الخطر الآخر

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «موريس دونيه»

ليست كالقصة التي حدثتك عنها في الأسبوع الماضي، أو هي لا تشبهها من وجوه كثيرة، فهي لا تدرس أشخاصًا، ولا تعطي منهم صورًا بينة تمثل طبقات مختلفة من الناس، أو هي إنْ درست هؤلاء الأشخاص ومثلتهم تمثيلًا قويًّا، فليست تتخذ من هؤلاء الأشخاص غرضها الأول، وليست تدرسهم لأنفسهم، وليست تريد أنْ تتخذهم عناوين لطبقات من الناس، وإنما تتخذهم وسائل وطرقًا للغرض الذي تقصد إليه والغاية التي تريد أنْ تبلغها، هي لا تدرس شخصًا ولا أشخاصًا، وإنما تصور عاطفة أو عواطف، بل يجب أنْ نكون أدق من هذا وأكثر وضوحًا، فهي لا تدرس العواطف ولا تتصورها من حيث هي، وإنما تدرس الجهاد بين العواطف وتصوره، وهي تعنى عناية خاصة بالجهاد بين عاطفتين لهما في حياتنا الأثر كله، ولهما عليها السيطرة كلها، أريد عاطفة الحب وعاطفة الأمومة.

القصة جهاد بين هاتين العاطفتين، بل ربما لم يكن هذا التعبير صحيحًا، فالقصة تاريخ لهاتين العاطفتين: تدرسهما حين تنشآن، وتدرسهما وهما تنموان، ثم تدرسهما حين تصطدمان، ثم تسجل انتصار إحداهما على الأخرى، أو — بعبارة أصح وأدق — تسجل انتصار كلتيهما على الأخرى، فكلتا العاطفتين منتصرة، وكلتاهما منهزمة، والأشخاص في هذا كله وسائل وسبل لا أغراض ولا غايات، فلو استطاع الكاتب أنْ ينطق هذه العواطف ويحملها على الحركة والاضطراب؛ لأعرض عن الأشخاص إعراضًا، ولكن ذلك غير ميسور، فليس للعواطف من حيث هي وجود مستقل، وإنما توجد في الناس، فلا بد لإحيائها وتحريكها وتصوير الجهاد بينها من أنْ يحيا الناس ويتحركوا، ويجاهد بعضهم بعضًا، ولو أنَّ الكاتب عدل عن الأشخاص، واكتفى بالعواطف في أنفسها لما كان كاتبًا ممثلًا، ولكان فيلسوفًا أو أحد الباحثين عن ظواهر علم النفس.

هو إذن مضطر إلى الأشخاص، يتخذهم وسيلة إلى درس العواطف، وما الأشخاص بدون العواطف؟! وإذا كانت العواطف لا تستطيع أنْ توجد وحدها، ولا أنْ تتحرك وتضطرب فالإنسان كذلك لا يستطيع أنْ يوجد وحده ولا أنْ يتحرك ويضطرب، وإنما هو محتاج في وجوده وحركته واضطرابه إلى هذه العواطف التي تفيض عليه الوجود وتبعث فيه الحركة والحياة، لا وجود للإنسان بدون العاطفة، ولا وجود للعاطفة بدون الإنسان، وإذن فمن درس الإنسان فقد درس عواطف الإنسان، وإذن فليس كاتبنا مسرفًا ولا متجاوزًا القصد ولا ممعنًا فيما بعد الطبيعة إذا هو لم يتثاقل في درس الأشخاص وتصويرهم تصويرًا بينًا واضحًا، وإنما قصد إلى ناحية من نواحي الفن فأتقنها وبرع فيها.

ليس الأشخاص غرضًا من أغراضه، وهم مع ذلك أحياء في قصته، أحياء موفورو الحظ من الحياة، فهم يتحركون ويعملون في خفة ونشاط لا تجدهما إلا عند المهرة من كتاب هذا الفن، وأنت تقرأ القصة أو تشهدها فلا تشعر فيها بتكلف ولا تصنع، وإنما يخدعك الكاتب عن نفسك، فيخيل إليك أنك تشهد فصولًا من فصول هذه الحياة التي يحياها الناس في كل يوم، لولا أنك مضطر إلى أنْ تلاحظ أشياء قليلة تكلفها الكاتب تكلفًا؛ لأنه لا يستطيع إلا تكلفها.

قلت: إنَّ القصة جهاد بين عاطفتي الحب والأمومة، ولكني أعود اليوم فألفتك إلى ما لفتُّك إليه في حديث الأحد الماضي من أنَّ كاتبنا رشيق خفيف الحركة سريعها، دقيق كل الدقة في تصوره وتعبيره عما يتصور، فهو يعرض لأشد ألوان الجهاد عنفًا فيمثله أصدق تمثيل، ويترك في نفسك أشد الآثار وأعمقها وأبقاها، دون أنْ يتكلف لذلك العبارات الضخمة أو الجهد الشديد، بل دون أن يتكلف لذلك شيئًا، هو كالموسيقيِّ الماهر الذي لا يحتاج إلى أنْ يثقل على أداة من أدواته الموسيقية؛ ليستخرج منها أعذب النغم وأمرَّه وأشده استثارة للعواطف في نفسك، وإنما يكفيه أنْ يلمسها لمسًا خفيفًا، فإذا هي تخرج الآيات البينات، وكذلك كاتبنا، يلمس الموضوعات لمسًا خفيفًا، أو قل يلمس قلبك لمسًا رقيقًا، فإذا هو قد أحيا فيه العواطف بما يشخصها ويمنحها القوة والحياة، ويخلق بينها ألوان الجهاد، لن تجد في قصصه هذه الألفاظ الضخمة العنيفة التي يسحرك عنفها وضخامتها، وإنما تجد فيها الألفاظ العادية المألوفة التي يستطيع الكاتب بفنه أنْ يمنحها حياة ليست عادية ولا مألوفة، ومن هنا كان تأثرك بقصص هذا الكاتب صادقًا طبيعيًّا من جهة، وهادئًا وديعًا من جهة أخرى، يحزنك دون أنْ يحول بينك وبين الابتسام، ويضحكك دون أنْ يعصمك من الحزن والاكتئاب، بل ربما لم تجد فيه حزنًا خالصًا ولا سرورًا خالصًا، وإنما هو في جميع أطواره مزاج من الحزن والسرور، ولنترك القصة نفسها لنثبت لك صدق ما نقول.

•••

نحن في قصر من قصور باريس فخم يدل أثاثه على أنَّ الذين يسكنونه قوم مثرون ضخام الثروة، وهم في الحق كذلك، فصاحب القصر رجل يشرف على طائفة من المصانع تغل عليه أمولًا كثيرة، فهو في الوقت نفسه من رجال الصناعة ومن رجال المال، وهو يعيش عيشة ملائمة لمكانته وثروته، فينفق عن سعة وفي غير تقتير، وزوجه تتحدث عن شجرة غرسها في حديقته، وبدأت تؤتي شيئًا من الثمر، فإذا كل ثمرة من هذا الثمر القليل الذي آتته قد كلفت صاحب القصر آلافًا من الفرنكات، هو غني، وهو مترف، وهو مطلق اليد في المال، وزوجه جميلة فاتنة عذبة الصوت خلابته، ليست أقل من زوجها ترفًا ولا عبثًا بالمال، ولعلها أشد منه إمعانًا في الترف والعبث، وقد دعا صاحب القصر إلى العشاء في هذه الليلة نفرًا من أصحابه وأصدقائه، يعنينا منهم رجل متوسط السن هو «أتيين جادان» كان رفيقًا لصاحب القصر في المدرسة، ثم افترقا بعد أنْ أتما الدراسة، فسعد أحدهما وعاش الآخر عيشة كد وعناء في مدينة من مدن الأقاليم، واقترن بفتاة هي آية في الجمال والسحر، هي «كلير» زوجه التي تحضر معه هذا العشاء، وكانا قد أقبلا إلى باريس يقضيان فيها أيامًا فلقيهما صاحب القصر فدعاهما إلى قصره مغتبطًا بلقائهما، ودعا معهما قومًا آخرين، منهم رجل لا بد من أنْ نذكره وهو «فريديير»، وهو المحامي الذي بَعُدَ صوته في المحاماة حتى أصبح علمًا من أعلامها ولما يجاوز الخامسة والثلاثين، ولم يكد هؤلاء القوم جميعًا يلتفون إلى المائدة حتى كان فيهم دهش وعجب؛ لأنهم جميعًا كانوا أصدقاء، ثم فرقت بينهم أحداث الحياة حتى نسي بعضهم بعضًا نسيانًا قويًّا أو ضعيفًا، وقد ذكرنا أنَّ «أتيين جادان» كان رفيقًا في المدرسة لصاحب القصر، ونذكر الآن أنَّ «فريديير» كان صديق الطفولة والصبا والشباب ﻟ «كلير» قرينة «أتيين جادان» هذا، ولم يكن الأمر قد وقف بينهما عند الصداقة، بل كان قد تجاوزها إلى الحب، وإلى الحب الشديد القوي ثم حيل بينهما وبين الزواج، فانصرف المحامي إلى باريس وأقام فيها، وتزوجت صاحبته من زوجها هذا وأقامت في مدينة من مدن الأقاليم، والتقى هؤلاء الناس جميعًا بعد فرقة اتصلت اثني عشر عامًا، فهم دهشون، وهم مغتبطون، ونحن نشهدهم وقد انصرفوا عن المائدة، وأقبلوا إلى الحديقة يتحدثون ويتناولون القهوة وما إليها، وليس من شك في أنَّ أحاديثهم إنما تدور حول الماضي الذي عرفوه واشتركوا فيه، وحول ما كان لكل منهم من سيرة وحظ أيام هذه الفرقة الطويلة.

وفي هذا الحديث لذة تضحك ولكنها تحزن أيضًا؛ فقد كان هذان الصديقان رفيقين في المدرسة خرجا منها في سنة واحدة، وكان أحدهما أول الفائزين في الامتحان، وكان الثاني آخرهم، ثم لم يتح له الفوز إلا لأن صديقه أعانه وأتاح له هذا الفوز، فلما استقبلا حياتهما العملية انعكست بينهما آية الفوز، فأما آخر الفائزين فهو صاحب القصر الذي أتيحت له الثروة الضخمة والمكانة العالية، وأما أول الفائزين فهو صديقه هذا الذي يعيش عيشة كد وعناء، ويكسب رزقه بالعمل في شركة من شركات السكك الحديدية، وهما يتحدثان في ذلك، يغتبط أحدهما بأنه كان في المدرسة غبيًّا بليد الذهن، ويندب الآخر حظه بأنه كان في المدرسة ذكيًّا حاد الذكاء، وهما يعممان ويتخذان من هذا قاعدة هي أنَّ أشد الناس ذكاء في المدرسة أسوؤهم حظًّا في الحياة العملية، وأنَّ الفوز مقدور للأغبياء الذين لا يذوقون العلم ولا يميلون إليه، وهما يضربان لذلك الأمثال، ويكثران منها حتى يصلا إلى اسم من الأسماء كان صاحبه ذكيًّا نابهًا، وأتيح له شيء من الفوز كان ينقض القاعدة لولا أنَّ سوء الحظ أقبل فردَّ الأمر إلى نصابه، واضطر هذا الرجل إلى الإفلاس، وإلى أنْ يعرض مصنعه للبيع، فاشتراه صاحب القصر وهو يعيد تنظيمه وينتظر من ورائه ربحًا كثيرًا، وهنا تعرض لصاحب القصر فكرة وهي أنْ يستعين بصديقه «أتيين جادان» فيما يعد من عمل، فيعرض عليه ذلك ويرغبه فيه، ويؤكد له أنه كان دائمًا مصدر الخير والثروة لشركائه والذين اتصلوا به، فإذا أظهر شيئًا من التردد ألح عليه ودعاه إلى مكتبه؛ ليظهره على الصور والأوراق فيذهبان، ولا يكادان يذهبان حتى تستأذن صاحبة القصر في أنْ تترك أضيافها حينًا؛ لأنها ستغني بعد أيام في حفلة من الحفلات، وهي مضطرة إلى أنْ تعد نفسها لهذا الغناء، ولن تغني وحدها بل سيشاركها «ميان» أحد الأضياف، وإذن فسيذهب معها أيضًا إلى غرفة الاستقبال حيث البيانو ليجربا صوتيهما وغناءهما، وإذن فلم يبقَ أمامنا إلا «كلير» وصديقها القديم «فريديير»، فهما يتحدثان حديثًا عاديًّا هادئًا في أول الأمر، يذكران صاحبة القصر وانصرافها عنهما في غير كلفة ولا أدب.

ونفهم من الحديث الذين يقصه «فريديير» على صاحبته أنَّ صاحبة القصر لم تتركهما للغناء، وإنما تركتهما للحب، فهي مشغوفة بصاحبها الموسيقي وهو مشغوف بها، وهما لا يتكلفان إخفاء هذا الشغف، وإنما يرسلانه على طبيعته، فإذا حاولت «كلير» أنْ تنكر على صديقها هذه الغيبة أجابها: إني لم أقل شيئًا غريبًا، وإنما حدثتك بما يتحدث به الناس، على أني لا ألوم صاحبة القصر فقد خانها زوجها وأعرض عنها، فأخذت تتعزى وتسلي عن نفسها ولجأت إلى الموسيقى، كما كان يلجأ النساء إذا خانهن الحظ إلى الدير، وهما في هذا الحديث إذ تدعوهما صاحبة القصر من النافذة: «أين أنتما؛ فأنا لا أراكما» فيجيبها «فريديير» نحن حيث تركتنا لم نبرح مكاننا، وإنما تحجبنا عنك الأشجار، فتسأل: «وهل ترياننا؟» فيجيب: «كلا! لأن الأشجار التي تحجبنا عنك تحجبك عنا»، وهو كاذب، فهما يريانها وهي لا تراهما، فإذا سألته صاحبته عن هذا الكذب ولامته فيه أجابها: «إنما أحسنت إليها لأني هونت عليها أمرًا تطمع فيه وتستصعبه، انظري» وينظران فإذا صاحبة القصر وصديقها الموسيقي متعانقان يتلاثمان، فتخجل «كلير» لذلك، ثم تسأل: أليس لها ولد؟

فيجيبها: «كلا، هل تظنين أنها كانت تعرض عن الحب لو أنَّ لها ولدًا؟»

فتجيب: «أحسب أنَّ الولد يعصم أمه من الهفوات.»

«أعتقد أنك مخطئة، وأنَّ الأمومة والحب يستطيعان أنْ يتفقا الاتفاق كله.»

وهنا وضع الكاتب نظريته التي ستدور حولها القصة، وهي أنَّ الحب والأمومة يتفقان أو لا يتفقان، ويجب أنْ نتفق نحن أولًا، فالكاتب لا يريد الحب من حيث هو، لا يريد الحب المشروع بين الزوجين، وإنما يريد الحب الآثم بين الخدنين، يسألها: ألها ولد، فإذا لها صبية في الثانية عشرة من عمرها.

– وهل هي جميلة؟

فتتردد في الجواب تواضعًا واستحياء، ثم تجيب بأنها جميلة بارعة الجمال.

– وما اسمها؟

– «مدلين.»

ثم يذكران صباهما وشبابهما وحبهما، فإذا هو مستمسك بهذا الحب وفيٌّ له متأثر به أشد التأثر حتى في أوقات لهوه وعبثه، فهو كغيره من الشبان قد لها وعبث وأخذ بحظه من اللذة، ولكنه لم ينسَها لحظة، وأكثر من هذا أنه حين لها وعبث لم يَمِلْ من النساء إلا إلى من كانت تشبهها شبهًا قويًّا، وإذا هي ليست أقل منه استمساكًا بالحب وتأثرًا به، وإذا هي كانت تغار وتألم كلما سمعت بخليلاته وأخدانه، وإنما هي تصدقه فيما يزعم؛ فقد رأت في ملعب من ملاعب التمثيل إحدى خليلاته فإذا هي تشبهها حقًّا، وهنا يضع لنا الكاتب النظرية الثانية التي تدور حولها القصة، وهي أنَّ صاحبنا ككثير غيره من الناس لا يحب شخصًا من الناس بعينه، وإنما يحب طائفة من الخلال والمشخصات تتميز بها المرأة التي يهواها، هو يحب شكلًا من أشكال النساء، أو يحب «عَيِّنَة» من النساء إنْ أعجبك هذا التعبير المبتذل، ثم يتصل الحديث بينهما فلا نشك في أنهما صادقان في هذا الحب، ولا نشك في أنَّ طبيعتهما تدفعهما دفعًا عنيفًا إلى استئناف هذا الحب وإلى الانتقام لأنفسهما من هذا الحرمان الذي احتملاه، وهما يقاومان، أما هو فيتكلف المقاومة تكلفًا، وأما هي فتقاوم مخلصة تريد أنْ تفي لزوجها وابنتها، ولكنها لا تحب زوجها ولا تسعد بقربه، فليس لها حصن من هذا الحب الجديد إلا ابنتها وإلا أنها ستسافر منذ غد، ولكن زوجها يتحدث إلى صاحب القصر في مكتبه حول تلك الفكرة التي إنْ قبلت فستضطرها إلى ترك الأقاليم والإقامة في باريس، وانظر إلى زوجها وقد أقبل مع صاحبه مبتسمًا يظهر القبول، أما هي فستمانع في ذلك ممانعة شديدة، ولكنها واثقة بالإخفاق؛ لأن زوجها لا يعتد لها برأي.

•••

فإذا كان الفصل الثاني، فقد مضت أربعة أعوام على ما قدمت لك، ونحن في باريس في بيت «كلير»، فقد قبل زوجها ما عرض عليه صاحبه، واستقر في باريس منذ أربعة أعوام، وكان ما لم يكن منه بد، فانتهى الحب إلى نتائجه بين «كلير» وصديقها «فريديير»، ونحن في أوائل السنة، ولهذا نشهد أبوي «أتيين جادان» قد أقبلا يزوران ابنهما، ونشهد معهما أختًا ﻟ «كلير» شقيَّة تعسة، خانها زوجها وأضاع عليها ثروتها كلها، فلجأت إلى أختها وطلبت الطلاق، «وفريديير» هو الذي يتولى عنها ذلك، ثم نشهد إلى هؤلاء جميعًا فتاة في السادسة عشرة من عمرها، جميلة، بارعة الطلعة، رشيقة، فاتنة اللفظ، ليست بالطفلة، وإنما هي امرأة أو تكاد تكون امرأة، تفكر كما تفكر النساء وتتحدث كما يتحدثن، ولعلها بل لا شك في أنها تحس كما يحسسن، ولكن الناس جميعًا من حولها ينظرون إليها كما ينظرون إلى الطفلة، ويضحكون من جدها كما يضحكون من هزلها، وذلك يؤذيها ويغضبها، فهي تكره أنْ تكون طفلة؛ لأنها ليست طفلة، وهي تريد أنْ ينظر إليها أهلها وأصحابها كما هي لا كما يريدون أنْ تكون، وهذه الفتاة هي «مدلين» بنت «كلير»، وهي تتحدث إلى جدتها وخالتها في شئون مختلفة، حتى إذا عرضن للحب تحدثت فيه كعالمة به، ثم إذا عرضن للزواج ذكرت آمالها وأمانيها في لهجة جادة أثرت في جدتها وخالتها، فتسألانها أتحب أحدًا! فتغضب الفتاة وتنصرف، ونسمع الجدة والخالة تتحدثان فنفهم أنَّ «فريديير» يتردد على هذا البيت ترددًا متصلًا حتى زالت بينه وبين أهله الكلفة، وأصبح كأنه واحد منهم، وأصبح صاحب البيت لا يستطيع أنْ يمضي يومًا دون أنْ يراه، ونفهم أنَّ الجدة تفرض أنَّ حفيدتها تحب هذا الشاب، وهي تفكر في هذا الحب وأنه قد ينتهي إلى زواج، ثم نفهم أنَّ «فريديير» غائب عن باريس منذ أسبوع قد ذهب يزور أمه، وأنَّ أهل هذا البيت جميعًا يجدون لغيابه وحشة، وما هي إلا أنْ نراه قد خلا إلى «كلير» لحظة، فأخذا يتحدثان في الحب وآثاره وفيما وجد كل منهما من وحشة لهذه الفرقة القصيرة، ويقبل الزوج فإذا هو كحاله لم يتغير، ساخط على الناس جميعًا، يندب حظه ويحسد شريكه «أرنستين» الذي يستغله، ويستغل أعماله فيربح المال ويظفر بالمكانة العالية، أليس يتحدث الناس بأنه سيظفر بالوسام! ويمضي الزوج في سخطه وحسده، حتى يتجاوز الناس إلى زوجه فينالها بضروب من اللوم والتأنيب تحتملها هادئة متألمة، ثم يتركهما وينصرف، فيعودان إلى ما كانا فيه من حديث، وإذا حبهما قد تغير وأصابه شيء من الفتور في نفس «فريديير»، فليس هو ذلك المفتون المُدَلَّه الذي رأيناه في الفصل الأول، وإنما هو هادئٌ مطمئنٌ يتكلف الافتتان والهيام، أما «كلير» فبعيد حبها كل البعد عن الهدوء والفتور، وإنما هو يتلظى ويضطرم، وهي تجتهد الاجتهاد كله في تخفيفه وتلطيفه، وقد طلب إليها صاحبها أنْ تزوره اليوم وأعلن إليها أنه ينتظرها فتعتذر؛ لأنها لا تستطيع، فهي مضطرة إلى زيارة لا يمكن إرجاؤها.

– فإذا فرغت من هذه الزيارة فمري بي.

– لا أستطيع لأن ابنتي سترافقني.

وهنا يغضب الرجل غضبًا شديدًا، ويظهر مللًا وتبرمًا بهذه الحياة المضطربة التي تختلس فيها اللذة اختلاسًا، والتي تقوم على النفاق والخديعة، والتي لا يستطيع الحب أنْ يظهر فيها واضحًا صريحًا، وهو لا يتبرم بهذا وحده، وإنما يتبرم بهؤلاء الناس الذين يضطرونه إلى هذا النفاق والخداع، يتبرم بالفتاة ويعلن أنه يكاد يكرهها، فلا تجيبه صاحبته إلا بالبكاء والاستعطاف والدفاع عن ابنتها، ثم ينتهي بهما الأمر إلى الرضا والصفو، وقد أقبلت الفتاة فأعلنت إلى أمها أن قد آن الوقت للزيارة، فتنصرف لتستعد، وتخلو الفتاة إلى «فريديير» فيتحدثان، وإذا الفتاة تحدث هذا الرجل على نحو ما كانت تحدثه أمها، لهجتها ورشاقتها وأسلوبها وطريقتها في التفكير، كل ذلك يصور أمها تصويرًا صادقًا، وهي جادة ولكن صاحبنا كغيره يضحك منها ويحدثها كما يحدث الأطفال، فيغضبها ذلك ويؤذيها، ويضطر هو إلى أنْ يترضاها، وقد كفانا هذا الحديث لنفهم شيئين، الأول أنَّ الفتاة مفتونة بهذا الرجل فتنة لا حد لها، فهي تحبه وتحرص على أنْ تعجبه وترضيه، وعلى أنْ ينظر إليها كما ينظر إلى فتاة تحب وتفهم الحب، والثاني أنَّ صاحبنا يحس من نفسه شيئًا كهذا ولكنه يتجاهله وينكره ويقاومه ويعبث به، ويسلك فيه سبيل الهزل، وهو يسأل الفتاة عما أهدي إليها أول السنة، فتذكر له هدايا كثيرة لم يعجبها منها إلا اثنتان، هديته هو وهدية أبيها.

– وما هدية أبيك؟

– دفتر حسن التجليد مذهب مقفل، سأتخذه لأكتب فيه مذكراتي.

– وهل لك مذكرات؟

فيغضبها هذا السؤال، وكيف لا تكون لها مذكرات وليست بالطفلة ولا الصبية، ولكنها كغيرها من الناس تفهم وتشعر؟! وقد أقبلت أمها فينصرفون جميعًا.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فنحن في قصر «أرنستين» في ليلة راقصة قد كثر فيها المدعوون إلى الرقص وغيره من اللهو، ففي القصر ملعب للتمثيل تلعب فيه صاحبة القصر نفسها مع عشيق جديد لها؛ لأنها قد زهدت عشيقها الأول، وازدحم الناس في هذا الملعب إلا ثلاثة من الشبان انتحوا ناحية، وأخذوا يتحدثون ويعبثون بأهل القصر ومن دُعُوا إليه، ويذكرون جمال النساء والفتيات وآمالهن ومطامع الشبان في مساعيهم، وقد فهمنا من حديثهم أنَّ «مدلين» قد أقبلت إلى هذه الحفلة في زي الفتاة لا في زي الطفلة، وهي تتقدم اليوم لأول مرة إلى الحياة العامة؛ أي تظهر على أنها فتاة تشارك الناس في حياتهم، فلهم أنْ يخطبوها، ولها أنْ تتزوج، وليس من يفكر الآن في الخطبة ولا في الزواج، وإنما هؤلاء الشبان يذكرون جمالها وروعتها ويريدون أنْ يغنموا من ذلك بحظ، يريدون أنْ يراقصوها وذلك يسير إذا قدموا إليها، ولا تلبث صاحبة القصر أنْ تقبل وقد فرغت من لعبها وغنائها فيستبق إليها هؤلاء الشبان يهنئونها ويشكرونها، ولم يذكروها من قبل إلا بالسوء، ثم يطلب إليها أحدهم أنْ تقدمه إلى «مدلين» فتفعل، والناس يترددون في غرف القصر، ونلمح من بينهم صاحب القصر قد انتحى مع صديق له ناحية فهو يحدثه، واسم هذا الصديق «هيبنس» نفهم من حديثهما أنه كان في الهند الصينية منذ أعوام، وأنه عاد إلى باريس، فإذا هي قد تغيرت، وإذا هو لا يعرف أهلها ولا يعرفونه، ولذلك يريد أنْ ينصرف من هذه الحفلة، فيأبى عليه صاحب القصر ويقدمه إلى قريبة له جميلة رشيقة يطلب إليها أنْ تنبئه بكل شيء، وتظهره على كل شيء، حتى يألف الناس ويألفه الناس، فتعده بأنها ستبذل في ذلك جهدها وترجو أنْ توفق، ولا تكاد تتحدث إلى صاحبها حتى تبدأ بصاحب القصر وصاحبته فتغتابهما وتقص أمرهما على الرجل، وتذكر حب صاحبة القصر وعبثها واستهزاءها بزوجها، وتحس أنها ستتناول المحتفلين جميعًا بهذه الغيبة، ولكن الناس يترددون في الغرف يذهبون ويجيئون في المقصف وإليه، فتخلو الغرفة منهم أو من أكثرهم من حين إلى حين، وقد رأينا الشبان يستبقون إلى «مدلين» يطلبون إليها أنْ تراقصهم، ورأينا «مدلين» تقبل ذلك مبتهجة مسرورة، ورأينا أنها بذلك سعيدة، وسمعنا الناس يذكرون أنها ملكة هذه الليلة، وأنَّ جمالها قد ظفر بفوز لا يعدله فوز، وها نحن أولاء نرى «كلير» قد خلت لحظة إلى صديقها «فريديير» فأخذت تحدثه: نحن وحدنا فضمني إليك!

– لسنا وحدنا.

– تستطيع أنْ تتلطف لي في اللفظ فتذكر جمال ثيابي وتنسيق شعري.

– فيظهر ترددًا.

– ما أشد حذرك!

– وما أقل حذرك!

ثم يتحدثان، فإذا حب الرجل لم يزدد إلا فتورًا، وإذا حبها لم يزدد إلا اشتعالًا واضطرامًا، وإذا هي تألم لفتوره، وإذا هو يألم لهذا الفتور أيضًا، ولكنه قد انقطع عن زيارتهما منذ أسبوعين، وكان متعودًا ألا ينقطع عنها يومًا، فهي تعاتبه، وهو يزعم أنَّ عمله كثير، ثم يأتي من يشغلهما، فإذا عاد إلى مكانهما وإلى الخلوة حينًا سمعناها تتحدث إليه في رفق وألم، بأنها سمعت الناس يثنون على ابنتها وعلى جمالها ويذكرون فوزها، وبأن صاحب القصر قد تحدث إليها في رجل يعرضه زوجًا «لمدلين»، ودلها على هذا الرجل، وهو «هيبنس» الذي ذكرناه آنفًا، وقد نظرت إليه فأعجبها منظره، وهي تريد أنْ تخبره، تتحدث إليه بهذا كله في رفق وألم واضطراب، وكيف لا تألم ولا تضطرب وقد كانت تنظر إلى ابنتها كأنها طفلة لا كأنها فتاة يمكن أنْ تخطب، وكانت تحسب نفسها شابة، وكانت تستمتع بحقوق الشباب في حرية وشجاعة، أما الآن فابنتها تخطب، وإذن فليست هي من الشباب بحيث كانت تظن، وإذن فليس لها أن تستمتع بحقوق الشباب في حرية، بل يجب عليها أن تحذر وتحتاط حتى لا تضيع مستقبل ابنتها، ولا تُعرِّض اسم الأسرة للخطر، أليس هذا كله يكفي لتألم وتضطرب! وأيهما منتصر: الحب الذي لا حد له، أم الأمومة تملؤها الرأفة والعطف والحرص على سعادة الأبناء! أتسترسل في حبها الذي يحرقها تحريقًا، أم تقتصد فيه، بل تنصرف عنه؛ لتكون أمًّا حقًّا؛ ولتؤدي واجب الأمومة حقًّا! وأي حق لها في أن تضحي بابنتها ومستقبلها وكرامة الأسرة؛ لأنها تحب وتريد أن تستمتع بالحب؟ وهي تكره زوجها وتشقى بقربه، ولكن ما ذنب الفتاة؟! وهل هي التي خلقت هذا الشقاء؟! هي تحب صاحبها، وتسعد بقربه، وتشقى بفراقه، ولكن ما ذنب الفتاة؟! وهل هي التي خلقت هذا الحب؟! ثم إنَّ الأمومة لا تُعلل، وليس كل شيء فيها يمكن فهمه وتأويله، هي أمٌّ، فيجب أن تضحي بنفسها في سبيل ابنتها، وماذا تكون النتيجة لو سمعت الفتاة بحب أمها الآثم؟ يجب أن ينتهي هذا الحب، ويجب أن يحتمل هذا الألم، ويجب ألا تلقى صاحبها إلا في حذر واحتياط، وقد أقبلت الفتاة فحيت «فريديير» تحية المبتهجة بلقائه، وجلست إليه تحدثه، وانصرفت أمها، فأخذت تطلب إليه نفس ما كانت تطلبه أمها من تلطف وثناء، وأخذ هو يتضاحك أول الأمر فيغضبها ذلك ويحزنها، ثم يأخذ في التلطف والثناء مخلصًا، فيسرها ذلك ويرضيها، وإذا هو قد اندفع في الثناء اندفاع المحبين، وكاد يعلن حبه، ولكنه ملك نفسه قبل أن ينطق بالكلمة الخطيرة، وهل تظن أنَّ مقاومته تغني عنه شيئًا؟ اسمع إلى الفتاة وهي تقص عليه فوزها، وتذكر له أنَّ أحد الراقصين أسرف في التلطف لها وفي ضمها إليه، وإذا صاحبنا غيران لا يملك نفسه، وإذا هو يلوم ويؤنب ويشير إلى صدرها العاري وإلى ذراعيها الظاهرتين ساخرًا منكرًا، وهي بذلك سعيدة فرحة، أليس تعلن إليه راضية أنها لن ترقص الليلة، وقد أحس هو أنه أسرف وباح بسره، فأراد أن يتراجع وأخذ يعتذر ويلح على الفتاة في أن ترقص.

وأقبلت أمها أثناء هذا كله، فسمعت آخر الحديث ولم يرياها، حتى إذا رأياها وأخذ يشركانها في حديثهما أقبل أحد الشبان إلى الفتاة يسألها الرقص، فتنظر إلى «فريديير» كأنها تستأذنه، وينظر هو إليها كأنه يأذن فتنصرف مع الفتى، والناس يترددون في الغرف، وقد امتلأت الغرفة، ثم فرغت إلا من جماعات متفرقة، يعنينا منها هذان الشخصان اللذان انتحيا ناحية يتحدثان وهما «هيبنس» وصاحبته، وهما يمضيان في الغيبة والعبث بأسرار الناس، وقد أقبلت أثناء هذا «مدلين»، فوقفت منهما غير بعيد والفتى لا يعرفها، فهو يسأل صاحبته عن «كلير» ويذكر جمالها، و«مدلين» تسمع وصاحبته تغمزه أنْ يكف فلا يفعل بل يمضي في حديثه، فيذكر سعادة «فريديير» بخليلة كهذه فتسأله صاحبته: ومن أنبأك بهذا؟ يجيبها: أنت منذ حين، وهي تنكر، وماذا ينفع الإنكار وقد سمعت «مدلين» كل شيء فصعقها ما سمعت وهوت إلى الأرض، وقد فقدت الرشد وأقبل الناس إليها مسرعين وأولهم أمها.

•••

فإذا كان الفصل الرابع، فقد مضى على ذلك أسبوعان ونحن عند «كلير» وهي تتحدث إلى أختها محزونة واجمة، فإن ابنتها مريضة مرضًا يجهله الطبيب ويعجز عن دوائه، وقد أرَّقتها العلة المجهولة تأريقًا متصلًا، فهم يحتالون كل الاحتيال في أنْ تنام فلا يزورها النوم إلا غرارًا، وأمها تريد أنْ تعرف هذه العلة ومصدرها، ولكن ابنتها لا تحدثها بشيء، بل هي تنكر أنها مريضة وتنكر أنها تألم، ولا تشك «كلير» وأختها في أنَّ مصدر هذه العلة إنما هو الحب أو شيء متصل بالحب، ولكنهما تريدان أنْ تعلما شيئًا واضحًا، فتقترح عليها أختها أنْ تنظر في مذكرات الفتاة فهي وحدها التي تستطيع أنْ تكشف هذا السر، تتحرج الأم حينًا من النظر في هذه المذكرات دون إذن ابنتها، ولكن عزيمتها تتم على ذلك فتمضي أختها فتسترق الدفتر في رفق وتنظران فيه فلا تكادان تقرأن منه قليلًا حتى تتبينا أنَّ الفتاة تحب «فريديير»، تكفان عن القراءة، وتطلب «كلير» إلى أختها أنْ تتركها، فتخلو إلى نفسها صعقة تنظر في الدفتر وتفكر وتتحدث إلى نفسها، وإذا الفتاة قد أقبلت تمشي مشيًا هينًا، وقد رأت فيما يرى النائم أنَّ دفترها يسرق فأفاقت من النوم وافتقدت الدفتر فلم تجده، فأقبلت إلى أمها فرأتها تنظر فيه، فهي تزجر أمها زجرًا عنيفًا تتهمها بالسرقة والخيانة، وتأخذ الدفتر من يدها فتقذفه في عنف، وأمها ترفق بها وتستعطفها، والفتاة ماضية في السخط، حتى إذا أخذت تهدأ بعض الشيء أحست إساءتها إلى أمها فرقت، وأدنتها أمها إليها وأخذت تلاطفها وتهزها في لين، وتسألها أنْ تظهرها من أمرها على كل شيء، والفتاة تقاوم، ولكنها سئمت المقاومة وعجزت عنها، فتذكر لأمها كل شيء، وتنبئها بما سمعت.

فانظر إلى هذه المرأة كانت تخشى أنْ يتسامع الناس بحبها، وكانت تخشى أنْ تعلم ابنتها بهذا الحب، وكانت معتزمة الانصراف عن هذا الحب، وكانت ترى هذه التضحية بنفسها حقًّا عليها لابنتها فماذا تسمع الآن؟ تسمع أنَّ ابنتها تحب عشيقها، وأنَّ ابنتها تعلم بهذا الحب، لو لم تكن أمًّا لصعقت بما تسمع، ولكنها أم تريد أنْ تنقذ ابنتها، فهي ليست صعقة ولا مضطربة، ولكنها مغضبة ثائرة، تنكر ما اتهمت به وتقسم أنه كذب، وقد رأت الفتاة الصدق فاطمأنت إليه، وأخذت تبتسم، ثم أخذت تحيا، ثم أخذ الأمل يستأثر بها، وإذا هي قد استردت نشاطها وابتهاجها، وهي تسأل أمها أيمكن أنْ أتزوج «فريديير»! فتجيبها: أنت تحبينه! فإذا كان يحبك فماذا يمنع من الزواج؟

– هو يحبني، لا أشك في ذلك، لقد ظهر لي ذلك منه ظهورًا جليًّا، وتقص عليها غيرته ليلة الرقص.

– إذن فستتزوجينه!

وتدخل الخادم فتنبئ بأن «فريديير» يستأذن، فتنصرف الفتاة تاركة لأمها أنْ تتحدث في هذا الحب إلى «فريديير» فإذا خلت «كلير» إلى صاحبها لم تضع الوقت في كلام لا يفيد، وإنما أنبأته بما تعلم من أسباب العلة التي أضنت ابنتها، وأعلنت إليه أنَّ الفتاة تحبه، ثم لم تلبث أنْ أعلنت إليه أنه يحبها أيضًا، ومهما ينكر، ومهما يتكلف فقد ثبت ذلك وهو لا يستطيع أنْ يخفيه، ولكنه لم يجنِ ما تظن، فهو لم يُغوِ الفتاة ولم يعبث بقلبها الطفل، وإذا كانت الفتاة قد أحبته فلم يسعَ هو إلى ذلك ولم يفكر فيه، كما أنه لم يتعمد حب الفتاة ولم يقصد إليه، فهو يحبها حقًّا، ذلك شيء لا يستطيع أنْ ينكره، ولكنه لا يدري كيف أحب، وإنما يعلم أنه أحس هذا الحب يقوى في قلبه، وأحس أنه يقوى في قلب الفتاة فقاومه ما استطاع حتى إذا استيأس من الفوز انقطع عن البيت، وهو الآن معتزم أنْ يسافر إلى حيث لا يعود، وعزيز عليه هذا، عزيز عليه ما أحدث من ألم في قلب هذه الأم التي يحبها، عزيز عليه ما أحدث من يأس في قلب هذه الفتاة البريئة، هو لا يعلم لِمَ أحب الفتاة، ولا كيف أحبها.

ولكن «كلير» تعلم ذلك؛ إنما أحب الفتاة لأنها تشبه أمها حين كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وحين كان يحبها ويهواها، وحين حيل بينه وبين الاقتران بها، وهي تطلب إليه الآن شيئًا عظيمًا، تطلب إليه ألا يسافر، تطلب إليه أنْ يتزوج الفتاة، يصعقه هذا الطلب فيجن جنونه ويتهم صاحبته بالجنون وفقدان الرشد، وكيف يستطيع أنْ يتزوج هذه الفتاة وهو عشيق أمها! أليس في ذلك منكر لا يعدله منكر! وليس من الحق أنَّ هذه الفتاة تستطيع أنْ تسعد بهذا الزواج؛ فستفكر أبدًا في أمها، وستعلم من غير شك أنَّ أمها قد كذبتها، وسيقوم ذلك الحب الآثم في سبيل هذا الحب المشروع، ولكن الأم مطمئنة تعلم حق العلم أنَّ الفتاة ستسعد، وأنه هو سيسعد أيضًا، وأنَّ الفتاة ستجهل هذا الحب الآثم، وأنه هو سينساه، تلح في الزواج، ويلح في الإباء، ويكون بينهما حوار لا أحاول تلخيصه فوق التلخيص، ولكنها عجزت في إقناعه فوكلت إليه هو أنْ يعلن رفضه إلى الفتاة، وتدعو الفتاة، فتقبل فرحة مبتهجة وتحييه تحية الواثقة المطمئنة إليه، فإذا أعلن إليها أنه مسافر إلى حيث لا يعود ظهر عليها من الاضطراب واليأس شيء لم يستطع هو أنْ يحتمله، وكأنها تصدق ما سمعت، وإذا هو يعلن إليها أنه سيعود ويعلن إليها ما يفهم منه أنه قبل الزواج، وهي فرحة قد طارت فرحًا إلى خالتها تدعوها لتسمع هذا النبأ، وخلا العاشقان لحظة، فإذا هو يعترف بعجزه عن مواجهة الفتاة بالحق، وإذا هي تقر الزواج مضحِّية بحبها في سبيل ابنتها.

– إني لأقدسك!

– إنْ أنا إلا امرأة شقية.

مايو ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤