الصلة، وتعاهد فيليب وهيلين على أنْ يجتهدا في نسيان هذه الصلة.

ومضت على ذلك أعوام ثلاثة، أما هي فنسيت كل شيء؛ لأنها أحبت زوجها؛ ولأن زوجها عرف كيف يضمن لها السعادة، وأما هو فلم ينسَ شيئًا؛ لأنه ما زال يحبها، وما زال يألم لهذه القطيعة، فإذا سألت عن هذا الحب كيف يستطيع «فيليب» أنْ يجمع بينه وبين معاشرته لتلك المرأة التي قدمنا الإشارة إليها، قلنا لك: إنَّ هذا هو سر القصة، وستظهر عليه في الفصل الثاني.

•••

فإذا كان هذا الفصل الثاني فقد عاد الزوجان من سياحتهما في إسبانيا، وقد أقبلت «جنڨييف» تريد أنْ تلقى «هيلين» لتحييها بعد العودة، فإذا رأتها وحيتها أنبئتها بأنها لم تيأس من الزواج بين «فيليب» و«كلودين»، وأنها قد عملت لذلك وجدَّت فيه فوفقت لشيء كثير، ذلك أنها ما زالت تحتال حتى قدمت الفتاة إلى الفتى في ملعب من الملاعب الرياضية، وكانت بين الفتاة والفتى مسابقات ومغالبات في هذه الألعاب الرياضية انتصرت فيها الفتاة غير مرة، ثم نشأ بينهما شيء من الميل الظاهر، ولكنه في نفس الفتاة قويٌّ يكاد يبلغ الحب الذي تنهلُّ من أجله العبرات، وهي تريد الآن أنْ تعلم علم فيليب وما اعتزم في أمر هذا الزواج، وقد احتاطت لذلك، فتحدثت صباح اليوم في التليفون إلى «فيليب» باسم «هيلين» تنبئه بعودتها وتدعوه لزيارتها، فوعد بهذه الزيارة في الساعة الثانية بعد الظهر، وهو قادم من غير شك بعد قليل، أما «هيلين» فتنكر عليها سعيها هذا، وتلومها لومًا شديدًا، ولكن «فيليب» يقبل فتستخفي «جنڨييف» وتتلقاه «هيلين» فيكون بينهما حديث نفهم منه أنه معجب بالفتاة ميال إليها، يود لو استطاع أنْ يقترن بها، ولكنه لن يفعل، فإذا سألته عن سر هذا لج في كتمانه، وهي تتضرع إليه وتذكر له حب الفتاة وألمها، فلا يحفل بشيء من ذلك، ثم ينصرف، وتعود «جنڨييف» فتنبئها «هيلين» بأن لا أمل في الزواج، وهما تتحدثان إذ يدخل الخادم فينبئ بأن «سيمون» — وهي عشيقة «فيليب» — قد أقبلت تريد أنْ ترى «هيلين»، فتتشاءم المرأتان لهذه الزيارة، وتنصرف «جنڨييف» وتدخل «سيمون»، فيبدأ بينها وبين «هيلين» حديث ملؤه التورية والتعريض، وملؤه الغمز واللمز، ولكنه ينتهي إلى جزء هو عقدة القصة ومشكلتها الحقيقية، ذلك أنَّ «سيمون» تصارح «هيلين» بأنها تريد أنْ تتزوج من «فيليب»، وتطلب معونتها على ذلك، فإذا أظهرت «هيلين» شيئًا من التردد جاهرتها سيمون في عنف وقسوة بأنها مدينة لها بهذه المعونة، وأنها إذا لم تعنها فستلقى من ذلك شرًّا ليس فوقه شر؛ لأن «سيمون» تعلم ما كان بينها وبين «فيليب» من الخيانة، وأنها إنما علمت ذلك؛ لأنها كانت تحب «فيليب»، فانصرف عنها حين فتن «بهيلين»، فما زالت تتبين أسباب هذا الانصراف حتى عرفتها، وإذن «فهيلين» عدوتها قد أساءت إليها حين فتنت «فيليب»، وما زال «فيليب» متأثرًا بهذه الفتنة، فيكفي أنْ تأمره «هيلين» بشيء ليفعله، وإذن فهي تطلب إلى هيلين أنْ ترغبه في هذا الزواج، فإن لم تفعل فستقص أمرها على ميشيل زوجها، وستكون شقية مثلها ثم تنصرف، فإذا هيلين جزعة مضطربة يتنازعها أمران كلاهما شر، فهي لا تريد أنْ تعلم زوجها بما كان من خيانتها إياه، وهي لا تريد أنْ يقترن «فيليب» بهذه المرأة التي يكرهها ويزدريها، فتسرع إلى التليفون، وتدعو «فيليب» لزيارتها، وهي في انتظاره واجمة جزعة إذ يقبل زوجها، فتجزع لرؤيته، وكلما تلطف لها زادها ذلك ألما وحسرة، فإذا سألها زوجها عن ذلك اعتذرت بتعب السفر، وما يزال بها حتى تطمئن إليه قليلًا فيتحدثان، ثم يتركها لعمله.

ويأتي فيليب، فتقص عليه من أمر «سيمون» ما قدمنا، ويظهر لنا أنَّ هذا هو الذي يحول بين الفتى وبين الزواج، ذلك أنَّ «سيمون» أخذت كلما أحست ميلًا من «فيليب» إلى أنْ ينصرف عنها، تنذره بأنها ستقص أمره على «ميشيل»، فتقضي على سعادة «هيلين»، وإذن فهو يعيش مع هذه المرأة التي يكرهها ويزدريها لا لشيء إلا الحرص على أنْ تظل «هيلين» سعيدة، وعلى أنْ يظل سرها مكتومًا، أما الآن وقد ظهر أنها لا تكتفي منه بالعشرة، وإنما تريد منه الزواج، فأمره مضطرب كأمر «هيلين»، وهما يتشاوران إذ يدخل «ميشيل»، فيحيي صديقه القديم، ويتحدث إليه بأن الناس يذكرون عشرته لهذه المرأة فينكرونها ويسخطون عليها، ويلومون «فيليب» لومًا عنيفًا، ويتهمونه بأنه إنما يعاشرها لثروتها، وينصح له بأن يقطع هذه الصلة، فيجيبه «فيليب» بأنه لن يقطعها، بل هو سيزيدها قوة ومتانة؛ لأنه سيتخذ «سيمون» زوجًا له، ثم ينصرف ويترك هيلين في حال من الوجوم غريبة، وينصرف ميشيل إلى عمله، أما هيلين فتظل واجمة حينًا، ثم يظهر عليها أنها قد اعتزمت أمرًا ذا خطر، فتعمد إلى منضدة وتكتب كتابًا، وتدعو خادمتها فتأمرها أنْ تنصرف بهذا الكتاب إلى «فيليب» فتدفعه إليه وتعود، فإذا انصرفت الخادم نهضت هي في ذهول ووجوم إلى مكتب زوجها، فطرقت الباب ودعت «ميشيل»: أأستطيع أنْ أتحدث إليك؟ فتسمع من وراء الباب صوتًا يجيبها أن نعم! فتستخفي وراء الباب ويسدل الستار.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فنحن في مكتب ميشيل والمسرح خال لحظة، ثم يقبل ميشيل مضطربًا، فيدعو الخادم ويطلب إليه التليفون، فإذا حمله إليه دعا الطبيب، ثم تدخل أخته جنڨييف، فتفهم من حديثهما أنَّ هيلين مريضة، وأنها أقبلت إليه تحدثه، وكانت أمارات التعب والاضطراب ظاهرة على وجهها، فسألته أنْ يجتهد في منع هذا الزواج بين فيليب وصاحبته، ثم أخذتها نوبة عصبية عنيفة، فإذا هي ترتعد ارتعادًا قويًّا، وإذا دموعها تنهل، وإذا زفراتها متصلة، وإذا هي ترفع من وقت إلى آخر يدها إلى رأسها كأنها تحس ألما فيه، فحملها إلى مضجعها، وتعهدها بشيء من العناية حتى هدأت قليلًا، وهي الآن في سنة من النوم، فإذا قص ذلك على أخته حزنت له، وأخذت تهدئ من روع أخيها، ولكن أخاها مضطرب يفترض الفروض، ويخشى على زوجه كل مكروه، ولكنه يسأل أخته فيم أقبلت؟ فتقص عليه كل ما قدمت لك في الفصل الماضي، فإذا علم أنَّ فيليب قد زار زوجه مرتين، وأنَّ سيمون قد زارتها أيضًا دخله شيء من الخوف والتَّخَوُّن، وعبثت بنفسه الشكوك؛ لأن زوجته لم تحدثه بشيء من ذلك، فأخذ يسائل عن هذه الزيارات، وأخذ يفهم ما بال زوجه كانت مضطربة متعبة حين دخل عليها في الفصل الثاني، وأخذ يسائل عن مقدم سيمون، وأخذت أخته تزيل من نفسه هذه الشكوك والأوهام، ولكنه كان قد دعا خادم زوجه فأخبر أنها غائبة.

وقد عادت هذه الخادم فأقبلت، فيسألها أين كانت، فتنبئه أنَّ سيدتها كلفتها أنْ تحمل كتابًا إلى فيليب، فحملته وسلمته إياه، فلا يزيده هذا النبأ إلا شكًّا أو قل إلا يقينًا بأن امرأته تحب هذا الرجل، وما أسرع ما يتمثل تفسيرًا لحال امرأته، فهي تحب فيليب وتكره هذا الزواج، وقد اجتهدت في أنْ تصرفه عنه، وهي تجتهد في ذلك إذ دخل هو عليهما فانقطع الحديث، فلما انصرف فيليب كتبت إليه تعزم عليه ألا يتم هذا الزواج، وقد اشتد يقينه وقويَ حتى كاد يجن جنونه، ولكن أخته تسأله: ولم تجتهد زوجك في أنْ تمنع هذا الزواج؟ وماذا عسى أنْ يغير هذا الزواج من حبهما إنْ كان بينهما حب؟ فهي كانت تعلم أنه كان يعيش مع هذه المرأة عيشة الزوج، أفتظن أنها تعلم ذلك، وتطمئن إليه، ثم تجتهد في أنْ تمنع إقراره رسميًّا! ألست تعلم أنها كانت تجتهد معي في تزويج فيليب من هذه الفتاة كلودين؟ وإذن فكيف تستطيع أنْ تفسر ذلك، وأنْ تفترض أنَّ بينهما حبًّا، فيظهر لميشيل أنه مسرف متعجل في افتراضه، ولكنه يظل مضطربًا؛ لأنه لا يفهم أمر هذا الكتاب، فتهدئه أخته، وتطلب إليه أنْ ينتظر حتى إذا أَبَلَّتْ هيلين من مرضها سألها عن هذا الكتاب، فأجابته بما يرضيه ويريحه، وتعلن إليه أنها ذاهبة تتعجل الطبيب، فإذا خرجت تبعها، وظل المسرح خاليًا حينًا، وإذا هيلين قد أقبلت وهي شاحبة ممتقعة عليها آثار التعب والعلة، فإذا دخلت ولم ترَ زوجها أقبلت إلى التليفون تريد أنْ تتحدث، ولكن زوجها يدخل فتنصرف عن التليفون ولما يتمكن من أنْ يراها، ثم يسألها كيف هي وما بالها خرجت من غرفتها؟ فتنبئه بأنها بخير، وأنها تسترد قوتها بعض الشيء، ولكن صاحبنا مضطرب، وهو أشد اضطرابًا من أنْ يصبر على زوجه، ويجنبها الأسئلة المؤلمة، فيسألها عن زيارة فيليب، وعن زيارة سيمون، وعن هذا الكتاب الذي بعثت به إلى فيليب، وهو كلما ألقى عليها سؤالًا لم يرَ منها إلا اضطرابًا وارتباكًا، ولم يحس منها إلا تورطًا في الكذب والتلفيق، ولم يشهد منها إلا ضعفًا وإسراعًا إلى استئناف النوبة العصبية التي شهدتها منذ حين، فلا يبقى في نفسه مكان للشك في أنها خانته، وفي أنها تحب فيليب، فيصرفها إلى غرفتها وهي ضعيفة لا تقاوم إلا قليلًا، فتنصرف وتتركه ذاهلًا قد بهت، وتدخل أخته فتنبئه بأن الطبيب غائب عن باريس، فيجيبها: لسنا في حاجة إلى الطبيب، فليست مريضة، وقد ظهر لي كل شيء، ثم يطلب إلى أخته أنْ تلحق بهيلين في غرفتها، وأنْ تلازمها وتحول بينها وبين مفارقة هذه الغرفة حينًا، وأنْ تمنعها من اللحاق به؛ لأنه ينتظر رجلًا، ويريد أنْ يخلو إليه، فتطيع أخته مشفقة.

أما هو فقد عمد إلى التلفون ودعا فيليب، فوعده أنْ يقدم حالًا، ويأمر الخادم ألا يدخل عليه أحدًا غير فيليب، فإذا أقبل فيليب أجلسه، وعمد إلى أبواب المكتب فأحكم إغلاقها، ثم جلس وقال لصاحبه: لقد عرفت كل شيء، فقد أنبأتني هيلين بما كان بينكما، وهو إنما قال ذلك ليمتحن صاحبه ويبتليه، ولكن صاحبه يجيبه في هدوء، أعلم ذلك! وكيف تعلمه؟ فقد كتبت إليَّ تنبئني به! تنبئك بماذا؟ تنبئني بأنها ستقص عليك كل شيء، ثم يجتهد فيليب في أنْ يفسر له هذا الأمر، فيذكره بتقديمه إياه إلى هيلين وبأنه كان يحبها، فلم يحفل ميشيل بهذا الحب، ولم يلتفت إليه، أو لم يشعر به، وما زال يتملق هيلين ويتلطف لها حتى كان منها مكان العاشق، فهو إذن قد خان فيليب أو اعتدى عليه، ثم سافر فجأة دون أنْ ينبئ بسفره، وكان فيليب لا يفكر إلا في شيء واحد وهو أنْ ينتقم من هذا الاعتداء، وكان يحب هيلين، فأخذ يتتبعها ويلح عليها، وينتهز ضعفها ووحدتها حتى ظفر منها بما أراد، ثم كانت عودة ميشيل من أمريكا وعرضه الزواج على هيلين، فكتبت هيلين إلى فيليب تقطع ما بينهما من صلة، وكان هذا كل شيء، أما ميشيل فقد استمع لهذا الحديث والغضب مالك عليه أمره، وهو لا يكاد يصدق أنَّ الأمر قد انتهى بالعاشقين إلى هذا الحد، وإنما هو موقن أنهما قد مضيا في الخيانة بعد الزواج، ولكنه يحس من صاحبه الصدق، فلا يفعل هذا الإحساس في نفسه شيئًا، وإنما هو متأثر بالغضب والإهانة، وقد اعتزم أنْ يطرد زوجه، وأنْ يقطع ما بينهما من صلة، وهو يعلن إلى صاحبه أنه يستطيع أنْ يسافر معها إلى حيث أراد، ثم يسأله: «ولكنك تكره هذا السفر فسيحول بينك وبين الاقتران بهذه المرأة الغنية.»

يجيبه صاحبه: لا تكلف نفسك عناء، فلم يبق من سبب لهذا الزواج.

– وكيف ذلك؟

– لأني كنت مقدمًا على هذا الزواج وأنا كاره له، كنت أضحي بنفسي في سبيلك وفي سبيل هيلين، وفي سبيل سعادتكما كانت هذه المرأة قد عرفت كل شيء، وأمسكتني ثلاث سنين، كلما حاولت فراقها أنذرتني بأنها ستقص عليك ما تعلم فأبقى، ثم خطر لها الزواج فأنذرتني وأنذرت هيلين نفس النذير، فأشفقت عليها وعليك وقبلت الزواج، أما الآن وقد علمت كل شيء، فليس ما يدعو إلى هذا الزواج، ثم أريد أنْ أقول لك قبل أنْ أنصرف: إنك ستعفو عن زوجك، وإنَّ هذا العفو هو أجدر الأشياء بك، ولقد أعلم أنك تألم كثيرًا، ولكني أعلم أنَّ ألمك هذا سيزول؛ لأنها تحبك، أما أنا فآلم كثيرًا منذ سنين، ولن يزول هذا الألم؛ لأنها لا تحبني، وهو في هذا الحديث إذ تقبل جنڨييف تدعو أخاها، فينصرف فيليب وتنبئ جنڨييف أخاها أنَّ هيلين مضطربة قد عاودتها النوبة، فهي تدعوه صائحة باكية مرتعدة باسطة ذراعيها كالطفل، ولكنه يأبى أنْ يذهب إليها، ويصرف أخته ويجلس وقد وضع رأسه بين يديه مفكرًا، ويلبث كذلك حينًا، وإذا هيلين قد أقبلت فتدعوه، فإذا رفع إليها رأسه أخذت تحدثه بصوت متهدج وهي تدافع عبراتها: لقد سألتني فأخفيت عليك، وأنا الآن أريد أنْ أنبئك بالحق، فلست أجد من ذلك بدًّا، لا تكلفي نفسك ذلك فقد علمت كل شيء، دعوته فسألته فأنبأني ثم انصرف، وإذا هي جاثية بين يديه تستغفره وتسأله العفو!

وهنا موقف أقل ما يوصف به أنه آية من آيات الدقة الفنية في وصف العاطفة الرقيقة المؤثرة، انظر إلى هذه المرأة تقدر خطيئتها، وتشعر بهول هذه الخطيئة، ولكنها تحب زوجها حبًّا لا حد له، وهي لا تستطيع أنْ تعيش بدونه، وهي لا تستطيع أنْ تطمع في عفوه؛ لأنها تعلم أنَّ هذا العفو عسير، فهي تعتذر وتترضى وتضرع ولا تطلب إلى زوجها إلا أنْ ينتظر، وأنْ يكون شجاعًا على احتمال الألم، وانظر إلى هذا الرجل يحب زوجه حبًّا لا حد له، ويثق بها ثقته بنفسه، وقد كان يؤمن الإيمان كله بأنها فوق ما يتورط فيه النساء من الضعف، وفوق ما يتعرض له النساء من الشك، فما هي إلا لحظة حتى انهدم هذا البناء الفخم، وأصبحت امرأته أمامه امرأة كغيرها من عامة النساء، وهو على هذه الخيبة يحب امرأته، وهو يحاول أنْ يخفي هذا الحب، ولكنه لا يجد سبيلًا إلى ذلك، وهو يلتمس وسيلة يستأنف بها الإيمان بزوجه، وهو يكلف نفسه المشقة في تلمس هذه الوسيلة، فكلما فتحت له امرأته بابًا من أبواب الأمل نهض شبح الشك الفظيع فأغلق هذا الباب إغلاقًا عنيفًا، وكيف يستطيع أنْ يؤمن بامرأته وقد خانته وكذبت عليه، واستطاعت أنْ تخفي هذه الخيانة وهذا الكذب ثلاث سنين دون أنْ يحس من ذلك شيئًا أو يتوهمه! كيف يستطيع أنْ يؤمن لها؟ أليست قادرة على أنْ تستأنف الكذب والخيانة وإخفاءهما؟ كلا! لا أستطيع! إنك تحبين هذا الرجل، وإلا فما بالك قد كرهت هذا الزواج، واجتهدت في منعه حتى أظهرت ما خفي من أمرك أمامي، ووصمت نفسك أمامي هذه الوصمة المخزية المنكرة؟ أليست هذه تضحية؟ أفكان يحملك على هذه التضحية شيء إلا الحب؟!

– ولكنك رجل تفهم معنى الشرف ومعنى الواجب خيرًا مما أفهمه، وما أشك في أني لم أقدم هذه التضحية متأثرة بالشرف والواجب، رأيت هذا الرجل وقد ضحى بنفسه في سبيلي ثلاث سنين، وهو يريد أنْ يضحي بما بقي له في سبيلي أيضًا، فكرهت ذلك وأبيته، وآية حبي لك أني وجدت نفسي أمام أمر شاق، هو منع هذا الزواج، فلم أستعن إلا بك، أفتراني كنت أستعين بك لولا أنَّ لي بك ثقة عظيمة.

وإذا جرس التليفون يدق، فتعمد إليه هيلين وتنبئ زوجها أنَّ أخته تريد أنْ تتحدث إليه، فيأبى، فتجيب عنه، ونفهم من الحديث أنَّ جنڨييف تسأل عن المريضة وعن أمر الزوجين، وهي قلقة وتريد أنْ تطمئن، فتبذل لها هيلين مما يبعث في نفسها الطمأنينة، ثم تسمع هيلين تقول: نعم أعدك بأني سأفعل ذلك، ثم تنصرف عن التليفون مترددة، فتقبل على زوجها: «ميشيل، إنَّ جنڨييف تكلفني أنْ أُقبِّلك!» ولا ترى من زوجها انصرافًا عنها فتطوقه بذراعيها.

فبراير سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤