النضال

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «هنري لفدان»

هي نضال بين عالِم وقسيس، أو هي نضال بين علم العالم ودين القسيس، أو هي نضال بين العالم ونفسه، وبين القسيس ونفسه، أو هي نضال بين هذين الرجلين وبين امرأة، أو هي نضال بين هؤلاء جميعًا، وبين الحياة الاجتماعية، أو قل — وأنت مصيب فيما تقول — إنها نضال بين هؤلاء جميعًا، وبين هذه الأشياء كلها، هي نضال منذ تبتدئ إلى حيث تنتهي، هي نضال في جملتها وفي تفصيلها، ومع ذلك فهي تخلو من العنف، وتخلو من القسوة؛ لأنها نضال بين الآراء والأهواء، والعواطف والشهوات، نضال لا يتجاوز هذه الآراء والعواطف والشهوات إلى الجهاد المادي؛ ولهذا تخلو القصة من العنف والقسوة، أو تخلو من العنف والقسوة الماديين.

أخشى ألا تعجبك هذه القصة، وليس يدهشني ألا تعجبك؛ فهي — كما قلت — تخلو من كل عنف وقسوة، وتخلو من كل نتيجة من شأنها أن تهز النفس، وتقفها أمام الأمر الواقع، الذي ليس إلى إصلاحه أو استدراكه من سبيل، وهي — كما قلت — جهاد بين آراء وأهواء، وعواطف وشهوات، هي جهاد يلذ العقل ويلذ الشعور، ولكنه لا يفجأ بكبريات الأمور وجسام الحوادث، فمن المعقول ألا تستهويك، ولا تؤثر فيك هذا الأثر العظيم الذي تؤثره القصص العنيفة المخيفة، ومع ذلك فأنا أريد أنْ تعجبك هذه القصة، وأريد أنْ تؤثر فيك هذه القصة، وأريد أنْ يكون مصدر هذا الإعجاب، وهذا التأثير نفس خلوها من العنف، وبراءتها من الحوادث الجسام، فليس العنف شرطًا أساسيًّا لجمال القصة التمثيلية، وليست الحوادث الجسام أمورًا لا بد منها، ليستطيع الكاتب أنْ يؤثر وأنْ يهز النفس، بل — ماذا أقول! — العنف موجود في هذه القصة، بل هذه القصة عنيفة كلها، بل هذه القصة كلها حوادث جسام، ولكن يجب أنْ نتفق على معنى العنف، ويجب أنْ نتفق على معنى الحادث الجسيم، فليس من الحق في شيء أنَّ العنف مقصور على هذه الحركات المادية القوية، التي تستتبع الآثار الضخمة في الحياة الخارجية، وليس من الحق أنَّ الحوادث الجسام مقصورة على ما تراه العين، وتسمعه الأذن، وتلمسه اليد من حقائق الحياة، بل قد يكون ما يحدث في النفوس، وما يجري في القلوب دون أنْ يراه أحد، ودون أنْ يحسه إلا صاحبه أشد عنفًا، وأقرب إلى الفزع والهلع من كل ما نشهد في الحياة الخارجية من الأمور العنيفة.

وقد تكون هذه العواطف النفسية التي تستأثر بنفس الإنسان، فتنسيه كل شيء، وتلهيه عن نومه ويقظته، وعن طعامه وشرابه، بل تلهيه عن حياته كلها، قد تكون هذه العواصف وما تحدث من الآثار، حوادث جسامًا لا تعدلها الحوادث الجسام المعروفة، وعلى هذا النحو، وعلى هذا التفسير للعنف وللحادث الجسيم، نستطيع أنْ نقول: إنَّ هذه القصة ليست إلا عنفًا، وليست إلا حوادث جسامًا، وإنما ينبغي أنْ نتعود هذا النحو من الفهم، ونألف هذا النحو من التفسير، ينبغي أنْ نتعود النظر في أنفسنا، ونقدر العواطف التي تدير حياتنا وحركاتنا، ونشعر شعورًا قويًّا، بل نعلم علمًا لا شك فيه، أنَّ هذه العواطف التي تدير نفوسنا، وتسخر أجسامنا، وتدبر حياتنا المادية والمعنوية، هي مصدر كل شيء في هذه الحياة، هي مصدر ما يبهرنا من عنف، وهي مصدر ما يخلبنا من لين، هي مصدر البؤس والنعيم، وهي مصدر السعادة والشقاء، وهي مصدر التردد بين هذا وذاك، يجب أنْ ننظر في أنفسنا نظرًا صحيحًا، وأنْ نقدر عواطف أنفسنا وأهواءنا — كما ينبغي أنْ نقدرها — إذن يتغير إعجابنا بالقصص التمثيلية، ويكون كلفنا أشد بهذه القصص، التي تخلو من العنف المادي منه، بتلك التي يملؤها العنف المادي، يكون إعجابنا بهذه القصص أشد وأقوى، لأنه إعجاب مصدره العقل والشعور والتفكير، وليس مصدره تأثر الحواس واهتزاز الأعصاب بهذه المؤثرات الخارجية.

قلت: إنَّ هذه القصة نضال بين أشخاص وبين أشياء، فيجب أنْ أبدأ، فأقدِّم إليك أشخاص هذه القصة، وهم أربعة: امرأة، وثلاثة رجال.

فأما المرأة فهي الدوقة «دي شاي» في ريعان شبابها، قد أوتيت من الجمال والفتنة حظًّا عظيمًا، وهي إلى جمالها وشبابها شديدة الذكاء، كثيرة العلم، قوية الإرادة إلى حد غريب، شديدة السلطان على نفسها، تشعر بالشيء العنيف، وتتأثر بالعاطفة الحادة، ولكنها تخفي هذا كله عن الناس، فلا يحسونه ولا يشعرون به، وقد تستطيع أنْ تخفيه على نفسها، جميلة ذكية فاضلة عالمة، ولكنها مع هذا كله سيئة الحظ، سيئة الحظ منذ ولدت، بل قبل أنْ تولد، فقدت أباها قبل أنْ تُقبل على هذه الحياة بيومين، فلما وُلدت أَفقَدت أمها الحياة، فكان مهدها — كما تقول — يهتز بين نعشين، ثم أخذت كلما شبَّت فقدت بعض أهلها وذوي قرباها، حتى إذا استكملت قوتها وبلغت الشباب، كانت وحيدة، أو كالوحيدة في الحياة، ولكنها بحكم هذا اليتم المتصل، كانت غنية ضخمة الثروة لما ورثت عن هؤلاء الراحلين، فكان من المعقول وقد جمعت بين الجمال والذكاء والثروة، أنْ يكون حظها في الزواج حسنًا، وقد خُيِّلَ إليها أنه حسن، خطبها شاب غني، عظيم الاسم، ماجد الأسرة، أنيق رشيق، هو الدوق «دي شاي» فأحبته، أو خيل إليها أنها أحبته، ولكنها لم تكد تقترن به، حتى تبينت أنَّ حظها في الزواج ليس خيرًا من حظها في غير الزواج، فهذا الزوج الذي فتنها بجماله وثروته ومجد أسرته، كان مريضًا أو قل: إنه كان مجنونًا، أسرف في اللذة وتهالك عليها، وافتنَّ في ضروب الفساد حتى أصابته بلادة الحس، فاصطنع «المورفين»، وما يشبه المورفين، وأتت هذه المخدرات على ما كان قد بقي من عقله وصحته، فهو الآن مجنون، وهو يعالج في مستشفى يديره الدكتور «هنري موري»، وهو الشخص الثاني من أشخاص هذه القصة.

عالِم مشهور بمهارته في طب المجانين، قد نبغ في هذا الفن، ووقف حياته وقوته عليه، حادُّ العاطفة قويُّها، شديد التأثر بأهوائه وشهوات نفسه، ملحد ولكنه يؤمن بالمثل الأعلى، ويطمح إلى الكمال، ويعتقد أنَّ في هذه الحياة أشياء غير المادة، خليقة بعناية الإنسان وإكباره، وأهم هذه الأشياء الحب، وهو ملحد، ولكنه كان شديد الإيمان قبل إلحاده، كان مسرفًا في التعبد وضروب النسك، حتى سخط عليه أبوه الذي كان يحتقر الدين ورجال الدين، ويكره أنْ يتصل أبناؤه بالدين ورجال الدين، كان شديد الإيمان فأصبح شديد الإلحاد، وله أخ، هو الشخص الثالث من أشخاص هذه القصة، كان في شبابه فاجرًا مسرفًا في الفجور، وكان بحكم هذا الإسراف في الفجور قرة لعين أبيه، مقربًا عنده مختصًا بإيثاره، ولكنه أسرف في اللذة حتى عافها، ومال عنها إلى شيء من الزهد، اضطره إلى شيء من الدين، ثم إلى الإسراف في الدين، حتى وقف حياته على الدين وأصبح قسيسًا، فغضب عليه أبوه وطرده، وحظر عليه أنْ يتسمى باسمه.

أما الشخص الرابع من أشخاص هذه القصة فرجل من رجال الدين أيضًا، هو الأسقف «بللين» من أساقفة الصين، رجل شيخ وقور، واسع العقل، راجح الحلم، شديد الإيمان، قد وَفَّق في نفسه بين الدين الخالص الطاهر وبين العلم، وبين حاجات الحياة وضرورتها، فهي لا تتناقض في نفسه، وهو لا يفهم مصدر تناقضها عند الناس، وهو يستطيع أنْ يتحدث إلى الملحدين، فإذا هم يشعرون بحاجاتهم إلى إكباره وإجلاله، وأنْ يتحدث إلى المؤمنين المسرفين في الإيمان، فإذا هم يشعرون بضعف إيمانهم، وهو يستطيع أنْ يتحدث إلى الأغنياء والمترفين والمفتنِّين في اللذات والشهوات، فيحبب إليهم الخير دون أنْ يؤذيهم، ودون أنْ يمكِّنهم من أنْ يؤذوه، وهو مبتسم أبدًا، يقول الجد ولكن في مزاح، ويمزح فإذا فكاهته جدٌّ مرٌّ، أصابه الأذى والاضطهاد في الصين، فلقي ألونًا من العذاب، عطفت عليه قلوب الناس جميعًا، فأعجب به المعجبون، وأنعمت عليه حكومة الجمهورية بأوسمتها، وهو يسخر مما لقي من الأذى، ويعجب أنْ يكون هذا الشيء اليسير مصدرًا لهذا العطف الكثير، أثر هذا الإيذاء فيه، فيناله من حين إلى حين ضعف عصبي، وهو الآن في مستشفى الدكتور «موري»، يتعهد أعصابه بشيء من الراحة، ومن حول هؤلاء الأشخاص الأربعة أشخاص آخرون ليس لهم شيء من الخطر.

•••

فإذا كان الفصل الأول رأيت الطبيب في مكتبه، وقد دخلت عليه الدوقة، فأخذ يسألها عن زوجها، فتتبين أنَّ حاله لا بأس بها، وإنْ لم يكن قد برئ، وإنْ لم يكن ينتظر له الشفاء، وتتبين أنه سيترك المستشفى هذا اليوم، على أنْ يتعهده الطبيب في قصره، ولكنك تتبين بنوع خاص أنَّ الطبيب يحب هذه المرأة حبًّا ليس يعدله حب، وهو يجاهد في كتمان هذا الحب، دون أنْ يحرص على هذا الكتمان، يريد أنْ تشعر به الدوقة، ولكنه لا يريد أنْ ينبئها به، وتتبين أيضًا أنَّ هذه الدوقة شقية سيئة الحال، لكل ما قدمت لك من أمرها، ولكنك تشعر بأن نفسها تنزع إلى شيء غير بيِّن، وأنها تحارب هذه النفس، وتلزمها أنْ تطمئن إلى ما هي فيه من حال سيئة، فإذا ذكر الحب، أعلنت في شدة وعنف أنها تكرهه وتنفر منه كل النفور؛ لأنه مصدر ألم لا حد له، ثم إذا ذكر الدين أعلن الطبيب إلحاده، وأنبأته هي أيضًا بأنها ملحدة، وهما في هذا الحديث إذ يستأذن الأسقف، فإذا دخل وقدمت إليه الدوقة، وتحدث القوم فيما أصاب الأسقف من العذاب في الصين، وحاولت المرأة أنْ تخرج، فقبلت يد الأسقف قبل خروجها، ظهرت على وجه الطبيب مظاهر تدل على شيء من الألم والامتعاض، ثم يخلو الطبيب إلى الأسقف، فيتحدثان في أمر هذه المرأة، يمدحها الطبيب، فيسأله الأسقف في صوت هادئ طبيعيٍّ: أَلَهَا عاشق؟ فإذا غضب الطبيب لهذا السؤال، وزعم أنَّ هذه المرأة أطهر النساء وأشرفهن، أجابه الأسقف: وإذا كانت — كما تقول — شريفة عفيفة طاهرة، لا عاشق لها، فما بالك تحاول أنْ تكون أنت عاشقها؟ فَهِمَ الأسقف إذن حب الطبيب، ويحاول الطبيب أنْ ينكر هذا الحب، فلا يلح الأسقف، ثم يسأله الطبيب عن رأيه في هذه المرأة، فيجيبه: هي امرأة مؤمنة خالصة للكنيسة، فيسخر الطبيب؛ لأن هذه المرأة قد أنبأته بأنها ملحدة، ولكن الأسقف ينبئه بأن الطبيب الماهر يستطيع أنْ ينظر إلى الرجل الذي يخيل إلى الناس أنه صحيح الجسم، فلا يكاد ينظر إليه حتى يتبين أنه مريض، وحتى يشخص علته، وكذلك المهرة من رجال الكنيسة ينظرون إلى الإنسان يخيل إليك أنه ملحد، فيتبينون إيمانه وإخلاصه للدين، يقع هذا الحديث موقعًا سيئًا من نفس الطبيب، ولكنه يخفي ذلك، وهما يتحدثان إذ يدخل الخادم ومعه بطاقة يقدمها إلى الأسقف، فيهم الأسقف بالخروج لاستقبال زائره، فيمسكه الطبيب، ويعرض عليه أنْ يستقبله في مكتبه ويخرج، يبقى الأسقف ويدخل الزائر، فإذا هو القسيس أخو الطبيب، وكان هذا القسيس تلميذًا للأسقف، فكلاهما يحب صاحبه حبًّا شديدًا، وكان القسيس قد أقبل إلى هذا المستشفى؛ ليرى أخاه في أمر من الأمور، فلما سمع اسم الأسقف أسرع إلى لقائه، يدهش الأسقف حين يعلم أنَّ الطبيب أخو القسيس، فينبئه القسيس بكل ما قدمت لك، وينبئه بأنه مقاطع أخاه منذ عشر سنين، وأنه سيراه لأول مرة منذ ماتت أمهما.

ثم يخرج الأسقف ويرافقه القسيس، فإذا عاد الطبيب إلى مكتبه ودخل عليه القسيس، كانت بينهما ألفاظ فيها شيء من المودة، ولكن المودة الجافة؛ ذلك أنَّ الطبيب يكره الدين، وإذ كان لا يستطيع أنْ يفرق بين الأشخاص وآرائهم ومذاهبهم، فهو يكره الأشخاص إذا كره آرائهم، ولكنه مع ذلك يتلطف بأخيه، أما أخوه فقد أقبل يسأله المعونة في شيئين، الأول أنَّ طائفة من المؤمنين في حيه قد أنشئوا مستوصفًا لمرضى الفقراء، فهو يعرض على أخيه أنْ يعمل في هذا المستوصف ساعة أو ساعتين في الأسبوع، ولكن الطبيب يرفض؛ لأنه لا يستطيع أنْ يعمل مع رجال الدين، الثاني أنَّ الطبيب يعالج الدوق «دي شاي»، وامرأة هذا الدوق غنية محسنة، فيريد القسيس أنْ يتوسط له أخوه عند هذه المرأة لتعينه بشيء من المال في عمله الخيري، ولكن الطبيب يرفض أيضًا؛ لأنه لا يريد أنْ يثقل على الدوقة في شيء كهذا، وانظر إلى هذا الحوار الذي يبين موقف الأخوين كل من الآخر:

القسيس : هذا حسن، سأعمل وحدي، أترى بأسًا في أنْ أكتب إلى الدوقة أو أزورها؟
الطبيب : لا بأس! ولكن على شرط، ألا تعلم الدوقة أنك أخي.
القسيس : ستجهل ذلك!
الطبيب : هذه منفعتك.
القسيس : ومنفعتك أيضًا.

(يظهر الطبيب إنكار ذلك.)

القسيس : نعم! أنا أضايقك، فأنت خجل من انتسابي إليك.
الطبيب : لا يخجلني انتسابك إليَّ أكثر مما يخجلك انتسابي إليك؛ فليس لأحد منا أنْ يخجل من صاحبه، أو أنْ يفاخر به، لقد وجهت حياتك كما أحببت، وكذلك فعلت أنا، ثم انقطع التزاور بيننا.
القسيس : فهل انقطع بيننا الحب؟
الطبيب : تأمل، لم يحب أحد منا صاحبه قط.
القسيس : قليلًا فيما مضى.
الطبيب : قليلًا جدًّا في غير عمد، ولكن منذ ذلك الوقت! الآن؟ ليس من اليسير عليَّ أنْ أفرق بين الأشخاص وآرائهم! وإذن فماذا يريد؟ أنا أكره آراءك كما تكره أنت آرائي! أما أشخاصنا فأنت أحب إليَّ من الأجنبي!
القسيس : أو دون الأجنبي!
الطبيب : أتظن أني أكرهك؟ كلا! وإنما تبعث في نفسي شعورًا آخر، غضبًا يمازجه الإشفاق، حينما أفكر في هذه الصنعة التي تنفق فيها حياتك، فأنت لا تحيا، وأنت لا تفيد.
القسيس : لست من الجور بحيث أصفك بما تصفني به.
الطبيب : أنت مكره على ذلك بحكم البداهة، فأنا أحارب، وأنا أجاهد العلل والآلام، وربما أسرت هذه العلل والآلام، وجردتها من أسلحتها، فهذا وحده يستأثر بالنفس، وهذا وحده يجعل الحياة خليقة أنْ يحرص عليها صاحبها، هذا الصراع في كل لحظة صراع الألم والموت، ومن هنا أكاد أبكي حين أرى قوة كقوتك، جميلة شابة تضيع في تقبل الاعتراف من الخادمات.
القسيس : تستطيع أنْ تمسح عينيك، فهذا الكلام يدهشني من عالم، ذكرت الاعتراف، ألم تفكر قط في أنَّ قسيسًا متواضعًا يقضي سنة في تقبل الاعتراف، قد يعلم أمر الإنسانية أكثر مما يعلم الفلاسفة جميعًا، إنك تذكر الصراع، ولكن ضروب الصراع التي تنفق فيها حياتك، ليست إلا ألاعيب أطفال مضحكة بالقياس إلى الصراع الذي أحيا أنه فيه، صراعي أنا أشد من صراعك حدة، وأقرب منه إلى العنف، وأنا في كنيستي الصغيرة الخالية أحيا منك ألف مرة في مستشفياتك ومستوصفاتك.
الطبيب : لا أفهم!
القسيس : انظر، (ثم يدنو منه) اسمع، إنَّ بين اللاتي أسمع لهن امرأة أستطيع أنْ أتحدث عنها في غير حرج، فأنا لا أعرفها، لم أرَ قط وجهها، فهو مستور أبدًا، وقد أسمعها تتحدث غدًا، فلا أعرف من صوتها شيئًا، فكل هذه الأصوات الهامسة التي تتحدث في الاعتراف، مجهولة من القسيس، ومهما يكثر عدد المعترفين ويبلغ المئات، فنحن لا نسمع إلا رجلًا واحدًا وامرأة واحدة.
الطبيب : إذن فمعترفتك …
القسيس : هي متزوجة شقية، وهي تحب رجلًا غير زوجها، ومع أنها مضطرة إلى معاشرة هذا الرجل، لم تشعره قط بهذا الحب، مع أنها تعلم أنه يحبها، ولقد كادت شهوتها المكظومة تنفجر عشر مرات، فخرجت مسرعة إلى هذا الذي تسميه فيما بينها وبين نفسها عاشقها، ولكنها في كل مرة أسرعت إلى المعترف فبكت وتضرعت، ثم عادت منتصرة فرحة.
الطبيب : إلى متى؟
القسيس : عهدي بهذا الجهاد منذ شهرين، فانا أمسك هذه النفس، وأنا أذود عنها، وأحميها من السقوط في هوة الحب، هذا صراعي، هذا ما أفعل.
الطبيب : هذا وحشي!
القسيس : أنا أمنع هذه المرأة من السقوط، فانظر فائدتي في الحياة.
الطبيب : أنت لا تمنع شيئًا لحسن الحظ، وكل ما تفعل أنك تؤخر إلى دقائق هذا اللقاء الذي لا بد منه لهذين الشخصين، ولن تكون بينهما أبدًا حين تهب عاصفة الرغبة، غدًا أو هذا المساء تسرع صاحبتك المنتصرة إلى عاشقها، وتعترف هناك ذارفة دموعًا أخرى، تقول لعاشقها كل ما لم تقل لك، ويتحابان حبًّا عظيمًا قويًّا؛ لأنهما انتظرا طويلًا، ولن يكون عملك في آخر الأمر، إلا ترقية لحظهما من السعادة؟
القسيس : ستعود إليَّ!
الطبيب : تعود إليك بعد أنْ تكون قد سقطت!
القسيس : سأنهضها!
الطبيب : ستسقط مرة أخرى!
القسيس : لقد سقط المسيح مرات ثلاثًا، فستكون لي الكلمة الأخيرة.
الطبيب : نعم حين تبلغ الشيخوخة، وهبك تنتزعها من بين ذراعي الحب، فلن تستطيع أنْ تمنع أنها أحبت، هذا كل ما أردتُ أنْ أُثبت، فالرجال جميعًا غنيمة، ولو مرة واحدة في الحياة لهذه الجذوة الملتهبة الضرورية، جذوة الحب، تُخَيِّلُ إلى نفسك في سذاجة أنَّ قصتك هذه معجزة، انظر، (ثم يدنو) اعف عن اعترافي هذا مقابل اعترافك، إني أحب أنا أيضًا.
القسيس : أنت؟
الطبيب : أنا! فأنا حر، ولم أنذر العفة، أحب امرأة متزوجة أيضًا، امرأة متكبرة قوية الإرادة، تقاوم وتمانع هذا الألم اللذيذ، ومع أننا كتمنا الأمر، ولم يتحدث أحدنا إلى صاحبه بشيء، فإن لحاظنا قد فضحت هذا السر، وقد نهض بعضنا لبعض، وأنذر بعضنا بعضًا، ونحن الآن نتقدم بحكم القضاء، وفي سعادة وغبطة، وبيننا مصاعب وعقاب، أشد من تلك التي تحول بين صاحبتك المؤمنة وبين عاشقها، ومع ذلك فسننتصر مثلهما قبلهما، وسيملك كل واحد منا صاحبه، فليس الأمر إلا إلى ساعات.
القسيس : ليست الساعة بيد أحد.
الطبيب : نعم أعلم.

فقد فهمتَ من هذا كله إلى أي حدٍّ بلغت الخصومة بين هذين الأخوين، وقف أحدهما نفسه على الدين، ووقف الآخر نفسه على العلم، فكلاهما يزدري صاحبه، وقد فهمت أيضًا أنَّ الأمر بينهما قد ازداد تعقيدًا، فليست هذه المرأة التي تلتهمها جذوة الحب، ولكنها تجاهد وتمانع، وتستمد القوة على هذا الجهاد من القسيس والدين، إلا الدوقة التي تحب الطبيب والتي يحبها الطبيب، وهي تنكر حبها ولكنها تصطليه، والطبيب ينتظر أنْ تعترف به، يخرج القسيس وتأتي الدوقة؛ لتنبئ الطبيب بأن زوجها قد عاد إلى القصر في خير، فما أسرع ما يصلان إلى الحب، وما أسرع ما يعلن الطبيب إليها حبه، فإذا هي وجلة، وإذا هي تنفر من هذا الحب وتأباه، وإذا الطبيب يلح عليها فيه، وإذا هو ينبئها بأنها تحبه أيضًا، تنكر وتأبى، ولكن إلحاحها في الإنكار وإصرارها على الإباء، لا يزيدان حبها إلا وضوحًا، ولا يزيدان ميلها إلى الإذعان إلا ظهورًا، ما أسرع ما تتغلب إرادة الطبيب، وما أسرع ما ينتصر الحب، فإذا المرأة مذعنة، وإذا هي معترفة بالحب، وإذا هي قابلة لكل ما يطلب إليها، وماذا يطلب إليها صاحبها غير الموعد! هو الذي يضرب الموعد، ويحدد مكانه وساعته، وهي قد فقدت كل إرادة وكل قوة على المقاومة، فلا تستطيع أنْ تجاوب إلا بالرضا.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فنحن في بيت القسيس، وهذا القسيس قد جلس إلى مكتبه في غرفة فقيرة، ولكنها لا تخلو من جمال فني؛ لأن هذا القسيس يحب الفن ويكلف بالجمال؛ بل هو لا يعبد الله ولا يحبه إلا لأنه يرى الدين مظهرًا من مظاهر الفن والجمال، هو يتحدث إلى خادمه، وإذا الباب يطرق، فينكر القسيس نفسه، ولكن الطارق يلح، ويعلن أنه سينتظر عودته، فإذا أذن له في الدخول، رأيت الدوقة قد أقبلت إلى القسيس تستغيثه وتستنجده، ذلك أنَّ القسيس كتب إليها وهو لا يعرفها، كتب يطلب معونتها على عمله الخيري، فلما قرأت كتابه، وكانت لا تفكر إلا في الحب ولا تنتظر إلا الموعد، ذكرت الدين، وذكرت القسيس، فأسرعت إلى الكنيسة لا إلى الموعد، ولكنها لم تجد القسيس في الكنيسة، فأسرعت إليه في بيته، وماذا تريد من القسيس في هذا البيت، وهو لا يملك قبول الاعتراف إلا في الكنيسة، وهو لا يستطيع أنْ يذهب معها إلى الكنيسة ليسمع اعترافها، وينزل عليها رحمة الله، لا يستطيع؛ لأنه مدعو لعيادة مريض يشرف على الموت، وهذا المريض أحوج إلى كلمة الله من هذه التي تجاهد الإثم، لا يستطيع أنْ يذهب معها فلتنتظر إلى غد، وهو يتركها الآن، ولها أنْ تجثو أمام هذه الصور — صور القديسين — وأمام هذا الصليب، فتستمد القوة والمعونة، ولكن القسيس لا يكاد يخرج حتى يطرق الباب، فإذا أخوه الطبيب، ذلك أنه انتظر صاحبته، فأبطأت عليه فخرج يترقبها فرآها تنحو نحو الكنيسة فتبعها، ثم رآها تنحو نحو بيت القسيس فتبعها، ثم رآها تدخل فدخل، وقد علم الآن أنَّ أخاه إنما ينازعه حبيبته، وقد علم الآن أنَّ هذه الحبيبة قد خدعته، حين زعمت له أنها ملحدة، وقد علم الآن أنَّ الأسقف كان موفقًا، حين زعم أنها مؤمنة، يريد أن يأخذها فتأبى، ويمانع القسيس، ويأخذه بالخروج، ولكنه يأبى أنْ يخرج حتى يتحدث إلى صاحبته في خلوة، يمانع القسيس، ولكن المرأة تقبل ذلك فيتركهما، فإذا موقف عنيف مؤثر فيه الجهاد بين الحب الذي لا يعرف رحمة ولا لينًا، وبين الحرص على الشرف القديم، والوفاء للفضيلة الموروثة، فليست هذه المرأة مؤمنة، ولكنها تكره الإثم، وقد دافعت نفسها عن هذا الإثم، وقد دافعت هذا الإثم ما استطاعت، فقدت كل سلاح، ولم يبق لها إلا الدين، فهي تتعلق به، وتتهالك عليه، رجاء أنْ يعصمها من النقيصة، ولم تكن تعلم أنَّ هذا القسيس أخو الطبيب، أما الآن فقد علمته، وتغير كل شيء، ليست أشد ميلًا إلى الحب، بل هي أشد نفورًا مما كانت، ولكن الحب قوي عنيف، وما يزال صاحبها بها حتى يغلب إرادتها مرة أخرى، وحتى يستهويها ويأخذها، وهما يخرجان إذ يدخل القسيس فينقض كل شيء، وتظهر بشاعة الأمر لهذه المرأة واضحة جلية، فتنصرف وتترك الأخوين يتنازعان، عنيف جدًّا هذا النزاع بين الأخوين، كنت أود لو ترجمته لك؛ لأني لن أستطيع أنْ أبلغه بالتلخيص والتحليل.

يتهم الطبيب أخاه؛ بأنه ليس مخلصًا في دينه، وأنه لا يدفع هذه المرأة عن الإثم ابتغاء مرضاة الله، وإنما هو يشتهيها، هو لا يفرق بين دينه وبين نفسه، هو يزعم أنه يستخلص هذه المرأة للدين، والحق أنه يريد أنْ يستخلصها لنفسه، ليس قسيسًا، ولكنه رجل فاجر، وعما قليل سينزع ثوب القسيس، وعما قليل سيعود إلى ما كان فيه من الإثم، يلح الطبيب على أخيه في هذا إلحاحًا شديدًّا، ويدافع القسيس فيخيل إلى نفسه أنَّ أخاه يريد أن يؤثر فيه، وأنْ يخيفه من الإثم، ولكنه كلما ازداد إلحاحًا في الدفاع، ازدادت الصورة وضوحًا في نفسه، فهو لا يدافع حقًّا عن الدين منذ عرف هذه المرأة، وإنما هو ألعوبة في يد طائف من الطوائف، هو ألعوبة في يد الحب؛ لأنه يحب هذه المرأة، وإنْ أنكر ذلك، يحبها ويعجب بها، وإلا لما ذكر قصتها لأخيه! هو يحبها، وهو ألعوبة في يد الحب، هو ألعوبة في يد الغيرة أيضًا، منذ عرف أنَّ هذه المرأة تحب أخاه، هو يحب هذه المرأة، ويكره أنْ تكون لأخيه، وهو لا يستطيع أنْ تكون له، فهو يريد أنْ تكون للفضيلة، وأنْ تكون لله، ليس إذن مخلصًا، وقد أحس ذلك وشعر به، فجثا أمام الصليب مستغيثًا متضرعًا بعد أنْ تركه أخوه.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فنحن في دار للمرسلين من القسس، ينزلون فيها كلما أقبلوا إلى باريس، والأسقف في هذه الدار يستعد لرحلته إلى الصين، وقد أقبل خادم فأنبأه بأن الدوقة قد خرجت تريد زيارته، ولكن زوجها ألقى بنفسه من النافذة، فهو مُحْتَضَر والطبيب عنده، وقد أقبل الخادم يطلب إليه أنْ يرفق بالدوقة، وأنْ ينبئها بالأمر في لطف، ينصرف الخادم، وتقبل الدوقة فلا تتحدث عن زوجها، وإنما تتحدث عن نفسها وعن صاحبها، فإذا هي ما زالت تحب الطبيب حبًّا شديدًا، ولكنها تكره هذا الحب، وتنفر منه نفورًا عظيمًا؛ لأنها عرفت أمر القسيس.

وأحست أنها موضوع النزاع بين أخوين، فكرهت الحب، وكرهت الحياة، وأقبلت تستشير الأسقف في أنْ تترك الحب وتترك الحياة، وتذهب إلى الدير متى مات زوجها، ولكن الأسقف يضحك منها، وينبئها بأنها لم تخلق للدير، وأنَّ واجبها ليس في الدير، وإنما هو في قصرها، واجبها أنْ تحيا، وأنْ تحب، وأنْ تكون مصدرًا للسعادة، وهما كذلك وإذا القسيس يستأذن، فتختبئ المرأة ويدخل القسيس، فإذا هو مستيقن بإثمه، مؤمن بأنه ليس أهلًا لمركزه الديني، وإذا هو يريد أنْ يخلع ثوب القسيس؛ لأنه يحب؛ ولأنه يغار، ولأن الحب والغيرة لا يتفقان مع الدين، والدين في نفس القسيس، ولكنه لم يأثم بالفعل، ولعله لا يحب بالفعل، وإنما يخيل إليه أنه يحب، ويخيل إليه أنه يغار، ويخيل إليه أنه آثم، هو إذن يستطيع أنْ يجاهد، ذلك حديث الأسقف، يريد أنْ يعصم صاحبه من الانقياد للهوى والتأثر بالعاطفة، وما يزال به حتى يقنعه بأنه يستطيع أنْ يظل قسيسًا.

– إذن فيجب أنْ أترك هذه الحياة التي أخالط فيها الناس، وأنْ أذهب إلى الدير.

– كلا! يجب أنْ تظل قسيسًا.

– لا أستطيع.

– كلا! تستطيع ويجب أنْ تستطيع.

– إذن فخذني معك إلى الصين هناك، حيث أستطيع أنْ أعالج المجذومين الذين تُعنى بهم.

وهنا حديث لذيذ مؤثر بين الأستاذ وتلميذه، تفهم منه أنَّ الإيمان بالله والوفاء للدين، ليسا في حاجة إلى التكلف وإجهاد النفس، والتفنن في احتمال الآلام، وتذوق المكروه المادي، وإنما هما شيئان يسيران، يجب أنْ يصدرا عن القلب في هدوء وسلام — كما يصدر الماء عن الينبوع — فإذا لم يكن بد من العنف، فيجب ألا يكون هذا العنف ماديًّا، يجب أنْ يكون نفسيًّا، يجب أنْ يكون في أخذ النفس بالخير، وصرفها عن الشر.

– سآخذك إلى الصين، ولكني أشترط لذلك شرطًا، هو أنْ تلقى هذه المرأة قبل سفرك، وأنْ تخلو إليها، وأنْ تقف منها موقف القسيس حقًّا، وأنا واثق بأنك قادر على ذلك، وأنا واثق بأنك تظلم نفسك، حين تزعم أنك غير قادر، وستثبت لك التجربة صدق ما أقول، نعم ستلقى هذه المرأة، وسأترككما وأذهب؛ لأرى زوجها الذي يموت، لا تمانع فليس من هذا بد.

ثم يتركه ويعود ومعه الدوقة: سيدتي إنَّ هذا القسيس يريد أنْ يودِّعك، قبل أنْ يسافر سفرًا طويلًا جدًّا، ثم ينصرف، ويخلو القسيس إلى هذه المرأة فإذا هما وجلان، وإذا هما ضيقا الصبر، ولكن المرأة تبتدئ الحديث فتسأله عن السفر ومتى، وهو يجد من الحديث وسيلة إلى أمرهما، فإذا الأسقف لم يخطئ، وإذا النفس الإنسانية ضعيفة قوية حقًّا، أليس الطبيب قد استطاع أنْ يؤثر في نفس القسيس، حتى أقنعه بأنه فاجر، وبأنه سيخلع ثوب الدين، ألم يكن هذا القسيس معتزمًا منذ لحظة مفارقة الحياة الدينية، انظر إليه الآن، لقد استطاع الأسقف أنْ يعبث به عبثًا جديدًا، وأنْ يؤثر فيه تأثيرًا جديدًا، أقنعه بأنه قسيس، وبأنه برٌّ بدينه وربه، وبأنه يستطيع، ويجب أنْ يقف من هذه المرأة موقف القسيس، انظر إليه، وقد جرد نفسه من كل حياتها المادية حتى أصبحت جوهرًا نقيًّا صافيًا، هو يعظ هذه المرأة، ويأمرها أنْ تحب وأنْ تسعد، فإذا ذكرت الدير أنكره، وحثها على الحياة الدنيا، على أنْ تألم وتلذ، على أنْ تفرح وتحزن، على أنْ تسعد وتشقى.

ثم حدد أغراضه، وأوضح نصيحته فأمرها بأن تحب، وأمرها بأن تحب أخاه، وأنْ تكون له زوجًا، وهما كذلك إذ يقبل الأسقف والطبيب فيستمعان، ثم يظهران، فينبئان بموت الزوج والمرأة واجمة، ولكنها متأثرة بموقف هذا القسيس، متأثرة بمنظر هذا الطبيب الذي يحبها والذي تحبه، وإذا هي تنبئ الطبيب بسفر أخيه، وتطلب إليه أنْ يودعه، فما أسرع ما يفهم الطبيب تضحية أخيه، وما أسرع ما يتعانق الأخوان، وأحدهما ملحد مسرف في الإلحاد، والآخر مؤمن متشدد في الإيمان.

فما مصدر هذا التعانق بين الإلحاد والإيمان؟ وكيف انتهت هذه الضروب المختلفة من الجهاد العنيف إلى هذا الاتفاق، بل إلى هذا التعانق؟ أمران — فيما أعتقد — يفسران هذا كله، أحدهما معقول، والآخر تكلفه الفن، فأما الأول فهو هذا الأسقف الذي بينت لك خلاله في أول هذا الفصل، والذي هو رمز السلام والوفاق بين الناس وأهوائهم وعواطفهم لو استطاعوا أنْ يتدبروا وأنْ يفهم بعضهم بعضًا، وأنْ يجتهد كل منهم في أنْ يفهم نفسه.

وقف هذا الأسقف جهده على أنْ يوفق بين هؤلاء المختلفين، بل بينهم وبين أنفسهم، فأفلح وأعانه التكلف الفني، أعانه موت هذا الدوق الذي حل المشكلة، وجعل تدخله ممكنًا، فقد أصبح يستطيع أنْ ينصح لهذين العاشقين بالزواج، ولم يكن يستطيع أنْ ينصح لهما بالإثم، استطاع أنْ ينصح لهما بالزواج، وأنْ يبين للقسيس أنه من حيث هو قسيس يجب أنْ يؤيد هذا الزواج ويبارك عليه، وأنَّ جهاده في حماية هذه المرأة لم يبق له نفع ولا فائدة، فهو بين اثنتين، إما أنْ يكون قسيسًا حقًّا، وإما أنْ يكون رجلًا قد ازدرى الدين، وازدرى نفسه، وازدرى الفضيلة، وقد آثر القسيس أنْ يكون قسيسًا، ولكن بعد جهاد عنيف، وبعد تضحية هي سفره إلى الصين.

أكتوبر سنة ١٩٢٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤