الفضيحة

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «هنري بتايل»

أعتذر قبل كل شيء من هذا العنوان، فلست مبتكره، وإنما أنا مترجم، وليس لي أنْ أتصرف في الترجمة إذا كان اللفظ واضحًا جليًّا، وليس من شك في أنَّ الكاتب قد أراد ما كتب، وفي أنَّ القصة تعبر تعبيرًا حسنًا عما أراد، فهي فضيحة ولكنها لا تخلو من عظة وعبرة، وأي فضيحة تخلو من عظة وعبرة! هي فضيحة نافعة، وهي في الوقت نفسه لذيذة؛ لأنها كغيرها من قصص هذا الكاتب، طائفة من الأوصاف التي تمثل صورًا من الحياة الفرنسية تمثيلًا قويًّا صحيحًا، ولقد أجد شيئًا من التردد حين أريد أنْ أحكم على هذه القصة، فلست أدري أهي قصة محزنة أم هي قصة مضحكة، ولعلها محزنة ومضحكة، فموضوعها محزن ونتيجتها محزنة، ولكن سياقها مضحك جدًّا، وهو مضحك لا على نحو ما ألفت من القصص المضحكة، وإنما هو مضحك على نحو خاص، كأن الكاتب لم يرد أنْ يضحكك، ولا أنْ يسرك، وإنما اضطر إلى ذلك اضطرارًا؛ لأن أشخاصه مضحكون بطبيعتهم، مضحكون حتى في أشد أوقاتهم حرجًا، وأعظم مواقفهم بؤسًا وسوءًا، وهم مضحكون لا لأنهم يريدون أنْ يضحكوا؛ بل لأن الله خلقهم كذلك.

وهل تعلم شيئًا أشد إيلامًا للنفس وأعظم تأثيرًا في القلب من رجل يبكي ويألم حقًّا، ولكنك تراه يبكي ويألم حتى تشاركه في ألمه وبكائه مخلصًا في ذلك مضطرًّا إليه، وأنت في الوقت نفسه مضطرٌّ إلى أنْ تضحك منه وتبتسم لما ترى من ألمه وبكائه، أو من تعبيره عن هذا الألم واندفاعه في هذا البكاء، مصدر هذا الموقف الغريب شيء من التفاوت في الطبع بينك وبين هذا الشخص الذي يُبكيك ويُضحكك في وقت واحد، هو ثائر الطبع، حاد المزاج، وأنت هادئ معتدل، وقصته في نفسها مؤلمة، فهو يألم عشرين حين لا تألم أنت إلا أربعًا أو خمسًا، والفرق بين ألمك وألمه هذا الغلو الذي تشهده ولا تفهمه، هذا الذي يضحكك وأنت تبكي ويبعث في وجهك الابتسام في حين يظهر على جبينك العبوس، وهذا هو الذي تجده في هذه القصة؛ لأن الأشخاص في هذه القصة هم من أهل الجنوب الفرنسي، وأنت تعلم، أو لعلك قرأت في الكتب أنَّ أهل فرنسا الجنوبية قوم فطروا على ثورة الطبع وحدة المزاج وحرارة العاطفة وانطلاق اللسان، هم غلاة حين يشعرون، وهم غلاة حين يتكلمون، وهم غلاة حين يفكرون، وهم إلى الكلام والإسراف فيه أقرب منهم إلى التفكير والميل إليه، ولعلهم — كما يقول «الفونس دوديه» في بعض قصصه — لا يفكرون إلا حين يتكلمون، فبينما تنطق ألسنة الناس بالكلام لأنهم فكروا أو شعروا، فهم يصفون بكلامهم فكرة أو عاطفة أو نوعًا من أنواع الشعور، فهؤلاء الفرنسيون من أهل الجنوب ولا سيما فصحاؤهم وأهل البلاغة منهم، يتكلمون أولًا، فإذا تكلموا تحركت عقولهم ففكروا، وعواطفهم فشعروا، وربما بدأوا الكلام وهم لا يعرفون ماذا يقولون فإذا اندفعوا فيه قليلًا قليلًا أخذوا يتأثرون بألفاظهم ونبرات أصواتهم، فإذا هم يبكون كأنهم يخضعون لأشد الخطباء تأثيرًا.

من هؤلاء الناس اختار المؤلف أشخاص قصته، وقد مثلهم تمثيلًا قويًّا، فهم يتكلمون ويتكلمون، وإذا اندفعوا في الكلام فليس إلى وقوفهم من سبيل، ثم هم ليسوا مكثرين فحسب، وإنما هم غلاة مسرفون، يتخيرون من الألفاظ أضخمها ومن الصور أشدها عنفًا، وهم مع كلامهم متحركون حركات ليست أقل غلوًّا ولا عنفًا من ألفاظهم، ومن هنا كانت القصة لذيذة جدًّا في الملعب، وهي لذيذة لمن قرأها وله علم بأخلاق أهل الجنوب، ولكنها عسيرة جدًّا على من يريد أنْ يترجمها أو يلخصها، وربما كان من المستحيل أنْ يعطي المترجم أو الملخص منها صورة صحيحة، فلنجتهد في أنْ نعطيك منها صورة مقاربة إنْ أخطأك فيها ما يضحك ويسر فلن يخطئك فيها ما يؤلم ويبعث الإشفاق.

«موريس ڨربول» رجل من أهل الجنوب بالقرب من مدينة نيس، عظيم الثروة جدًّا، يشرف على مصانع ضخمة، ويُعنى بالأزهار واستخراج أعطارها، له أرض واسعة قد خصصها لذلك، وهو منصرف إلى تدبير ثروته، جاد في ذلك، لا يكاد يحفل بغيره من الأشياء، وأهل بلده يحبونه فانتخبوه لهم عمدة، ثم انتخبوه عضوًا في مجلس الإقليم، ثم هم يريدون أنْ ينتخبوه عضوًا في مجلس الشيوخ، وهو يقبل هذا كله مع شيء من الازدراء والسخرية، ولكنه يؤدي واجباته العامة كما يؤدي واجباته الخاصة في أمانة واستقامة، وقد تزوج من فتاة جميلة خلابة هي «شارلوت» أحبها حبًّا لا حدَّ له، يوشك أنْ يكون إيمانًا، بل قل: إنه إيمان، أما هي فتحب زوجها حبًّا قويًّا أيضًا، ولكنها تشعر بشيء من السأم مصدره أنَّ حياتها الزوجية شديدة الانتظام قريبة جدًّا إلى العفة والقصد، خالية أو تكاد تخلو مما يحتاج إليه شبابها وقوتها وحدة مزاجها، ثم هي في الوقت نفسه ضيقة الذرع بهذه الحياة المنتظمة الضيقة التي يحياها أهل الأقاليم، والتي تخلو أو تكاد تخلو من اللهو واللعب، وما يصرف النفس عن الجد من حين إلى حين، على أنها تخضع لهذا كله دون أنْ تشعر به شعورًا واضحًا، فإذا جاء الصيف في سنة من السنين سافرت مع زوجها وابنيها إلى مصطاف في جبال «البرينيه» في مدينة من هذه المدن، التي يختلف إليها في فصل الصيف أغنياء الناس وسراتهم من كل بلد ومن كل إقليم ومن كل جنس، فهي ليست مدنًا فرنسية، وإنما هي مدن مختلطة تلتقي فيها الأجناس المختلفة والطبقات المتباينة، ويختلف الناس في هذه المدن، فمنهم من يحبها لما فيها من الاختلاط والتعاون، وما يستتبعه ذلك من الملاحظات الخلقية في نفس المفكر، ومنهم من يكره هذه المدن لنفس هذا الاختلاط، وما يستتبعه من فساد خلقيٍّ شديد.

ونحن في الفصل الأول نشهد طائفة من الفرنسيين قد جلسوا إلى «فرپول»، وهم يتحدثون في هذا، فمنهم من يذم هذه المدن ويزدريها، ويلعن الصيف الذي يضطره إليها من حين إلى حين، ومنهم من يحمدها لا لأنه يحبها؛ بل لأنه يجد فيها ميدانًا للملاحظات الخلقية، والملاحظات الخاصة التي تشغله هي أنَّ هذه المدن تسمح لعواطف الحب بأن تظهر ولحاجات الناس إلى اللهو واللعب بأن ترضى، وقد تسمح بشيء آخر يظهر غريبًا، ولكنه في حقيقة الأمر ليس غريبًا، وهو أنَّ الإنسان مهما يكن شريفًا نقيًّا طاهر النفس فهو في حاجة من حين إلى حين إلى أنْ يختلس لذة من اللذات، تخالف الشرف والنقاء وطهارة النفس، وهذا الاختلاس ميسور في هذه المدن التي تلتقي فيها الأجناس المختلفة، ويكثر فيها اللهو، ويستمتع فيها المصطافون بضروب من الحرية لا يعرفونها في حياتهم العادية، وبينما هم يتحدثون على هذا النحو إذا أصوات ضحك ترتفع، فيلتفتون فإذا نساء يضحكن من وراء الأشجار، فإذا تبينوا هؤلاء النساء وعرفوهن، فهن من أولئك اللاتي يأتين من حين إلى حين إلى هذه المدينة، يأتين يوم السبت ويَعُدْنَ يوم الاثنين ليلهون ويُلهين ويَعُدْنَ بشيء من المال، ثم تأتي «شارلوت» فتتحدث قليلًا إلى زوجها وإلى من معه، وبينما هم جميعًا يتحدثون يمر رجل على بعد فيراه بعض هؤلاء المتحدثين، ثم ينتهز فرصة فينتحي مع «شارلوت» ناحية، ويحذرها من أمر تأتيه، ويوشك أنْ يجر عليها شرًّا عظيمًا، فتظهر أنها لا تفهم فيصرح لها بأنه رآها أمس وقد خرجت من غرفتها تقصد إلى غرفة أخرى وكاد زوجها يراها، فهو ينصح لها بأن تكون حذرة محتاطة، وهو لا يقدم هذه النصيحة إلا مخلصًا معتذرًا؛ لأنه إنما اضطر إليها اضطرارًا إذ هو مشفق عليها من عواقب هذا الأمر، أما هي فتغضب وترده ردًّا لا يخلو من عنف، وقد أنكرت كل ما زعم، ثم ينصرفون جميعًا ومعهم الزوج الذي اتفق مع امرأته على أنْ تلحق به في «الكازينو» بعد أنْ ترافق ابنيها إلى غرفة النوم، ولا يكادون ينصرفون وتخلو المرأة إلى ابنيها والمربية حتى يمر ذلك الرجل الذي مر منذ حين، وإذا هو يشير إلى هذه المرأة إشارات خفية تضطرب لها، وتجيب عليها بإشارات خفية مثلها، ثم تأمر المربية أنْ تقود ابنيها إلى غرفة النوم، فإذا سألها أحدهما: ألا ترافقيننا كما وعدت؟ أجابت أنها متعبة، وتنصرف المربية ومعها الطفلان.

ويدنو الرجل من «شارلوت» فإذا هو أجنبي، قوي الخلق، جميل الطلعة، حسن الزيِّ، يتحدثان فإذا بينهما حب، وإذا هما يسرفان في هذا الحب حتى تجاوزا كل حذر واحتياط، ولكن حديثهما غريب، فبينما هو يحدثها في حرية وصراحة تكاد تشبه القِحَة إذا هي تجيبه في حياء وبضروب من الإيماء، وهو ينكر منها هذا، وهي تنكر منه صراحته، ثم ينتهي بها الأمر إلى أنْ تصرح أيضًا، فإذا حبها عنيف، وإذا هي لا تفهم هذا الحب، ولكنها تحرص عليه حرصًا شديدًا، وإذا هي تستطيع الآن أنْ تفهم ما كانت تشعر به من سأم قبل أنْ تلقى هذا الرجل، ذلك أنَّ هذا الرجل يعرف كيف يرضي النساء، وهي تذكر له هذه الجملة التي تختصرها اختصارًا صحيحًا، وهي أنه يقبلها قبلًا ليست مسيحية في حين أنَّ قبلات زوجها طبعًا مسيحية خالصة، ويريد الرجل أنْ يضرب معها موعدًا، فتأبى وتلح في الإباء، ويلح الرجل، فإذا عرف منها الإصرار أظهر شيئًا من ضيق الصدر ومن اليأس فتسأله، فتفهم منه قليلًا قليلًا أنه سيء الحظ؛ لأن أباه قد أبطأ عليه في إرسال النقود، وقد حاول أنْ يقترض فلم يوفق، وهو في حاجة إلى مقدار من المال قليل، ولكن هذه أشياء لا قيمة لها، وما كان ينبغي أنْ أتحدث إليك فيها، ولكنك تطالبينني بالصراحة، فلا أستطيع أنْ أخفي عليك شيئًا، أما هي فقد ساءها ذلك، وأخذت تكلمه بصوت كأنه يأتي من بعيد قائلة: لو أنَّ عندي ما تحتاج إليه لما ترددت في أنْ أدفعه إليك، ثم يريد أنْ يقبل يدها، فإذا فيها خاتم قد استوقف نظره، وأحست هي ذلك وفهمته فتعرض عليه الخاتم، ويتأبى قليلًا ثم يرضى على أنْ يرده إليها غدًا، فهو سيظهره لصائغ يريد أنْ يقترض منه ما يحتاج إليه، أخذ الخاتم وانصرف، وإذا المرأة مضطربة محزونة قد سقط في يدها؛ لأنها عرفت أنَّ هذا الرجل الذي تحبه وتخون زوجها وابنيها وأسرتها وماضيها بين ذراعيه ليس إلا محتالًا، وهي في ذلك إذ يقبل زوجها، فإذا هي تنحني إلى الأرض كأنها تبحث عن شيء، فإذا سألها أنبأته أنها افتقدت خاتمها، فهي تبحث عنه، فينحني ومعه صديق ليبحثا عن الخاتم أيضًا.

•••

فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في جنوب فرنسا في بيت «شارلوت» والقوم إلى مائدة الغداء، وقد أقبل رجل موظف في المحكمة يقال له «باريزو»، فتحدث إلى صاحب البيت حديثًا تفهم منه أنه مدين لصاحب البيت بشيء من المال، ولكنك تفهم أيضًا أنَّ الكاتب إنما أظهر لنا هذا الشخص؛ لأنه سيحتاج إليه بعد حين، ويقبل القوم فإذا «شارلوت» قد تغيرت، فأصبح وجهها شاحبًا ونالها شيء من الضعف كثير، وأخذ زوجها يخشى عليها العلل والأمراض، ذلك أنها مرضت في المصطاف وتعجلت العودة، وكانت تريد أنْ تمكث شهرًا، فلم تمكث إلا أيامًا قصارًا، وهي منذ عادت مضطربة عصبية تألم لأقل شيء، وتظهر عليها آثار حزن عميق، واضطرابها في هذا اليوم شديد بنوع خاص؛ ذلك لأن زوجها تسلم كتابًا من رجل يقال له: «ا. تاميزو» لقيه في المصطاف، وهذا الرجل يريد أنْ يتحدث إلى صاحب البيت حديثًا خاصًّا، وقد قبل الزوج وضرب للرجل موعدًا بعد نصف ساعة، وهذا الرجل هو صاحبنا الذي رأيناه في الفصل الأول عاشقًا محتالًا، عرفت «شارلوت» هذا، فهي تكره هذا اللقاء بين الرجلين، وتريد أنْ تمنعه، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟

لقد عرضت على زوجها أنْ يخرج معها للنزهة، فاعتذر لأنه ضرب موعدًا لهذا الرجل، وهو لا يريد أنْ يخلف هذا الموعد، ثم يئست من إقناعه، فأوحت إلى الخادم أنْ تقبل مسرعة فتنبئ سيدها بأن رجلًا من الذين يعملون في أرضه قد سقط فانكسرت ساقه، وهي تريد أنْ يسرع زوجها ليعود هذا المريض؛ لأنه عود رجاله الرفق بهم والعطف عليهم، فإذا أقبلت الخادم فأنبأت سيدها هذا النبأ أظهر عناية وهو يريد أنْ يعود المريض، فتبتهج زوجه؛ لكن الرجل يذكر الموعد، فيعدل عن الخروج، ويرسل إلى المريض من يسأل عن أنبائه ريثما يستطيع هو أنْ يذهب لعيادته، فتعود «شارلوت» إلى ما كانت فيه من يأس واضطراب، حتى إذا خلت إلى زوجها تلطفت له، وأخذت تداعبه حتى تضطره إلى مكتبه، وتكلفه عملًا من الأعمال فيقبل، وتخرج هي فتغلق المكتب وتحكم إغلاقه، وكل همها أنْ تلقى هذا الزائر لحظة قبل أنْ يرى زوجها، وقد دق الجرس، فاضطربت وأسرعت تريد أنْ تلقى الزائر، وسمع زوجها دقة الجرس، فأسرع يريد أنْ يلقى الزائر ولكن الباب مغلق، فهو يدعو زوجه ويلح في الدعاء، أما هي فكأنها لا تسمع حتى يدخل الزائر، فإذا هو رجل آخر هو صديق من أصدقاء الأسرة، هو الذي كان يبحث معها ومع زوجها عن الخاتم في الفصل الأول واسمه «جانتييه»، هو طبيب شاب يعمل في المدينة، وقد أقبل يزور أصدقاءه، فتفتح «شارلوت» لزوجها باب المكتب، وتعتذر بأنها أغلقته خطأ ويفهم هو هذا، أليست امرأته مريضة مضطربة منذ عادت من المصطاف، وهو يستشير صديقه الطبيب، وقد دخلوا جميعًا إلى حيث «البيانو»، وأخذت «شارلوت» توقع عليه؛ لتنسي نفسها ما هي فيه من خوف واضطراب، وقد دق الجرس وأقبل الزائر المنتظر، فهي تمعن في الإيقاع على البيانو كأنها لا تريد أنْ يراها، ولكن زوجها يدعوها، فتلتفت فإذا صاحبها يحييها، وإذا هي تحييه وقد انصرف الرجل مع صاحب البيت إلى مكتبه ليتحدثا.

أما هي فقد ظلت مع صديقها «جانتييه»، فلا تكاد تخلو إليه حتى تفقد صبرها واحتياطها، فتقص عليه كل شيء، وتنبئه بأن هذا الرجل المحتال كتب إليها مرات يطلب إليها نقودًا، فأرسلت إليه خوفًا وذعرًا، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد فقد تسلمت اليوم كتابًا من الصائغ ينبئها بأن هذا الرجل قد طلب منه لحسابها مقدارًا ضخمًا من المال، وهو يطلب هذا المقدار، ولا شك في أنَّ هذا المحتال قد أقبل اليوم ليقص كل شيء على الزوج؛ لأنه يريد أنْ يستفيد من هذه القصة، ويأخذ ما يحتاج من مال، أما صديقها فقد جزع لهذا، ولكنه لا يريد أنْ يضيع الوقت، فهو يريد أنْ يخلص هذه المرأة وشرف الأسرة، وقد أخذ منها الكتب التي تسلمتها من هذا الرجل ومن الصائغ، واستحلفها أنْ تحتفظ بهدوئها، وانصرف إلى وكيل النيابة يريد أنْ يظهر على كل شيء ليأمر بالقبض على هذا المحتال، وهو واثق بأن وكيل النيابة سيحترم سر المهنة وشرف هذه الأسرة، وقد انصرف الشاب وخلت «شارلوت» إلى نفسها، وهي مضطربة أشد الاضطراب لا تستقر في مكان ما تريد أنْ تعلم بم يتحدث الرجلان من وراء هذا الباب، ولا يطول انتظارها، فقد فتح باب المكتب، وخرج الرجلان يتحدثان في هدوء، وصاحب البيت «يقول لزائره: … إذن فغدًا الساعة الثانية …» ثم يقبل الزائر إلى «شارلوت» فيحييها وينصرف، أما زوجها فقد جلس مفكرًا، وأخذت هي تسأله والهة متكلفة الهدوء عن هذه الزيارة وما كان فيها من حديث، فيجيبها بصوت فيه شيء من الذهول: إنَّ هذا الرجل قد حدثه في أشياء غريبة جدًّا، فيزداد لذلك اضطرابها، فإذا ألحت على زوجها أنبأها بأن الزائر تحدث إليه في أمور تجارية غريبة فيها أرباح غير مألوفة، فتطمئن، ويخرج زوجها ليعود المريض الذي مر بك ذكره آنفًا.

ولكن هذا الزوج لا يكاد يخرج حتى تدخل الخادم، فتنبئ سيدتها بأن هذا الزائر الذي انصرف منذ حين قد عاد يقول: إنه نسي شيئًا، ويريد أنْ يتحدث به إلى السيدة لتعيده على زوجها متى رجع، فتتردد «شارلوت» ثم تأذن له وهنا موقف مؤثر جدًّا، ذلك أنَّ هذا الرجل المحتال لا يكاد يظهر أمام صاحبته حتى تلقاه لقاء منكرًا، فتسأله أي مقدار من المال يريده هذه المرة، وإذا الرجل لا يريد مقادير من المال قليلة ولا كثيرة، وإذا هو قد تكلف هذه الزيارة وتكلف هذا الحديث التجاري الذي انتحله للزوج ليخلو إلى هذه المرأة لحظة لأنه يريد أنْ يكلمها، وهو يريد أنْ يثبت لها أنه يحبها حقًّا وأنه أحبها حبًّا لا عهد له به من قبل، ولكنه يعلم حق العلم أنها لن تصدقه؛ لأنه جنى جنايات واقترف آثامًا ليس من شأنها أنْ تحمل الناس على تصديقه إذا ذكر الحب وما إلى الحب من أخلاق الرجل ذو الطبع الكريم، أليس قد استفاد من حب هذه المرأة إياه، فتحدث إليها في فقره وبؤسه، وذلك شيء لا يتحدث فيه العاشقون إلى عشيقاتهم! ثم هو لم يكتف بذلك، أليس قد طلب إليها شيئًا من المال! أليس قد أخذ خاتمها ليرتهنه في سبيل المال! أليس قد كتب إليها يقترض منها المال! ثم أليس قد اقترض باسمها مقدارًا ضخمًا! ثم أليس متهمًا الآن بالاحتيال، ويوشك أنْ يقف بين يدي القضاء! وإذا كان قد تلوث بكل هذه المخزيات، فكيف يستطيع أنْ يذكر الحب أو يتحدث فيه! ومع ذلك فقد أحب مخلصًا وما زال يحب مخلصًا، وهو ليس محتالًا ولا محترفًا هذه الصناعة، وإنما هي الحياة وظروفها، تضطر أشد الناس طهارة وأعظمهم من الشرف حظًّا إلى أنْ ينحط من منزلته، ويدنس نفسه قليلًا قليلًا حتى يزول الفرق بينه وبين الذين اتخذوا الاحتيال مهنة، وعاشوا من اقتراف الآثام والدنيات!

نعم! أحب هذه المرأة وهو يحبها، ولم يأتِ ليتحدث إليها في الحب، وإنما أتى لينقذها من خطر يتعرض له شرفها، فقد يقبض عليه من وقت إلى وقت، وقد يوقف أمام القضاء، وعنده كتب من هذه المرأة وعنده صورتها وعنده هدية منها، وهو يريد أنْ يرد إليها هذا كله، وأنْ يرده إليها يدًا بيد، وأنْ يعتذر لها كما يستطيع الإنسان أنْ يعتذر عما جنى عليها من إثم، وقد دفع إليها الكتب والصورة والهدية إلا كتابًا واحدًا هو أول كتبها إليه، فهو يريد أنْ يدفعه إليها، ولكنه يريد أنْ يقرأه للمرة الأخيرة، فهو لم يقرأ في حياته كتاب حب كهذا الكتاب، وربما كان رد هذا الكتاب إلى صاحبته أعظم ضحية ضحى بها في حياته، وهو يقرأ الكتاب ثم يرده، ويسألها أتصدقه الآن! فتجيبه مضطربة أنها تكاد تصدقه، ثم يريد أنْ ينصرف فيسألها: أما تزالين تمقتينني؟ فتجيبه: بل أنا أرثي لك. ثم يودعها فتبسط يدها له حتى إذا دنا منها مغتبطًا يريد أنْ يقبل هذه اليد المبسوطة، بدا لشارلوت فقبضت يدها، وانصرف الرجل كئيبًا محزونًا على ألا يراها بعد اليوم، وعاد صديقها الذي ذهب إلى وكيل النيابة ينبئها أنَّ الأمر قد تم على ما أراد، فسيقبض على المحتال مساء اليوم، وقد أخذ وكيل النيابة الكتب ووعد باحترام السر، فلا تكاد تسمع هذا حتى يجن جنونها، وكانت قد نسيت هذا كله، وهي الآن لا تريد شرًّا بهذا الرجل، وإنما تشعر بأنها مدينة له، أليس قد رد إليها كتبها وشرفها ففيم القبض عليه؟ وهو معرض للسجن وللقضاء، ولكن من جهة أخرى غير جهتها، فلتسرع إلى وكيل النيابة ترجو منه ألا يعرض لهذا الرجل بالأذى، وهي تسرع فتتخذ معطفها وقلنسوتها، وصاحبها حائر مبهوت لا يسمع إلا هذه الجملة، لقد انتهى كل شيء! لقد انتهى كل شيء!

فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى حين على هذه الحوادث، ونحن في بيت «شارلوت»، وهي تتحدث إلى «باريزو» ذلك الموظف في المحكمة، وقد فهمنا من حديثهما أنَّ صاحبنا المقبوض عليه وهو متهم بالاحتيال والتزوير، اتهمه بذلك الصائغ، وهو بين اثنتين: إما أنْ تذهب «شارلوت» فتؤدي شهادة دعيت إليها، وإذن فالرجل مبرأ، وإما ألا تذهب وإذن فالرجل مقضي عليه، وهي مترددة بين الوفاء لهذا الرجل الذي وفى لها وبين الإشفاق على شرفها، فهي تخشى أنْ تذهب لتأدية الشهادة في باريس أنْ يُعْرف أمرها ويُذْكَر اسمها، وإذن فهي النازلة، وقد جهل زوجها وأبناها كل شيء؛ وهي تخشى أنْ يعلموا، هي مترددة، ولكنها مع ذلك أميل إلى تأدية الشهادة، فقد وعدها وكيل النيابة بأن شهادتها ستكون سرية، قد كتب في ذلك إلى باريس وقُبِلَ طلبه، فهي تستطيع أنْ تشهد آمنة وستشهد، فقد احتالت حتى أرسلت إليها صديقة من باريس رسالة برقية تنبئها فيها بأن أمها مريضة، وإذن فهي مضطرة إلى السفر إلى باريس، وقد أنبأت بذلك زوجها وأسرتها، وستسافر بعد حين، وقد استقر رأيها على ذلك، فتحدثت به إلى وكيل النيابة بالتليفون، ولم تكد تفرغ من حديثها حتى يقبل زوجها، فيتحدث إليها في أمر هذا السفر قليلًا، ثم تتركه مع «باريزو» لتتم استعدادها للسفر، فلا يكاد يخلو الزوج إلى «باريزو» حتى يظهر عليه غضب شديد، فهو يسأل «باريزو» عن معنى هذه الزيارة، ومهما يتكلف «باريزو» من المعاذير فهو لا يصدقه، وهو يعلم أنَّ في الأمر سرًّا، وهو يريد أنْ يعرف هذا السر، وقد أحس هذا منذ أيام، وبحث حتى علم أنَّ شيئًا غريبًا يدبر من حوله، فزوجه كاذبة فيما تنتحل من العذر لسفرها إلى باريس، فليست أمها مريضة، وليست أمها في باريس، وإذن فلا بد من أنْ يعرف هذا السر، وهو يتهم زوجه بالخيانة، ويتهم «باريزو» بالتوسط بينها وبين من تحب، وما يزال بهذا الرجل ينذره ويوعده حتى يضطره إلى أنْ ينبئه بالحق بعد أنْ أقسم ليحتفظن بالسر، وقد قص عليه «باريزو» كل شيء، فإذا الزوج مجنون أو أكثر من المجنون.

يجب أنْ تذكر ما قلت لك في الفصل الأول عن أخلاق أهل الجنوب من الفرنسيين، فقد بلغت هذه الأخلاق عند هذا الرجل طورها الأقصى في هذه اللحظة، فلم يمتقع وجهه، ولم تظهر عليه آثار الغضب، وإنما اضطرب دمه وغلا حتى يكاد يخرج من عينيه وإذا هو كله متحجر، وإذا لسانه منطلق بأشنع الألفاظ، وإذا صوته قد بلغ أقصى ما يمكن أنْ يبلغ من ارتفاع، وإذا هو يريد أنْ يبطش بمخبره، وإذا هو يريد أنْ يحنث في يمينه، ويقسم ليجمعن أهل البيت جميعًا وفيهم الخدم وفيهم أمه وابناه ثم ليطردن الشقية أمام هؤلاء الناس جميعًا، وقد أسرع إلى الأبواب ففتحها، وأسرع إلى مخبره فدفعه دفعًا، وأخذ يصيح بأعلى صوته يمينًا وشمالًا: «إليَّ إليَّ! تعالوا جميعًا!» فيقبل أهل البيت كافة مذعورين يخشون حدثًا عظيمًا، أيقبلون ويستنبئون فلا يجيبهم، وإنما يدعو، ويدعو وينادي امرأته، فتقبل متباطئة وكأنها قد أحست شيئًا، فإذا نظرت إلى زوجها من أعلى السلم ورأت صورته الغريبة وشكله الجنوني استيقنت أنه قد عرف كل شيء، فانحلت قواها وأصابها يأس ليس بعده يأس، قد قتل نفسها وظهرت آثار ذلك على وجهها، فهي جثة تمشي، وزوجها ينظر إليها فلا يزيده ذلك إلا اضطرابًا وثورة، ثم يهم بالكلام وإذا لسانه يتردد في فيه دون أنْ ينطق، ثم إذا هو مضطرب كله من أسفله إلى أعلاه، فقد أخذت ذراعاه تهتزان في الفضاء اهتزازًا متصلًا، ثم انطلق لسانه بهذه الكلمات يقولها مشيرًا إلى ابنه: «الأمر أنَّ هذا الغلام قد أساء السيرة في المدرسة حتى اضطر ناظرها إلى طرده.»

قال ذلك ثم هدأ، أما ابنه فلم يهدأ وإنما يجهش بالبكاء، بالبكاء لأنه مظلوم، فلم يسئ سيرة، ولم يطرد من المدرسة، ولكن أباه يغلظ له في القول، ويأمر به فيقاد إلى غرفته، ثم يصرف الخدم دهشين، ويرجو أمه أنْ تذهب فتهون على الغلام، وقد هدأ روع امرأته قليلًا، فأخذت تهدئ زوجها، وتنكر عليه اضطرابه لأمر يسير كهذا، وأخذ هو يتعلل ويعتذر بأن القسوة لازمة لتربية هذا الطفل، ثم يذكر سفر امرأته ويلفتها إلى أنَّ موعد القطار قد آن، وتحاول أنْ تبقى لتتخذ قطارًا آخر، ولكنه يأبى وكأنه يدفعها إلى السفر دفعًا، فإذا انصرفت أقبلت أمه تلومه على العنف في غير موضع للعنف، فانظر إلى هذا الرجل القوي العنيف قد ضعف ورقَّ، حتى كأنه طفل في الثانية عشرة قد ألقى بنفسه بين ذراعي أمه وهو يبكي بكاءً شديدًا.

•••

فإذا كان الفصل الرابع فقد مضى يومان على ما ذكرت لك، ونحن في بيت شارلوت وزوجها يستقبل مبتسمًا مبتهجًا أطفال القرية وقد أحيا لهم عيدًا، فهم فرحون وهو يتكلف الفرح، وأمه كذلك والناس من حوله يسألونه عن «شارلوت»، فينبئهم أنها ستصل بعد حين، وقد ذهبت العربة إلى المحطة لتنتظرها، ثم يخلو إلى أمه حينًا فيتحدثان فإذا هو قد فكر وروَّى، وإذا هو قد اقتنع بأن الخير إنما هو في أنْ يظل محتفظًا بسره كأنه قد جهل كل شيء، أما أمه فلا ترى هذا الرأي، وإنما ترى طرد البائسة الشقية، ولكنه يهون عليها ويترضاها، ويذكر أنه في أيام شبابه رأى فتاة بائسة أغواها شاب مفسد ثم تركها، وأنه رق لهذه الفتاة، وأخذ يعزيها، ثم تجاوز العزاء إلى شيء آخر، ثم اجتهد حتى وجد لهذه الفتاة زوجًا، ثم مضى على زواجها سبعة أشهر ورزقت غلامًا، فمن يدري لمن هذا الغلام! وبينما هو يحدث أمه هذا الحديث إذ هي مبتهجة أول الأمر، وأي شيء في هذا؟ أليس يدل على أنَّ ابنها كان جميلًا بارعًا يستطيع أنْ يغري النساء وأنْ يخلبهن، وكيف لا تبتهج أُمٌّ لشيء كهذا؟! فإذا وصل إلى أمر الغلام والشك فيه انتهرته أمه انتهارًا، أليس يسرف في الشك والتحرج؟!

ولكن هذه المرأة البائسة في البيت الآن ومعها طفلها، وقد دعاها الرجل فأقبلت ومعها الغلام في السادسة من عمره، وأخذت العجوز تحدق في الطفل، وكأنها قد رأت فيه ملامح ابنها، فانصرفت مغضبة مسرورة تهمهم، وخلا الرجل إلى صاحبته القديمة، فيكون بينهما حديث مؤلم ولكنه بريء لذيذ، ثم يسمع ضجة وينبئه منبئ أنَّ المدير قد أقبل يزوره، فإذا دخل المدير فهمنا من حديثهما أنَّ الناس قد عرفوا ما كان من أمر امرأته، وأشارت إليه صحف المدينة، وأنَّ الأمر قد أصبح خطرًا فقد ينتج إخفاق صاحبنا في الانتخاب، وقد أقبل المدير يطلب إلى هذا الرجل أنْ يجتهد في إصلاح هذا الأمر، فهو مرشح لمجلس الشيوخ، وهو مرشح من قبل الحزب الجمهوري الذي في يده الحكم، وقد أوصى الوزير بمساعدته، ووعد المدير وعدًا حسنًا إنْ أفلح، ولكن خصومه الملكيين أقوياء، وهم ينتهزون هذه الفضيحة، فالسبيل هو أنْ يبرئ امرأته أو يطردها، ولكن الزوج قد غضب لهذا الحديث، فهو لا يريد أنْ تتدخل السياسة ولا الانتخابات في حياته الخاصة إلى هذا الحد، وهو يجيب المدير جوابًا عنيفًا، ويعلن إليه أنه منسحب من الانتخابات، مستقيل من منصب العمدة ومن مجلس الإقليم.

ثم تقبل امرأته فيتلقاها ابناها لقاءً حسنًا، ويتكلف زوجها وأمه هذا اللقاء، ولكنهما لا يفلحان، ولا تكاد المرأة تخلو إلى زوجها حتى تتبين أنه علم كل شيء، وأنه يحاول إخفاء الأمر فلا يفلح، وإذن فهي خائنة بين يديه تعترف وتطلب أنْ يقتلها، وهي جزعة قد بلغ الجزع منها أقصاه، ولا سيما وهي متعبة، قد أمضت ليالي ثلاثًا لم تنم، فهي لا تستطيع شيئًا، ولا تحتمل شيئًا، وقد ألقت بنفسها على الوسائد تبكي وتنتحب، وأخذ زوجها يتحدث إليها في عنف ولوم شديدين، ثم أخذ صوته يرق شيئًا فشيئًا، ويذكر ما كان من أمر المدير، وما كان من استقالته وعدوله عن الانتخاب، ويذكر أنه لا يستطيع الآن أنْ يعفو، ولكنه أحبها حبًّا شديدًا، فسيهجرها حتى تسمح الأيام بالعفو والنسيان، ويتحدث إليها بذلك كله في صوت رقيق فيه شيء من الضعف والإشفاق والرحمة، ولكنه ينظر إليها فإذا هي مغرقة في النوم كأن هذا الحديث قد هدأ من لوعتها شيئًا، وغلبها الإعياء فنامت.

وتبين هو ذلك فأخذه غضب شديد، فهو يهجم عليها يريد أنْ يحطمها، ولكن ذراعه تسقط وتمر على وجهه ابتسامة مرة.

«بينما أنا أحلق في الملأ الأعلى أذكر العفو إذا هي نائمة، كذلك تجيب الحياة»، ويدخل الطفلان مبتهجين يدعوان أمهما، يريدان أنْ يشكرا لها ما حملت إليهما من باريس، فيشير إليهما بالصمت أنَّ أمكما نائمة فدعاها تنم.

مارس سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤