القبر تحت قوس النصر

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «پول رينال»

ومع ذلك فلا بد من أنْ أحدثك عنها، ويخيل إليَّ أني أسيء إليك وإلى صناعتي إذا لم أحدثك عنها، ولكن ما هي؟! وما معنى هذه الجملة الغامضة؟! أما هي فالقصة التي نحن بإزائها والتي مثلت في باريس وفي بيت موليير منذ ثلاثة أشهر، وأما هذه الجملة الغامضة فستفهمها حين تعلم أني حائر في أمر هذه القصة لا أدري أأرضى عنها أم أمقتها، وحين تعلم أني لم أنفرد بهذه الحيرة، وإنما شاركني فيها النظارة الذين سمعوها وشهدوها مرات في بيت موليير، وشاركني فيها النقاد الذين جمعوا فيما كتبوا عن هذه القصة بين الرضا والسخط، وبين المقت والإعجاب.

وأحسب أني سأرضى عن هذه القصة، وسأسخط عليها معًا، ففيها ما هو خليق بالرضا، وفيها ما هو خليق بالسخط، فأما شكلها فحسن رائع، وأما لفظها فجميل منتقى، وأما أسلوبها فآية بين الأساليب، وأما حوارها فقصير سريع خفيف الحركة مملوء بالمعنى كأنه جوامع الكلم، وأما الشعور الذي انبعثت عنه فقويٌّ عنيف صادق أخاذ للنفوس، كل هذا حق، ولكن هناك حقًّا آخر لا يمكن الإعراض عنه، وهو أنَّ هذه القصة الرائعة تقوم على أساس واه لا ملاك له ولا نصيب للصحة فيه، فإن يكن له نصيب من الصحة فضئيل شديد الضآلة، لا يكاد يحس ولا ينبغي أنْ يعتد به ولا أنْ يؤبه له، ومن هنا نفهم استحقاق هذه القصة للرضا عنها والسخط عليها، واختلاف الناس فيها اختلافًا شديدًا حتى تجاوزوا الحوار والجدال إلى الاصطدام والتضارب، فقد اصطدم الناس وتضاربوا في بيت موليير عندما سمعوا هذه القصة، اصطدموا وتضاربوا وأنكروا واحتجوا، ونقلت الصحف ذلك وعللته وأكثرت في تعليله، ذلك أنَّ القصة تقوم على أساسين، أحدهما قد يفهم وقد يتصور وقد يعتذر عنه، وهو أنَّ فتاة تحب خطيبها ويحبها هذا الخطيب حبًّا لا حد له، حبًّا الأمل فيه قليل؛ لأن الحرب قائمة؛ ولأن هذا الخطيب معرض لأخطارها؛ ولأن الزواج لم يتح لهذين العاشقين، فليس غريبًا أنْ تعلم الفتاة نفسها راضية مبتهجة مضحية بما ورثت من خلق وعادة ودين في سبيل هذا الشاب الذي يضحي بنفسه في سبيل الوطن، وليس غريبًا أنْ يتردد هذا الفتى، ثم يقبل التضحية، فهو يحب وهو واثق أنه سيموت، كل ذلك يمكن فهمه وتصوره والاعتذار عنه؛ لأنه لا يخرج عن طور الإنسان وما فطر عليه من ضعف وأثرة.

أما الأساس الآخر فغريب حقًّا متجاوز لطور الإنسانية المتحضرة المهذبة، التي تأثرت بالدين والأخلاق والنظم الاجتماعية والسياسية آلاف السنين، وهو أنَّ أباه يتعشق خطيبة ابنه ويهواها غير شاعر بذلك، إذا ظهر الأمر له ولابنه كانت بينهما خصومة عنيفة أنكر فيها الأب أبوته، والابن بنوته وتمنى فيها كلاهما لصاحبه الموت، ثم لا تلبث الخصومة أنْ تتغير، فإذا الأب قد عرف خطأه، وإذا هو جاث أمام ابنه باسطًا يديه يتضرع ويستعطف يلتمس العفو، وإذا الابن يعفو ويشفق ويتلطف بأبيه، كل هذا غريب غير مفهوم ولا ملائم لما ألف الناس ولا فطروا عليه، ومع ذلك فقد اختصرت لك القصة اختصارًا، وأحسب أنك تفهم الآن تردد الناس في الحكم عليها، وأحسب أنك تعذر أيضًا ترددي في أنْ أحدثك عنها، فقد كنت أريد أنْ أعرض عن ذلك إعراضًا، ولكن ظهور هذه القصة وما دار حول تمثيلها حادث أدبي عظيم الخطر، لا ينبغي أنْ أهمله، ولا أنْ أتعمد طيه عن القرَّاء، على أني مهما أفعل، ومهما أبذل من قوة وجهد، فلن أستطيع أنْ أعطيك من هذه القصة صورة صادقة ولا مقاربة، فهي ليست من القصص التي يمكن تلخيصها وتحليلها في سهولة ويسر، وإنما هي من القصص التي يجب أنْ تقرأ كلها أو تشهد كلها ليمكن الحكم عليها حكمًا صحيحًا، فقد حدثتك عن هذا الحوار القصير السريع الجامع، ولم أحدثك عن حوار آخر طويل بطيء ملتو غامض، فيه فلسفة عميقة قوية ترقى بك حتى يكاد الدوار يأخذك، وإذا كان من العسير تلخيص هذا الحوار القصير فأعسر منه تفسير ذلك الحوار الطويل، فلتجتزئ من هذا كله بما أستطيع أنْ أقدم إليك في هذا الفصل، وأَحْبِبْ إليَّ بأن تقرأها وتحكم عليها بدون وساطة ولا معونة.

•••

أشخاص هذه القصة ثلاثة لا يزيدون، بل لا يُسَمَّوْنَ إلا الشخص الثالث فهو وحده المسمى، وهم لا يُسَمَّوْنَ؛ لأن الكاتب تعمد ألا يسميهم، وهذا التعمد هو نتيجة خطأ عظيم، فقد خيل إلى الكاتب أو خيل إلى الناس أنَّ الكاتب حين تعمد ألا يسمي هذين الشخصين، تجنب أنْ تكون قصته شخصية، وقصد إلى أنْ يكون هؤلاء الأشخاص ممثلين لأنواعهم من أفراد الناس.

في القصة شيخ أقام ولم يشترك في الحرب، وفيها جندي مقاتل، وفيها فتاة بينها وبين هذا الجندي حب وخطبة، وقد سمى الكاتب الفتاة، فدل بهذه التسمية على أنه لا يريد أنْ يجعل الفتاة مثالًا لغيرها من الفتيات، ولم يسم الشيخ ولا ابنه، فدل بذلك على أنه يريد أنْ يقول: إنَّ موقف هذين الرجلين إنْ لم يكن موقف الناس جميعًا في أثناء الحرب فبينه وبين موقف الناس جميعًا شبه قليل أو كثير، وهذا هو الخطأ، فلو أنَّ الكاتب سمى هذين الرجلين وشخصهما كما سمى الفتاة وشخصها؛ لأمكن أنْ تقبل القصة لاستطعنا أنْ نفرض أنَّ الكاتب يمثل حالًا عارضة مرضية عرضت لأسرة بعينها في ظروف خاصة، فهي تمثل الشاذ ولا تمثل المطرد، ومن الذي يستطيع أنْ ينكر أنَّ الشاذ موجود، وأنَّ وجوده لازم لوجود المطرد! لو فعل الكاتب هذا لكان له وجهه وتأويله، ولكنه لم يفعله فأنكر الناس عليه هذه الجرأة في التعميم؛ لأنها تخالف العقل والحق؛ ولأنها تخالف البر الذي يدين به الأبناء للآباء، والعطف الذي يضمره الآباء للأبناء.

هذا الشيخ الذي اتخذه الكاتب مثالًا للمقيمين الذين لم يشتركوا في الحرب رجل في الستين من عمره، غنيٌّ وادع، يظهر من القصة أنه أَثِر، يسرف في حب نفسه، وأنَّ حظه من الحنان قليل، أما ابنه فشاب غنيٌّ، ورث عن جده لأمه ثروة ضخمة كان يدبرها، ثم كانت الحرب فترك تدبيرها لأبيه، وهو ذكيٌّ شديد الذكاء، عظيم الحظ من التعليم، ملم إلمامًا متينًا بالشيء الكثير من الفلسفة وآراء الفلاسفة، فليس هو إذن بالشاب العاديِّ، أتم دروسه في باريس ثم عاد إلى مدينته وانصرف إلى ثروته يدبرها، ولكنه كان يتردد على باريس فيقضي فيها فصل الشتاء، وقد لقي فيها في غرفة من غرف الاستقبال عند أسرة صديقة له فتاة جميلة ذكية حساسة، أحبها وأحبته، ثم خطبها وقبلته، وهي يتيمة ليس لها أب ولا أم، وإنما كانت تعيش مع عمة لها أو خالة، ثم أعلنت الحرب ومضت أشهر، وماتت هذه العمة أو الخالة، فأصبحت الفتاة وحيدة في باريس، ولم تطق هذه الوحدة، فجاءت إلى الشيخ أبى خطيبها وأقامت عنده، فاتصلت بين الشيخ وبينها علاقة قوية رقيقة تكاد تكون حبًّا لولا أنَّ الفتاة تنظر إلى الشيخ كأنه أبوها، ولولا أنَّ الشيخ ينظر إلى الفتاة كأنها ابنته، وأنهما جميعًا يفكران في هذا الجندي الذي ألف بينهما، وقد مضت على الحرب سنة وبعض سنة، ولم يستطع هذا الشاب أنْ يظفر بإجازة يرى فيها خطبه وأباه، ثم أتيحت له هذه الإجازة فهو مقبل، وهما ينتظرانه، ويجب أنْ تعلم أنه ظفر بهذه الإجازة بعد أنْ جرح مرة في الميدان، ثم برئ من جراحته، ثم اشترك في هجوم عنيف قام به الجيش الفرنسي في شمبانيا، ونشرت البلاغات الرسمية أنه انتهى بانتصار عظيم، وظل الناس مقتنعين بأن الحرب مشرفة بعده على الانتهاء.

وهما ينتظرانه وقد انتصف الليل، وأقبلت الساعة الثانية من الصباح، الشيخ جالس صامت كأنه يفكر، وهو ينتظر والفتاة غير مستقرة تجلس ثم تنهض ثم تجلس ثم تصغي ثم تذهب للنافذة ثم تعود، وهما الآن يصغيان، وهما يضطربان؛ لأنهما سمعا إغلاق الباب، وقد خرجت الفتاة وعادت، ومعها صاحبها الجندي تقبله ثم يتحدثون، ولست أستطيع أنْ ألخص لك هذا الحديث، فهو أشد دقة من أنْ يلخص، ولكنه يدور حول صحة الجندي وسفره، وحول الحرب وحول الانتصار، وحول ما يأمل الناس، وتفهم من هذا الحديث أنَّ الشيخ والفتاة مؤمنان بانتصار الجيش الفرنسي وقرب انتهاء الحرب، وأنَّ الفتى يؤكد لهما هذا، ولكنه يتكلف هذا التأكيد، كأنه لا يريد أنْ يخيب رجاءهما، وهو يسألهما: ألم تصل إليهما رسالة؟ فيتكلفان الإنكار، ألم يصل إليهما نبأ برقي! فيظهران الدهش، وتحس أنت هذا التكلف، أما الشاب فلا يشعر به، وإذن فهو فرح مغتبط إلى غير حد، كان يخشى أنْ تصل إليه رسالة برقية تدعوه أنْ يعود أدراجه إلى الميدان، فأما وهذه الرسالة لم تصل فهو سعيد؛ لأنه سيمكث أربعة أيام وسيستطيع أنْ يتزوج قبل سفره، وقد أعد الشيخ كل شيء، فتمت الإجراءات الرسمية، وسيتم الزواج غدًا أو اليوم متى أشرق الصبح، فنحن في الساعة الثانية وهو يتحدثون عن الحرب وعن أهوالها، وهم يذكرون أسماء الأصدقاء الذين سافروا إلى الميدان، ويسألون عن أنبائهم والفتى يجيب، ثم يذكر الفتى أمه التي ماتت قبل أنْ تعلن الحرب، وتنصرف الفتاة فيخلو الشاب إلى أبيه، ومؤثرة جدًّا هذه الأحاديث التي يتبادلها الرجلان، مؤثرة؛ لأنها تمثل نفس الشيخ وتمثل نفس الفتى وتمثل حبهما للفتاة تمثيلًا صحيحًا.

فأما الشيخ فسعيد مطمئن إلى الحياة منذ أقامت معه الفتاة، كان قبل ذلك وحيدًا مضطربًا معنيًّا بعمله الكثير، ثم أقبلت هذه الفتاة فأزالت الوحدة، وقامت مقامها مودة حلوة هادئة حببت الحياة إلى الشيخ فهو يحيا سعيدًا، وهو يشعر بأن الحرب ثقيلة الوطأة على الجند، ولكنه يشعر أيضًا أنَّ هذه الحرب ثقيلة الوطأة على المقيمين؛ فإذا كان الجند يؤدون واجبهم في الميدان فالمقيمون يؤدون واجبهم دون الميدان، وهل كان الجند يستطيعون أنْ يثبتوا لو لم يثبت المقيمون في حياتهم الهادئة فيدبروا للحرب حاجاتها، والشيخ مع هذا مضطرب لقرب انتهاء الحرب؛ مضطرب لأن ابنه سيعود ويتزوج وسيستأثر بالفتاة، وسيبقى هو وحيدًا كما كان، وسيخلو إلى شيخوخته، ينم حديثه بذلك في غير تصريح، ويكاد الفتى يفهم ولكنه بعيد عن تصوره، فهذا الفتى جنديٌّ حقًّا فيه مزايا الجند وفيه عيوبهم أيضًا، ولكن من الذي يجرؤ على أنْ يقول: إنَّ للجند أثناء الحرب عيبًا! أليسوا يدافعون عن الوطن! أليسوا يحمونه ويحمون أهله! أليست الأمة كلها مدينة لهم بالحياة والحرية! في هذا الفتى كل مزايا الجنديِّ الفرنسي أثناء الحرب، فهو شجاع، ولكن شجاعته هادئة متواضعة لا تفاخر ولا تعلن عن نفسها، وهو مطمئن إلى الألم يحارب لا لأنه يحب الحرب؛ بل لأنه مضطر إلى هذه الحرب، ويطيع لا لأنه مفطور على الطاعة؛ بل لأنه يطيع نفسه وكيف لا! أليس فرنسيًّا يستمتع بما يستمتع به الفرنسيون من الحقوق! وإذن فمن الحق عليه أنْ يدافع عن هذه الحقوق، وهو يفعل هذا مختارًا؛ لأنه كان يعلم أنَّ الحرب ناشبة، فكان يستطيع أنْ يغير وطنه ليفر منها، وإذا لم يغير هذا الوطن فليؤد واجباته الوطنية، ثم عمَّ يدافع في الميدان؟ عن الأرض؛ فهو يملك منها جزءًا، عن العقل الفرنسي؛ فقد غذته ثمار هذا العقل، فهو إذن لا يفعل شيئًا استثنائيًّا، ولكنه في الوقت نفسه يألم آلامًا لا حد لها، ولا يقدرها إلا الذين يشعرون بها، وربما خطر له في الميدان أو في الخندق أنَّ أهله هادئون مطمئنون، وأنهم قد يبتهجون حينًا، وقد يضحكون حينًا، فيغيظه ذلك ويحنقه، ويود لو شاركه أهله في الألم فلم يفكروا إلا فيه ولم يتحدثوا إلا عنه ولم يحيوا إلا له، وهو يعلم أنَّ هذا جور، ولكن من الذي يستطيع أنْ يدفع الخاطر إذا خطر! ثم لا يكاد يسأل أباه عن الفتاة حتى يكثر الشيخ من الثناء والإعجاب وقد سبقه هو، فأثنى وغلا في الثناء، وفهمنا أنَّ الرجلين يحبانها، وأنَّ الشيخ نقم من الفتى شبابه وأنها تحبه، وربما نقم من الفتى إجازته التي غيرت نظام حياته ولو إلى حين.

وينتهي الحديث بهما إلى ذكر الحرب ومتى تنتهي، فيكاد الفتى يفهم من صوت أبيه وحديثه ما يخفيه، وقد أقبلت الفتاة فهو يسألها وهي تدفع إليه الرسالة البرقية، ذلك أنَّ هذه الرسالة كانت قد وصلت قبل الفتى، فأخفاها الشيخ والفتاة حتى لا ينغصا عليه ساعة اللقاء، أما الآن فليس بد من إظهاره عليها، وفي الرسالة أمر بالعودة حالًا، وقد نظر الفتى في الرسالة فناله شيء من الذهول، كأنه كان يقاوم مقاومة شديدة، وقد انتصر في هذه المقاومة فلم يجزع ولم يظهر عليه اضطراب ولا إنكار، وهو يضحك ولكن ضحك المحزون، يجب إذن أنْ يسافر بعد أربع ساعات، ولكن أربع ساعات! هذا وقت طويل يستطيع فيه أنْ يكون سعيدًا، وسيكون سعيدًا! نعم! إن يتزوج فقد أبت الفتاة هذا الزواج في هذا الوقت القصير، ولكنه مع ذلك سيكون سعيدًا، أربع ساعات يستمتع فيها بحريته كاملة، ويستخدم فيها ذاكرته ليذكر أيام السعادة والنعمة، ويستخدم فيها خياله ليتمثل ما يحب من سعادة ونعمة، وذاكرة الجندي قوية إذا تعرض للخطر، وخيال الجنديِّ قوي إذا تعرض للخطر! سيكون سعيدًا، وهو يتركهما لحظة ليصلح من أمره، فيخلو الشيخ إلى الفتاة ويتحدثان، فإذا هما يعطفان على هذا الشاب، ولكن الفتاة أشدهما عطفًا وحزنًا، والشيخ يسليها ويذكرها بحياتها الهادئة كأنه يأسف على ما فات منها، ويتعجل منها ما بقي، أليسا سيستأنفان هذه السعادة بعد ساعات متى سافر الشاب، والشيخ يلاطف الفتاة في حنان، ولكنه حنان يشبه الغزل، ويعود الفتى وقد لبس ثياب الزينة والعرس، فإذا أنكرا منه ذلك أجاب أنه يريد أنْ يكون سعيدًا، ويستطيع أنْ يكون سعيدًا، وسيكون سعيدًا! ودعاهما إلى أنْ ينصرفا ليستريحا، أما الشيخ فلا يأبى وهو متعب، وقد تقدم الليل، والفتاة متعبة أيضًا، فالشيخ يدعوها إلى الراحة ويلح في ذلك، ولكنها تتلكأ تريد أنْ تبقى حينًا مع خطيبها، وقد فهم الشيخ ذلك وقبله وألح في ألا تمكث الفتاة كثيرًا، فوعدته الفتاة، وانصرف الشيخ فيخلو العاشقان، ولا يكادان يتحدثان حتى تشعر بأن الساعة رهيبة مملوءة بالتأثر والعزم والجهاد العنيف بين العواطف المختلفة، أو قل بين عواطف السلم وعواطف الحرب؛ ذلك أنَّ الفتاة تعلن إلى صاحبها في تردد وخبل أنها تريد أنْ تكون له، فيتغابى، وكلما تغابى ازدادت هي تصريحًا وإقدامًا، حتى يضطر إلى أنْ يفهم أو يظهر أنه يفهم، فينكر عليها ذلك ولكن في رفق ورغبة، وكيف يقبل وهذا القبول إغواء! فليس للفتاة أحد ينصحها، ولو أنَّ لها من ينصحها لما فكرت في ذلك، على أنها متأثرة بالموقف، وهو لا يريد أنْ يستغل هذا الموقف، ولكن الفتاة قد فكرت وأكثرت التفكير، واعتزمت بعد بحث وتمحيص واقتناع.

والدين، هي واثقة من أنَّ الدين لا ينكر عليها ذلك ولا يأخذها به، فهي لا تعصي ولا تأثم، وإنما تقدم على شيء من البر قليل، وهو قد قبل، وهو سعيد مبتهج، بل هو يتجاوز السعادة والابتهاج إلى شيء من الذهول غريب، وهنا موقف من أجمل ما كتب الكاتبون، فيه شعر وفيه قوة، وفيه صدق إذا نظر إلى هذا الفتى وقد قبل ما عرضته عليه الفتاة، ولكنه يريد الزواج وقد أخطأه الزواج المدني، أخطأه الشهود، وأخطأه الممثل للحكومة، وأخطأته الكنيسة، ولكنه يستطيع أنْ يطلب هذا كله إلى الخيال، وخيال الجنديِّ قويٌّ إذا تعرض للخطر، فهو يريد أنْ يتزوج، وأنْ يستشهد أصدقاءه الذين ماتوا في الميدان على هذا الزواج، وهو يتحدث بذلك مقتنعًا إلى صاحبته، فتخاف وتضطرب، ثم تذهل وقد فقدت الرشد واقتنعت مثله، وهو يدعو أصدقاءه الموتى واحدًا واحدًا، ويراهم يحضرون وهو يتحدث إليهم ويستمع نجواهم، يستشهدهم فيشهدون، ويستشيرهم فيشيرون ويهنئون، وهو يشرب الشمبانيا له ولهم وكأنه يراهم يشربون معه، يجب أنْ تقرأ هذه القطعة لتشعر بما فيها من جمال ينسيك كل شيء حتى نفسك.

•••

فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في غرفة الزوجية، والفتاة غافلة في سريرها كأن قد أخذتها سنة من النوم، والفتى جالس إلى الموقد كأنه يصطلي، ثم تفيق الفتاة فتنكر هذه السنة التي أخذتها حين لم يكن يجب أنْ تنام، ثم تنهض من سريرها وتدنو من صاحبها ويتحدثان، وقد كان الزواج وهما سعيدان، وهي لا تنكر شيئًا مما فعلت، وهو لا ينكر شيئًا مما فعل، ولكنهما يمضيان في الحديث حتى يصلا إلى حيث يجب أنْ يتكشف كل منهما لصاحبه عن دخيلة نفسه، فبعد أنْ وصلا إلى ما وصلا إليه، لا ينبغي أنْ يكون بينهما كذب ولا سر ولا مراوغة، وهي في حاجة إلى تعرف الحقيقة، وهي تسأل وتلح، وهو يأبى ويحتال، ولكن لا سبيل إلى الفرار، يجب أنْ يجيب وإلا فهو لا يحبها، وهو يحذرها عاقبة هذا الجواب، ولكنها تكره الكذب وتؤثر عليه كل شيء، يجب إذن أنْ يجيب!

– ما أمد الحرب؟

– بعيد جدًّا.

– وهذا الانتصار؟

– قد استطاع العدو أنْ يتقي آثاره وإذن، فكأننا لم نفعل شيئًا.

– كم ينتظر أنْ تدوم الحرب؟

– أعوامًا.

وإذا هي مضطربة اضطرابًا لا حدَّ له، وإذا هي نادمة أشد الندم على ما فعلت، وإذا هي تلومه؛ لأنه أنبأها بالحق وتؤنبه؛ لأنه يمضي في الكذب، وإذا هي تعلن إليه أنها لا تحبه، ذلك أنها كانت تحبه حبًّا شديدًا، ثم كانت الحرب وكانت الغيبة، فأحست أثر هذه الغيبة في الحب، وأحست أنها لن تستطيع أنْ تحتفظ بحبها إذا طالت هذه الغيبة، وقد قاومت وجاهدت، ولكنها لم تفلح، وأقبل هو في إجازته، ففعلت ما فعلت لتحيي هذا الحب، وهي مقتنعة بأن الحرب قد انقضت أو كادت، أما الآن وسيستأنف الغيبة وستطول هذه الغيبة، فهي واثقة بموت هذا الحب، وهي آسفة نادمة على ما قدمت من نفسها.

أما هو فقد تلقى هذه الصاعقة في جلد وشجاعة، وما الذي يمنعه أنْ يكون شجاعًا، وهو يعيش مع الموت، وهو مسافر غدًا إلى الموت! نعم! هو مسافر غدًا إلى الموت حقًّا، فقد كان أخفى على صاحبته كل شيء حتى سر هذه الإجازة، وهو الآن يظهرها على كل شيء، نعم! إنه وعد بأن يموت، فقد كانت الإجازات ألغيت؛ لأن فرقته ستهاجم، وكانت قيادة الفرقة قد طلبت متطوعين يتقدمون بين يدي الجيش يوم الهجوم، يحملون قنابل ليضعوها دون خطوط العدو، ومن تطوع لهذه المهمة فهو ميت لا محالة، ولذلك أبى الناس جميعًا أنْ يتطوعوا، وأقبل هو إلى رئيسه، فطلب إليه الإذن له بالسفر على أنْ يعود متى تقرر الهجوم، وعلى أنْ يتطوع لهذه المهمة، فلما سأله الرئيس عن هذه المخاطرة، أجابه بأنه يحب فتاة، وبأن هذه الفتاة تلح عليه في أنْ يراها، وبأنه يخشى إذا لم يرها الآن أنْ يموت ولما يظفر بذلك ولما يتزوجها ولما يعطها اسمه، وقبل الرئيس وسافر الفتى، وهو الآن مدعو إلى العودة، وإذن فقد تقرر الهجوم، وإذن فهو مقتول يوم الجمعة، وقد ذهلت هي وأصابها شيء من الجنون، فأخذت تتهم نفسها بأنها قاتلة، وأخذ يدافعها عن هذه التهمة، ولكنها تمضي في الاتهام، ثم في الإعجاب بهذا البطل وأمثاله، ثم في شيء يشبه العبادة، وهنا حوار يمثل قوة الشاب، فصاحبته مسيحية مؤمنة، وهو ملحد مسرف في الإلحاد، وهي تذكره بالله وهو ينكره، وهي تذكره بالموت، فلا يزداد إلا إنكارًا لوجوده، ثم ازدراء له، ثم يتحداه إنْ كان موجودًا، وماذا يخشى؟! سيموت، فإن كان الإله موجودًا حقًّا فلن ينكر عليه إلحاده، أليس قد اجتهد وفكر فلم يهده عقله إلى شيء، ولكنه منصرف عن الدين والإله والموت إلى هذا الحب الذي لم يظفر به إلا حينًا، وهي تعطف عليه، وهو يسألها قبلة فتستدنيه وتستدنيه وتستدنيه أيضًا، وقد أطفئ المصباح حينًا، ثم نهض الفتى، وظلت هي في سريرها وأخذا يتحدثان، وأخذ هو يسليها ويخادعها عن الفجر ويقص عليها أحاديث تلهيها، وهي الآن مغرقة في نوم هادئ، وقد أشرق الصبح، فوضع الفتى رأسه بين يديه وأغرق في البكاء.

أعترف بأن هذا الفصل جميل لذيذ مؤثر، ولكني أعترف بأنه غامض، وبأنه غير مفهوم، وبأن فيه فلسفة تحتاج إلى شيء من الوضوح وإلى أنْ تقرب من الناس، ولكن الفصل الثالث هو شر ما في القصة وأبعده عن الحق.

•••

نحن في الغرفة التي كنا فيها في الفصل الأول، وقد وقف الفتى وصاحبته، وأقبل الشيخ فلم يلتفت إلى ابنه ولم يشعر بوجوده، وإنما أقبل إلى الفتاة يحييها ويلاطفها ويسألها عن ليلتها، ثم تنبه إلى وجود ابنه، فسأله عن صحته وعن ليلته، وأحس الفتى هذا وأنكره على أبيه في لطف، وأخذوا يتحدثون، وأخذ الشيخ يسأل الفتاة ما بالها لم تضئ غرفتها، وما يزال بها يسألها، وهي متلعثمة مضطربة حتى يتدخل الفتى، فيزجر أباه زجرًا عن هذا السؤال، ويتضح للشيخ ما كان بين العاشقين، فإذا هو ثائر مغضب يلعن ابنه ويزدريه، أليس قد اقترف إثمًا عظيمًا؟! أليس قد أغوى فتاة طاهرة؟! ويشتد الخصام بين الرجلين، وإذا الشيخ ينكر الحرب، ويلعنها لما أفسدت من نفوس الشبان وأخلاقهم، ولما ملأت قلوبهم بالغرور حتى خيل إليهم أنَّ الناس مدينون لهم بكل شيء، والفتى مغضب أيضًا يزجر أباه ويسبه، فلا يزداد الشيخ إلا حنقًا، أليس الفتى يضيف إثمًا إلى إثم؟! أغوى الفتاة وهو الآن ينهر أباه، وهل أبقت الحرب من شيء؟! وفيم هذا الغرور؟! إنَّ الجندي لا يزيد على أنه يؤدي واجبًا كغيره من الناس، ثم يشتد الخصام بين الرجلين، وإذا الشاب يتهم أباه بأنه كان يحب الفتاة، وأنه كان يغويها في غير شعور منه، وأنه الآن غيران غيرة العاشق لا غيرة الرجل الشريف، وتحاول الفتاة أنْ تصلح بينهما، وتحاول أنْ تظهر الشيخ على ما يخفي ابنه من إشرافه على الموت، ولكن الفتى يمنعها، والخصام محتدم بين الرجلين حتى تنقطع الصلة بينهما، فيعلن الفتى أنه منصرف، وأنه لا يعرف أباه ولا يحبه ولا يقدره، ويعلن إليه أبوه أنه يستطيع أنْ ينصرف، وأنه يتمنى له سفرًا حسنًا، وتقبل الفتاة إلى الشيخ تريد أنْ تهمس إليه، فلا ترى منه إلا حقدًا على ابنه واستخفافًا به، وإذا هي مغضبة كصاحبها تريد أنْ تتبعه، وهي تزدري الشيخ وتتهمه بكل ما كان يتهمه به الفتى، وقد كان الشيخ ثابتًا يقاوم ابنه مقاومة حسنة، فانظر إليه قد اضطرب أمام الفتاة، فهو لا يقاوم ولا يدفع عن نفسه، وإنما هو يستعطف ويترضى، ولا تزيد الفتاة إلا سخطًا وحنقًا وازدراء للشيخ.

والآن قد فهم الشيخ كل شيء، وأحس أنه مجرم، وأنه أساء إلى ابنه، وأنه كان يحب الفتاة حقًّا، هو إذن يقر على نفسه بكل سيئة، وهو يستعطف ابنه ويترضاه جاثيًا بين يديه، وقد رق الفتى لأبيه، فأخذ يعفو عنه ويعطف عليه ويتلطف له، ثم أخذ يترضى الفتاة على أبيه، ويطلب إليها أنْ تبقى، والفتاة تأبى، والشيخ يشاركها في هذا الإباء، فهو مقتنع حقًّا بأنه مجرم، وهو يريد أنْ يطهر من هذا الجرم، وأي شيء يطهره من هذا الجرم إلا الألم والوحدة والتفكير في هذا الخزي الذي كان فيه! ولكن الفتى قد رق لأبيه رقة لا حد لها، فهو يستعطف الفتاة، وقد ظفر منها بما كان يريد، وقد رضي الآن عن أبيه وعن الفتاة، وإذا هو ينصح لهما ويلقي إليهما الحِكَم كأنها وحي ينطق به ملك مقدس، وهم جميعًا مسحورون بهذا الموقف، أما الفتى فينصح ويعظ ويلح على الفتاة حتى تقسم له بأنها تموت إذا مات، ولن تعيش أرملة، ولن تنصرف عن الزواج، ولكن، يجب ألا تتزوج جبانًا ولا مغرورًا، ثم يسأل الفتى صاحبته عن هذا الحب الذي مات: ألا يزال ميتًا!

فإذًا هذا الحب حي، وإذا الفتاة تحبه حبًّا لا يعدله حب.

وهو ينصرف سعيدًا، وكلما خطا خطوة هتفت به الفتاة: إني أحبك!

وهتف به أبوه: عد إليَّ سالمًا، إني لا أريدك نائمًا إلى سرير الموتى، إني أريد أنْ تغمض يداك عيني.

وقد خرج الفتى، وخلا الشيخ إلى الفتاة، ولكن الشيخ ذاهل يذكر ابنه ويتبعه بنفسه وقلبه، والفتاة ذاهلة مستندة إلى الحائط كأنها قد فقدت الرشد والحياة.

كل هذا الفصل جميل إذا قرأته، ولكن على ألا يكون حقًّا ولا ممثلًا للحق، على أنْ يكون خيال شاعر، وما الذي يمنع أنْ تقرأ خيال الشاعر وتجد فيه لذة؟ ثم في هذا الفصل تجاوز للحق وتجاوز للعدل، ولكن من الذي قال: إنَّ الظلم والباطل يخلوان من الجمال الفني دائمًا!

مايو سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤