الأم المفتونة

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «هنري بتايل»

ليس هذا عنوان القصة، بل ليس هو عنوانًا دقيقًا لخلاصة القصة، ولكنه مع ذلك يعطي منها صورة ما، أما العنوان الصحيح فهو «الأم كوليبري»، وهذا اللفظ اسم طائر صغير جدًّا، يعيش في خط الاستواء، له بهجة وجمال يخلبان الأبصار، وفيه قوة ونزق وخفة يضرب بها المثل، وواضح أنَّ هذا اللفظ لم يطلق على بطلة القصة عبثًا، وإنما أطلق عليها الشبه بينها وبين هذا الطائر، فهي امرأة قد ناهزت الأربعين، ولكنها ما زالت محتفظة بشباب الفتاة التي لم تكد تتجاوز العشرين، فهي رشيقة، حلوة، صغيرة القد، خفيفة الحركة كثيرتها، منطلقة اللسان، عذبة اللفظ، حرة فيه، لا تكاد تصمت، ولا تكاد تتكلم إلا بأبعد الكلام عن سنها ومقامها ومنزلتها من ولديها، فلها ولدان، أحدهما في الثانية والعشرين، والثاني في السادسة أو السابعة عشرة.

ولكن الناس إذا رأوا هذه المرأة مع أحد ابنيها لم يفكروا في أنها أم ترافق ابنها، وإنما فكر بعضهم في أنها أخت ترافق أخاها، وتحدث أصحاب الظنون السيئة في أنها فتاة لعوب ترافق عاشقها، وفي الحق أنَّ كل شيء في هذه المرأة يعطي منها صورة غريبة لا تمثل المرأة الجادة ولا الأم التي تشعر بأمومتها، وتعرف لهذه الأمومة ما لها من حق أو كرامة، وإنما هي فتاة نزقة لعوب، لا تفهم الحياة إلا على أنها فصل من فصول اللَّهو وضرب من ضروب المجون، وهي تريد أنْ تلهو ما استطاعت إلى اللَّهو سبيلًا، وأنْ تأخذ من المجون والدعابة بأعظم حظ يمكن أنْ تأخذ به امرأة، وقد أحس ابناها شبابها هذا الغريب وخفتها المدهشة، فلم يسمحا لأنفسهما أنْ يدعواها كما يدعو الابن أمه، وإنما اتخذا لها اسمًا يختصر شبابها وجمالها ولطف قدها وخفة حركتها، فسمياها «الأم كوليبري»، وهي تحب هذا الاسم وتفتن به، وتساير ابنيها لا كما تساير الأم أبناءها بل كما يساير الصديق صديقه، فهي تعبث معهما وتمزح، وهي تشرب معهما وتدخن، وهي تصغي لأحاديثهما وأسرار لهوهما وعبثهما، ولا تتردد في أنْ تضاحكهما، وربما نصحت لهما وأعانتهما على أسباب اللَّهو والمجون، وهما يحبانها حبًّا لا حد له، حبًّا مصدره الأمومة والبنوة من جهة، ثم الشباب وما يستتبعه من الافتتان في العبث والمجون من جهة أخرى.

وهذه الأسرة غنية نستطيع أنْ نقول: إنها فاحشة الثروة، أما زعيمها البارون «دي ريسبرج»، فرجل من أشراف بلجيكا عظيم الثروة، أراد أنْ يختلط دمه بدم الفرنسيين أو يعيش في فرنسا، ويكون من ذوي المكانة والأثر في حياتها العامة، فتزوج من هذه الفتاة «إيرين»، وكانت يتيمة، وكانت في السابعة عشرة من عمرها، ورزق منها غلامين أحدهما «ريشار» في الثانية والعشرين، قد تم درسه وأخذ يعمل مع أبيه ويشاركه في حياته المالية، وهو يريد أنْ يتزوج وقد خطبت له فتاة، وأما الآخر فهو «پول» في السابعة عشرة من عمره، وهو تلميذ يستعد لامتحان الشهادة الثانوية، وقد انصرف الأب إلى ثروته يدبرها ويثمرها، وإلى حياته المالية يعكف عليها حتى أنسته كل شيء، أنسته زوجته، فلم يلتفت إليها، ولم يحفل بها، وربما طلب لذته في ساعات قصار بعيدًا عن داره، وهو مع ذلك يحب امرأته وابنيه، ويريد لهم حياة سعيدة لا يشوبها شرٌّ ولا سوء، فهو يبيح لهم من أسباب النعيم شيئًا كثيرًا، وقد أسكنهم قصرًا فخمًا، وأطلق أيديهم في المال يأخذون منه حاجتهم وفوق حاجتهم؛ لأنه يريد أنْ يستمتعوا بهذه الثروة الضخمة حقًّا، ولكن امرأته على ضخامة ثروتها واجتماع أسباب النعيم لها لم تكن سعيدة؛ لأن شيئًا آخر كان ينقصها هو الحب، الحب الذي يخفق له القلب، ويفتح أمام النفس أبواب الأمل، وينهض بصاحبه إلى حياة ليست كالحياة، وإنما هي شيء كالحلم الذي لا يقظة منه، لم يتح لها هذا الحب؛ لأن زوجها منصرف عنها بأعماله المادية؛ ولأنه لا يستطيع أنْ يتصور الحب على هذا النحو، ولكنها مع ذلك لم تشعر بهذا النقص في أول عهدها بالحياة الزوجية؛ لأنها شغلت بابنيها وتربيتهما، فكانت أُمًّا قبل أنْ تكون امرأة، وأما الآن وقد بلغ هذان الغلامان أشدهما وأخذا يستقلان بالحياة، فأخذ أحدهما يهيئ له عشًّا لا يلبث أنْ يطير إليه، وأخذ الآخر يستعد للشهادة الثانوية حتى إذا نالها ترك البيت وذهب إلى إحدى المدارس العليا، فاستعد لحياة المستقبل، نقول: أما الآن فقد عادت هذه المرأة إلى نفسها، وفكرت في أمرها، ونظرت فإذا هي قوية فتية، وإذا قلبها وجسمها جميل، وإذا عواطفها حادة وحسها في حاجة إلي التنبيه، فأصابها شيء من القلق لم تتبينه أول الأمر، ولكنها لم تلبث أنْ عرفت كنهه وأسبابه وتعرضت لنتائجه.

•••

فإذا كان الفصل الأول، فنحن في قصر هذه الأسرة، في أجمل أحياء باريس، وقد دعت هذه الأسرة إلى العشاء نفرًا من أصدقائها، فيهم شباب قد انتحوا ناحية يشربون ويدخنون ويتحدثون بأخبار لهوهم وعبثهم، وفيهم نساء منهم سيدات تقدمن في السن واحتفظن بالعادات والآداب القديمة، فهن لا يتحدثن إلا في الجد، وفيهن سيدات أخر من الجيل الحديث يكرهن الجد وينفرن منه، ويطمعن في اللَّهو ويصبون إليه، وبين أولئك وهؤلاء هذه الفتاة «مادلين» التي خطبت «لريشار»، قد أقبلت هذه الليلة ومعها أمها تريد أنْ تتحدث إلى خطيبها ليتعارفا ويبلو كل منهما صاحبه قبل الزواج، وبينما الشبان يتحدثون فيذكرون اللهو والمجون، ويقص كل منهم أخباره على أصحابه، إذا السيدات قد خلون في غرفة أخرى، ولكنهن لا يمزحن ولا يضحكن لمكان أولئك السيدات المحافظات، وما هي إلا أنْ نرى الأم «كوليبري» قد أقبلت مندفعة إلى الشبان في نشاط وخفة، تشكو سأمها وضيق ذرعها بصاحبتها، وتلوم هذا الشباب على اعتزاله وانصرافه إلى أحاديثه الخاصة، وتلح على هؤلاء الفتيان في أنْ يذهبوا إلى السيدات ليدخلوا على اجتماعهن الفاتر شيئًا من حدة الشباب ونشاطه، ثم هي تتكلم في غير انقطاع، وتتحرك في غير هدوء باسمة لهذا الشاب مداعبة لهذا الشاب، وترى الشواب فتستسقيهم فيسقونها، وترى البيانو فتعمد إليه، وتجري أصابعها عليه فإذا إيقاع حسن، وإذا الشبان قد فتنوا بها، فهم يتحدثون بجمالها وخفتها، منهم من يجهر لها بذلك فتبتهج، ومنهم من يسر ذلك، ويذكر لصاحبه أنه يشتهيها ولكنه يائس منها! أليست أم صديقيه! ثم هي امرأة على نزقها وخفتها شريفة معروفة بالعفة لم تذكر عنها سيئة قط، وهو يأسف لذلك أشد الأسف.

ثم تنظر المرأة إلى الشبان يدخنون، فتريد أنْ تدخن، وهي لا تريد ذلك عفوًا، وإنما تريد أنْ تغيظ السيدات المحافظات لعلهن يتعجلن في الانصراف وتوفق لما تريده، فلا تكاد تظهر للسيدات وفي يدها لفافة التبغ حتى يظهرن كره ذلك وإنكاره، ثم يتعللن ويهممن بالانصراف، ولا يبقى إلا السيدات المحدثات ومعهن الخطيبة وأمها قد بقيت كارهة لترافق ابنتها، ومعهن امرأة شيخة، ولكنها تتفلسف فتزدري الجديد، وربما ابتسمت له وعطفت عليه وهي تحتفظ بالقديم لنفسها، وهم يعرفون منها ذلك فلا يحفلون بها ولا يحتاطون أمامها، وفيها شيء من الصمم، فهم يستطيعون أنْ يتبادلوا من الحديث ما يريدون؛ لأنهم قد أمنوا أنْ تسمعهم، وهم لا يضنون على أنفسهم بالمزاح والإسراف فيه، فيتبادلون أخف الألفاظ وأشدها إيغالًا في العبث، كلهم فَرِحٌ، وكلهم مبتهج إلا الفتاة الخطيبة، فهي تريد أنْ تتحدث إلى خطيبها، وهي تحتال في أنْ تنتحي به ناحية، وإلا أم الفتاة فهي تكره هذا الابتهاج وتمقت هذا المجون، ولا تخفي مقتها على الأم فتلومها وتعاتبها، ولكن الأم لا تجيبها إلا ساخرة مزدرية، فهي تهزأ بالزواج وقوانينه، وهي تسخر من النظم الاجتماعية، وهي لا تذكر إلا الحرية وإلا اللذة، وهم كذلك إذ يحمل إلى هذه الأم كتاب تنظر فيه ثم تخلو إلى ابنها، فإذا هذا الكتاب من عشيقة الفتى تنذره بأنها ستفضح أمره إذا تزوج، فيغضب الفتى لذلك وينصرف مع أصحابه ليفكروا في الأمر، وليردوا هذه المرأة إلى رشدها؛ ولكنهم لا يكادون ينصرفون حتى يقبل صديق لهم اسمه «جورج دي شمبري»، فإذا ظهر أحسسنا من السيدات ميلًا إليه وإعجابًا به، ورأينا الأم تعنى به عناية خاصة، فتتلطف له وتتحدث إليه في دعابة ورفق.

وينصرف الشبان ويبقى هذا الفتى، فما هي إلا أنْ تنصرف الخطيبة وأمها، ولا يبقى إلا تلك الشيخة التي أشرنا إليها وسيدة أخرى شابة ليست أقل نزقًا وخفة من صاحبة البيت، على أنها لا تمكث طويلًا؛ لأن صاحبة البيت طلبت إليها أنْ تنصرف فلا يبقى إلا الفتى والشيخة الصماء وصاحبة البيت هذه، ولذيذ جدًّا منظر هؤلاء الثلاثة، فأظنك قد فهمت أنَّ بين هذا الغلام وبين هذه المرأة صاحبة البيت صلات حب، وهما يتحرقان شوقًا إلى العزلة، ولكن الشيخة لا تبرح مكانها، فهما يخدعانها ويتغازلان، وهي تشعر مرة وتنخدع أخرى، ولكنها لا تبرح مكانها، وكأنها تجد شيئًا من اللذة فيما تشهد؛ لأنه يذكرها شبابها، وقد كره العاشقان مقامها، فما يزالان بها حتى تشعر بأن الساعة متأخرة، فتنصرف ويخلو العاشقان، وإذا الفتى في الحادية والعشرين من عمره، كان رفيقًا لابن صاحبة البيت في المدرسة، وكان يختلف إلى صديقه، وكانت صاحبة البيت كثيرًا ما تخرجهما من المدرسة للنزهة كما تفعل الأم مع ابنها، ولكن الفتى جميل خلاب، وفيه خفة وسذاجة، فلا تلبث الأم أنْ تفتن به، وقد كثر اختلافه إلى البيت فارتفعت الكلفة بينها وبينه شيئًا فشيئًا، ثم تجاوز الأمر بينهما حد الصلات المألوفة بين مثليهما، فإذا هما عاشقان، وهما بهذا العشق سعيدان، ولكن سعادتهما مختلفة، أما الفتى فسعيد على نحو ما يسعد الشبان، لا يفكر في غد ولا يحسب للمستقبل حسابًا، وإنما هو مندفع في لذته وسعادته إلى غير حد، وهو مغتبط بهذا الحب، يشعر بشيء من الكبرياء؛ ظفر بهذه المرأة التي كانت تستطيع أنْ تجد عنه منصرفًا لو أرادت إلى كثير من الرجال الذين يتبعونها ويتملقونها، وأما هي فسعيدة ولكن مع شيء كثير من الحزن والخوف والأسف أيضًا، هي سعيدة؛ لأنها تحب الفتى؛ ولأنها قد وجدت ما يزيل ذلك القلق الذي أشرنا إليه؛ ولأنها تشعر بأنها كالزهرة قد تفتحت للضوء والندى، فكلها حياة، وكلها حسن، وكلها عاطفة، ولكنها تعلم أنَّ هذا الحب غريب منكر، أليس منكرًا أنْ تحب المرأة صبيًا هو رفيق ابنها في المدرسة؟ ثم ماذا يضمر المستقبل لهذا الحب وعن أي نكبة سيتكشف لهما الغد؟ هي سعيدة ولكنها محزونة مشفقة، على أنَّ هذا الحزن والإشفاق يزيدان في حرصها على السعادة، ويحملانها على أنْ تتزيد منها ما استطاعت، وعلى أنْ ترى لحظتها سنة لأنها لا تعرف بم سيلقاها الغد، وهما يتغازلان فنراها مرة طفلة متهالكة على الحب واللذة، تعبد هذا الفتى عبادة لا حد لها، وتراها حينًا محزونة واجمة، ثم يطول بهما هذا الموقف وقد بلغ الحب من الفتى أقصاه، فهو يريد أنْ يضمها إليه، وبلغ الحب منها أقصاه أيضًا، ولكنها مشفقة أنْ يدخل أحد ابنيها، أليس أحدهما يستطيع أنْ يعود من حين إلى حين؟! أليس الآخر في غرفته يدرس، وقد يخطر له أنْ يأتي ليتحدث إلى أمه حينًا؟! هي إذن تحتاط، ولكن الشاب لا يطيق صبرًا فترسله إلى غرفة ابنها الصغير ليتثبت من أنه منصرف إلى درسه، فإذا خرج الفتى عمدت إلى كتاب وجلست تنظر فيه، وهي كذلك إذ يعود الفتى فيعجبه منظرها تقرأ في الكتاب، فيريد أنْ يقبلها على غرة، وإذا هو يمشي على أطراف قدميه حتى لا تشعر به، فإذا قاربها ولم يبق بينه وبينها إلا أنْ يميل إلى عنقها فيلثمه ظهر ابنها «ريشار» على باب الغرفة، وقد رأى هذا كله فرفع صوته سائلًا عن أخيه، فيلتفت الفتى مذعورًا، ويتكلف المزح فيقول لقد كنت أريد أنْ أخيف أمك!

أما «ريشار» فقد فطن إلى الأمر، ولكنه لا يظهر شيئًا، وإنما يعيد السؤال عن أخيه، ويتكلف «جورج» المزاح، فلا يزيده تكلفه إلا اضطرابًا، ثم يكون بينه وبين صديقه حديث يظهر فيه الجفاء، أما الأم فلم تشعر أو لم تكد تشعر بتفصيل هذا المنظر؛ لأنها كانت منصرفة إلى كتابها، فتسأل ابنها عما حصل فيجيبها متكلفًا، ثم ينبئها أنه منصرف فتقول: سيصحبك «جورج» ينصرف الفتَيَان، وتعود هي إلى كتابها فتنظر فيه، ولكن ابنها قد تكلف نسيان قلنسوته فيعود إلى الغرفة، فإذا رأى أمه عاكفة على الكتاب تردد قليلًا، ثم مشى على أطراف قدميه مشية صاحبه منذ حين، وما زال كذلك حتى يدنو من أمه وهي لا تحسه ولا تشعر به، فإذا بلغها تردد حينًا ثم جاهد نفسه، وإذا هو قد وضع شفتيه على عنق أمه يقبلها قبلة العاشق، فإذا هذه المرأة تضطرب كلها، وإذا كتابها قد سقط من يدها، وإذا هي تستلقي بين ذراعي مقبلها تناديه في رفق نداء العاشقين! ثم تنظر فإذا ابنها وإذا هما ممتقعان، أحدهما قد ملكه الغضب، والأخرى قد ملكها الخزي، ولكن الفتى يملك نفسه فيقول لأمه: «عمي مساء يا أماه!» ثم يعمد إلى قلنسوته فيأخذها وينصرف.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فقد أقبل الصيف، وانتقلت هذه الأسرة من باريس إلى ساحل البحر، واتخذت هناك بيتًا فخمًا لم يتم استقرارها فيه، أما الأب فمنصرف في أيام راحته إلى الصيد، وأما أصغر الغلامين فعاكف على الدرس، يريد ألا يسقط في امتحان أكتوبر، ونرى هذا الغلام جالسًا إلى مكتبه يدرس، وإذا أخوه قد أقبل وعليه آثار الاكتئاب، كأن شيئًا ذا بال يشغله، فيتحدث إلى أخيه حديث الجاد، ويسمع له أخوه دهشًا حينًا ثم يطمئن، ذلك أنَّ أكبر الأخوين ينبئ أخاه بأن جورج قد أساء إلى شرف الأسرة إساءةً منكرةً، وأنه لا يستطيع أنْ ينبئه بهذه الإساءة؛ لأنه ما زال بعد صغيرًا، ولكنه محتاج إلى معونته؛ لأنه مضطر إلى أنْ يبارز جورج، وإلى أنْ يخفي أسباب هذه المبارزة على أبويه وعلى كل إنسان، ويريد أنْ ينتحل أسبابًا سخيفة لهذه المبارزة.

أما الغلام فكأنه قد فهم كل شيء ولكنه لا يظهر شيئًا، وإنما يرى أخوه عليه آثار الثقة والاطمئنان والطاعة، وقد ظهر على وجه الغلام تأثر شديد، فهو ينظر في كتابه ليخفي هذا التأثر، وإذا جورج قد أقبل حسن اللباس جميل الزيِّ يتكلف الزينة، وإذا هو منطلق اللسان يتحدث إلى صديقيه في مجون ودعابة، فيقص عليهما أخبار المدينة والمصطافين، ولا يلقاه الأخوان إلا في فتور وجفوة، فيحس ذلك ولكنه يتكلف المزاج، وإذا «إيرين» قد أقبلت مندفعة كعادتها في نشاط وخفة غريبين، فلا تلتفت إلى ابنيها وإنما تتحدث إلى الفتى مبتهجة منطلقة اللسان: «لقد أحسست أنك أقبلت فأسرعت لأراك»، ثم تمضي في هذا الحديث، فتذكر أنها كانت تعمل في إعداد لون من الحلوى قد اخترعته هي، وأنها قد وفقت وأنها تدعو الفتى ليذوقه هذا المساء، وأنها تريد أنْ تخرج للنزهة فتدعو ابنها فيعتذر، ويعرض جورج نفسه فتقبل مبتهجة، ثم تنظر إليه وإلى لباسه فتنقده، وتلاحظ ملاحظات دقيقة يتأثر منها الفتَيَان، ثم تنظر إلى قفازيه فتأخذهما وتريده على ألا يلبسهما، يأبى الفتى، وتلح، فيزداد إباؤه، فتظهر أنها ستلقيهما في الطين حتى لا يستطيع أنْ يلبسهما، فيضرع إليها الفتى أنْ تردهما إليه، فتأبى وتنصرف، فيتبعها الفتى، وإذا هي تدور حول الغرفة، تعدو والفتى يتبعها من ورائها عَدْوًا كما يفعل الشابان، وابناها ينظران إلى ذلك، وقد ملكهما الخزي والغضب، ولكن العاشقين لا يحفلان بشيء من ذلك، وإذا الأم قد خرجت عَدْوًا من الغرفة وتبعها الفتى فغابا حينًا، وأقبلت الأم تعدو كأن جريها لم ينقطع، فتجلس متعبة ويجلس الفتى إلى جانبها، ويختلسان غفلة الفتيين، فيضربان موعد اللقاء بعد قليل في مكان غير بعيد.

ثم ينصرف جورج وينصرف أصغر الفتيين، وإذا الأم تلوم ابنها؛ لأنه يتحدث إلى صديقه في جفاء وغلظة لا يليقان؛ ولأن الأدب وحسن اللقاء يكلفانه شيئًا غير هذا، وهي تتحدث إلى ابنها بلهجة الأمر، كما تتحدث الأم إلى طفل تريد أنْ تزجره، وهي تأمر ابنها أنْ يغير هذه السيرة، فسيتعشى الفتى في البيت هذا المساء، ويجب أنْ تتلقاه لقاء حسناء، ثم «لا أريد أنْ أسمع منك شيئًا»، وتهمُّ بالانصراف، وقد جاهد الفتى نفسه، ولكنه عجز عن أنْ يملكها، فيدعو أمه، فإذا التفتت إليه مغضبة طلب إليها في رفق ألا تذهب إلى الميعاد. هنا موقف مؤثر جدًّا! فانظر إلى هذه الأم كانت تزجر ابنها وتردعه فإذا ابنها يعلم كل شيء، وإذا هي بين يديه مختلطة مضطربة لا تدري كيف تقول، وإذا الفتى يرفه على أمه ويرفق بها، وكأنه يستعطفها ويترضاها: «لا أريد أنْ ألومك وليس لي أنْ ألومك، وكنت أريد ألا أتحدث إليك في ذلك، ولكنني لم أستطع، فأنا أضرع إليك ألا تذهبي إلى هذا الميعاد»، وإذا الأم تعتذر إلى ابنها وتستعفيه، وتذكر شبابها الضائع، وهذه القوة الجديدة التي أحستها منذ حين.

أما الفتى فيصرفها عن هذا الحديث ويخطئ، فيذكر لها أنه سينتقم لشرف أبيه، فتثور الأم وقد نسيت أمومتها وخزيها وزلتها، وأخذت لا تذكر إلا شيئًا واحدًا، وهو أنَّ عشيقها معرض للخطر، وهي تريد أنْ تحميه، فهي تسلك إلى ذلك كل سبيل، تسخط حينًا فتنذر، ثم تستخزي حينًا آخر فتستعطف، وقد انهلت دموعها، وأقبل زوجها وهي في هذه الحال، فيسأل، فيخفيان عليه الأمر، فيلوم ابنه ويزجره؛ لأنه قد أغضب أمه وساءها، ثم ينصرف، ويخلو الابن إلى أبيه، ويحاول الأب أنْ يعرف شيئًا فلا يظفر بشيء، فيحدث ابنه بأنه لقي جورج في الطريق، وأنه يحب هذا الفتى ويعجب به، ويريد أنْ يستعين به في عمله ويلحقه بمكتبه، لا يكاد الفتى يسمع هذا حتى يثور ويظهر الخلاف لأبيه، ويظهر الأب أنه مغضب، وما يزال بابنه حتى يعترف له بأن بينه وبين جورج خصومة لا بد من أنْ يصفي حسابها، وهما كذلك إذ تعود الأم وقد لبست قلنسوتها تريد أنْ تخرج، ثم يبدو لها فتعدل عن الخروج، ثم يظهر الأب أنه خارج ليلقى جورج؛ لأنه يحب هذا الفتى، وينهض فيأخذ غدارة صيده، فتنهض امرأته تريد أنْ ترافقه والرجل يلاحظ اضطراب امرأته وتناقض حركاتها، فيجلس ويلوم ابنه؛ لأنه اضطر أمه إلى هذا الاضطراب، ثم يلح في السؤال عما بينهما، فيبالغان في التكتم، وإذا الرجل عرف كل شيء؛ لأنه كان قد تخيله منذ حين فشك، ثم قامت له البينة الآن، وإذا هو قد بلغ أقصى غضبه، وإذا هو يريد أنْ ينتقم من هذا الغلام! فانظر إلى امرأته وإلى ما بينها وبين زوجها من الحوار، تريد أنْ تحمي هذا الشاب فهو برئ، وهي وحدها الآثمة، أليست أمًّا! أليس هذا الشاب طفلًا حدثًا؟! لم يغوها وإنما أغوته، وليس لأحد أنْ يعتدي عليه، وقد فقدت الآن كل عاطفة وكل عقل وأصبحت غريزة خالصة كأنثى الحيوان تدافع عن صغيرها، وقد وقفت إلى الباب تريد أنْ تمنع زوجها وابنها من أنْ يتجاوزاه، ويشتد بينهما الحوار والخصومة، فإذا هي تنكر النظم الاجتماعية، وتسخر من الزواج والأسرة والأمومة، ولا تؤمن إلا بشيء واحد هو الحب، وإذا الشرف — كما يتصوره الرجال — ليس إلا أثرًا من آثار الوحشية، ومظهرًا من مظاهر الأثرة وقسوة الرجل، وإذا الرجال حين يذكرون العدل والشرف إنما يذكرون منافعهم وأثرتهم وقسوة قلوبهم، ثم تريدون أنْ تعدلوا، فاقتلوني أنا لأني أنا الآثمة إنْ كان هنالك إثم! أما زوجها فيسلك معها سبلًا مختلفة من الرفق والغلظة، فإذا رأى منها هذا العناد أعلن إليها أنها لا تستطيع أنْ تأمن على عاشقها، ولكن على أنْ تلحق به، وعلى أنْ تخرج من هذا البيت فلا تعود إليه، وإذا هي تقبل فرحة مبتهجة، ولكن فرح كله ذهول، هو أشبه بالجنون وقد خرجت تعدو ويحاول ابنها أنْ يتبعها فيمسكه أبوه.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فنحن في ضاحية من ضواحي الجزائر، وقد مضى حين على ما كان في الفصل الثاني، واستقر العاشقان في هذه البلاد؛ لأن الغلام يؤدي فيها خدمته العسكرية وقد تبعته صاحبته، فاتخذت في هذه الضاحية المشرفة على البحر بيتًا جميلًا تحيط به حديقة بديعة خصبة، وهي تعيش في هذا البيت عيشة لذة وبهجة، قد تركت الاحتشام وأخذت من التبذل بحظ عظيم، فهي لا تكاد تستر جسمها، ولا تكاد تحتاط في حركاتها ولا في كلامها، أليست ثائرة على الهيئة الاجتماعية وأخلاقها ونظمها وعواطفها! أليست قد ضحت بزوجها وابنيها ومنزلها في سبيل هذا الحب؟! وإذن فما الاحتشام وما تكلف الاحتفاظ بالأخلاق؟! كلها حب وكلها لذة، ولكنها محزونة! فقد بلغت الأربعين، وأخذت تحس انصراف الشباب، وصاحبها في الثانية والعشرين لم يستكمل حظه من الشباب بعد، هي إلى الفناء وهو إلى الوجود، هي إلى الذبول وهو إلى النضرة، والأمر ليس واقفًا عند هذا الحد، وإنما يجاورها قوم من الأمريكيين فيهم فتاة جميلة خلابة ماهرة، وقد كان الحديث بينها وبين الشاب، ثم استحال الحديث إلى شيء من العاطفة يخفيانه ولكنها تعلمه، فهي تحس الغيرة وآلامها، وترى أنَّ خصمها أقوى منها، له الشباب ولها الشيخوخة، ولكنها مع ذلك تجاهد، وهي في هذه الليلة تنتظر صاحبها وقد تهيأت لاستقباله وهيأت كل شيء، ولكن صاحبها تأخر، فهي تتمشى محزونة متكلفة الابتهاج، ويقبل صاحبها، تلقاه مبتهجة محبة صادقة في الحب وفي الابتهاج، ويلقاها هو مبتهجًا محبًّا ولكن التكلف ظاهر عليه، فإذا جلس إلى المائدة أقبل الخادم يحمل إليه كتابًا بعثت به إليه الجارة، فيظهر اشمئزازًا متكلفًا، ويذكر أنَّ هذا الكتاب قصة حدثته عنها الفتاة وأعارته إياها ليقرأها، أما صاحبته فتظهر أنها لا تحفل بذلك وتبالغ في التلطف للفتى ومداعبته، ثم تدخل عليهما امرأة شيخة شاعت عنها الأحاديث المتناقضة، فذكر الناس أنها أميرة لهت في شبابها إلى غير حد، حتى إذا بلغت سن الشيخوخة، وقد لقيت كثيرًا من الآلام أقبلت إلى الجزائر ومعها ثروة ضخمة، فانصرفت إلى الخير، واتخذت معملًا للبسط تعلم فيه الفقيرات من أهل هذه البلاد، وقد أقبلت ومعها صبيتان عربيتان ونماذج من أعمال تلميذاتها، فيتحدثون وينتهز الفتى وجود هذه المرأة فينسل إلى جيرانه، فإذا خلت المرأتان تحدثتا في الحب، ففهمنا أنَّ هذه المرأة التي تركت كل شيء لتتبع عاشقها ليست مخدوعة، وأنها تعلم كل شيء، وتحس حب صاحبها لهذه الفتاة الأمريكية، وأنها لا تريد أنْ تجاهد ولا أنْ تثقل على صاحبها، وإنما تريد أنْ تترك له الذكرى جميلة نضرة؛ لأنها تحبه حقًّا.

وقد استعدت لذلك فكتبت كتاب الوداع، وهي راضية مبتهجة حتى لا يشتمل هذا الكتاب على شيء مؤلم، وهي تنتظر أنْ يدق الجرس، وتشعر بوجوب الانصراف لتنصرف ذات يوم في غير ضجيج ولا عجيج، وتحاول الشيخة أنْ تسليها وتطمئنها فلا توفق، ثم تعمد العاشقة إلى الكتاب الذي بعثته الفتاة، فتنظر فيه فإذا صحف معلمة، وإذا في هذه الصحف جمل ذات معنى تذكر حب الفتيان ونقاءه وطهارته، وإذا بين صحف الكتاب صورة فوتوغرافية للفتاة، ثم يأتي الفتى ومعه الفتاة، فتلقاهما «إيرين» مبتهجة مبتسمة، وتتحدث إليهما حديثًا عذبًا، وتنصرف مع صاحبتها الشيخة إلى النافذة كأنها تريها جمال الطبيعة، وما سيحدث حين يخسف القمر بعد ساعات، ولكنها تتحدث إليها في أمر هذين الشابين وفي حبهما، «أتعلمين ماذا يصنعان الآن؟ إني لا أراهما ولكني أعلم ما يصنعان، إنهما يتصافحان، ويضغط كل منهما على يد صاحبه، ويجتهد كل منهما في أنْ يقرأ في عيني صاحبه، وسألتفت الآن إليهما في هدوء وبطء حتى يتمكنا من أنْ يفترقا» وهي صادقة فيما تقول؛ فقد كان الفتيان يتصافحان ويتبادلان نظرات الحب ويتحدثان في رفق حديث الحب، ثم تنصرف الفتاة، فإذا رافقها الفتى قليلًا أنبأته بأنها ستلعب له شيئًا من الموسيقى، ثم يعود الفتى وتنصرف الشيخة، ويظهر الفتى أنه متعب، فتشير عليه صاحبته بأن ينام فيفعل، وتدنو منه تداعبه وتهزه كما تهز الأم طفلها، وقد وضعت شفتيها على جبينه، وما تزال كذلك حتى يغرق الفتى في النوم، وإذا هي تسمع الموسيقى من بعيد، إنها لتلعب له ولكنه منصرف عنها إلى النوم، وكذلك الشباب، ثم تتركه وتعمد إلى كتاب الوداع الذي أعدته فتقرؤه، فإذا هي تتمنى فيه لهذا الفتى سعادة كلها صفو لا يشوبه شقاء، تقرأ باكية وما زال صوت الموسيقى يصل إلى الغرفة، فيمتزج بصوتها الباكي وغطيط النائم.

•••

فإذا كان الفصل الرابع فنحن في باريس عند ابنها «ريشار»، وقد تزوج من خطيبته ولكن بعد مشقة؛ لأن قصة أمه كادت تلغي هذا الزواج، وقد رزق من هذا الزواج طفلًا، وهو يتحدث إلى زوجه وإلى صديق له، وهو يذكر أباه وأنه محزون، وأنَّ حزنه قد آذى صحته، ثم ينصرف «ريشار» إلى كتاب يكتبه، وتتحدث زوجه إلى الصديق، فيذكران الأم المفتونة، وما يصل من أحاديثها إلى باريس وما يتحدث الناس به من مجونها وتبذلها، وأنها تظهر في حديقتها عارية أو كالعارية، وأنها تسرف في تبذير ما لها؛ لتمتع صاحبها بكل لذات الحياة، ثم تذكر الزوج أنها مطمئنة، فقد اشترطت على زوجها أنْ تنقطع بينه وبين أمه كل صلة وَقَبِل زوجها هذا الشرط، وهم كذلك إذ يدخل الخادم، فيدفع إلى ريشار بطاقة، ينظر فيها ثم يضطرب لها، «وأين هذه السيدة؟» هي خارج الغرفة، «لتنتظر قليلًا!» ويريد أنْ يتحدث إلى زوجه، فإذا هي قد فهمت، وإذا هي تجيبه في عنف بأنه يعلم ما اتفق عليه، وأنها لا تسمح بأن تدخل هذه المرأة بيتها، وأنَّ له أنْ يراها لينبئها بذلك، ثم تنصرف مع الصديق، ويأذن ريشار بإدخال السيدة فإذا هي أمه محزونة تدافع عبراتها، لا تكاد تثبت على قدميها، ولا تكاد تنطق بتحية ابنها، وابنها متأثر، ولكنه يتجلد ويتكلف القوة، فيحي أمه تحية فاترة، وتجلس فيسألها ما خطبها؟

– لقد مررت بباريس فأردت أنْ أراك، ثم يسألها: ومتى تعودين إلى الجزائر؟

– لن أعود!

– وكيف؟

– لقد انقطع كل شيء بيني وبين جورج!

– وماذا تريدين إذن أنْ تفعلي؟

– لا أدري! أريد أنْ أتم حياتي وقد مررت بباريس فأردت أنْ أراك، وتسأله عن أخيه، فيذكر أنه في مدرسة الهندسة، وأنها تستطيع أنْ تراه، ثم تسأله عن ابنه، وتشكر له أنْ كتب إليها ينبئها بمولد هذا الطفل، فيخبرها أنَّ ابنه بخير، وأنه خرج مع مرضعه للنزهة، ولكن المرضع تدخل فتسأل عن شيء، وتعلم الأم أنَّ ريشار يريد أنْ يخفي عليها ابنه، فترى ذلك حقًّا ولكنه لا يزيدها إلا حزنًا ولوعة، ويسألها كيف تريد أنْ تعيش: وأين تريد أنْ تقضي الشتاء؟ فيظهر له أنها أنفقت كل ما كان عندها من المال، ولم يبق لها إلا شيء ضئيل يستطيع أنْ يكفل لها حياة خاملة متواضعة.

– وأين أنا إذن؟

فتجيبه بأنها لم تأتِ مستجدية، وأنها قد نبذت أسرتها، وهي أكبر من أنْ تضرع إلى هذه الأسرة، ولكن الحديث لا يكاد يستمر حتى تشعر أنَّ هذه المرأة لا تستطيع أنْ تعيش وحدها، وأنها قد لجأت إلى ابنها تسأله أنْ يعلمها كيف تعيش، فلقد همت بالموت، ولكنها عجزت عنه، وهي لم تتعود هذه الحياة الخشنة حياة البائسات، وهي لا تريد شيئًا ما، وإنما تريد أنْ تتم أيامها، فأروني كيف أتم هذه الأيام! ماذا تريدون أنْ أصنع؟ يجب أنْ تروا لكم فيَّ رأيًا! أسكنوني حيث تريدون، أبيحوا لي أنْ أراكم وأنْ أرى هذا الطفل خُلسةً، إني أعلم أنَّ اسمي يخجلكم، وأنَّ محضري يخزيكم، ولكن ماذا تريدون أنْ أصنع، يجب أنْ تحتملوني حتى أموت، وقد بلغ بها التأثر أقصاه، وفقد ابنها كل قوة فهو يضمها إليه ويقبلها، وهي محزونة ولكنها سعيدة بين ذراعي ابنها، ثم يضطرها ابنها إلى غرفة، ويدعو زوجه فيقص عليها الأمر، فتلقاه في عنف وغلظة، ولكنها تتكلف هذا العنف وهذه الغلظة، وإذا مخبرها خير من مظهرها، وإذا هي رفيقة رحيمة، فما أسرع ما تعمد إلى الغرفة فتفتحها وتدعو المرأة — ولكن في غير رفق — إلى أنْ تأتي فترى طفل ابنها، تأتي الأم متعثرة تكتم زفراتها، فتتبع امرأة ابنها ذليلة مخفوضة الرأس، أما ريشار ففرح؛ لأنه رأى من زوجه هذا الرفق، وهذا العطف، فيريد أنْ يتحدث إلى أبيه ليصلح بينهما، ويعمد إلى التليفون، ولكن أباه يدخل.

– هي هنا!

– من هي؟

– أمي!

لا يظهر الشيخ عجبًا، وإنما يظهر ألمًا شديدًا، ويستعطفه ابنه فإذا الرجل قريب جدًّا من العفو، وإذا هو يريد أنْ يعفو، ولكنه يسأل ابنه: اذكر اسمي لها؟

– نعم!

– أأظهرت شيئًا من الاستعداد للصلح؟

– لا!

– إذن فليست تحبني، ولئن عرضت عليها العفو لترفضنه، ثم العفو، إني لا أستطيعه، إنَّ عقلي ليدعوني إليه، وإني لأراه حقًّا وخيرًا، لكني لا أستطيعه؛ لأن شعوري يأباه، وتربيتي لا تعين عليه، وما ورثت من دين وعادة يحول بيني وبينه.

وهنا حديث أقل ما يوصف به أنه وصف صادق لحياتنا العقلية في هذا العصر، فعقولنا ترى أشياء يرفضها شعورنا وتنكرها عواطفنا؛ ذلك لأن الجديد قد كسب العقول، أما القديم فما زال مستأثرًا بالعواطف والشعور، فنحن نرى أنَّ هذه المرأة خليقة بالعطف والعفو، وأنَّ زلتها لها عذرها، وأنها ليست أمرًا لا يحتمل المغفرة، ولكن عواطفنا الدينية والاجتماعية وشعورنا بالشرف والغيرة، كل ذلك يحول بيننا وبين أنْ تكون حياتنا العملية ملائمة لحياتنا العقلية، وإذن فالشيخ يوصي ابنه خيرًا بأمه، ويعد بأنه سيقوم بحاجاتها جميعًا، وسيجتهد في أنْ يجعل الحياة عليها هينة لينة، ولكنه لا يستطيع ولا يريد أنْ يراها، ثم ينصرف وقد انحنى ظهره، وظهرت عليه آثار التعب والعناء.

أما ابنه فيفتح بابًا، فإذا هو يرى المرأتين تتحدثان في شيء من الصفو والمودة، وبينهما الطفل قد جمع بين قلبيهما، فيدعوهما سعيدًا، وتهم أمه أنْ تنصرف وقد قنعت بهذا العطف، ولكنها تطمع في أنْ تشعر بأن امرأة ابنها قد صفحت عنها، وهي لا تريد أنْ تقول لها ذلك، وإنما تطمع في أنْ تقبلها، فتعتنق المرأتان وقد امتزجت دموعهما، وإذا الجرس يدق فيريد ريشار أنْ يخفيهما ليستقبل الطارق، ويتقدم إلى غرفة وتتبعه امرأته وتبقى أمه كأنها تصلح من أمرها، وإذا الخادم تدخل فتنبئ بأن فلانًا بالباب، تجيبها الأم وقد نسيت موقفها وخيل إليها أنها في بيتها: ليدخل!

فإذا رأت تردد الخادم ذكرت موقفها، ثم جاهدت نفسها وقالت: نعم ليدخل فأنا الجدة.

فبراير سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤