دينيز

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما الصغير

أريد منذ اليوم أنْ أقف هذا الحديث على الأوبرا الملكية، وما يمثل فيها من آيات التمثيل، ويخيل إليَّ أنَّ الأوبرا الملكية خليقة بهذه العناية، فنحن لا نشهد آيات الفن كل يوم، ومن الحق إذا أتيح لنا أنْ نشهد هذه الآيات في بلادنا، يمثلها قوم مهرة بارعون أنْ نبتهج لذلك، ونشجع هؤلاء الممثلين، ونحمد لهم وللذين دعوهم إلى مصر نعمتهم على المشغوفين به المشوقين إليه، وقد يكون من الحق علينا أنْ نذيع أمر هذا التمثيل، وما فيه من منفعة ولذة؛ ليقصد إلى الأوبرا من استطاع أنْ يفهم اللغة الفرنسية، ويتذوق جمال الفن الفرنسي، فقد آن لنا ألا ننظر إلى التمثيل كأنه فن من فنون اللهو والسمر ليس غير، بل أنْ نسعى إليه — كما يسعى الإنسان إلى مدرسة — يجد فيها ما يشتهي من علم وفلسفة، ومن أدب وفن، ويجد فيها ما لا يوجد في المدارس عادة من لهو لا يصرف عن الجد، وفكاهة لا تلهي عن نفع.

ولقد كانت القصة التي مثلت في الأوبرا الملكية مساء يوم الاثنين جامعة لهذه الخلال كلها، فهي درس في الأخلاق والتاريخ، يمثل نظامًا اجتماعيًّا خاصًّا كان له سلطانه في عصر من العصور، ويمثل نظامًا اجتماعيًّا جديدًا كان الكاتب يود لو انبسط سلطانه على حياة الناس، ولا يخلو مع ذلك مما يلذ ويعجب، ويعين على إساغة الجد والانتفاع به.

•••

«أندريه پاردان» شاب غنيٌّ، فقد أبويه منذ عشر سنين، له ثروة ضخمة، ولكنه لم يحسن تدبيرها، وإنما أخذ يعبث بها ويبددها تبديدًا حتى فسد أمره وأشرف على الفقر، وله أخت فتاة في الدير اسمها «مارت» لا يستطيع أنْ يضمها إليه؛ لأنه لا يحسن تدبير أمورها، فيتركها في الدير عشر سنين ينتظر أنْ تتاح له فرصة تمكنه من أنْ يخرجها من الدير، ولكن هذه الفرصة لا تتاح له إلا بعد مشقة، وبعد أنْ تركت حياة الدير في أخته آثارًا قوية، فنزعت بها إلى شيء من التصوف، والميل إلى الرهبانية من جهة، وملأت نفسها سخطًا على الناس واتهامًا لهم من جهة أخرى.

صادف أخوها رجلًا من الشعب، عاملًا شديد النشاط، قوي الذكاء، عظيم الأمل في المستقبل، ولكنه فقير، واسمه «توفنان»، فأعانه بقليل من المال، وجدَّ هذا الرجل حتى أصبح من أكبر المشرفين على الصناعة المتصرفين في تدبير الثروة العامة، وبينما كان هذا الرجل يثري وتضخم ثروته، كان المحسن إليه يدنو من العدم قليلًا قليلًا، حتى فكر في أنْ يبيع الأرض الواسعة التي ورثها عن أبويه، فأشار عليه صاحبه أنْ يفرغ لتدبير ثروته واستغلال أرضه، وأنْ يلتمس له معينًا شريفًا، فبحث عن هذا المعين ودلته عليه صديقة اسمها «مدام دي توزيت»، وهي امرأة في السادسة والأربعين من عمرها، بارعة الجمال، فتانة المنطق، قد ابتسمت لها الحياة، وابتسمت هي للحياة؛ فهي لا تعرف إلى الحزن سبيلًا، قوية الجسم، محتفظة بشبابها، مزمعة أنْ تستمتع به ما استطاعت، لا تضيع لحظة منه في غير لذة، متزوجة ولكن جمالها وشبابها وكلفها باللذة حرمتها الوفاء لزوجها، فهي تنتقل من خليل إلى خليل، أو قل: إنها تستبدل خليلًا من خليل.

وكان صاحبنا رفيقًا لابنها في المدرسة، فلما رآها وهو غلامٌ حَدَثٌ لا علم له بالحياة فتن بها، ورأته هي فلم تكره حداثته وجهله فاتخذته خليلًا حينًا، ثم أعرضت عنه إلى غيره، فكان هذا الإعراض مصدر ألم الشاب ويأسه وتهالكه على الملهيات، حتى بلغ من سوء الحال ما قدمت، بحث إذن عن رجل شريف يدبر ثروته، فدلته صاحبته هذه على رجل كان صديقًا لزوجها الذي مات منذ حين واسمه «بريسو»، كان ضابطًا بالجيش، ولكنه أحب فتاة وأراد أنْ يتزوجها، وكانت فقيرة فاضطر إلى أنْ يترك الجيش؛ لأن القانون لا يبيح للضباط أنْ يتزوجوا من الفقيرات، ترك الجيش وعاش مع امرأته عيشة ضيقة مؤلمة، ورزق منها طفلة هي «دينيز» نشأت نشأة الفقيرات، ولكنها تعلمت، وكانت ذكية فانتفعت بعلمها، وأخذت تستعين به على الحياة، وكانت تستعد بنوع خاص للموسيقى والتمثيل، ولكنها صادفت في طريقها غلامًا كان يقاربها في السن، وهو «فرناند» ابن هذه المرأة التي وصفتها لك، فأتلف الصبيان وتحابا، وأزمعت الأسرتان أنْ تصلا بينهما بالزواج، فلما بلغا سن الزواج أثرى أبو الفتى، وظل أبو الفتاة فقيرًا، فانصرف الغلام عن صاحبته، فأصابها من ذلك يأس كاد يبلغ بها الموت، وانقطعت الصلة بين الأسرتين حتى مات أبو الفتى، ودلت أمه صاحبها على أبي الفتاة فاتخذه مديرًا لأمره، وما هي إلا أشهر حتى أخذ الأمر يستقيم لهذا الشاب، فنقص دَيْنُهُ وزاد دخله، واطمأن إلى هذا المدير، فكلف زوجه أنْ تشرف على القصر، وأخرج أخته من الدير، وكلف دينيز أنْ تقوم على إرشادها.

•••

فإذا كان الفصل الأول رأيت «أندريه پاردان» في قصره قد دعا إليه طائفة من أصحابه يقضون عنده أيامًا، فأقبل صديقه «توفنان»، وأقبلت صاحبته «مدام دي توزيت» وابنها فرناند، وأقبل جار له يزوره مع امرأته، وأقبلت «مدام بريسو» أم «دينيز»، وأزمع هؤلاء جميعًا أنْ يجتمعوا إلى العشاء إلى مائدة القصر، وترى في هذا الفصل اغتباط صاحب القصر بحسن حاله وانتظام ثروته، وإعجابه الذي لا حد له «بدينيز»، ثم ترى أنَّ صاحبته القديمة تدور حول أخته تريد أنْ تتخذها زوجًا لابنها، وأخذ هذا الفتى يمثل للفتاة فصل العاشق الولهان حتى فتنها فمالت إليه، وأخذ يكتب إليها رسائل الغرام فتقرؤها وترد عليها، وقد اعتزمت في هذا اليوم أنْ تخرج معه ومع أمه؛ للتروض على ظهور الخيل، فتقبل «دينيز» إلى أخيها فتنبئه بهذا، وتتحدث إليه بأن الفتاة متعبة مغضبة هذا اليوم، وبأن الخير ألا تخرج وحدها مع هذين الرفيقين؛ لأنها ليست ماهرة في الفروسية، وبأنها ستكلف أباها أنْ يرافقها في هذه النزهة، تنصح لصاحب القصر أنْ يتلطف بأخته ويكسب ثقتها؛ لأنها توشك أنْ تتورط فيما لا يليق بها ولا به، وتخرج «دينيز» وإذا «مدام دي توزيت» قد أقبلت في زيِّ الفارس، تريد أنْ تتحدث إلى صاحبها في أمر ذي بال، فيذكران حبهما القديم في غير ألم ولا لوعة، ثم تخطب المرأة إلى صاحبها أخته لتكون زوجًا لابنها، وكانت تقدر أنَّ ذكرى الماضي وإحياء الأمل في المستقبل يكفلان رضاه، وكانت تقول له فيما تقول: إذا تم هذا الزواج استطعت أنْ أعيش معك في القصر، دون أنْ يرى الناس في ذلك شيئًا، حتى إذا كان ما لا بد منه، فاتخذت لك زوجًا لزمت غرفتي، ووقفت شيخوختي الباسمة على تربية أبنائك وأبناء ابني، فكنت جدة جميلة خفيفة الظل — كما أنا الآن رفيقة حلوة لذيذة المحضر — ولكنه رفض الخطبة؛ لأن ابنها لا يليق بأخته، رفض الخطبة وانتهى الحديث بهما إلى «دينيز»، فظهر أنَّ إعجابه بها مصدره حبه لها، ولم تكد تشعر المرأة بهذا الحب حتى اضطربت في نفسها نار الغيرة فاتهمته بإغوائها، وزعمت له أنه ليس أول من أغواها، وانصرفت وقد تركت في نفسه من الغيرة جرحًا داميًا، لا يشفيه إلا أنْ يستكشف من أمر «دينيز» كل ما خفي عليه.

•••

فإذا كان الفصل الثاني رأيته يسأل «بريسو» عن ماضيه وماضي ابنته، وما كان بينها وبين فرناند من صلة، فينبئه الرجل بما قدمت لك في صراحة وهدوء، فإذا أنبأه بأن قد كان بين الغلامين حب، عظم الشك في نفسه، حتى بلغ اليأس أو كاد، فاعتزم السفر لينسى.

وتراه يتحدث إلى صديقه «توفنان» فينبئه نبأه، ويعرب له عن شكه، أما صديقه فينصح له أنْ يعلن إلى الفتاة حبه، ويطلب إليها أنْ تكون له زوجًا، فإنها إنْ تكن طاهرة السيرة نقية الماضي قبلت في غير تردد وإلا فسترفض؛ لأنه يثق بأنها أشرف وأنبل من أنْ تخدعه عن نفسها، ولكن صاحب القصر لا يزداد إلا شكًّا، ولا يزيده الشك إلا اهتياجًا، فإذا هو مضطرب، وإذا هو نار تتلظى، وإذا هو يصيح بلعن المرأة واستنزال السخط عليها، وإذا هو يعلن في يأس ساخر أنه لا يستطيع أنْ يطمئن إلى شيء، أليس من أشد الأشياء نكرًا أنْ تنظر إلى هذا الرأس الجميل الذي تعبده، وأنت تعلم أنَّ فيه سرًّا مكنونًا، ولكنك مهما تفعل فلن تتبين من هذا السرِّ شيئًا، ولقد يملكك حب الاستطلاع فتحطم هذا الرأس تحطيمًا، تريد أنْ تظفر بما فيه، فلا تظفر إلا بعظم وعصب ودم!

أريد أنْ أعرف الحقيقة، ويجب أنْ أعرفها وسأعرفها، ولكن صاحبه يلح عليه في ألا يسلك إلى هذه الحقيقة إلا هذه الطريق التي وصفها له، طريق إعلان الحب وعرض الزواج، حتى لا تتعرض حياة الفتاة للافتضاح، فيكون مصدر الشقاء لقوم لا يستحقون الشقاء.

ثم تدخل أخته، فلا يكاد يتحدث إليها حتى يشعر بأنها ساخطة عليه وعلى «دينيز»، وبأنها تكره الحياة معهما، وبأنها تحب «فرناند» وتريد أنْ تتزوجه مهما يكن رأي أخيها، فيغضب أخوها وينبئها بأنها عائدة إلى الدير، فمقيمة فيه حتى تبلغ الرشد، ويومئذ تستطيع أنْ تقترن بمن تشاء، يتركها وتدخل «دينيز» فلا تكاد توجه إليها القول حتى تشعر منها بالسخط ثم بالإهانة، وحتى تسمع منها أنها لن تقيم في هذا القصر؛ لأنها تكره أنْ تخضع لهذه المراقبة الدنيئة وهذا التجسس المرذول، ألستِ كلفتِ أباكِ أنْ يراقبنا في النزهة ليكون عليَّ رقيبًا؟ بلى! لأني أرى ذلك محتومًا، ولا آمن عليك هذا الشاب الذي أعرف سوء سيرته مع الفتيات، والذي يعرضك للشقاء، والذي يجب عليَّ أنْ أحميك من شره، وسأحميك رضيت أو كرهت.

ثم تتركها ويقبل «فرناند»، فيسألها عن كتاب كتبه إليها، أقرأته؟ ويتحدثان في أمرهما، فتنبئه برفض أخيها وإصرارها هي، وما كان من عزمها على العودة إلى الدير، ثم تسأله عن شيء فتحس منه ميلًا إلى الكذب، فتنذره بأنها لا تكره شيئًا كما تكره الكذب، وبأنها إنْ أخذته بكذبة فستقطع بينها وبينه كل صلة حتى لو كانت زوجه.

•••

فإذا كان الفصل الثالث رأيت «مدام بريسو» أم «دينيز» وقد دخلت عليها «مدام توزيت»، فأنبأتها بأنها إنْ تكن سعيدة اليوم فتظفر غدًا بسعادة لا حد لها، فتجزع المرأة لهذا النبأ؛ لأنها سيئة الظن بالأيام وبالناس، وبهذه المرأة بنوع خاص، وتستنبئ صاحبتها فتنبئها بأن صاحب القصر يحب ابنتها، ويريد أنْ يتخذها له زوجًا، فلا تزداد لذلك إلا جزعًا حتى يأخذها شيء من الدوار، وتشعر أنت بأنها تشفق من أمر عظيم، ولكن «مدام دي توزيت» تلاطفها وتزين لها أمر هذا الزواج؛ لأن فيه سعادة كثيرين، فيه سعادة «دينيز» التي ستصبح «كونتس»، وقد كانت بائسة، وفيه سعادة «مارت» أخته التي تحب «فرناند»، وتريد أنْ تقترن به، ولن تظفر بذلك إلا إذا أشارت به «دينيز» على صاحب القصر؛ لأنه لا يرى إلا بعينيها، تتحدث إليها بهذا كله فلا تزداد إلا وجلًا وإشفاقًا، كأنها تعلم شيئًا تخشاه.

ثم يقبل صاحب القصر فتتلقاه «مدام دي توزيت»، وقد تكلفت الحزن والغضب وتستأذنه في الانصراف والعودة إلى باريس، ولكنهما يتحدثان، فيسألها عما تعلم من أمر «دينيز»، فتقسم له أنها لا تعلم من أمرها شيئًا، وأنها إنما اتهمتها غيرة وحسدًا، ويظهر هذا كله معقولًا لصاحب القصر فيطمئن إليه، ويقبل «فرناند» مستأذنًا في السفر، فإذا كل شيء قد تغير، وإذا صاحب القصر يلح عليه في البقاء، ويقبله زوجًا لأخته، ولكنه يستحلفه بالشرف أنْ ينبئه، أكان خليلًا «لدينيز»؟ فيجيبه: كلا! ويقسم على ذلك، فإذا هم جميعًا سعداء، أليس يستطيع أنْ يقترن «بدينيز»! أليس الآخر يستطيع أنْ يقترن «بمارت»! أليس الأمر قد انتهى إلى ما كانوا يحبون جميعًا؟

يخطب صاحب القصر الفتاة إلى أبويها، فيتردد الأب ثم يرضى، أما الأم فسعيدة ولكنها جزعة، وهي تشير بأن يتحدث صاحب القصر إلى بنتها، فإذا خلا صاحب القصر إلى «دينيز» أنبأها بحبه إياها، وأنبأته بحبها إياه، ثم يطلب إليها أنْ تكون زوجه فتجيب: كلا!

– لماذا؟

– لأني من اللاتي يحببن دون أن يكنَّ للزواج أهلًا، ثم تنبئه بأنها مسافرة غدًا بعد أنْ تعود أخته إلى الدير.

– ولكن أختي لن تعود إلى الدير، فقد رضيت أنْ تقترن «بفرناند».

فإذا سمعت ذلك جرعت له جزعًا شديدًا، وأنبأته بأنها كانت خليلة لهذا الشاب، خدعها عن نفسها فرزقت منه طفلًا، ثم أعرض عنها أثناء الحمل وبعد الميلاد، ومات هذا الطفل، وجهل أبوها الأمر كله، فلا ينبغي أنْ يكون هذا الشاب مصدر شقاء لفتاة بريئة «كمارت»، إنه لا يريد أنْ يتزوجها، وإنما يريد أنْ يتزوج ثروتها!

الموقف هنا مؤلم جدًّا، فليس من اليسير أنْ تملك نفسك أمام جزع هذه الفتاة، وهي تفضح أمرها لمن أحبها وأحبته، وأمام صاحب القصر يبكي رحمة لها وحزنًا على حبه! ولكن أبا الفتاة قد سمع الحديث فأقبل، وقد جن جنونه فطرد الفتاة طردًا عنيفًا، وأعلن إلى صاحب القصر أنه مرتحل لساعته؛ ليطهر هذا القصر من هذه الأسرة الدنسة، ثم يرتب أوراقه، وهو في ذلك إذ يقبل «فرناند»، فلا يكاد يراه حتى يهجم عليه يريد أنْ يقتله، ثم يتردد أمام الجريمة فيرسله قائلًا: اذهب إلى أمك، فأنبئها بأني انتظرها هنا؛ لتخطب إليَّ ابنتي على أنْ تكون زوجًا لك، فإذا لم تتم هذه الخطبة في ساعة فأنا قاتلك!

•••

فإذا كان الفصل الرابع رأيت الأبوين محزونين يتحدثان، أما الأم فمكلومة مستسلمة، وكأنها مرتاحة إلى هذه النكبة التي أباحت سرها لزوجها، وأخفتها من الحذر والكتمان، وأما الأب فمحزون، ولكن ثورته لم تهدأ بعد، فهو يلعن ابنته، وينكر إخفاء الأمر عليه، وزوجه تستعطفه وتترضاه دون أنْ تجد إلى العطف في قلبه سبيلًا، وهي تكره أنْ تقترن ابنتها بهذا الفتى، والفتاة تكره ذلك، ولكن الرجل يلح فيه مهما يكن شرًّا، لقد اشتركا في الإثم فيجب أنْ يحتملاه معًا.

تقبل أم الفتى، فتخطب الفتاة إلى أبيها أمام صاحب القصر وصديقه توفنان، ويقبل الأب وتقبل الفتاة، ويستعد هؤلاء للسفر إلى باريس، ويخلو الصديقان، فإذا صاحب القصر محزون ولكنه مطمئن؛ لأنه عرف ما كان يبحث عنه، أما صاحبه فيشبعه لومًا وتأنيبًا؛ لأنه جنى هذه الجناية المنكرة على هذه الفتاة التي يحبها وتحبه، والتي ضحت بشرفها وكرامتها في سبيله وفي سبيل أخته، ثم من الملوم في هذا كله؟ أنت؛ لأنك عشقت أم الفتى فعرفت أختك وحببت إليها ابنها، وهي التي دلتك على هؤلاء الناس جميعًا فاستخدمتهم، ولولا هذا العشق القديم وهذا الحب الجديد، وما نشأ عنهما من الغيرة لما نال هذه الأسرة ما هي فيه الآن من شقاء، وليس لك أنْ تسخط على الفتى؛ لأنك سألته أمرًا فأخفاه عليك، فمثل هذا السر لا يباح، أتستطيع أنت أنْ تنبئه بأنك كنت خليل أمه لو سألك؟ ولم لا تقترن بالفتاة؟ ألم تعترف لك بخطيئتها! ألم ترَ جزعها لهذه الخطيئة! ألم تبك معها على هذه الخطيئة! ألم تغسل دموعكما آثارها! أنت تحبها ولن تتعزى عنها، وأنت الآن تتركها لما ينتظرها من شقاء، فاحذر عاقبة هذا الجبن، وهذه القسوة فقد تندم حين لا ينفع الندم.

وتقبل أخته، فإذا عرفت كل ما كان أخذها ندم شديد لما قدمت من الإساءة إلى «دينيز»، فدعتها وأخذت تضمها إليها وتسألها عفوها ومغفرتها، لقد خانك هذا الفتى وخانني أيضًا، فكانت خيانته دليلًا على أنا لا نصلح للزواج، أحببنا هذا الفتى الخائن، فلنبرأ من حبه، ولنقدم حبنا إلى من لا يخون، لنذهب معًا إلى الدير، ثم تنطلقان فلا تكادان تبلغان الباب حتى يصيح صاحب القصر: «دينيز» لا أستطيع! وإذا هي بين ذراعيه، وإذا أخته فرحة مبتهجة تفكر في العشاء ومن دعوا إليه، فإذا سئلت عن الدير أجابت بعد أنْ تتزوج «دينيز».

•••

والآن وقد لخصت لك هذه القصة لا أجد بدًّا من أنْ ألاحظ أنها لذيذة ممتعة إذا قرأتها، ولكنك لا تكاد تشهدها في ملعب التمثيل حتى يأخذك شيء من الدهش، ولا أريد أنْ أقول من خيبة الأمل، فقد يكون اللفظ أشد مما ينبغي.

بعُد العهد بهذه القصة؛ فقد مثلت في آخر القرن الماضي، وما أسرع ما تطورت أخلاق الناس وعاداتهم وأوضاعهم الاجتماعية منذ ثلاثين سنة، ولا سيما في فرنسا، ولا سيما بعد الحرب!

ولهذا تشعر في كثير من المواقف بأنك تشهد شيئًا ليس بينك وبينه صلة، وهو إلى التاريخ أقرب منه إلى تمثيل الحياة التي تحياها.

أضف إلى هذا شيئًا آخر ليس أقل منه خطرًا، وهو أنَّ الكاتب يطيل في حواره حتى إنك لتنسى في كثير من المواقف أنك تسمع ممثلًا، ولتشك في أنك تسمع خطيبًا، ولقد يتكلم الممثل ربع ساعة أو نحو ذلك أو أكثر من دون أنْ ينقطع عن الكلام، أو يسمع جوابًا من محاوره.

فإذا اجتمع هذان الأمران في قصة كالتي مثلت مساء الاثنين لم تجد بدًّا من أنْ تعذر الممثلين يمثلون آيات الفن الحديث، وآيات التمثيل في القرن السابع عشر.

بل أنا أعترف بأني كنت أعجب بمسيو ألبير لامبير إعجابًا لا حدَّ له، ولكن يشوبه شيء من الرفق به والإشفاق عليه، فقد كلف نفسه عناء كثيرًا في تمثيل المواقف التي وقفها أندريه پاردان، واستطاع أنْ يخلب الجمهور غير مرة.

وكان المسيو شارل جرفال بارعًا في تمثيل فرناند، وأحسبه أمهر الممثلين بعد مسيو ألبير لامبير في هذه القصة.

وهل أسمح لنفسي بأن ألاحظ أني لم أجد ما كنت أنتظر من الآنسة «دي لوك» التي كانت تمثل «دينيز»، فربما نقصها في هذا الموقف شيء من الشباب.

ولست أدري كيف أثني على السيدة سوزان فرنيل، فهي الوحيدة التي أنستني أنها ممثلة، ووقفت موقف الأم الرفيقة المحزونة، والزوج الشفيقة المؤاسية حقًّا.

وكانت السيدة «مارت مارسان» خلابة في تمثيلها «مدام دي توزيت»، فكنت تراها تنتقل في سهولة ويسر من التمثيل الصحيح المتقن للخليلة الفتانة إلى التمثيل الصحيح المتقن للأم، التي لا تحيا إلا ليكون ابنها سعيدًا.

وقد أظهرت السيدة «بلانش جاكسون» مقدرة غريبة في موقف «مارت پاردان»، ولا سيما في الفصل الثاني حين كانت تعاتب أخاها، وتهين «دينيز»، وتتحدث في الحب إلى «فرناند».

ومهما يكن من شيء فإني إنْ أوجه نقدًا فإنما أوجهه إلى لجنة البرنامج لا إلى الممثلين؛ فقد كان من الميسور أنْ تختار لنا قصصًا غير هذه القصص التي إنْ تكن ممتعة قيمة، فقد لا تعطينا من التمثيل الفرنسي العصري صورة صحيحة، وقد تحول بيننا وبين الاستمتاع ببراعة الممثلين كلهم أو بعضهم على أقل تقدير.

نوفمبر سنة ١٩٢٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤