الحبيب

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «جاك ديفال»

كتب إليَّ أديب من طلاب مدرسة الحقوق الفرنسية لا أسميه؛ لأني لا أدري أيحب أنْ يُسمى أم لا، كتب إليَّ هذا الأديب كتابًا رقيقًا، اضطره فيه حسن ظنه بي إلى ثناء كثير أشكره له شكرًا خالصًا، ولكنه لم يكتب ليثني عليَّ، وإنما كتب إليَّ عاتبًا، وأكاد أنْ أقول: إنه كتب إليَّ لائمًا؛ لأني أهملت قصة «الحبيب» هذه، فلم أشر إليها مع أنها خليقة بالدرس والتحليل، وهو يسألني لم أهملتها؟ ولست أدري لم أهملتها؟ فقد قرأتها فراقتني، وقدرت أني أستطيع أنْ أكتب عنها صفحة من هذه الصفحات التي تنشرها «السياسة» أيام الأحد، وما أحسب أني تعمدت إهمالها، وإنما أعلم أني شغلت عن أن أحدث قرائي في يوم من هذه الأيام، فلما كان يوم الأحد الماضي كنت قد قرأت قصة «الإغراء بالرحيل»، فكتبت عنها لأنها أعجبتني، ونبهني الكاتب الأديب إلى قصة الحبيب فسأتخذها موضوعًا لحديث اليوم، ويسرني أنْ أرضيه، وأنْ أرضي أصحابه الذين يشاركونه في الإلحاح عليَّ في أنْ أتخذها موضوعًا لهذا الحديث، ويسرني أنْ أرضيهم، وأنا في الوقت نفسه أرضي ميولي الخاصة حين ألخص هذه القصة، فأنا عنها راضٍ وإليها مطمئن، وربما قلت إني بها معجب، وإنْ كان فيها موضوع لا يعجبني، وسأدلك عليه.

لاحظ هذا الكاتب الأديب أنَّ قصة «الإغراء بالرحيل»، إذا كانت تذكر بقصة «الحب» فإن هذه القصة التي نحن بإزائها اليوم تذكر بقصة أخرى تناولتها في هذا المكان بالنقد والتحليل، وهي قصة «المتجردة» «لهنري بتايل»، وفي الحق أنَّ في قصة الحبيب شيئًا يذكر بقصة المتجردة، فالبطل في قصة الحبيب مصور نابغ في التصوير، والبطلة في قصة الحبيب ساذجة مخلصة بعيدة كل البعد عن هذا التعقيد النفسيِّ، الذي يصيب الذين تأثروا بالحياة وبلوا حلوها ومرها! واستفادوا من دروسها القاسية، وهي تشبه من وجه ما بطلة المتجردة في سذاجتها وسلامة قلبها، والبطل في قصة الحبيب يحب امرأة غير زوجه، كما يصنع البطل في قصة المتجردة، ولكن أيكفي هذا لتصح الموازنة بين هاتين القصتين؟ أيكفي هذا ليكون التشابه بين هاتين القصتين قويًّا أخاذًا؟ أعترف بأني قرأت قصة الحبيب معنيًّا بها محققًا في قراءتها فلم أذكر المتجردة، ولم تخطر لي على بالٍ، وما كنت لأذكرها لولا أن لفتني إليها هذا الكاتب الأديب؛ ذلك لأن الفرق بين القصتين عظيم؛ لأن الكاتبين الذين كتبا هاتين القصتين لم يفكرا في شيء بعينه، ولم يقصدا إلى غاية مشتركة ولا متشابهة، وأحسب أنَّ كلًّا منهما أراد أنْ يصور شيئًا لم يفكر فيه الآخر قط، وكان صاحب قصة الحبيب يستطيع أنْ يختار بطله مصورًا، ويستطيع أنْ يختاره مَثَّالًا كما كان يستطيع أنْ يختاره من طبقة أخرى غير هاتين الطبقتين، هو لم يرد أنْ يدرس أخلاق المصورين والمثالين، ولا أنْ يعطي صورة من حياة أولئك أو هؤلاء، وإنما أراد أنْ يدرس شيئًا آخر، أراد أنْ يدرس فكرة فلسفية أو — بعبارة أدق — أراد أنْ يدرس ظاهرة نفسية، فاختار موضوعه وبيئته كما أراد، لا أقول بحكم المصادفة وإنما أقول: إنه تخير من الموضوعات والبيئات أشدها ملاءمة للظاهرة التي يريد أنْ يدرسها ويتحدث فيها إلى الناس، وما هذه الظاهرة النفسية التي لاحظها الكاتب وعني بتمثيلها، وهل هي صحيحة؟ وهل هي عامة طبيعية؟ أما أنها صحيحة فشيء لا شك فيه، وأما أنها عامة مضطردة فذلك ما لا أستطيع الجزم به.

الأمر يسير، هو أنَّ الكاتب يزعم لنا أنَّ حربًا عنيفة قد تنشب بين القلب والذاكرة، وأنَّ الذاكرة تستأثر بعواطف الرجل وأهوائه وتملك عليه رأيه وحياته العملية، حتى تنسيه كل شيء، وتصرفه عن كل شيء لتشغله بالموضوع الذي هي معنية به، وأنَّ النصر في هذه الحرب مقدر للذاكرة إذا لم تعرض ظروف خاصة تنبه العقل والإرادة من نومهما! وتبين لهما أنَّ انتصار الذاكرة هذا إنما هو خطأ لا يعدله خطأ وخطر ليس فوقه خطر، ولست أشك في أنَّ الذاكرة شديدة التأثير في حياتنا الخاصة والعامة، وربما كانت أشد ملكاتنا النفسية تأثيرًا في الحياة، فهي التي تمثل الماضي، وهي من هذه الجهة مرآة لهذا القسم من حياتنا الذي هو كل شيء، وفي الحق أنَّ الماضي هو كل شيء في الحياة، أما المستقبل فنحن نجهله الجهل كله، وأما الحاضر فأي شيء هو؟ أليس أوله متصلًا بالماضي في حين آخره متصل بالمستقبل؟ الذاكرة إذن مرآة الحياة، ومن المعقول أنْ يكون لها في حياتنا المستقبلة تأثير عظيم جدًّا، فليست حياتنا المستقبلة إلا نتيجة في حقيقة الأمر لحياتنا الماضية، ولكنني مع ذلك أشك في أنْ يكون تأثير الذاكرة وسيطرتها على حياتنا من القوة ومن العموم والاطراد بحيث أراد الكاتب، فإذا كان المستقبل نتيجة الماضي، فنحن نخطئ كل الخطأ إنْ زعمنا أنا نعرف ماضينا حقًّا، ونذكر مع التفصيل كل ما وقع فيه، ولعلنا لا نذكر منه إلا القليل، ولعل أشدَّ الأشياء تأثيرًا في حياتنا المستقبلة هي هذه المؤثرات الخفية، التي تسيطر على عواطفنا وأهوائنا، وتدبر قوانا وملكاتنا دون أنْ نحسها أو نشعر بها، بل دون أنْ نفرض لها وجودًا، ذلك أنا لا نشعر من أنفسنا إلا بالشيء القليل جدًّا، وأنا نجهل منها أكثر مما نعلم، ولو أننا علمنا من أنفسنا كل شيء لما كنا كما نحن الآن، ولو أننا شعرنا من أنفسنا بكل شيء لانصرفنا إلى أنفسنا عما يحيط بنا من الحقائق والحوادث، ولكن العالم الخارجي يشغلنا جدًّا عن أنفسنا، فنحن نعلم من غيرنا أكثر مما نعلم من أنفسنا، وحسبك أنَّ أشد العلوم تأخرًا إلى الآن إنما هو علم النفس، إذن فمن الخطأ أنْ نغلو في تقدير الذاكرة وتأثيرها في الحياة، وإذا بلغ تأثير الذاكرة في الحياة إلى هذا الحد الذي مثله الكاتب فليس من الحق ولا من الصواب في شيء أنْ نتخذ ذلك مثالًا لما يجري في الحياة اليومية، وإنما الحقُّ والصواب أنْ نتخذه مثالًا لهذه الأعراض المرضية، التي تعرض لبعض الأفراد من حين إلى حين.

بطل قصة «الحبيب» إذن مريض، وهو لا يمثل عامة معاصريه ولا الكثرة منهم، وإنما يمثل هؤلاء الأفراد القليلين الذين يعنى بهم أطباء الأعصاب، أكثر مما يعنى بهم علماء الأخلاق والاجتماع، ولكنني أظن أنَّ الوقت قد آن لأحدثك عن هذا البطل وعن قصته، ولأترك لك وحدك الحكم بأني مخطئ في هذا الفهم أو مصيب، أما ما في القصة نفسها من عيب فنِّيٍّ، فأنا أرجو أنْ يمكنك التحليل من أنْ تشعر به دون أنْ أدلك عليه.

•••

«جان أرجديو» مَثَّال نبغ في نحت التماثيل، ونال الوسام، وأصبح نابغة معروفًا يُشار إليه ويُعتدُّ به، ولكنه قبل أنْ يصل إلى ما وصل إليه كان كغيره من إخوانه في هذا الفن مضطربًا مختلط الحياة شاكًّا في نفسه، فقيرًا ضعيف الأمل، فلقي في طريقه امرأة جميلة فنانة قوية عظيمة التأثير، هي «أليس فليزا» أحبها وأحبته، وعاشا معًا أربعة أعوام، وكان لهذه المرأة في هذا الشاب تأثير عظيم جدًّا؛ فقد نظمت حياته بعد اضطراب، وأوضحتها بعد غموض، وحملته على العمل والجد بعد الإسراف في الكسل والخمول، وما زالت به حتى كأنها غيرته تغييرًا تامًّا، ومهما يكن من شيء فقد انتهى إلى الفوز، وأصبح نابغة من نوابغ الفن.

أما هي فقد أصبحت ذات يوم تتفقد خليلها فلا تراه، وتبحث عنه فلا تظفر به، ولم يكن من اليسير أنْ تظفر به فقد فر من باريس فرارًا، حتى وصل إلى فرنسا الوسطى، وهناك لقي صديقًا له، ولقي عند هذا الصديق فتاة من ذوي قرابته هي «ڨيڨيت» في التاسعة عشرة من عمرها، وهي زهرة نضرة كلها شباب وحياة، وكلها طهارة وبراءة، وكلها سذاجة وطيب قلب، أحبها فأحبته، فخطبها وقبلته وتزوجها بعد ثلاثة أسابيع، وعاد بها إلى باريس، ولكنه لم يسكن باريس، وإنما سكن ضاحية من ضواحيها هي «شاڨيل»، وقد استأجر بيتًا متصلًا بمصنع ضخم، يشرف عليه صديق له هو «ميشيل كريفو»، وهذا الصديق رجل ضخم الثروة، قويُّ النفس، مستقيم الخلق، كان عاملًا معدمًا، فجد حتى أصبح غنيًّا ميسورًا.

•••

فإذا كان الفصل الأول، فقد مضت على هذا الزواج أشهر ثمانية، وتغير في أثنائها هذا الشاب المَثَّال، فأخذ يفكر في الماضي ويتأثر بالتفكير فيه، وهو يحب زوجه حبًّا شديدًا، ولكنه عن زوجه مشغول، مشغول بتلك التي أحبها وفر منها قبل الزواج، وهو لا يحدثنا بذلك، ولكننا نفهمه من سياق القصة، نرى هذا الشاب في أول الفصل، وقد خرج من غرفته إلى معمله، وأخذ يستعد للعمل، ولكنه سمع في الحديقة صوت زوجه تدعو الخادم إلى أنْ تحمل إليه القهوة، فلم يكد يسمع هذا الصوت حتى أظهر تبرمًا ومللًا، وكتب في ورقة هذه الكلمة «سأعود»، ثم ألصق الورقة إلى الحائط وخرج مسرعًا، تقبل زوجه والخادم، أما الزوج فتحمل أزهارًا، وأما الخادم فتحمل القهوة أو الشاي، فإذا لم تجد زوجها ظهر عليها الأسف وخيبة الأمل، وكان بينها وبين الخادم حديث فهمنا منه أشياء، الأول أنها تحب زوجها حبًّا لا حد له، وتثق به ثقة لا يعرف الشك إليها سبيلًا، والثاني أنَّ هذا الزوج غريب الأطوار، فهو إذا أراد العمل اعتزل الناس جميعًا حتى زوجه، وهو قد اتخذ لنفسه غرفة خاصة بجوار المعمل ينام فيها، وليس لأحد أنْ يدخلها حتى زوجه، الثالث أنَّ زوجه تصدق هذا كله وتذعن له، فلا تدخل الغرفة ولا تغير من أمر المعمل شيئًا؛ لأنها تخاف أنْ تغضبه، وهي حريصة على الطاعة، والرابع أنَّ هذا الرجل يرى زوجه حديثة السن شديدة السذاجة، وكأنه يكره ذلك، فهي تتكلف أنْ تكون كبيرة، وأنْ تكون ماهرة ماكرة، حتى لا تظهر مظهر الطفلة، الخامس أنه يعمل في هذه الأيام، وأنَّ عمله منصرف إلى أنْ يصنع تمثالًا نصفيًا لامرأته، ولكن امرأته ترى هذا العمل دون أنْ تستطيع أنْ تنظر إليه ما لم يكن زوجها حاضرًا، كل هذا يمثل لك حياة هذين الزوجين، ويحملك على أنْ تفهم من الرجل أكثر مما تفهم منه امرأته، فإذا عاد الزوج وكانت امرأته قد خرجت من المعمل نظر فإذا الشاي، ونظر فإذا الأزهار منثورة في كل مكان، فيميل إلى هذه الأزهار، فإذا ورد جميل، لا يكاد ينظر إليه حتى يغضب غضبًا شديدًا، فيدعو زوجه، فتقبل مسرعة وهي فرحة مبتهجة، ولكنه يلقاها باللوم، أليست قد أساءت حين حملت إليه هذه الأزهار كلها؛ لأن هذه الأزهار إنما هي التي غرسها البستاني أمس، فهي لحمقها قد أفسدت عمل البستاني، وهي تسمع لهذا محزونة كئيبة معتذرة، ولكنها قد أساءت إساءة أخرى، فتركت مظلتها أمس في المعمل، وقد عثر بها زوجها فكاد يسقط، وهي تعتذر، ولكن زوجها يحبها، ولا يكاد يراها كئيبة محزونة تمثل الطفل في كآبتها وحزنها حتى يرق قلبه، فيضمها إليه يريد أنْ يقبلها، ولكنه قد شم منها رائحة أنكرها، فيسأل فإذا هي كانت تعد «الفاصوليا» لطعام الغداء، فيغضب غضبًا شديدًا! لديها خادم، ولديها طباخة، فما لها وللفاصوليا!

– ولكنك لم تنهني عنها، وإنما نهيتني عن تنظيف السمك فأطعت!

يعجبه منها كل هذه السذاجة، فيبسم لها ويقبلها ويمسكها في المعمل يريد أنْ تجلس لينظر إليها، ويمضي في تمثاله وهي بذلك سعيدة جدًّا، ولا يكاد يأخذ في العمل حتى يحس أنَّ أحدًا مقبل، فينظر فإذا امرأة مقبلة، يتلقاها لقاءً حسنًا، وقد استخفت «ڨيڨيت» هذه المرأة المقبلة هي «نيكول بشلان» امرأة جميلة غنية كانت تكره زوجها وقد فقدته، وهي سعيدة بهذا الفقد، ولكنها لبست الحداد عملًا بالأوضاع الاجتماعية، وقد أوشكت أيام الحداد أنْ تنتهي، وهي قد أقبلت تدعو «جان» إلى العشاء عندها بعد أيام، وأقبلت أيضًا تسأل عن عربة لها في مصنع «ميشيل كريفو» الجار الذي وصفته لك آنفًا، ولكن هذه المرأة لا تتحدث في هذه الأشياء وحدها، وإنما تتحدث في أشياء أخرى، تذكر «أليس فليزا» عشيقة «جان»، وما كان من أمرها بعد القطيعة، وأنها مرضت مرضًا أشرف بها على الموت، وقد أخذت تُبِلُّ من هذا المرض، وهي معتزمة السياحة، وهي تمضي في هذا الحديث مفتنة فيه، وصاحبنا يسمع لها كارهًا متألمًا مغتاظًا، ثم يتركها ليمضي في شأن من الشئون، وقد دعا امرأته لتقوم مقامه، فتقبل «ڨيڨيت»، ولا تكاد تتحدث إلى هذه الزائرة حتى تفهم من حديثها أنها سيدة مغتبطة واثقة، وتحاول الزائرة أنْ تفتح عنها، وأنْ تدلها على ماضي زوجها، فلا تظفر منها بشيء، وهما كذلك إذ يدخل «ميشيل كريفو»، فيتحدثون في أمور كثيرة لا قيمة لها، ولكن هذا الرجل تعوَّد أنْ يأتي إلى هذا البيت كل صباح، فيدخن ويشرب كأسًا من نبيذ بوردو ثم ينصرف، وقد ذهبت «ڨيڨيت» لتحمل إليه نبيذه، فخلا إلى هذه المرأة، وكان بينهما حديث لذيذ، فهمنا منه أنه يخطبها وأنها قابلة، ولكنها مترددة؛ لأنها تحب الرجل ولكنها تكره الزواج، وهي تكره الزواج وتزدري العشق، وإذن فهي تريد أنْ تظل أرملة، وهي تعتقد أنَّ الزواج مصدر شقاء لا مصدر سعادة، وتتحدى صاحبها، وتسأله أنْ يذكر لها زوجين سعيدين، فإذا ذكر لها صاحبَيْ هذا البيت شكَّت في سعادتهما، واتهمت صاحبها بالغفلة، وقد أقبلت «ڨيڨيت» ومعها النبيذ، ومال صاحبها إلى نبيذه يشربه، وأقبل «جان» وأخذ «ميشيل» و«نيكول» يستعدان للانصراف، وأمسك جان امرأته ليمضي في عمله، ولكن الخادم أقبلت فطلبت الإذن لرجل أقبل زائرًا، فيغضب جان ويشير على امرأته أنْ ترافق ميشيل ونيكول ريثما يستقبل هو هذا الزائر.

ويستقبل هذا الزائر، فإذا هو رجل يعمل في مكتب من مكاتب المراقبة المعروفة في باريس وغيرها من المدن الكبرى، وإذا جان كان قد طلب إلى صاحب هذا المكتب أنْ يراقب خليلته القديمة «أليس» وينبئه بأخبارها كل يوم؛ ذلك أنه عرف مرضها ولا يستطيع أنْ يتعرف أنباءها، فقد اعتمد على هذا المكتب في ذلك، وكلف المكتب هذا العمل، وأخذ الرجل يختلف إلى بيتها، ويتعرف أنباءها من خادم لها، ولكن الخادم دلت سيدتها عليه، فبينما هو ينتظر الخادم ذات يوم أقبلت فأنبأته أنها بخير، وأنها نهضت من سريرها، وأنَّ الطبيب يشير عليها برياضات قصيرة في العربة، وقد أخطأ الرجل لأنه دل على نفسه، فأقبل معتذرًا إلى جان، يضرع إليه في ألا ينبئ بهذا الخطأ رئيس المكتب، وأكبر ظنه أنَّ «أليس» هذه تريد أنْ تزور «جان» في بيته، ولكن جان مغضب لخطأ هذا الرجل فيصرفه، ويأخذ في التحدث إلى نحَّاته في أمر من أمور عمله، وما هي إلا أنْ يعود هذا الرجل فينبئ «جان» بأنه رأى «أليس» مقبلة، وقد أقبلت «أليس» بالفعل، فيتلقاها «جان» مضطربًا ذاهلًا، حتى لينسى أنْ يقدم إليها كرسيًّا، فإذا خلا أحدهما إلى الآخر كان موقف هو خير ما في هذا الفصل؛ لأنه يمثل حدة العواطف وقوتها في نفس هذه المرأة المهجورة العاشقة التي تريد أنْ تنتقم لحبها وأنْ تسترد حبيبها، والتي هي واثقة بأن حبيبها لم ينسَها بعد، وبأنه ما زال لها عاشقًا وبها مشغوفًا، وإلا ففيم سؤاله عنها وهي مريضة؟ وهي تريد أنْ تستغل هذا، وتسترد مكانتها كاملة في نفس هذا الشاب.

أما الشاب فمضطرب أشد الاضطراب، هو يحب هذه المرأة، وهو يحب زوجه، وهو يؤثر زوجه على هذه المرأة، وهو يريد أنْ يخفي حبه لعشيقته حتى على نفسه، فهو ينكر هذا الحب ويلح في الإنكار، ولكن إنكاره لا يدل إلا على أنه يحب وعلى أنه يحب جدًّا، يقول لصاحبته: لا أحبك وما أحببتك قط، فتجيب ساخرة، سعيدة راجية: وستحبني طوال الدهر، ثم تعلن إليه أنها قد دبرت كل شيء لتفر بحبهما، ولتخلصه من هذا المأزق، أمَا كانا قد تحدثا قديمًا عن سياحة بعيدة يسيحانها معًا، فهي قد دبرت هذه السياحة، وسيسافران يوم الجمعة، فإذا أظهر المقاومة أعلنت إليه أنها ستنتظره، فإذا لم يأتِ فهي قاتلة نفسها، وقد مضت وتركته ذاهلًا، ذاهلًا حتى إنه ليختلط حين يسأله نحَّاته عما يعمل، وقد أقبل «ميشيل» سعيدًا مغتبطًا؛ لأن صاحبته قد رضيته لها زوجًا، ولكنه ينظر فإذا جان كئيب، فإذا سأله عن ذلك قص عليه أمره وأنبأه بأنه مجرم لا يحب امرأته، وإنما يحب عشيقته، وهو إنما تزوج ليخلص من هذه العشيقة، فهو قد اتخذ امرأته دريئة، وهو لا يستطيع أنْ يمضي في هذا الكذب والنفاق، وهو يلح في ذلك وصاحبه يهدئه ويعظه، وإذا «ڨيڨيت» تقبل فرحة مبتهجة ساذجة، تريد أنْ تلقي بنفسها بين ذراعي زوجها، وتتأهب لذلك فتعدُّ: واحد، اثنان، وإذا زوجها قد نسي كل شيء ورق لها، وإذا هو قد بسط ذراعيه وإذا هو يقول ثلاثة، ثم يضمها إليه.

•••

فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في ذلك اليوم الموقوت يوم الجمعة، وقد أخذ الشاب يتردد بين الضاحية وبين المدينة، وهو يخيل إلى امرأته أنه مشغول بعمل تطلبه إليه وزارة الفنون الجميلة، وصدقته امرأته ووثقت به، حتى إنَّ الخادم والنحَّات يسخران منها، ونحن في الساعة الثالثة بعد الظهر، وقد خرج الشاب صباحًا فلم بعد، وانتظرته زوجه إلى الساعة الثانية، ثم تغدت وحدها، والخادم الآن تحمل القهوة، وتحمل قدحين؛ لأن ڨيڨيت تنتظر زوجها، وتعلل نفسها بتناول القهوة معه، وقد أقبلت وإذا جرس التليفون يدق، فتعمد إلى التليفون مبتهجة تحسب أنَّ زوجها هو الذي يتحدث، ولكن الذي يتحدث ميشيل، يسألها: أيستطيع أنْ يزورها ومعه صاحبته «نيكول»؟ فتجيبه: أن نعم! وهي تجيبه إذ يظهر زوجها، فتترك التليفون وتسرع إليه تسأله وتتبين أمره وهو محزون كاسف البال، فيخيل إليها أنه متعب وأنه لم يتغد، ولكن تغدى في باريس وهو يريد شيئًا من القهوة، ولكنها ترى أنَّ هذه القهوة الفرنسية ليست شيئًا، فتصنع له قهوته التركية، وقد انصرفت مسرعة، وظل الشاب والخادم، فيأمرها بأن تعد له حقيبته؛ لأنه قد يسافر الليلة، وينبئها بأنه ينتظر رسالة برقية، فيجب أنْ تحملها إليه حالًا، وتنظر الخادم، ثم تنصرف وتعود بسرعة ومعها سترة تحملها إلى سيدها، فإذا أنكر ذلك لفتته إلى أنَّ سترته في حاجة إلى التنظيف، فينظر فإذا آثار «البدرة» على كتفيه، فيخرج من سترته ويدخل في الأخرى وقد فهم، لم يكن إذن في وزارة الفنون الجميلة، وإنما كان عند صاحبته، وقد أقبلت زوجه تحمل إليه القهوة، فينبئها بأنه مسافر إلى مارسيليا الليلة وأنه ينتظر رسالة برقية، فإذا سألته عن مصدر هذا السفر أنبأها أنَّ الحكومة تريد أنْ تعهد إليه عملًا في المحطة الجديدة التي تنشأ في مارسيليا، ولذيذ جدًّا هذا الحديث؛ لأنه يمثل هذا التناقض الشنيع بين امرأة خفيفة الروح تثق بزوجها ثقة لا حد لها، فهي تلهو وتمزح في سذاجة واطمئنان، وهو يخدعها ويخونها ويكذب عليها ويمعن في الكذب، ويتكلف مع هذا كله أنْ يلهو ويداعب، ويقبل «ميشيل» وصاحبته، فلا يكادون يتحدثون حتى يكون الكاتب قد نظم لنا طريقة تمكن الرجلين من الخلوة، فيخلوان ويتحدثان، أما «جان» فيقص أمره على صاحبه وينبئه أنه مسافر الليلة، وليس من سبيل إلى تخليه عن هذا السفر، فهو ينكر كل شيء، ولا يعقل شيئًا ولا يرى شيئًا، ولا يفكر في شيء إلا صاحبته، قد فقد كل قواه وأصبح أداة مسخرة، ويحاول صاحبه أنْ يصرفه عن ذلك، فما أسرع ما يشعر بأنه لن يصل منه إلى شيء، وقد كتب جان كتابين يدفعهما إلى «ميشيل»، أحدهما إلى امرأته فيه اعتذار وتسلية، والآخر إلى ميشيل فيه تدبير الأمور المادية، فإذا سأله «ميشيل» وأين أكتب إليك، أجابه: لا تكتب إليَّ، فليس في ذلك فائدة، وقد عادت المرأتان، ونظم لنا الكاتب طريقة أخرى يخلو بها ميشيل إلى ڨيڨيت فيتحدثان، وإذا ڨيڨيت تحس أنَّ في الجو شيئًا لا تفهمه، وأنها تخشى هذا الشيء فينبئها به ميشيل، ويظهرها على كتاب زوجها إليها، فلا تسل عن دهشتها ولا عن ذهولها ولا عن حسرتها وبكائها، ولكن ما أسرع ما تملك نفسها، وقد أخذ صاحبها ينصح لها بالثبات والمهارة، ينصح لها أنْ تملك نفسها وأنْ تضحك، ولا تظهر من اضطرابها شيئًا، وأنْ تلح ضاحكة في مرافقة زوجها إلى مارسيليا.

– فإذا أبى؟

– فاضحكي ورافقيه.

– فإذا غضب؟

– فبالغي في الضحك ورافقيه.

وقد فهمت وقبلت وملكت نفسها، ويقبل جان، فإذا هي مبتسمة هادئة، كأنها لم تعلم بشيء، وكأنها لا تتوقع شيئًا، وتقبل الخادم تحمل الرسالة البرقية فتخطفها ڨيڨيت وتفضها وتحصي ألفاظها، وقد اشترطت على زوجها أنْ يقبلها إنْ تجاوزت الألفاظ عشرة، وقد تجاوزت الألفاظ هذا العدد، فيقبلها وكلاهما متكلف، أما هو فيتكلف الكذب والخديعة، وأما هي فتتكلف الصبر والجلد، وفي الحق أنه لم يكن أقل منها حزنًا، ولكنه عن حزنه وعن قلبه مشغول، فهو لا يفكر إلا في صاحبته، وأعلنت إليه امرأته أنها سترافقه فجزع، فضحكت وأعلنت إليه أنها سترافقه إلى باب الحديقة! ثم ينهض ليعد أمره، ويخلو إلى مكتبه حينًا وينصرف الزائران، ولا تكاد تخلو ڨيڨيت إلى نفسها حتى يدق جرس التليفون، فتعمد إليه فإذا امرأة تتكلم تسأل عن «جان»، وهل وصلت إليه الرسالة البرقية، فما أسرع ما تفهم ڨيڨيت! وما أسرع ما تجيب! كأنها الخادم، تجيب بأن سيدها يعمل كما يعمل في كل يوم، وبأن رسالة برقية لم تصل، وبأن سيدها لم يذكر السفر ولا يظهر أنه يفكر فيه، وكأن المرأة تنبئها بأنها مقبلة؛ فتجيبها «ڨيڨيت» أن أقبلي، وكأنها تتحداها؛ وقد تركت التليفون ووقفت موقف من يستعد للحرب ويتحدى خصمًا عنيدًا.

وما هي إلا أنْ تقبل «أليس»، فيكون بينهما موقف لا يقل جمالًا عن موقف «أليس» مع صاحبها في الفصل الأول، تضطرب «أليس» حين ترى «ڨيڨيت»، ثم تسرع فتملك نفسها، وتسأل عن «جان» فتجيبها «ڨيڨيت» أنه منصرف إلى عمله، وأنه أمر أنْ لا يدخل عليه أحد، وتلح «أليس»، فتنفجر الخصومة بين المرأتين، وتظهر «ڨيڨيت» قوية عنيفة، فتطرد المرأة طردًا وتزدريها ازدراءً منكرًا، وتعلن إليها أنها قد علمت كل شيء، وأنَّ زوجها ليس بالمسافر ولا بالمفكر في السفر، وتبالغ في ذلك حتى لكأنها لتسحق المرأة سحقًا، وقد انخذلت «أليس» وأخذت تنصرف، وعليها خزي وخجل، ولكنها نظرت إلى وجه صاحبتها، فإذا ابتهاج غريب قد ظهر على وجه «ڨيڨيت» حين رأتها تنصرف، فتفهم «أليس»، وتقدر أنَّ هذا الجلد وهذا العنف ليسا إلا تصنعًا وتكلفًا، فتعود وقد أخذت من القوة والانتصار بحظ عظيم، وإذا هي تهدد! وإذا هي تطالب بصاحبها، وإذا هي تعلن إلى هذه المرأة أنها لا تحب «جان»، وإنما تحبها هي، فهي التي كونت جان وما فيه من خلق وما فيه من خصلة، وهي التي جعلته كما هو ظريفًا وديعًا محببًا نابغة، وإذا هي تعلن إليها أيضًا أنَّ جان لا يحبها، وإنما يحب صاحبته القديمة، وأنَّ كل ما بذل لها من لين ورفق، وكل ما أظهر لها من حب وعشق إنما تعلمه بين ذراعيها، وأما أنت فلم تلهميه شيئًا ولم تثيري في نفسه عاطفة، إنه ليمنحك فضل حبه إياي! وإذا «ڨيڨيت» هي المنخذلة، وإذا هي تجهش بالبكاء حتى يثير في نفس «أليس» عاطفة الرحمة، فتسألها العفو ثم تعرض عليها أنْ تدعو «جان» ليختار هو بينهما، فتقبل وتنهض لتدعو زوجها، ثم يبدو لها فتعود وقد تغير في نفسها كل شيء! هي جزعة، وهي يائسة، وهي قد نزلت عن زوجها، وهي ترده إلى صاحبته، وهي تسألها أنْ تنصرف وتقسم لها لتردنه إليها في عشر دقائق، وقد انصرفت وأقبل جان مستعدًا للسفر وفي يده حقيبته وهو محزون يجاهد حزنه، وهي محزونة قد كتمت حزنها، وأظهرت الصبر والجلد والابتسام، وكأنها لا تعلم شيئًا، وكأنها تنتظر عودته بعد أيام، وهي مبتسمة وقد عدلت عن مرافقته حتى إلى باب الحديقة وكان يود لو رافقته قليلًا، ولكنها تأبى، وينصرف وقد انحنى ظهره حزنًا وأسفًا، وما كاد ينصرف حتى تجزع «ڨيڨيت» جزعًا شديدًا، وإذا هي قد أخذت قلنسوتها فوضعتها على رأسها في غير نظام، وأسرعت إلى الطريق تدعو زوجها.

•••

فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في فندق من فنادق مارسيليا، وبين يدينا فتاة تكتب على الآلة الكاتبة، وقد أقبلت فتاة أخرى تحمل أزهارًا، وتحدثت الفتاتان ثم أقبل «ميشيل»، وقد فهمنا من هذا كله أنَّ «ڨيڨيت» عندما أسرعت إلى الطريق تدعو زوجها قد مضت في سبيلها حتى وصلت إلى المحطة، حتى أخذت القطار، فوصلت إلى باريس وإلى محطة ليون فلم تجد زوجها، فأخذت أول قطار إلى مرسيليا، ووصل «ميشيل» إلى بيت «ڨيڨيت» يتعرف أخبارها، فلما أنبئ بأنها خرجت وحدها صائحة توقع شرًّا، فمضى في طلبها حتى بلغ محطة ليون، وأخذ أول قطار إلى مارسليا، فلم يكد ينزل من القطار حتى رأى «ڨيڨيت»، وكانت قد أخذت القطار نفسه، ولكنها أخذت الدرجة الثالثة؛ لأنها لم تكن تحمل ما يكفي من النقود، وقضت الليلة واقفة في القطار معرضة لبرد الجو وحر قلبها، فلم تصل إلى مارسيليا حتى كانت الحمى قد استأثرت بها، وأدركها ميشيل وهي في خطر شديد فاضطرها إلى هذا الفندق، ودعا طبيبًا وأبرق إلى «نيكول» يستقدمها، وقد عني الطبيب بهذه المريضة منذ أيام، وقد أخذت تفيق وتسترد قواها، حتى إنَّ الطبيب يرى أنَّ ليس بها من حاجة إلى الممرضة.

أما ميشيل فلم يضع وقته، وإنما انصرف في أثناء إقامته في مارسيليا إلى العناية بهذه المريضة من جهة وإلى البحث عن زوجها من جهة أخرى، وقد أقسم ليدركن هذا الزوج الهارب، فأمر بمراقبة السفن المسافرة مراقبة شديدة، ثم كتب إلى «جان» كتبًا أنبأه فيها بأمر «ڨيڨيت»، وأرسلها إلى جميع الفنادق التي يمكن أنْ يئوي إليها جان، وهو الآن ينتظر نتيجة هذا البحث، وانظر إلى هذا الموقف وقد أخذ الطبيب يلاطف المريضة ويهدئها، ثم انصرف وترك معها الممرضة، وأخذت هذه الممرضة تستعد للانصراف، وهي تبحث في حقيبتها، وتظهر ما فيها شيئًا فشيئًا تلتمس منديلًا، وفي أثناء هذا البحث أظهرت مسدسًا، زعمت أنها تحمله لتدفع عن نفسها، فهي تختلف إلى الأحياء البعيدة، وتتعرض لاعتداء المعتدين، ولكنها لم تجد المنديل، فتلح عليها «ڨيڨيت» في أنْ تذهب لتأخذ أحد مناديلها فتفعل، وإنها لفي ذلك إذ تسرع «ڨيڨيت» إلى المسدس فتختلسه اختلاسًا وتخفيه، وقد أقبلت الممرضة فشكرت وأخذت حقيبتها وانصرفت، ولم تشعر باختلاس المسدس، وفهمنا نحن أنَّ «ڨيڨيت» إنما اختلست المسدس لتقتل نفسها، وهي مع ذلك تظهر هدوءًا واطمئنانًا، حتى إنَّ ميشيل ليأتي فيحدثها فلا تجيبه إلا هادئة مطمئنة، ثم تنصرف إلى غرفتها وكأنها متعبة تريد أنْ تستريح، وتقبل الخادم وتحمل بطاقة، فإذا هي بطاقة جان، فيأذن له ميشيل وينتظر ويفتح الباب، ولكن لا يدخل جان، وإنما تدخل «أليس».

ولست أحدثك عما يدور بينها وبين ميشيل من الحديث، لكن «ڨيڨيت» تسمع ما يدور بينهما، فتخرج إليهما وتلح على ميشيل في أنْ يتركها حينًا فيفعل، ويكون بين المرأتين موقف لا يخلو من جمال ليس فيه أول الأمر جهاد ولا حرب، وإنما فيه استعطاف وتضرع. «ڨيڨيت» يائسة من زوجها لا تطمع منه في شيء، وهي راضية بحظها لا تطلب إلا شيئًا واحدًا، تطلب أنْ يقرأ كلمة موجزة كتبتها إليه، ولكن «أليس» تأبى عليها حتى هذا الطلب، لقد استردت صاحبها ولم يكن هذا يسيرًا، وهي لا تريد أنْ تفقده مرة أخرى، لا تريد أنْ يتصل الأمر بينه وبين ماضيه، هي تكره، بل تخشى أنْ يرى «جان» شيئًا يذكره «ڨيڨيت»، ومهما تستعطفها ڨيڨيت فهي لا تعطف ولا تلين، هي تعلم أنها قاسية، ولكنها تريد هذه القسوة، هي تنتقم لنفسها ولحبها ولحياتها لا من «ڨيڨيت»، بل من الزواج ومن الحياة الشرعية الاجتماعية التي تبيح كل شيء للمتزوجات، وتحظر كل شيء على العاشقات، وقد يئست «ڨيڨيت»، وانتهى بها اليأس إلى أقصاه، وإذا الموقف قد تغير تغيرًا تامًّا، تريد «أليس» أنْ تنصرف فتحول «ڨيڨيت» بينها وبين الباب، وقد صوبت إليها المسدس تريد أنْ تقتلها، وهي لم تكن تريد ذلك، إنما كانت تريد أنْ تقتل نفسها، ولم تكن تطمع إلا في أنْ يعلم جان أنها أحبته، وسعت إليه ثم عفت عنه، فأما هذه المرأة التي تأبى حتى أنْ تنزل لها عن هذا الشيء القليل فستقتلها ثم تقتل نفسها، وهي كذلك إذ يفتح الباب ويدخل ميشيل ومعه جان، ذلك أنَّ ميشيل قد لقي جان في أسفل الفندق، فحدثه بكل شيء، وساقه ليرى هاتين المرأتين معًا، فإذا دخلا ورأى جان زوجه وفي يدها المسدس أقبل إليها مستفسرًا، فنزعه من يدها وقد بلغ به التأثر أقصاه، فجلس وأطرق يبكي، وميشيل يسأله أنْ يفصل في هذه القضية وأنْ يختار بين المرأتين، وهو أضعف من أنْ يختار، فقد أساء إليهما جميعًا وجنى عليهما جميعًا، وهو قد أحب «ڨيڨيت» بكل قلبه، وأحب «أليس» بكل ذاكرته، وهو يقول ذلك ويمضي في البكاء، أما «ڨيڨيت» فقد أقبلت إليه وجثت أمامه تلاطفه وتلح عليه في أنْ يمضي مع صاحبته، فهي لم تكن تطمع في أكثر مما نالت، أليست قد رأته؟ أليست قد أعلنت إليه حبها وعفوها؟ إنها لتحبه إنْ مضى أكثر مما تحبه إنْ أقام، ولكنه يبكي وهي جاثية بين يديه، والأخرى واقفة ذاهلة أول الأمر، ثم متنبهة شاعرة بأنها قد خسرت الموقعة، فهي تتقهقر قليلًا قليلًا إلى الباب تريد أنْ تنصرف دون أنْ يشعرا بها، ولكنها مع ذلك تحس أنه يراها تنصرف، وأنه يتجاهل ذلك، فتمضي في تقهقرها حتى تخرج، وقد فتح ميشيل لها الباب في هدوء ثم أغلقه من دونها.

•••

أعترف بأن إعجابي بالفصلين الأولين عظيم، ولكني أعترف بأن الفصل الثالث مضطرب مرتبك، فقدْ فقدَ أو كاد يفقد كل دقة وكل جمال فني، وأنه قد حول القصة من نوع فني إلى نوع آخر، ولو أنَّ الكاتب استأنى ولم يتسرع؛ لاستطاع أنْ يختار من كل هذه المناظر المختلفة منظرًا أو منظرين تنتهي بهما القصة انتهاءً حسنًا، كما ابتدأت ابتداءً حسنًا، وما رأي صاحبي الذي كتب إليَّ يوازن بين هذه القصة وبين «المتجردة»؟

ألا يزال حريصًا على هذه الموازنة؟

إبريل سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤