العذراء المفتونة

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «هنري بتايل»

أما اليوم فأريد أنْ أحدثك عن فن عجيب من فنون التمثيل، أريد أنْ أحدثك عن الكاتب الفرنسي «هنري بتايل»، ولست في حاجة إلى أنْ أقدمه إليك، فأنت تعرفه من غير شك، ومن ذا الذي لا يعرف هذا الكاتب الذي فُتِنَ به الباريسيون خاصة والفرنسيون عامة، والذي تأثر بهذه الفتنة ففُتن بفنه وبالغ في إتقانه والحرص على الإجادة فيه حتى قتله النقد في يوم من الأيام! نعم! قتله النقد، واعترف النقد على نفسه بهذه الجريمة إنْ صح أنْ تسمى جريمة، فقد كان «هنري بتايل» عليل القلب، وقدم إلى التمثيل قصة لم تعجب النقاد، فأنكروها وبالغوا في إنكارها، وكان وقع هذا الإنكار شديدًا في نفس الكاتب، فمات فجأة وهو يصحح تجارب هذه القصة التي قصت عليه، فالنقد إذن هو قاتله، ومع ذلك فلم يزد النقد على أنْ أدى واجبه للفن، فأعلن رأيه متأثرًا بطباع النُّقاد وأمزجتهم؛ فكان حادًّا حينًا، ولينًا رفيقًا حينًا آخر، أليست حياة «هنري بتايل» وموته وأثر النقد في هذه الحياة وفي هذا الموت من الموضوعات التي تصلح لإنشاء قصة تمثيلية مؤثرة!

لست أريد أنْ أقدم إليك هذا الكاتب الذي تعرفه، وإنما أريد أنْ أقدم إليك فنه، وأعتقد أنَّ فَنَّهُ في حاجة إلى شيء من التفسير، على أنك تستطيع أنْ تلم بهذا الفن إلمامًا حسنًا إذا قرأت قصة واحدة من قصص هذا الكاتب، وأحسب أنَّ أول ما يمتاز به «هنري بتايل» أنه لا يقصد في قصصه إلى فكرة ولا إلى نظرية، أو هو لا يتخذ الفكرة أو النظرية مقصده الأساسي، وإنما يقصد إلى الجمهور — يقصد إلى الجمهور دون غيره — ويعمل في الجمهور لا في غيره، فموضوع القصص التي كتبها هذا الكاتب ليس في حقيقة الأمر شيئًا إلا النظارة، ولكن يجب أنْ نتفق، فلن تجد في قصة من قصصه شيئًا يتحدث عن النظارة أو يشير إليهم، وإنما تجد موضوعات مختلفة قصد إليها الكاتب فأتقن درسها وتحليلها وعرضها، ولكنه بنفس هذا الإتقان إنما تناول جمهوره من القرَّاء أو النظارة فعبث بهم عبثًا لا حد له.

أريد أنْ أصف ما في نفسي فأجد شيئًا من الصعوبة في هذا الوصف؛ لأن الفكرة التي أريد أنْ أتحدث بها إليك دقيقة جدًّا، أريد أنْ أقول: إنَّ الكاتب لا يفكر في أنْ يدخل في نفس النظارة أو القرَّاء علمًا جديدًا، أو يحدث فيها شعورًا جديدًا، وإنما يريد أنْ يتناول شعور القرَّاء والنظارة وعواطفهم فيعبث بها، ولكن في نظام يلائم بينها حينًا ويخالف بينها حينًا، وما يزال يجمع بعضها إلى بعض، ويفرق بعضها من بعض، حتى يصل إلى ما يريد، وهو الانتهاء بنفس القارئ أو الشاهد إلى أقصى ما يمكن أنْ تنتهي إليه من التأثر والانفعال، إنْ صح هذا التعبير، فالكاتب في حقيقة الأمر لا يكتب، وإنما يتخذ التمثيل سبيلًا يصل بها إلى نفوس النظارة وعواطفهم فيجمعها بين يديه، فإذا اجتمعت له أخذ يتصرف فيها كما يتصرف عالم الكيمياء في طائفة من المواد والعناصر اجتمعت له، فهو يلائم بينها ويضيف بعضها إلى بعض ليصل بهذه الملاءمة والإضافة إلى أقصى ما يمكن أنْ يصل إليه من الفرقعة العنيفة، وهذه هي لذته، لذته أنْ يثير عواطف الجمهور حتى يكاد يفنيها، لذته أنْ يعبث بهذه العواطف فيؤلف من مختلفها نظمًا تتباين بتباين ضروب العبث التي يعمد إليها، كما يعبث الطفل بطائفة من الحصى جمعها بين يديه، فهو يتخذ منها صورًا متخلفة متباينة، ولكنه ليس طفلًا، وليس يقصد إلى العبث من حيث هو عبث، وإنما هو فنِّيٌّ، وهو يريد أنْ يثير في نفس الجمهور أقوى العواطف وأشدها عنفًا.

فليس التمثيل عنده شيئًا يغذو العقل، وليس التمثيل عنده شيئًا يغذو الشعور، أو هو لا يجعل غرضه الأساسي من التمثيل عنده فن يجب أنْ يؤثر في النفس، وأنْ يؤثر فيها قبل كل شيء، وسواء عليه متى وصل إلى هذا التأثير العنيف أأضاف إليه فكرة جديدة أم لم يضف، أأضاف إليه شعورًا جديدًا أم لم يضف، وهو في أكثر الأحيان خصب لا تخلو قصته من نفع، ولكن هذا النفع كما قلت ليس بالشيء الذي وُضِعَتِ القصة من أجله، وإذا كان هذا هو فن الكاتب، فهل نستطيع أنْ نقول: إنَّ هذا الفن حَسَنٌ؟ وهل نستطيع أنْ نقول: إنَّ هذا الفن خليق بالبقاء؟! وهل من الحق ألا يقصد من التمثيل إلا إلى التأثير في النفس وإثارة العواطف دون أنْ يفكر الكاتب في أنَّ هذا التأثير خصب أو عقيم؟! ثم أليس في هذا النحو من فهم التمثيل شيء من الانحطاط المعنوي والإسراف في الميل إلى المادة؟! تريد أنْ تؤثر رغبة في التأثير، وأنْ تتأثر رغبة في التأثر لا ترمي إلى غرض آخر غير التأثير؟! فأيُّ فرق بينك وبين من يطلب اللذة رغبة في اللذة، فهو يأكل؛ لأن الأكل لذيذ لا لأنه يغذو، وهو يشرب؛ لأن الشرب لذيذ لا لأنه ينقع الغلة ويروي الظمأ، أليس في هذا النحو من تصور الفن والحياة شيء من ازدراء العقل والإعراض عنه، بل من ازدراء الخير والزهد فيه؟! أليس التمثيل على هذا النحو سلسلة من التجارب خليقة بالعالم يدرس علم النفس، ويريد أنْ يضع قواعده لا الفني الذي يريد أنْ يظهر الناس على صورة من صور الجمال أو يهديهم إلى سبيل من سبل الخير؟! أعترف بأن «هنري بتايل» عالم نفسيٌّ ماهر، يستطيع أنْ يحلل العاطفة، فيصل من تحليله إلى أدق ما يمكن أنْ يصل إليه المحلل، ثم يستطيع أنْ يلائم بين العواطف المختلفة فيصل من هذه الملاءمة إلى تأليف أمزجة غريبة لم يعتدها الناس، ولكن عالم الكيمياء نفسه حين يحلل وحين يلائم لا يقصد إلى التحليل وحده ولا يقصد إلى الملاءمة وحدها، وإنما يقصد إلى شيء آخر هو فوق التحليل وفوق الملاءمة، يقصد إلى العلم وإلى انتفاع الإنسانية بهذا العلم، قَدِّرْ هذا الانتفاع كما تشاء، قل: إنه الانتفاع المادي إنْ كنت من العمليين، وقل: إنه الانتفاع العقلي إنْ كنت من النظريين، ولكن هناك انتفاعًا إنسانيًّا تنتهي إليه مباحث العلماء الذين يحللون ويركبون، فما هذه المنفعة التي ينتهي إليها تمثيل هنري بتايل وتحليله للعواطف وملاءمته بين المختلف منها؟ ما هذه المنفعة الخُلقية أو الفلسفية أو الاجتماعية؟ لو أنه ظفر بإيجاد منفعة قيمة لفنه هذا لكان فنه أجمل فنون التمثيل الحديث، ولكنه لم يوفق في أكثر الأحيان لهذه المنفعة التي يمكن أنْ تنتظر من فن كفن التمثيل، يتجه قبل كل شيء إلى الجمهور لا إلى علماء النفس.

وأريد أنْ تكون القصة التي أحدثك عنها اليوم دليلًا صادقًا على ما قدمت.

•••

نحن في باريس، في قصر فخم لرجل من أشراف فرنسا، بعيد الصوت، رفيع المكانة، عظيم الثروة، حريص على مكانته وصوته وما ورث عن طبقة الأشراف من العادات وشدة المحافظة، هو الدوق دي شارنس، وبين يدينا كاتبه الخاص يرتب أوراقًا على منضدة، فيدخل عليه قسيس صديق للأسرة شديد الاتصال بها، وعلى هذا القسيس آثار الإشفاق والاضطراب. يسأل عن صحة الدوق والدوقة والأسرة كلها، فلا يجيبه الكاتب إلا بالخير، يسأل هل حدث حدث؟ فيجيبه الكاتب: لا! ويدخل الدوق فيصرف كاتبه، ويخلو إلى قسيسه، فينبئه بأنه دعاه لأمر جلل، وأنه إنْ لم يكن قد أصاب الأسرة أو أحد أعضائها موت ماديٌّ فقد أصابها موت معنويٌّ، هو شر من كل موت، ولا يطيل فينبئه بأن رجلًا صديقًا للأسرة كثير التردد عليها قد أغوى ابنته، فهو لذلك جزع، وليست امرأته أقل منه جزعًا، وهو جزع لأمر في نفسه، جزع لأنه لم يكن ينتظر هذا من ابنته التي لم تتجاوز الثامنة عشرة، والتي كان يراها مثل الطهر والنقاء، جزع لأنه لن يستطيع أنْ يضم ابنته إليه، وقد أصابها ما أصابها من الدنس، جزع لأنه لا يكاد يتعمق الأمر حتى تثور عواطفه وتملكه تلك العادات التي ورثها، والتي كلها حرص على الشرف واحتفاظ به، ثم جزع لأن المجرم صديق من أصدقائه المخلصين، وهو يحاول أنْ يكتم اسم هذا الصديق، ولكن الغيظ يملكه فإذا هو قد صرح بهذا الاسم، فإذا هذا الاسم هو «مرسل أرموري» ذلك المحامي المعروف الذي وصل إلى نقابة المحامين، وبلغ من المجد منزلة دونها كل منزلة، والذي عرف بالشرف والمروءة وجميل الخلق، ثم يقص عليه الأمر، فإذا الصلات بين هذا الرجل وبين الأسرة ليست بعيدة العهد، ولكن هذا الرجل لم يكد يتعرف إلى الدوق حتى مالت إليه الدوقة فلاطفته، وبشت له، ودعته إليها كثيرًا، ثم التقت الأسرتان في المصيف فاشتدت بينهما الصلات، ثم عادت إلى باريس فاستكشف الأب رسائل غرام بين ابنته «ديان» وبين هذا المحامي، وهذه الرسائل لا تدع سبيلًا للشك في أنهما آثمان، ولكن الفتاة قد آثرت الصمت واعتصمت به، فهي لا تجيب عن شيء، وهذا الأمر سر مكتوم يعرفه الزوجان وحدهما، وقد أفضيا به إلى القسيس ليستعينا برأيه ومشورته.

وتدخل الدوقة فإذا امرأة شديدة الحزن، ولكنها رقيقة العقل مفتونة بالحياة وزينتها ولذاتها، طاهرة ولكنها لم تشعر بطهارتها، ولا تظن أنَّ الطهارة تحتاج إلى شيء من الجهد، أو أنَّ في لذات الحياة البريئة ما يعرض الفتيات والنساء للخطر، فهي المسئولة عن إثم ابنتها؛ لأنها أساءت تربيتها، وقوَّت في نفسها الميل إلى الزينة والاستعداد للفتنة، وهي تعترف بذلك، وتأسف له، وهما يستشيران القسيس فيما يصنعان، فيشير عليهما بالمضي في التكتم حتى لا يظهر الناس على شيء، وبالاجتهاد في إصلاح ما فسد من نفس الفتاة وخُلقها، وإنما السبيل إلى ذلك أنْ تكون السيرة معها شديدة قاسية، فتحرم أسباب الزينة واللذة، وتضطر إلى دير من هذه الأديرة القاسية الخشنة تخضع فيه للمراقبة الدينية حتى تبلغ الرشد، ويلح في ذلك ويبالغ حتى ينصح بأن يقص شعر الفتاة، أما الأم فتجزع لذلك ولكنها مضطرة إليه، وأما الأب فقد قبله فرحًا مبتهجًا، وكلف القسيس أنْ يتخذ لذلك أسبابه، فيخرج القسيس ليسأل في دار الأسقف عن أشد الأديرة ملاءمة لهذا الأمر، فإذا خرج دعيت الفتاة، فيحاول أبوها أنْ يتبين منها جلية الأمر، فانظر إليه منذرًا مخيفًا، وانظر إلى زوجه رقيقة لينة، والفتاة صامتة لا يخيفها النذير ولا تستلينها الرقة، ولكن الأب يتجاوز النذير إلى شيء من العنف، وقد ضاق بالفتاة صمتها، فبدأت تقص أمرها، وبدأت تقصه في خفة وازدراء كأنها لا تشعر بما أتت من إثم، وكأنها لا ترى في ذلك عارًا ولا عيبًا، وكلما مضت في ذلك ازداد أبوها سخطًا وعنفًا، ولكن أخاها يدخل، وهو فتى في المدرسة الحربية، قوي شديد النشاط، مبتهج، مبتسم للحياة، مؤمن بمذاهب المحافظين، مخلص للملك، وهو يفاخر بأخته ويظهرها في كل مكان، وهو سعيد؛ لأن رفاقه معجبون بها يلاطفونها، ويطمع كل منهم في أنْ يتخذها زوجًا له، فإذا دخل تحول الحديث، وأُخْبِر بأن أخته مريضة، فأظهر شيئًا من الشدة، ثم اطمأن إلى الخبر فمازح أخته وأبويه، وهم كذلك إذ ينبئ الخادم بأن سيدة أقبلت للزيارة، فينصرف الفتيان، وإذا هذه السيدة هي زوج المحامي الآثم دعيت ليقص عليها الأمر، فلا تكاد تدخل حتى يتلقاها الزوج مقطبًا محزونًا، ثم لا تكاد تتحدث حتى يخبرها الخبر في غير لين ولا رفق، وإذا هذه المرأة قد صعقها الأمر، فهي بين نازلتين عظيمتين: إحداهما أنَّ زوجها قد خانها وهي تحبه وتهيم به، والأخرى أنَّ زوجها قد أغوى هذه الفتاة ابنة صديقتها، فأساء إلى أحب الناس إليها، فهي لا تدري كيف تعتذر، وهي لا تدري كيف تصلح ما أفسد زوجها، ولكن الدوق لا يطلب إليها إلا شيئًا واحدًا، وهو أنْ يستخفي هذا الزوج من وجهه، وألا يظهر الناس من إثمه على شيء، وأنْ تنقطع بينه وبين الفتاة كل صلة، فإذا خرجت المرأة أعيدت الفتاة، فما زال بها أبوها حتى عرف منها كل شيء، ثم يتركها لأمها، فتنبئها بما اعتزم من إرسالها إلى الدير، ترفض الفتاة ساخرة، فإذا ألحت أمها أظهرت الفتاة شيئًا من الرفض ثم من العصيان، ويدخل أبوها فينهرها نهرًا شديدًا، ثم يرق لها، وإذا هو يضرع إليها في أنْ تذهب إلى الدير لتحتفظ للأسرة بكرامتها، ولتصلح ما أفسد من أخلاقها، فتُظهر الفتاة الطاعة، وتجيب في رفق وقد أصلحت من أمرها ونظمت شعرها: «سأذهب إلى الدير.»

•••

فإذا كان الفصل الثاني فنحن في مكتب المحامي بباريس، وأمامنا هذا المحامي والفتاة وخادمها، ولا نكاد نسمع إلى حديثهما حتى نفهم أنهما قد تكاتبا واتفقا على الفرار، وأنَّ الفتاة خيَّلت إلى أبويها أنها ذاهبة إلى الدير، فأعدا لها كل شيء، وخرجت ذلك اليوم تزور القسيس، وضربت لأمها موعدًا عند القسيس، ولكنها أقبلت إلى صاحبها الذي أعد كل شيء للفرار بعد حين، وقد تم رأيهما على هذا الفرار، فبعد دقائق ستأتي السيارة، فتقلهما إلى حيث يركبان السفينة إلى إنجلترا، وقد أخفيا أمرهما وكتماه، فلم يُظهرا عليه إلا هذه الخادم.

ولكنهما يشفقان من هذه الخادم؛ لأنها تحب سائق سيارة، وهما يشفقان أنْ تكون هذه الخادم كارهة للرحيل، وأنْ تكون قد أنبأت صاحبها به، فتنكر الخادم ذلك وتقسم، ويصدقها العاشقان ويأمرانها أنْ تذهب، فتأخذ القطار حتى تصل إلى محطة كذا فتنتظرهما هناك، فتنصرف ويخلوان.

ولست ألخص لك ما يدور بينهما من حديث كله حب وفتنة إلا شيئًا واحدًا له خطره، وهو أنَّ المحامي ينصح للفتاة أنْ تفكر وتروَّى؛ لأنه جاوز الأربعين وهي في الثامنة عشرة، وهو يخشى أنْ يكون حبها شيئًا من نزق الشباب وغرور الأطفال، وكلما ألح عليها في ذلك لقيته بالسخط مرة وبالسخرية مرة أخرى حتى يؤمن بأن عزيمتها صادقة، وأنها مستعدة لاحتمال ما ستلقى من الخطوب، ثم يسمع حركة السيارة، فيدنو من النافذة وينظر، فإذا هو يرى امرأته، فهو جزع مضطرب، وهي أشد منه جزعًا واضطرابًا، تنصحه ألا يلقى امرأته فيأبى إلا أنْ يلقاها، فتستحلفه ألا يضعف ولا يلين فيحلف، ثم يخفيها في غرفة ويلقى امرأته، أما امرأته فتزعم له أنها مرت بالمكتب عفوًا فصعدت لتراه، وتطلب إليه أنْ يذهب ليدفع أجر السيارة، ويبحث عن شيء نسيته فيها، فإذا ذهب أسرعت إلى غرف المكتب تفتشها، ثم عادت ومعها مفتاح، ويعود زوجها فتنبئه أنها تعلم كل شيء، وأنه كان يريد السفر مع الفتاة، وأنها أقبلت لتمنع هذا السفر، فإذا أنكر أظهرت له كتابًا تسلمته ينبئها بالأمر، فإذا أنكر أنبأته بأن الفتاة في هذا المكتب، فإذا أنكر أظهرت له المفتاح وأنبأته بأنها رأت الفتاة وأغلقت الباب من دونها، فيعترف بأن الفتاة عنده، ولكنها أقبلت لتراه قبل أنْ تذهب إلى الدير، أما هي فلا تصدقه بل تضرع إليه في ألا يفعل، وهما كذلك إذ تنظر من النافذة فترى أخا الفتاة مقبلًا، تنبئ زوجها، فيشتد جزعه، ويطلب إليها المفتاح ليخلي سبيل الفتاة وليصرفها إلى بيتها متى أقبلت السيارة التي تنتظرها، ولكنها تأبى وتلح في الإباء، وتعد بأنها ستلقى الفتى لقاء حسنًا، وستخفي عليه كل شيء، ثم تضطر زوجها إلى الدخول في غرفة، وتستقبل الفتى، فإذا سألها عن زوجها أنبأته بأنه هنا يتحدث إلى بعض الناس في أمر له، ثم تسأله عن سبب زيارته فيظهر لها كتابًا كالذي في يدها منكرًا ذلك مستبعده، أما هي فتظهر الغضب؛ لأن الفتى شك في زوجها إلى هذا الحد، ويرى الفتى من اطمئنانها وهدوئها ما يقنعه بأنه كان مخطئًا، وبأن الكتاب ليس إلا دسيسة فيعتذر ويكثر من الاعتذار، وتذهب «فاني» إلى زوجها فتدعوه، فيظهر هادئًا مطمئنًا، ويتحدثون فلا يظهر الفتى من أمره شيئًا؛ لأنه كان اتفق على ذلك مع «فاني»، ثم يزعم أنه أقبل يدعوهما إلى الصيد فيقبلان الدعوة، ويسترق المحامي لحظة، فيلح على زوجه في أنْ تدفع إليه المفتاح ليرسل الفتاة إلى بيتها، فتدفعه إليه، ويأخذه هادئًا ويتركهما لحظة على أنْ يعود وهما يتحدثان، وهي تريد أنْ تشغله عن النافذة حتى لا يرى أخته تخرج من المكتب وتصعد في السيارة، وما تزال به حتى تسمع حركة السيارة وانصرافها، ثم تنتظر لعل زوجها يعود فلا يعود، ثم تدعوه فلا يجيب، وإذا هي مضطربة ذاهلة تدنو من الإغماء شيئًا فشيئًا، فيسرع الشاب إلى البواب فيدعوه، فإذا أقبل سألته «فاني» متحفظة عن السيارة: هل انصرفت؟ وهل صعد فيها زوجها ومعه امرأة؟ فإذا أجابها نعم صرفته ثم صاحت جزعة، فيسألها الشاب فتنبئه بكل شيء، ولست أصف لك غضب الشاب ووعيده، ولكنهما يتفقان على الانتقام.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فنحن في فندق من فنادق لندرا، وأمامنا المحامي يتحدث إلى كاتبه، ونفهم من حديثهما أنَّ أسرة الفتاة قد تبعته، وأنَّ أخاها أرسل إليه شاهدين، وطلب إليه المبارزة فرفض، وأنَّ الأسرة طلبت إليه موعدًا للقاء، فضرب لها موعدًا هذا الفندق وهذه الساعة، وهو لا يدري من سيلقاه، وهو لا يدري ماذا ستكون نتيجة هذا اللقاء، وهو يخشى الغدر؛ ولذلك احتاط فكتب كتابين أحدهما إلى «ديان»، والآخر إلى وكيل أعماله في باريس، وهو يكلف كاتبه أنْ يحمل هذين الكتابين ويدفعهما إلى من كُتبا إليهما، ويدخل القسيس فينصرف الكاتب، ويكون بين القسيس والمحامي حوار قيم لذيذ، كنت أود لو استطعت أنْ أترجمه لك، فقد يكون خير ما في هذه القصة من حيث منفعتها العقلية، ولكن الوقت والمكان أضيق من ذلك، يطلب القسيس إلى المحامي باسم الشرف والمروءة وباسم ما تلقى الأسرة من الألم أنْ يرد الفتاة إلى أهلها، فيأبى باسم الشرف والمروءة وباسم الألم أيضًا، ذلك أنَّ الشرف شيء يختلف الناس في تصوره، فللقسيس فيه رأيٌ، وللمحامي فيه رأيٌ آخر، فإذا كان القسيس يرى أنَّ الشرف في أنْ ترد الفتاة إلى أهلها حتى لا تسوء سمعة هذه الأسرة، ولا يفسد مستقبل الفتاة والأسرة بريئة والفتاة جاهلة، فإن المحامي يرى أنَّ الشرف إنما هو في أنْ يأبى تسليم الفتاة، أليست هذه الفتاة تحبه! أليست قد وهبت نفسها له! أليست قد لجأت إليه! أليس قد حماها ووعدها بالوفاء! أليس تسليمها نكثًا للعهد وخفرًا للذمة وحرمانًا للفتاة سعادة أطمعها فيها! وإذا كانت الأسرة تألم فألمها سخيف؛ لأن مصدره العادة والحرص على القديم، ولو أنَّ هذه الأسرة حرة حقًّا مستنيرة حقًّا لما أنكرت من سيرة الفتاة شيئًا، ولما قطعت الصلة بينها وبينها، ولأقرت هذا الحب فلم تضطر الفتاة إلى الفرار.

أما ألم الفتاة إذا ردت إلى أهلها فألم قويٌّ صادق، لا يعتمد على عادة باطلة أو قديم سخيف، وإنما هو ألم السعيد حرم سعادته، والمشغوف حيل بينه وبين من يهوى، ويعجز القسيس عن إقناع المحامي فينصرف قائلًا: لقد حرمت التوفيق، فلعل غيري أحسن مني حظًّا، ويخرج، فتدخل من نفس الباب الذي خرج منه زوج المحامي، فانظر إلى الزوجين وجهًا لوجه، وانظر إلى ما يحدث في هذا الموقف من تغير العواطف وتبدلها، أقبلت شجاعة قوية العزم، وكانت تعتقد أنها ستكون عنيفة، وأنها ستحسن الدفاع عن حقها وعن شرفها، فأخذت كلما دنت من لندرا تفقد شيئًا من شجاعتها وقوتها، حتى إذا رأت زوجها كانت قد وصلت من الضعف إلى حيث تتشجع، فتكظم عواطفها، وتغالب عبراتها، وتبحث عن القوة المادية فلا تجدها، وعن اللفظ فلا تكاد تظفر به.

أما هو فَقَدْ فجأه لقاؤها؛ لأنه لم يكن ينتظر هذا اللقاء؛ ولأنه يكبر امرأته إكبارًا شديدًا ويعطف عليها عطفًا شديدًا، ويرى أنه قد ظلمها ظلمًا منكرًا، فإذا التقيا على هذا النحو كان في موقفها جمال بشع، على أنها تحتفظ بكبريائها، فلا تبكي ولا تستعطف، ولا تطلب إلى زوجها أنْ يرحمها أو يرد إليها، أليست تعلم أنه لم يحبها إلا أسبوعًا، ولم يشتهيها إلا شهرًا، وأنه قد عاش معها أعوامًا طوالًا لا يميل إليها إلا متكلفًا، أما هي فقد أحبته منذ عرفته، وما زالت تحبه رغم هذه الآثام وهذه المخزيات، وهو يدافع عن نفسه فلا تسمع له ولا تصدقه، ولكنه صادق، فقد لا يكون حبه إياها قويًّا ولكنه أحبها، وقد قوت المحن هذا الحب فأصبح الآن عظيمًا، وهو كلما تكلم ظهر صدقه، وكلما ظهر صدقه أثر في نفس امرأته، وإذا تحوُّلٌ في العاطفة، أما هو فشديد الهيام بزوجه، يدنو منها يريد أنْ يضمها إليه، فأما هي فليست أقل منه هيامًا، ولكنها أشد منه شجاعة وأعظم منه شعورًا بالكرامة، فهي تغالب عواطفها وتقف زوجها عند حده، وتسأله عن شيء واحد تريد أنْ تعرفه، تسأله عن هذا الحب الذي كلفته هذه الأهوال: أقويٌّ حقًّا أم هو لا يعدو الفتنة؟ فإذا هو متردد يفكر، ولا يجد جوابًا صريحًا، ولكن هذا التردد نفسه يكفيها، فتقتنع بأنه لا يهزل في هذا الحب، وبأنه لم يتكلف ما تكلف مفتونًا أو عابسًا، فترضى وتطمئن إلى المنازلة.

وانظر إلى التغير الجديد في عواطفها، انظر إليها راضية مطمئنة تضرع إلى زوجها في شيء واحد، وهو أنْ يعدها بأن يكون إليها هي مرجعه إذا نابته نائبة أو دهمه خطب أو انقطعت الصلة بينه وبين صاحبته، تلح في هذا الوعد؛ لأنه سيكون الأمل الذي سيحبب إليها الحياة، يعدها، وإذا شيء من الذهول لا حد له قد ملكهما جميعًا، هي هائمة بزوجها تضحي بنفسها في سبيله، وهو يعجب بهذا الحب وهذه التضحية إعجابًا لا يزيده إلا هيامًا، ولكنها تصرفه وتلح في ذلك؛ لأن أبا الفتاة وأخاها ينتظران ويوشكان أنْ يأتيا، ينصرف ويدخلان، فإذا كل شيء قد تغير، وإذا هي تدافع عن زوجها، ولا تتهم بالإثم إلا الفتاة، وتسرف في هذا الدفاع حتى تغضب الرجلين، ويكون بينهما وبينها خصام عنيف، ينطق فيه الفتى بألفاظ الوعيد.

•••

فإذا كان الفصل الرابع فنحن مع العاشقين في فندق آخر من فنادق لندرا، وقد انتصف الليل وهما يتحدثان، وقد أخذ منهما القلق، ولكنهما يكتمانه، هي مشفقة على صاحبها من أخيها، وهو مشفق على صاحبته من أسرتها، وهما يتكلفان الفرح فلا يصلان إليه، وهي تلح عليه في ألا يخرج من غرفته، فيضحك ويظهر الإباء، ولكن الباب يطرق فيملؤها ذلك خوفًا، فإذا ذهب صاحبها إلى الباب دفع إليه الخادم كتابًا فيقرؤه، وإذا امرأته تطلب إليه موعدًا، وإذا هي تتعجل ذلك وتلح فيه، يأبى استقبال امرأته في غرفة صاحبته، فتلح عليه هذه في استقبالها؛ لأن الأمر جلل قد أصبح فوق هذه الاعتبارات كلها، فإذا استقبل امرأته — وقد استخفت صاحبته في غرفة النوم — أنبأته زوجه بما كان بينها وبين أسرة الفتاة من خصام، وبأنها أشفقت على حياته، فراقبت الفتى حتى علمت أنه استأجر غرفة في هذا الفندق، فاستأجرت هي أيضًا غرفة فيه، وأقبلت تنبئه بمكان الخطر، وتسأله أنْ يلزم غرفته ولا يخرج، فيأبى، وتلح فيعدها، فإذا خرجت لم تكد تجاوز باب الغرفة حتى عادت مضطربة؛ لأنها رأت الفتى واقفًا يترقب، وهي تحدث زوجها بذلك إذ تسمع دنو الفتى، فتكره زوجها على أنْ يستخفي في غرفة نومه وتطفئ النور ويقبل متلطفًا؛ فإذا دخل الغرفة عمدت هي إلى النور فأضاءته ووقفت من الفتى موقف الخصم تردعه وتزجره، وتسأله عما أضمر من جريمة، فيجيبها: أقبلت أطلب أختي، ويردعها هو أيضًا! ألست تحمي عشق هذين الآثمين! ثم يرفع الفتى صوته يعيِّر خصمه بالجبن والاحتماء بالنساء، فإذا أطال في ذلك ظهر المحامي ومعه صاحبته، فكان بين هؤلاء النفر موقف من هذه المواقف التي لا يحسنها إلا هذا الكاتب، يشتد الخصام بين الرجلين حتى يبلغ أقصاه، يخرج الفتى مسدسه ويوجهه إلى صدر صاحبه، وإذا المرأتان قد أقبلتا تحميانه وتتلقيان من دونه الموت، يكف الفتى يده دهشًا، وإذا الزوج قد وقفت من زوجها موقف من يحميه ويتقي عنه، فانظر إلى هذه الفتاة العاشقة، وقد رأت من خصمها هذه التضحية وهذا الحب فصاحت: إنَّ غيرتي منك لشديدة! إنَّ حبك إياه لأعظم من حبي، إنَّ ألمك لعظيم، وأنا مصدر هذا الألم.

ثم انظر إلى هؤلاء النفر، وقد ثارت عواطفهم حتى كادوا ينسون العالم الذي هم فيه، أما الفتى فغيران، يريد أنْ يسترد أخته، وأنْ يقترف الإثم إذا لم يوفق، وأما المحامي فهائم بالفتاة معجب بزوجه إعجابًا ليس دون الحب، وأما الزوج فعاشقة تريد أنْ تسفك دمها لتحمي من تحب، وأما الفتاة فكلفة بصاحبها، ولكنها معجبة بهذه المرأة، ترى أنها قد ظلمتها ظلمًا فاحشًا، فتسأل صاحبها سؤالًا تزعم أنه سيحل كل شيء: أينا تحب حقًّا؟ لا يتردد المحامي في الجواب، بل يقول في صراحة وهيام: إنه يحب الفتاة ويؤثرها على امرأته، وبينما الفتاة تسمع هذا الجواب فيتألق وجهها بشرًا وسرورًا، إذا المرأة تسمعه فتئن أنينًا مؤلمًا، ولكنها لا تغير من موقفها شيئًا، ثم انظر إلى الفتاة وقد أخذها ذهول يشبه الجنون، فهي تدعوهم جميعًا في لهجة الهائمة إلى أنْ ينظروا في الغرفة كأن فيها شيئًا عجبًا، فإذا أقبلوا جميعًا ينظرون، فلم يروا شيئًا قال المحامي: إنها مجنونة، فتجيبه: سترى أني عاقلة، ويسمعون طلق المسدس، فإذا هي صريعة قد قتلت نفسها.

فبراير سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤