روي بلاس

قصة تمثيلية شعرية «لڨكتور هوجو»

كانت لذيذة قيمة تلك الساعات التي قضيناها مساء الاثنين في الأوبرا الملكية، نسمع أمهر الممثلين الفرنسيين ينشدون، ويمثلون شعر أنبغ الشعراء الفرنسيين، كانت تلك الساعات لذيذة ممتعة، وربما استطعت أنْ أقول: إنها كانت ساحرة، تستهوي اللبَّ، وتخلب العقل، وتنسي النظارة أنهم في ملعب من ملاعب التمثيل، يسمعون قومًا يلقون الشعر، أو يرون قومًا يذهبون ويجيئون ويختصمون ويتفقون، تنسيهم هذا كله، ويخيل إليهم أنهم في عالم آخر ليس من الميسور وصفه أو تحديده، وإنما أستطيع أنْ أقول: إنه عالم كله تأثر، كله ألم ولذة يكادان يتجردان من الحياة المادية، وليس في ذلك شيء من العجب، فقد كان «ألبير لمبير» يفسر «ڨكتور هوجو».

كانت لذيذة قيمة تلك الساعات، والغريب من أمرها أنها لم تكن تلذك لفكرة فلسفية، أو نظرية من نظريات العلم، أو قضية من قضايا الاجتماع، وإنما كانت للفن وحده، كانت تلذك؛ لأن الممثل نابغة في التمثيل، ولأن الشاعر نابغة في الشعر، ولأن الشاعر قد استطاع بقوته التي تشبه قوة المردة أنْ ينتزعك من هذا العالم انتزاعًا، وأنْ يصعد بك في سماء من الجمال الفنِّيِّ، لا تجد فيها إلا بهجة واستبشارًا، وإلا نعمة واغتباطًا مهما تكن البيئة التي يمر بك فيها الشاعر، ومهما يختلف على نفسك من لذة وألم ومن أمل ويأس، واستطاع الممثل أنْ ينفخ في هذا الشعر القوي الحي روحًا آخر قويًّا حيًّا منحه من القوة والحياة حظًّا ليس إلى وصفه من سبيل.

قلت: إنَّ هذه القصة لا تستهويك لفكرة فلسفية أو نظرية من نظريات العلم، وآية ذلك أنك تقرأ القصة من أولها إلى آخرها فيبهرك جمالها الفني، وجمالها الفني وحده، وتشهد هذه القصة في ملعب التمثيل، فيبهرك نبوغ الشاعر ومهارة الممثل، ولا تكاد تفكر في شيء غير هذا، ومع ذلك فإن «ڨكتور هوجو» كان يعتقد — حين وضع هذه القصة — أنها قصة فلسفية تاريخية، وأنه لم يقصد بها إلى الفن وحده، وإنما قصد بها إلى الفن وإلى العلم، قصد بها إلى أنْ يرضي العقل، وإلى أنْ يرضي الشعور، ماذا أقول؟! بل قصد بها أنْ يرضي الحس أيضًا، وأستميحك المعذرة في أنْ أتحدث إليك في هذا الفصل عن «ڨكتور هوجو» أكثر مما أتحدث إليك عن القصة نفسها، فسترى أنَّ الحديث عن القصة ليس بالأمر اليسير، وأني مهما أبذل من جهد وأنفق من قوة، فلن أظهر على شيء من جمالها الفني، وأين السبيل إلى ترجمة الشعر، ولا سيما شعر «ڨيكتور هوجو»! وإلى إعطاء صورة صادقة من التمثيل المتقن، ولا سيما تمثيل «ألبير لمبير».

أريد إذن أنْ أتحدث إليك عن ڨكتور هوجو، فقد وضع ڨيكتور هوجو لهذه القصة مقدمة لا تخلو من لذة، بل لا تخلو من شيء يحمل المؤرخ الحديث على الابتسام.

«ڨكتور هوجو» يرى أنَّ النظارة منقسمون بطبيعتهم إلى طبقات ثلاث، تختلف أغراضها حين تذهب إلى دار التمثيل اختلافًا شديدًا:

  • الطبقة الأولى: النساء، وهن حين يذهبن إلى دار التمثيل إنما يردن إرضاء العاطفة والشعور، يردن أنْ يجدن من اختلاف الأهواء وتنازعها، ومن جهاد الشهوات واصطدامها ما يؤثر في شعورهن؛ لأنهن إنما يحيين بالشعور.
  • الطبقة الثانية: طبقة المفكرين، وهؤلاء يريدون حين يذهبون إلى دار التمثيل أنْ يروا في الملعب خلالًا تستحق أنْ تدرس، وأنْ يفكر فيها الباحث، وأنْ يجد من درسها والتفكير فيها علمًا جديدًا يدله على شيء جديد.
  • الطبقة الثالثة: طبقة الجمهور أو الطبقة العامة، هؤلاء يذهبون إلى دار التمثيل؛ لأنهم يريدون أنْ يروا حركة تمثيلية تستهوي أعينهم، وتخلب حسهم، وتتيح لهم ما هم في حاجة إليه من اللهو.

النساء إذن يريدن أنْ يتأثرن، والمفكرون يريدون أنْ يتعلموا، والجمهور أو العامة يريدون أنْ يلهوا، ولقد يشعر ڨكتور هوجو بأن في هذا التقسيم شيئًا من الغلوِّ، فيعتذر ويعترف بأن تقسيمه غير دقيق، وبأن من الممكن بل من الحق الواقع أنْ تطلب المرأة شيئًا غير التأثر فتطمع في اللهو وفي لذة العقل، وأنْ يطلب المفكر شيئًا غير التعلم، فيطمح إلى التأثر واهتزاز العاطفة، وأنْ يكون في جمهور النظارة من يجمع بين هذه الخلال جميعًا، فيلهو ويتأثر ويفكر، ويعترف بهذا، ولكنه يلح في أنَّ هذه الخصال الثلاث هي الخصال التي لا بد من أنْ تشتمل عليها قصة تمثيلية متقنة، وهذه القصة التي تشتمل على هذه الخصال كلها، هي عنده المثل الأعلى في التمثيل، هي خير من «التراجيديا»؛ لأن التراجيديا تؤثر في الشعور وحده، ولهذا يحبها النساء، وهي خير من «الكوميديا»؛ لأن الكوميديا تلذ العقل وحده، ولهذا يحبها المفكرون، وهي خير من قصص الهزل والحركة؛ لأن هذه القصص تعجب الحس وحده، ولهذا يكلف بها عامة الناس.

هذه القصة التي يكلف بها ڨكتور هوجو تجمع بين هذين النوعين العظيمين من أنواع التمثيل، أو قل بين هذه الأنواع الثلاثة التي تقدمت الإشارة إليها، ويقول: إن «كورنييل» زعيم التراجيديا و«موليير» زعيم الكوميديا يستطيعان أنْ يعيشا مستقلين، وألا يلتقيا أبدًا لولا أنَّ «شكسبير» يستطيع أنْ يمسك أحدهما بيسراه والآخر بيمناه، وأنْ يجمع بين فنيهما جميعًا، فتكون قصته تراجيديا وكوميديا معًا.

على هذا النحو تصور ڨكتور هوجو القصة التمثيلية، وعلى هذا النحو أنشأها، فسترى في هذه القصة التي نحن بإزائها ما يؤثر في الشعور، وما يلذ العقل، وما يلهي؛ أي إنك سترى فيها ما يرضي الطبقات الثلاث التي تؤلف النظارة في ملعب من ملاعب التمثيل، فإذا سألت ڨيكتور هوجو عن موضوع هذه القصة أو عن الفكرة التي صدرت عنها هذه القصة، أجابك بأن هذا الموضوع يختلف باختلاف الناحية التي تنظر منها إلى القصة، فقد تستطيع أنْ تنظر إليها من الناحية الإنسانية العامة، وقد تستطيع أنْ تنظر إليها من الناحية الأدبية الخالصة، فإذا نظرت إليها من ناحية فلسفة التاريخ فموضوعها عظيم الخطر جدًّا؛ لأنه يمثل لك حال الدولة الملكية العظمى قد أشرفت على الانحلال، ثم يعرض عليك صورة جميلة مؤثرة لهذا الانحلال، لا عيب فيها إلا أنَّ ڨيكتور هوجو قد أسرف في تعميمها واتخذها قاعدة، وربما تكون هذه الصورة صحيحة في إسبانيا، وربما تكون صحيحة في بعض الدول الملكية، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أنها لا تصلح قاعدة من قواعد التاريخ، ولا أصلًا من أصول الفلسفة الاجتماعية، ولكن لا تنس أنَّ ڨكتور هوجو كان يكتب هذه القصة ومقدمتها في أوائل الثلث الثاني للقرن الماضي؛ أي في العصر الذي أخذت تظهر فيه فلسفة التاريخ ظهورًا قويًّا وتبسط سلطانها على كل شيء، وتزعم أنها قادرة على أنْ تفسر الحياة الإنسانية على اختلاف صورها وأشكالها.

أفْلستْ فلسفة التاريخ في أواخر القرن الماضي.

فليس عجيبًا أنْ نبتسم نحن مع شيء من العطف لهذه القواعد العامة، التي كان يضعها ڨكتور هوجو متأثرًا بهؤلاء الفلاسفة المؤرخين، الذين كانوا يعاصرونه ويتسلطون على عقول المفكرين، وليس عجيبًا أنْ ينظر المفكرون، ولا سيما الشبان منهم في عصر ڨكتور هوجو إلى هذه القواعد نظرة المعجب المفتون، الذي كان قويَّ الإيمان بفلسفة «أوجست كومت» و«سان سيمون»، وغيرهما من الذين كانوا يريدون أنْ يفسدوا الحياة الاجتماعية الماضية، ويضعوا أساس الحياة الاجتماعية المقبلة.

يظهر أنَّ الدولة إذا أشرفت على الانحلال، ظهر الفساد ظهورًا قويًّا في أشرافها؛ لأن الدولة إذا مرضت فمرضها في الرأس، والأشراف رأس الدولة، ولهذا الفساد مظهران: أحدهما الأثرة والإسراف في حب المنفعة والتهالك عليها والتضحية بكل شيء في سبيلها، والآخر الازدراء والسخرية والتهالك على اللذة دون تضحية للشرف والكرامة، ويقول ڨيكتور هوجو: إنَّ الأشراف ينقسمون أيام فساد الدولة قسمين: قسم شعر بالضعف واستيقن السقوط، فهو ينتهز الفرصة، ويريد أنْ ينتفع ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وإذن فأموال الدولة ومرافقها نهب لمنافعه يسخرها كما يحب، وقسم شعر بهذا الضعف، واستيقن الانحلال أيضًا، ولكنه شريف نقي، فيعتزل الأعمال ويفرغ للذاته وأهوائه يستمتع منها بما استطاع أنْ يستمتع به قبل أنْ تنزل النازلة.

فأما القسم الأول فهو قسم الدس والكيد والاختلاس والإفساد، وأما القسم الثاني فهو قسم اللهو واللذة والإسراف، لا يزال بما لديه من المال يتلفه ويبدده حتى يعدم، فينحط من منزلته العليا إلى حيث يعايش عامة الناس، كان في القمة فأصبح في الحضيض، لا يحتفظ من ماضيه — كما يقول ڨكتور هوجو — إلا بشرفه، واسمه الذي يخفيه، وسيفه الذي يظهره، وهو يرى القسم الآخر من أقربائه وذوي عمومته مستأثرًا بالعزة والشرف منتفعًا بالمناصب وثروة الدولة، فلا يدفعه ذلك إلا إلى الازدراء والسخرية، وكذلك كانت الحال في إسبانيا آخر القرن السابع عشر وهو العصر الذي تمثله قصة «ري بلاس».

وقد يكون هذا صحيحًا من بعض الوجوه، ولكني لا أشك في أنَّ الشاعر العظيم لا يصور لنا في هذا الفصل إلا صورة خيالية، هي التي ملكت عليه أمره، فحملته على إنشاء هذه القصة، فسترى أنَّ لهذه القصة بطلين من أسرة واحدة، كلاهما شريف، ولكن أحدهما قد فقد شرفه الخلقي، وضحى بكل شيء في سبيل منفعته، فهو يدس ويكيد ويأتمر، والآخر قد فقد مظهر شرفه المادي، فهو فقير مشرَّد يعاشر اللصوص والمجرمين، ولكنه محتفظ بخلقه ومروءته، فهو لا يؤثر نفسه، وإنما يؤثر عليها.

إلى جانب هؤلاء الأشراف — الذين أخذوا يضعفون وينحلون — توجد قوة أخرى عظيمة عنيفة تملؤها الصحة، ذاقت من الذل ألونًا ولكنها ينعشها الأمل، فهي تطمع في المستقبل وتطمح إلى الرقي، وهذه القوة هي الشعب، يقوى ويشتد أَيْدُهُ في حين يضعف سادته وينحلون، فأنت ترى من هذا نفسه أنك في عصر الثورة الفرنسية، وأنَّ الذي يتحدث إليك هو ابن من أبناء هذه الثورة، متأثر بالديمقراطية، قد آمن بها إيمانًا شديدًا، واجتهد في أنْ يوفق بين إيمانه وبين عقله، وفي أنْ يصطنع مذهب الفلاسفة المعاصرين له الذين كانوا يتحدثون دائمًا عن عصر مضى هو عصر الأرستقراطية، وعصر مقبل هو عصر الشعب!

وما أيسر ما خيل إلى الشاعر أنه يمثل في قصته إلى جانب هؤلاء الأشراف المنحلين قوة الشعب ناهضة مصعدة في السماء، في حين يهوي الأشراف إلى الأرض، ذلك أنك سترى في هذه القصة بطلًا باسمه سميت القصة، كان خادمًا، فسما إلى ما لا يسمو إليه الخادم، ومثل بذلك طموح الشعب إلى الرقي والفوز.

ثم هناك غير بعيد من هاتين القوتين المتناهضتين قوة أخرى هادئة باسمة كلها رحمة ورفق، وكلها عطف وإحسان، وكلها حب وجمال، يكيد لها أولئك ويطمح إليها هؤلاء، يأتمر بها الأشراف ويسمو إليها الشعب، هذه القوة التي تمثل الفضيلة، والتي تمثل المثل الأعلى للحياة الإنسانية الصالحة، هي السلطان ممثلًا في شخص الملكة، فسترى في هذه القصة بطلة هي ملكة إسبانيا الوديعة الرءوم البائسة، يأتمر بها الأشراف، ويكلف بها ممثل الشعب.

فأنت ترى أنَّ لهذه القصة موضوعًا فلسفيًّا تاريخيًّا عميقًا، ولكني أعترف لك بأنك لا تحس هذا الموضوع، ولا تتأثر به إلا حين تقرأ مقدمة الشاعر، فإذا قرأت القصة أو شهدتها في دار التمثيل لم تفكر في شيء من هذا إلا في موقف واحد، يضطرك الشاعر إلى أنْ تفكر فيه؛ لأنه يتحدث إليك في عنف وقوة عن انحطاط إسبانيا وإشرافها على الفناء، ولولا هذا لما فكرت إلا في أن شريفًا يأتمر، وشريفًا آخر يلهو، وفتى من أبناء الشعب يحب الملكة.

فإذا نظرت إلى هذه القصة من الناحية الإنسانية الخالصة رأيت لها موضوعًا آخر أرقى من موضوعها الأول؛ لأن أحد أبطالها وهو هذا الشريف المؤتمر، يمثل الأثرة العنيفة التي لا تحفل بشيء، والآخر وهو هذا الشريف الساخر اللاهي، يمثل الإيثار والانصراف عن المنفعة، والثالث يمثل النبوغ الذي أخذت ناره تصعد في الجو دون أنْ تحفل بمقاومة، وهو هذا الفتى الذي يمثل الشعب، أما البطل الرابع فيمثل الفضيلة مهضومة وهي الملكة.

فإذا نظرت إلى القصة من الوجهة الأدبية الخالصة رأيت مظهرًا آخر، واجتمعت لك فيها صور التمثيل الثلاث، فرأيت الشريف المؤتمر يمثل «الدرامة»، وهو هذا النوع من التمثيل الذي لا يخلص للكوميديا ولا للتراجيديا، وإنما يؤلف بينهما، ورأيت الشريف الساخر يمثل الكوميديا، ورأيت ابن الشعب يمثل التراجيديا، وكانت هذه القصة مجتمعًا صادقًا لصور التمثيل.

أترى أنَّ موضوع القصة وقيمتها يختلفان باختلاف الناحية التي تنظر منها إلى هذه القصة، ولهذا يمثل ڨكتور هوجو الفكرة بالجبل الشامخ يختلف منظره باختلاف المكان الذي تطلع عليه منه، ثم يرى أنَّ في هذه القصة أشياءَ كثيرة وأغرضًا متباينة، وأنَّ لكل فرد أو فردين من النظارة أنْ يأخذ من هذه الأشياء والأغراض ما أراد، ثم يعترف بحقيقة لا شك فيها؛ لأنها تخلو من كل فلسفة أو محاولة للفلسفة، وهي أنَّ الذي يعني جمهور النظارة من هذه القصة بنوع خاص، إنما هو هذا الخادم الذي يحب الملكة، ويلقى في حبها ما يلقى من أسى.

هناك شيء في هذه المقدمة لا يخلو — كما قلت — من لذة، ولا مما يبعث على الابتسام، وهو تأثر ڨكتور هوجو بطائفة من المصادفات، أو قل بطائفة من الحوادث خليقة أنْ تؤثر في نفس العامة فتبعث فيها العجب، وخليقة أنْ تؤثر في نفس الشاعر فتخرج منها الشعر، فقد ولد «شارل كان» سنة ١٥٠٠، ومات شارل الثاني آخر سلالته سنة ١٧٠٠، ثم ورث لويس الرابع عشر «شارل كان» سنة ١٧٠٠، وورث نابليون لويس الرابع عشر سنة ١٨٠٠، فوقوع هذه الحوادث في هذه السنين التي تفتتح العصور شيء من شأنه أنْ يبهر العامة، كما أنَّ من شأنه أنْ يبهر الشعراء، ويظهر أنه بهر ڨكتور هوجو، فحمله على أنْ يفكر في أمر هذه المملكة الإسبانية العظيمة، فوصل إلى هذه الصيغة البديعة، وهي أنَّ شمس هذه الأسرة النمساوية التي ملكت إسبانيا قد أشرقت سنة ١٥٠٠، وغربت ١٧٠٠، وكان من نتائج هذا التفكير في إسبانيا وملوكها وأشرافها آيتان من آيات الفن، الأولى هرناني تمثل فجر العظمة الإسبانية، والأخرى «ري بلاس» تمثيل أصيل هذه العظمة.

وأظن أنه قد حان لي أنْ ألخص لك هذه القصة، ولن يكون تلخيصها طويلًا، فقد قلت: إني مهما أفعل فلن أظهرك من جمالها على قليل أو كثير.

•••

إذا كان الفصل الأول رأيت دون سالوست — وهو رجل شريف من عظماء الدولة وذوي المكانة الممتازة في القصر — مغضبًا محنقًا؛ لأن الملكة قد غضبت عليه، فكُلِّف أنْ يغادر القصر والعاصمة، وأنْ يعود إلى أرضه، وهو يريد أنْ ينتقم لنفسه، ويبحث عن وسيلة لهذا الانتقام، فيدخل عليه ابن عم له هو دون سيزار، كان غنيًّا فأعدم لكثرة ما عكف على اللهو ثم استخفى، فتحدث الناس عنه الأحاديث، فمنهم من زعم أنه ارتحل، ولكنه ما زال في مدريد مستخفيًا يعاشر المشردين واللصوص، فإذا دخل على ابن عمه أخذ هذا يلومه ويذكر سيئاته، فيدفع عن نفسه ضاحكًا معترفًا بآثامه مفاخرًا بها ساخرًا من كل شيء، لا يشكو إلا الفقر وكثرة الدَّيْن، فيعده ابن عمه بالمعونة وأداء دينه، بل يعد بأكثر من هذا بأن يجعله عظيمًا، ولكنه يشترط لذلك شروطًا لا يكاد يعلمها صاحبه حتى يرفضها رفضًا عنيفًا ملؤه النذير؛ لأنه يحس منها الائتمار بامرأة، فتأبى نفسه هذا، ويؤثر حياة الإجرام والفجور على الكيد لامرأة ضعيفة مهما يكن مكانها.

ولكن ابن عمه لم يتحدث إليه في هذا كله إلا ضاحكًا متنكرًا، فما أسرع ما يقنعه بأنه كان يعبث، ثم يتركه ليأتي له بشيء من المال، وبينما هذا الشريف المعدم ينتظر ابن عمه إذ يدخل عليه «ري بلاس»، وهو خادم دون سالوست، فلا يتراءى الرجلان حتى يتعارفا؛ لأنهما كانا رفيقي بؤس، ويقص كل منهما على صاحبه ما كان من أمره، فإذا هذا الخادم شاب قد أحسن تعليمه فكلف بالفلسفة، وأسرف في هذا الكلف حتى صرفه عن الحياة العاملة، فتكلف ضروبًا من البؤس والشقاء، وانتهى إلى خدمة دون سالوست، ولكن حياته الأليمة ليست شيئًا بالقياس إلى هم يفعم قلبه وينغص عليه أيامه، وهو يحاول أنْ يجد له اسمًا فلا يوفق، وهذا الهم هو أنه يحب ويغار، يحب الملكة ويغار من الملك، وهو في كل يوم يقطع فراسخ ليحمل أزهارًا تحبها الملكة، فإذا كان الليل تسلق سور القصر، واندس حتى يضع أزهاره بحيث تستطيع الملكة أنْ تراها.

وقد أسرف في الجنون حتى أضاف اليوم إلى طاقة رسالة غرام لم يمضها، وكان سيده قد سمع لهذا الحديث، فيدخل هادئًا، ويدفع إلى ابن عمه المال وقد أوصى به من يتبعه، حتى إذا خرج من القصر عدا عليه وحمله إلى البحر فباعه من قرصان أفريقيا، ثم يخلو إلى خادمه، فيكلفه أنْ ينزع ثياب الخادم، ويلبس ثياب الرجل الشريف، ويملي عليه رسالة غرامية، فإذا كتبها أخذها منه واحتفظ بها، ثم يملي عليه كتابًا آخر فيه عهد على نفسه بأنه خادم مولاه، وأنه سيخلص له أبدًا، يأمره فيمضي الكتاب ويدفعه إليه، ثم يعلن إليه ما يريد، فهو يريد أنْ يجعله رجلًا شريفًا لما آنس فيه من الكفاية والشرف والوفاء، وما هي إلا أنْ يقبل أشراف القصر، فيقدمه إليهم على أنه ابن عمه «دون سيزار»، ويوصيهم به خيرًا عند الملك.

•••

فإذا كان الفصل الثاني رأيت الملكة قد جلست إلى وصائفها يتحدثن ويطرزن، وهي تنتقل من حديث إلى حديث، ولكن السأم عليها ظاهر؛ لأن الملك يهجرها منصرفًا عنها إلى الصيد، ثم هي لا تجد في الحياة لذة ولا سبيلًا إلى اللهو، تريد أنْ تخرج فتلفتها رئيسة قصرها إلى أنها لن تستطيع أنْ تخرج ما دام الملك غائبًا، تريد أنْ تنظر إلى النافذة فتلفتها إلى أنَّ ذلك لا يباح للملكة، تريد أنْ تأكل مع وصائفها فتلفتها إلى أنَّ الملكة يجب أنْ تأكل وحدها ما دام الملك غائبًا، تريد أنْ تلاعب وصائفها بالورق فتلفتها إلى أنَّ الملكة يجب أنْ لا تلاعب إلا أسرة الملك، ثم لا تسمح حتى بالحديث، فتأمر الوصائف بالانصراف لتخلو الملكة إلى نفسها، وتفكر فيما بينها وبين الله حينًا.

فإذا خلت الملكة إلى نفسها فكرت في المسيح والعذراء، ولكن لتستعينها على الحب، فهي تحب هذا الشخص المجهول الذي يحمل الزهر، وهي لا تعرفه، والذي ترك لها كتابًا منذ أيام، والذي يظهر أنه خرج وهو يتسلق غرفتها، فتمزقت ثيابه، وبقيت منها قطعة معلقة، وترك أثرًا من دمه على الحائط، فهي تضم إلى صدرها كتابه وما بقي من ثوبه، وتنظر إلى هذا الدم، وتحاول أنْ تنصرف عن هذا كله فلا تستطيع، تحب هذا الفتى، ولكن حبها غير آثم، ولولا أنَّ الملك منصرف عنها لما فكرت في غيره.

ثم يدخل عليها الوصائف ورئيسة قصرها وغلامان يحملان كتابًا على وسادة فخمة، فإذا بالكتاب من الملك قد حمله إلى الملكة بعض أتباعه، تبتهج الملكة، وتحاول أنْ تقرأ الكتاب، ولكن رئيسة قصرها تلفتها إلى أنَّ التقاليد تقضي بأن تقرأ هي الكتاب أولًا، تفضُّ الرئيسة الكتاب وتقرأ، فإذا الملك يقول: سيدتي! الريح عاصفة وأنا أصيد، وقد قتلت ستة ذئاب، ثم يمضي، ولا تسل عما أصاب الملكة من يأس، وقد كانت تنتظر كتاب حب، ولكنها لا تكاد تنظر في الكتاب حتى تدهش، إنَّ الملك لم يكتبه وإنما أمضاه! وخط الكتاب يشبه خط كتاب آخر تضمه إلى صدرها، تسأل عن حامل الكتاب، فتقدم إليها الرئيسة ري بلاس، وتنبئها بأن الملك قد ألحق هذا الشاب بخدمتها، فلا تكاد تنظر إليه حتى يظهر عليها الافتتان به.

أما الشاب فاضطرابه لا يخفى على أحد، وفي ناحية من نواحي الغرفة وقف شيخ قوي مفتون بالملكة، ولكنه يقنع من حبه بالابتسام والتحية، فإذا رأى هذا الشاب واضطرابه، وتبين ميل الملكة إليه أراد أنْ يمتحن الشاب، فأقبل ينبئه بأن عمله هو أنْ يقف في هذه الغرفة، حتى إذا أقبل الملك هذه الليلة، وأراد أنْ يدخل على الملكة فتح له الباب ثم أغلقه دونه، فلا يكاد الشاب يسمع هذا الحديث حتى تأخذه الغيرة، فإذا رأسه يدور، وإذا هو يوشك أنْ يفقد الصواب.

وترى الملكة ووصائفها منه هذا، فيقبلن عليه يردن إسعافه، فلا تكاد تدنو الملكة منه حتى تتبين الجرح في ذراعه، فلا تشك في أنه صاحبها.

ثم يكون بين هذا الشاب وبين ممتحنه الشيخ خصام عنيف.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى على هذا الشهر، وارتقى الشاب حتى أصبح زعيم الدولة ورئيس الوزارة، والوزراء يتحدثون عنه ويحقدون عليه وعلى الملكة، وهم يذكرون منافعهم، فيقتسمون فيما بينهم ثروة الدولة، ولكنهم يجهلون مكان ري بلاس الذي يسمعهم ويراهم دون أنْ يروه، فما هي إلا أنْ يقبل عليهم، فيزجرهم زجرًا عنيفًا، هو آية من آيات الشعر الوطني، ثم إذا خلا إلى نفسه أقبلت الملكة فهنأته بما سمعت من زجره للوزراء، وتحدثا عن الحب وتعاهدا عليه، وهو سعيد مغتبط يكاد يجن فرحًا، ولكن أمد سعادته قصير، فإن سيده القديم يدخل عليه، فيشبعه لومًا وتأنيبًا؛ لأنه أهمله وأغضب عظماء الدولة حرصًا على منفعة إسبانيا وتدبير ثروتها وحياطة كرامتها، ثم لا يزال به يأمره ويهينه حتى يثور الشاب، ولكن سيده يذكره من هو، ويذكره العهد الذي أعطاه على نفسه، وينذره بإظهار الملكة على هذا كله، ثم يأمره أنْ يلزم بيته غدًا، وأنْ ينتظر هناك ما سيصدر إليه من أمر.

يحس الشاب أنَّ هناك ائتمارًا بالملكة، فيتضرع إلى سيده ألا يعرض لحبيبته بسوء، وألا يتخذه وسيلة لهذه الإساءة، ولكن سيده يسخر منه ومن حبيبته ومن حبه.

•••

فإذا كان الفصل الرابع رأيت «ري بلاس» في بيته ولهان جزعًا مشفقًا على الملكة، ثم ينفذ إلى الملكة كتابًا يدعوها فيه ألا تترك القصر أيامًا، ويخرج ليسلِّي عن نفسه، ولا يكاد يخرج حتى يظهر في البيت ذلك الشريف المعدم، الذي رأيناه في الفصل الأول وقد بيع، فما زال يجد حتى خلص وعاد إلى العاصمة، ورأته الشرطة فتبعته، فما زال يعدو حتى التجأ إلى هذا البيت، وهذا الفصل كان مضحك متقن.

•••

فإذا كان الفصل الخامس رأيت «ري بلاس» قد عاد إلى البيت وهو هادئ مطمئن؛ لأن الملكة لن تخرج، أما هو فيريد أنْ يقتل نفسه قبل أنْ تعرف الملكة حقيقة أمره، وهو في لوعة إذ تدخل الملكة؛ لأن كتابه لم يصل إليها، وإنما وصل إليها كتاب آخر هو الذي أملاه دون سالوست على «ري بلاس» في الفصل الأول فأقبلت.

يلح عليها ري بلاس في أنْ تعود أدراجها، ويكاد ينبئها بكل شيء، ولكن دون سالوست يدخل فيعلن إليها أنها ليست ملكة إسبانيا منذ الآن؛ لأن خلوتها إلى هذا الشاب تكفي للطلاق، ويطلب إليها أنْ تمضي اعترافًا بهذه الخلوة سيرفعه إلى الملك، أما هي فتستطيع أنْ ترحل مع حبيبها إلى حيث تشاء.

تكاد الملكة تمضي لولا أنَّ ري بلاس ينبئها بكل شيء، وبأنه خادم لا شريف، ثم تكون بين الملكة وبين دون سالوست خصومة تهان فيها الملكة إهانة شديدة، يغضب لها ري بلاس فيقتل مولاه انتقامًا لمولاته، ثم يسألها: أتعفو عنه فتجيبه ناحبة، ويشرب السم، فإذا رأت الملكة أقبلت عليه جزعة، فأعلنت إليه حبها وعفوها ومات بين يديها.

ديسمبر سنة ١٩٢٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤