أنت وأنا

للشاعر الفرنسي «پول جرالدي»

ولكنك تخطئ الخطأ كله، إذا ظننت أني جاد في هذا الحديث، وأني أريد أنْ أكتب فصلًا يبقى، وتخطئ الخطأ كله، إذا ظننت أني مازح في هذا الحديث، وأني أريد أنْ أضحك ليس غير، وإنما أريد أنْ أجدَّ، وأريد أنْ أمزح أو — بعبارة أوضح — أريد أنْ أضحك ضحكًا لا يخلو من فائدة، فقد سئمت الجدَّ، وأحسب أنك سئمتَه أيضًا، ومن حقك ومن حقي أنْ نمزح ولو قليلًا، ولو يومًا في الشهر، على ألا يخلو هذا المزح من نفع، وعلى ألا يكون كلامًا يقال، ثم ينسى كأن لم يُقَل.

وقد حدثتك، وسأحدثك عن أبي نواس، فأضحكت في نفع وفائدة، وخالطت بين المزح والجد، فرضي قوم، وغضب آخرون، وأريد اليوم أنْ أحدثك عن شاعر فرنسي، أو عن ديوان لهذا الشاعر، يشبه من بعض الوجوه شعر أبي نواس في الغزل.

ليس في هذا الديوان إلا غزل، وليس في هذا الديوان إلا غزل كغزل أبي نواس، موضوعه العبث والمداعبة، ليس فيه شيء من وصف العواطف القوية، وليس فيه شيء من التحدث إلى الحرائر، اللاتي يأخذنك بالإكبار والإجلال؛ لأنهن كبيرات جليلات، وإنما هو عبث، ووصف لطائفة من العواطف الدقيقة الهادئة الباسمة، وتحدث إلى امرأة، أو طائفة من النساء، كأولئك اللاتي كان يتحدث إليهنَّ أبو نواس، ومع ذلك فهذا الديوان يخلو من الإثم وفاحش القول، كله ألفاظ مألوفة لمعانٍ منها المألوف، ومنها غير المألوف، ولكنها كلها صحيحة صادقة، وهي لا تخلو من فلسفة، أو قل: إنها كلها فلسفة، غير أنها نظمت في سذاجة ويسر، دون تكلف وتعسف، بل لم يتقيد الشاعر فيها باختيار الألفاظ المتينة، أو التراكيب الرصينة، أو بتكلف ما يتكلفه الشعراء المتفلسفون، وإنما تحدث إلى صاحبته باللغة التي تفهمها صاحبته، وليست صاحبته أديبة بارعة في الأدب، ولا فيلسوفة متعمقة في الفلسفة، وإنما هي امرأة عادية تشعر وتلذ وتألم، وتفهم الحياة على ألا تكون الحياة معقدة، فمن الحق أنْ يتحدث إليها الشاعر بهذه اللغة السهلة، التي يألفها الناس جميعًا، ويفهمها الناس جميعًا، بل هو قد ذهب إلى أبعد من هذا، فلم يتقيد في شعره بما يتقيد به الشعراء من ضروب التضييق في القافية والوزن، وإنما أرسل نفسه إرسالًا، واصطنع ضروبًا من الحريَّة يغضب لها «بوالو» وأمثال «بوالو»، والحق أنَّ لهذا الديوان مكانة عظيمة في نفس الشباب الفرنسي، وفي نفس الفتيات الفرنسيات بنوع خاص، فهو على يسره وسذاجة موضوعه ومعانيه وألفاظه غنيٌّ بالمعاني الظريفة، غنيٌّ بوصف المعاني التي تشعر بها في نفسك في كثير من الظروف والأحيان، وأنا أزعم أنك لا تكاد تقرأ هذا الديوان القصير، حتى ترى نفسك فيه غير مرة، وحتى تمر بالمعنى من معانيه، فتضطر أنْ تقول: هذا حق؛ لأنك شعرت به في ظرف من الظروف؛ ولأنك مستعد للشعور به إذا تجدد هذا الظرف.

ليس الديوان إذن هزلًا من الهزل، وليس ضربًا من ضروب العبث، وإنما هو طائفة من المقطوعات الشعرية الحلوة التي تقرؤها فتسيغها، ثم تعيد قراءتها وتعيدها حتى تستظهرها استظهارًا، وقد كنت أستطيع أنْ أتحدث إليك فيه جادًّا، وأنْ أترجم لك منه ترجمة عربيَّة صحيحة، لا تخلو من متانة، وإنْ كان هذا عسيرًا، ولكني مع ذلك تعمدت أنْ أتحدث إليك فيه مازحًا، وأنْ أتكلف الترجمة الحرفية التي يأباها الذوق العربي، وآباها أنا أيضًا أشد الإباء؛ لأني أردت من هذا الخلط بين الجد والمزح، أن تعرف هذا الشاعر من جهة، وتعرف كيف يفكر القوم، وكيف يتحدثون من جهة أخرى، وتشعر بأن الترجمة الحرفية في الأدب قد تكون نافعة، وقد تكون قيمة، ولكنها مفسدة للجمال الأدبي في كثير من الأحيان، ثم أردت أنْ أبين لك مصدر هذا الأسلوب الغريب، الذي يصطنعه طائفة من الشباب عندنا؛ لأنهم يقرءون الشعراء والكتاب من الفرنسيين والإنجليز، ولم يقرءوا الشعراء والكتاب من العرب، فيحاولون أنْ يكتبوا — كما يقرءون — ويحاولون أنْ يقلدوا أساتذتهم من الفرنسيين والإنجليز، فيأتون بالأعاجيب، ويحولون بينك وبين أنْ تفهم ما أرادوا أنْ يقولوا، ومن يدري؟ لعلهم لم يريدوا أنْ يقولوا شيئًا، وإنما أعجبهم الأسلوب فقلدوه.

أنا أترجم إذن ترجمة حرفية خالصة، وأتكلف الأسلوب الفرنسي في اللغة العربية، وأعرف أنَّ هذا الأسلوب قد يُغضب كثيرًا من الناس، فأسارع بأن أعلن أنه يُغضبني أيضًا، وأعرف أنه قد يعجب كثيرًا من الناس، فأسارع بأن أعلن أنه يُعجبني أيضًا، فهو يُغضبني حين أريد الجدَّ، وهو يعجبني حين أريد الضحك.

•••

وانظر إلى هذه المقطوعة التي سماها الشاعر «تبسطًا»، والتي أراد أنْ يتحدث فيها إلى صاحبته، بأن الحب أدق وأعظم من أنْ تصفه الألفاظ، ولا سيما إذا ألفها الناس وابتذلها الاستعمال، وأنه مع ذلك عاجز عن أنْ ينبئها بحبه من طريق غير طريق الألفاظ، بل هو عاجز عن أنْ يحيا بغير الألفاظ، وأنه مهما يقل ومهما يفعل، فلن يستطيع أنْ يقول، أو يعرب عن شعور أقوى من هذا الشعور، الذي يجده حين يخاطب صاحبته، وقد أخذ رأسها بين يديه فيقول لها: «أنت»، ويختصر بهذا الضمير جمالها ومكانتها من قلبه، وكل ما يحيط به وبها من حب وعاطفة وإعجاب.

تبسط

آه! أحبك! أحبك! أتسمعين؟ أنا هائم بك، أنا هائم أردد أبدًا كلمات بعينها، ولكني أحبك! أحبك! أحبك، أتفهمين! تضحكين! ترينني سخيفًا؟ ولكن كيف أعمل إذن لتعرفي حقًّا، ولتشعري حقًّا! فالألفاظ لا تدل على شيء! إني لأبحث، إني لأبحث عن وسيلة، ليس من الحق أن القبل تغني، إنَّ شيئًا يختفي هنا كأنه الزفرة، أنا في حاجة إلى أنْ أعرب، أنا في حاجة إلى أنْ أفسر، إلى أنْ لا أترجم، فلن يشعر الإنسان حقًّا إلا بما أحسن الإفصاح عنه، وإنما نحن قليلًا أو كثيرًا في الألفاظ، أنا في حاجة إلى الألفاظ، إلى التحليل، يجب أنْ أقول لك، يجب أنْ تعلمي، ولكن ماذا! أحبي! لو عرفتُ أنْ أصِلَ إلى ما يجد الشعراء، أفتظنين أني أستطيع أنْ أقول لك أكثر من هذه الكلمة التي أرددها وأرددها مائة مرة وألف مرة، وأرددها في هيام، وقد أخذت بين يدي هذا الرأس الصغير: أنت! أنت! أنت! أنت!

•••

وانظر إلى هذه المقطوعة التي سماها الشاعر «حزنًا»، والتي هي في الحق حزن شديد، تشعر به إذا أحببت حقًّا، وفكرت فيمن أحببت، وفي هذا الوقت الذي فاتك ممن تحب، وفي هذه الضروب المختلفة من الشعور الذي وجده من تحب، دون أنْ تشاركه فيه، ألست إذا أحببت قاسمت هواك لذته وألمه ويأسه وأمله؟ ألست إذا أحببت وددت لو أنك استأثرت بحياة من تحب، وبكل ما يقع من هذه الحياة من الأحداث!

حزن

ماضيك! فإن لك ماضيًا أنت أيضًا! ماضيًا عظيمًا، مليئًا بالسعادة ومليئًا بالألم، أليس عجيبًا أنْ يمتلئ هذا الرأس بالأفراح القديمة والهموم القديمة، وبالظلال العظيمة والضئيلة، وبألف صورة لست منها في شيء! أعيدي علي كل هذه الأشياء التي قلتها مائة مرة، ذكرياتك لست أعرفها جيدًا، آه! هذا الليل وهذا اللغز دون عينيك! إذن فمن الحق أنْ قد مضى عليك عصر من العصور كنت فيه تَثِبِينَ تحت الضوء، وقد انتثر شَعرك الطويل — كما أرى على هذه الصورة — قُصِّي علي، أهذا حق؟ أكنتِ كهذه الصورة التي لا أراك فيها جميلة؟ قولي، في ذلك الزمان ماذا كنت تصنعين؟ ماذا كنت تفكرين؟ ماذا كنت تقولين؟ ماذا كان يحدث في حياتك؟ أوجدت هذه الحديقة الواسعة التي تلمح، وأين كان منها مكان الباب؟ أواثقة أنت بأن صورة هذه الصبية القبيحة تمثلك حقًّا؟ وهذه القلنسوة التي بعد بها العهد أكانت قلنسوتك؟ أواثقة أنت؟ وكل هذه الوجوه الفانية أهي وجوه الذين عرفوك من قبلي؟ أنت مدينة لهؤلاء الناس بأول سياحة لك، بأول ليلة في القطار، بأول غابة رأيتها، بأول ساحل لعبت فيه؟ الذين أعطوك يدهم وأعاروك أكتافهم، وقالوا لك: «انظري هنا» وا لهفتاه! ما بال هؤلاء الناس لم يتركوا لي هذا المقام؟ ما كان أحب إلي أنْ أحملك وحدك إلى بعيد، وأنْ أبتدع لك أسفارًا عجيبة! إذن لأظهرْتُكِ على جمال المساء والصيف، إذن لحبَّبت إليك الطرق الطوال الخالية، إذن لعلَّمتك أسماء القرى الجميلة التي نلمحها من بعيد، إذن لقدمت إليك الأرض، وأظن أني كنت أحسن ذلك الإحسان كله، وإذن لأمكن أنْ تفيض هذه الآفاق الرائعة، وهذه المدن والبلاد شيئًا من المجد، ولو قليلًا على الدليل، آه! هؤلاء الناس جميعًا، أيتها العزيزة علي، أيقدرون ما حرموني؟ لقد قُضي الأمر وليس إلى استدراكه من سبيل، ومع هذا فقد أرى هؤلاء الناس جميعًا كأنهم قوم عاديون لا يميزهم شيء، ثقي بأننا إذا أحسسنا شيئًا من الفرق والخلاف فيما بيننا فهم مصدر هذا الفرق والخلاف، نعم، هم مصدره، هم الذين تعللوا بأيام الراحة فأخذوا ينقلونك من مكان إلى مكان، وطبعوا حياتك بطابعهم قبلي، لا تفكر في شيء من هذا، خبئي عني هذه الصور.

•••

وهذه المقطوعة الأخرى التي سماها الشاعر «مصباحًا»، والتي تضحك إذا قرأتها بالعربية، وتعجبك إذا قرأتها بالفرنسية، والتي تمثل الحياة تمثيلًا صحيحًا لا مِرْية في أنه صادق.

انظر إلى الشاعر قد خلا إلى صاحبته وقدم قبل المساء، فشملتهما الظلمة لولا المصباح، أقبل المساء ومعه هذا النوع من الحزن العميق الشامل، الذي ينال العاشقين إذا ولت الشمس وأقبل الليل، والذي يبعث فيهم شيئًا عظيمًا من الحاجة إلى الحنان، والميل إلى الشعور بآثار الحب، فإذا قلوبهم تخفق، وإذا هم يمسكون أعينهم أنْ تفيض بعبراتها، وإذا هم يتمنون ألا يحسوا إلا الحنان، وألا يشعروا إلا بالحنان، وإذا هم يتهالكون على الحب والحنان، وهم في ذلك مستمتعين بلذته إذ حركة من حركات الحياة العادية قد نبهتهم من الحلم، فشعروا أنهم أناس كغيرهم من الناس، انظر إلى الشاعر يحس هذا كله، ويطلب هذا كله، ويبدأ بالاستمتاع بشيء من هذا، وإذا الخادم تحمل القهوة فيحس الشاعر أنه جسم يأكل ويشرب ويلذُّ ويألم، وهل الحياة إلا هذا!

مصباح

تسألين مالي لا أقول شيئًا! ذلك أننا في اللحظة القيمة، في ساعة الحظ والابتسام، في المساء وأنا أحبك هذا المساء حبًّا لا حد له! ضميني إليك أنا في حاجة إلى الملاطفة، لو تعلمين كل ما يصعد في هذا المساء من طمع وكبرياء، من رغبة وحنان وخير! كلا تستطيعين أنْ تعلمي! اخفضي المصباح قليلًا، أتريدين! ذلك خير، ففي الظلام وحده تحسن القلوب الحديث، وإنما تتراءى الأعين حقًّا حين لا ترى الأشياء إلا قليلًا، أنا أحبك هذا المساء أكثر من أنْ أتحدث إليك في الحب، ضميني إلى صدرك، أحب أنْ أكون أنا موضع الملاطفة الآن، اخفضي المصباح قليلًا أيضًا، هذا حسن، لنصمت، لنهدأ، لنسكن، ما ألذ يديك الدافئتين على وجهي! ولكن ماذا! ماذا يراد منا! آه! إنهم يحملون القهوة! إذن ضعي القهوة هنا! أسرعي! وأغلقي الباب! ماذا كنت أقول لك؟ نشرب القهوة الآن؟ تفضلين ذلك! نعم فأنت تحبينها حارة، أتريدين أنْ أصبها لك؟ انتظري، دعيني أفعل، هي قوية اليوم! تريدين سكَّرًا؟ قطعة واحدة؟ أيكفي هذا؟ تريدين أنْ أذوق دونك! هذه قهوتك أيتها الحبيبة، ولكن ما أشد الظلمة فلسنا نكاد نرى شيئًا، ارفعي المصباح قليلًا.

•••

ثم اقرأ هذه المقطوعة وحدثني أليست صادقة؟ أليس هذا الحكم الذي تشتمل عليه مع أنه جميل، ومع أنه قد أورد في لفظ شعري، وفي صورة شعرية موافق كل الموافقة لأصح نتائج الفلسفة، وأصدق نظريات العلم؟ تلقي من تحب، فهل قدرت أنك ستلقاه؟ أليس يخيل إليك أنك لقيته مصادفة، ومع ذلك فليس للمصادفة وجود، وإنما لكل شيء علته، ولكل علة نتيجتها، وقد تعاونت الأسباب وتظاهرت العلل منذ كان العالم على أنْ تلقى من أحببت فتسعدا معًا، وتشقيا معًا، والأمر ليس مقصورًا على الحب، وإنما يتناول مع الحب كل شيء.

حظ

ومع ذلك فقد كان من الممكن ألا نتعارف! تخيلي أيتها الحبيبة كل ما وجب أنْ يأذن به الحظ لنجتمع هنا، وليحب كل صاحبه، ولنكون إيانا!

تقولين: «خلق كل منا لصاحبه»، ولكن فكري في كل ما كان يجب من حظ، ومن تعاون، ومن أسباب، ومن مصادفات لتحقيق هذا الشيء اليسير، حبنا! فكري في أننا قبل أنْ نجمع بين رأسينا الهائمين قد عشنا منفردين، منفصلين، ضالين، وفي أن الزمن طويل، وأنَّ الأرض واسعة، وأنه كان من الممكن ألا نلتقي، أفكرت قط — أيتها المخاطرة الجميلة — في هذا الخطر الذي تعرضت له سعادتنا، حين كان قلبانا يتجاذبان سرًّا في أعماق الطبيعة التي لا حد لها؟ أتعلمين أن قد كان مشكوكًا فيه ذلك الشوط الذي كان يدفعنا إلى اللقاء، وأنَّ عنادًا أو صداعًا كانا يستطيعان أنْ يفرقا بيننا أبدًا؟ لم أقل لك قط، هذا الشيء العجيب، لمحتك لأول مرة، فلم أرَ بادئ الأمر أنك جميلة، ولم أكد ألتفت إليك، فقد كانت صاحبتك تشغلني عنك بضحكها، وإنما التقت لحاظنا في وقت متأخر، متأخر جدًّا، فكري، فقد كان من الممكن ألا تفهمي، وكان من الممكن ألا أجرؤ.

أين كنا نكون هذه الليلة لو أنَّ أمك عجلت العودة بك في تلك الليلة، ولو أنَّ وجهك لم يمر تحت الضوء حينما أردت أنْ أعينك على لبس المعطف؟

تذكري! فقد كانت كل هذه الأسباب، ولو كان شيء من التأخير، ولو عرض مانع من الموانع لما أحسسنا شيئًا من هذه النشوة العزيزة، ولا من هذا التحول اللذيذ، لقد كان من الممكن ألا يوجد حبنا أبدًا! وكان من الممكن ألا تكوني في حياتي اليوم!

•••

وانظر إلى هذه «المحنة» أليست تترجم ما يقع بين العاشقين! أليس من الحق أنَّ العاشق كثيرًا ما يتكلف إيذاء صاحبه امتحانًا له وفتنة؟

محنة

تنبئينني بأنك في هذا المرقص، ضحكت، ضحكت كمجنونة، وتشكين إذ يظهر لك أنَّ ألفاظك تؤذيني، وددت لو لم أظهر حزينًا، ولكني محزون، هذا حق، تقولين إني أثر، ومع ذلك فقد تعمدت ما فعلت، هذا الحزن الذي أحسه أيتها القاسية لقد كانت عينك تلتمسه في عيني، ولو أني ظهرت مبتهجًا لما كنت أنت راضية.

•••

وهذه «هزيمة»، ألم يكن الرجل في كل وقت منهزمًا أمام المرأة! يظهر القوة والبأس ويتكلف أنواع الغيظ والغضب، ولكن لحظة واحدة ممن يحب، وإذا قوته وبأسه وغضبه وغيظه كأن لم تكن، أيهما القوي حقًّا؛ الرجل أم المرأة الساحرة؟

هزيمة

وبعد فليس هذا عدلًا! أنا شديد التأثر، تسيئين إليَّ، فأحاول أحيانًا أنْ أجزيك بالشر شرًّا، ولكن هذا مستحيل أبدًا، فأنا آلم دائمًا أكثر مما تألمين.

أنت تعلمين كيف تحتملين الإعراض الطويل، واللحاظ القاسية والصمت المتصل، آه! لا تقسي عليَّ أيتها الحبيبة إليَّ! فأنا مسرف في الحزن حين أحزن.

ولكني مجنون! لا تسمعي لي! فأنا أعترف لك في سذاجة بحقائق خطرة، أنت تعرفين الآن ضعفي، ولعلك تستغلينه.

•••

واقرأ هذه المقطوعة وحدثني عن الجملة الأخيرة منها، وهي بيت القصيد، أليس من الحق أنَّ الصلات الجنسية هي وحدها التي تكاد توجد الحب؟

تفكير

مع أنَّ كلًّا منا يحب صاحبه، ومع أننا نتقسم الألم، فنحن في الحق لا نتشابه إلا قليلًا جدًّا، يكفي أنْ يشجر بيننا خلاف ولو كان ضئيلًا؛ ليظهر أنَّ بيننا هُوَّاتٍ عميقة!

يخيل إلينا أننا نهيم أحيانًا، ولكن لا نكاد نفرغ من الملاطفة حتى نشعر بأن بعضنا لا يكاد يفهم بعضًا، لو أنك رجل أكنا نكون صديقين؟

•••

وانظر إلى نهاية ما بين العاشقين كيف سئم كل منهما عشرة صاحبه، فاعتزما أنْ يفترقا وودع بعضهما بعضًا، وهمت أنْ تنصرف، فإذا السماء تمطر، وإذا هو يريد أنْ يمسكها حتى يقلع المطر، وإذا هو ينتهز هذه الفرصة فيذكر حبهما، كيف نشأ، وكيف نمى، وكيف أخذ يضمحل، وكيف انتهى إلى السأم، وإذا هو يذكر ما سيصيران إليه من الجفوة وعدم الاكتراث، وإذا يشعر بأن حياة الإنسان غرور، وأنَّ قلب الإنسان ضعيف، وإذا هو يحس العجز عن احتمال هذه الفرقة، فينظر فإذا المطر لم يقلع، فيتخذ المطر تعلة فيمسك صاحبته ويدعوها إلى البقاء، على أنْ يحتملها، وعلى أنْ تحتمله في غير حب ولا كلف، ولكن خضوعًا للعادة واطمئنانًا إليها.

نهاية!

إذن فالوداع، ألَا تنسين شيئًا؟ حسن، انطلقي، فليس لدينا ما نقول، اتركيني، تريدين أنْ تمضي. ومع ذلك فانتظري قليلًا، انظري، إنَّ السماء تمطر، انتظري حتى ينقطع المطر، استري نفسك جيدًا! إنَّ البرد شديد خارج البيت، لقد كان يجب أنْ تتخذي معطف الشتاء، لقد رددت إليك كل شيء، ولم يبق لك عندي شيء، هل أخذت صورتك ورسائلك؟

إذن فانظري إليَّ ما دمنا سنفترق، ولكن احذري! لا تبك! فذلك سخيف، ما أشد الجهد الذي يجب أنْ نبذله لنذكر عشقنا القديم، لقد منح كل منا صاحبه حياته كلها منحًا دائمًا، وها نحن أولاء نسترد هذه الحياة! وسيذهب كل منا باسمه إلى حيث يستأنف حياته، إلى كل شيء، وإلى حيث ينبه، وإلى حيث يحيا، قد نألم حينًا، ثم ماذا! ثم يأتي النسيان، هو الشيء الوحيد الذي يعفو، ثم توجدين في ناحية أخرى، ونكون بين الناس شخصين، وإذن فستدخلين في حياتي الماضية! وقد نلتقي مصادفة في الطرق فأنظر إليك من بعيد دون أنْ أعبر إليك، تمرين في ثياب لا أعرفها ونظل أشهرًا لا نلتقي، ويتحدث إليك أصحابي بأنبائي، وأسأل عنك وقد كنت حياتي، عنك وقد كنت سعادتي ولذتي فأقول: «كيف هي؟»

إذن فقلبنا العظيم كان هذا الشيء الحقير؟ ومع ذلك أكنا مجنونين في أيامنا الأولى؟ أتذكرين سعادة؟ أتذكرين رقينا إلى السماء؟ أكنا عاشقين! انظري! كذلك كان حبنا! إذن! نحن، نحن أنفسنا حين نقول: «أحبك» لا تدل هذه الكلمة على أكثر مما نرى الآن، يا الله! حقًّا إنَّ هذا مخجل، إذن فالناس جميعًا متشابهون، ونحن كغيرنا من الناس!

ما أشد المطر! لا تستطيعين أنْ تخرجي تحت هذا الجو، أقيمي! نعم أقيمي! سنجتهد في أنْ نعش، من يدري فقلبانا، وإن تغيرا سيستلذان حركاتنا المألوفة.

سنفعل ما نستطيع، سنكون أخيارًا، ثم مهما نَقُلْ فهناك العادة، اجلسي! استأنفي إلى جانبي شقائك، وسأستأنف إلى جانبك عزلتي.

•••

لعلك قرأت فأعجبت بالشاعر، وسخطت على المترجم، وودت لو أني تكلفت الجد فترجمت ترجمة صحيحة مقبولة يسيغها الأسلوب العربي، وقد أفعل.

أكتوبر سنة ١٩٢٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤