الفصل السابع عشر

ولنعد الآن إلى البارون دي نيفيل، فإنه بعد انصراف بول من عنده دخل غرفته، واسترسل فيها إلى التفكير.

ولقد كان هذا البارون منذ بضعة أعوام يقيم في باريس، وهو ساكن مطمئن، فينفق عن سَعَة من ثروته، التي كان يبلغ ريعها مائة ألف فرنك وأكثر في العام.

وكان حَسَن العِشْرة رضيَّ الأخلاق، كثير الاختلاف إلى محلات اللهو، ثم جاء يوم اعتزل فيه فجأة عِشْرة الناس، فاستقال من رئاسة النادي الذي كان يجتمع فيه مع أصدقائه، واحتجب عن الناس، فسافر مدة عامين إلى مصر وتركيا وشطوط البحر الأسود، ثم ذهب إلى روسيا وأسوج فالدنمارك، وعاد إلى فرنسا بطريق هولندا.

ولم يكن يصحبه في هذه الرحلة غير خادم غرفته — وصيفه — وهو رجل يناهز الأربعين من العمر يُدعى ميشيل، ولكنه كان عنده فوق منزلة الخدم، بل كان صفيَّه وكاتم سره، وقد زالت من بينهما الكلفة كما سترى من خلال محادثتهما.

ولما عاد من السفر ذهب توًّا إلى أراضيه في الريف، وأقام هناك لا يلهو بغير الصيد، وبإدارة ثروته وثروة امرأة أخيه، فقد عُيِّن وصيًّا شرعيًّا عليها بعد جنونها.

ففيما هو جالس في غرفته يفكر بعد انصراف بول، فُتِح الباب ودخل منه ميشيل، فقال له البارون: ماذا ترى؟

فأقفل ميشيل الباب، واستند إلى الكرسي الذي كان البارون جالسًا عليه وقال له: يظهر يا سيدي البارون أنك مستاء من هذا الرجل الذي زارك، فقد كان زَرِيَّ الملابس، ولكنه كان يكلمك بلهجة تدل على أنه كان بينك وبينه صلات قديمة.

فوقف البارون، وأخذ يسير إقبالًا وإدبارًا، ثم قال له: أتعرف هذا الرجل يا ميشيل؟

قال: كلَّا، ولكني أظنه «بول سابري» الذي تذكر اسمه كل ليلة في أحلامك، فانتفض البارون وقال له: اسكت … اسكت!

فلم يمتثل ميشيل، بل قال له: لقد خيِّل لي أنه ذهب من عندك مستاءً، ولا شك أن الاحتيال قبيح، ولكن لا بد من الرضى به في بعض الأحيان، وإني أرى أن هذا الشقي قد لا يقف عند حدٍّ.

– ماذا يستطيع أن يفعل؟

– يستطيع أن يذكر حكاية الصندوق.

– ليس لديه برهان.

– غير أنه إذا روى هذه الحكاية فقد يصدقها كثيرون من الناس.

– وَهَبْ أنهم صدقوها، فماذا يكون؟

– يكون أن أهل هذه البلاد يسيئون الظن بك، لا سيما وأنهم حاقدون عليك لعنفك وغطرستك.

فاحتدم غيظًا وقال: سأزيدهم عنفًا!

– إنك مخطئ يا سيدي البارون، فهل تأذن لي أن أقول ما أعتقده؟

قال: قُل.

– أرى أن العاصفة ترعد فوق رأسينا، فإن أهالي سانت مرتين لا ينفكُّون يتحدثون بحادثة القصر المحروق واستبدال الطفل، وقد أكثروا من ذكر ذلك منذ عهد قريب.

– وماذا عليَّ من أحاديثهم؟

– إذا لم يكن «السيئ البخت» قد مات …

– قال: لا أعلم، ولكن لا يبعد أن يكون في عِداد الموتى.

– ربما، ولكن هذه الحقيقة لا يعلمها غير بول سالبري.

– دون شك، وهذا الذي يريح بالي، فلو كان السيئ البخت حيًّا لما لقيتُ من بول هذا الخضوع والاستكانة.

– ماذا أعطيته؟

– عشرين دينارًا، فخرج دون أن يفوه بكلمة.

– ولكنه خرج ليذهب إلى قرية سانت مرتين.

أأنت واثق مما تقول؟

– كل الثقة، وقد ذهب إليها فعلًا.

– ليذهب حيث شاء، وما عليَّ من ذهابه إلى هذه القرية؟

– لو كان السيئ البخت ميتًا لَمَا تكلف بول عناء الذهاب إلى سانت مرتين، وإنما ذهب إليها ليعلم من أهلها حقيقة أمره.

– لنفترض أسوأ الفروض وهو أن السيئ البخت لا يزال في قيد الحياة، فأية محكمة من محاكم العالم تسمع أقواله، وليس له أقل برهان على صدق ما يقول؟

– هو ذاك، غير أن أمه الكونتيس قد تعترف به.

– إنها مجنونة.

– يعز عليَّ يا سيدي أن أضطر إلى إخبارك بأمر يسوءك.

– ما هو؟

هو أن مدير المستشفى الذي تقيم فيها الكونتيس قد أرسل إليك هذا الكتاب الذي فتحته وقرأته، كما أفتح عادة كل رسائلك، وهذا هو، فأخذ البارون الكتاب بيد ترتعش، وقرأ فيه ما يأتي:

سيدي البارون

لقد تعودت أن أرسل إليك في آخر كل شهر تقريرًا عن صحة سيدتي الكونتيس، امرأة عمك، وإليك تقريري الموجز عن صحة عقلها في هذا الشهر.

يظهر أن للطبيعة أسرارًا لم يصل إليها العلم بعد، فإني بعد أن يئست من شفاء الكونتيس بدأت أرى اليوم أنها آخذة في سبيل الشفاء التام.

وإني لا أجسر أن أجزم بشفائها جزمًا باتًّا خوفًا من انتكاسها، فقد مرت عليَّ حوادث كثيرة تشبه حادثتها، غير أني أخبرك بما حدث.

فقد كنت منذ ثلاثة أيام مجتمعًا مع عائلتي في القاعة بعد العشاء، فدخل عليَّ الطبيب، وهو أحد أعواني في المستشفى، وقال لي: أتعتقد يا سيدي أن داء الجنون يُشفى؟ قلت: قد يُشفى، ولكن ذلك في القليل النادر.

قال: إن الكونتيس دي نيفيل قد عاد إليها صوابها.

قلت: هذا محال، فإن جنونها يستحيل شفاؤه.

قال: إذن تفضل بالذهاب معي إلى غرفتها كي تفحصها بنفسك، فذهبنا إليها، فوجدتها جالسة قرب المستوقد وهي تقرأ بملء السكينة في كتاب، فأشارت إليَّ بالجلوس بجانبها، وقالت لي: إني أكلمك بملء الجد أيها المدير، فقد كنت مجنونة، أما الآن فقد شُفيت، فحاولتُ أن أعترضها وأقول لها: إنها لم تكن مجنونة على الإطلاق، ولكنها ابتسمت وقاطعتني قائلة: لقد كنت أعلم — كما تعلم أنت — أني نُكبتُ نكبة عظيمةً بفقد ولدي الوحيد وزوجي، وأن الحزن بلغ مني أقصى مبلغ حتى إنه ذهب بعقلي، فوجدوني يومًا حافية القدمين بين أدغال القصر، فكان هذا أول برهان على جنوني، وقد لبثت خمسة عشر عامًا وأنا أغالب الجنون حتى غلبني، فتوهمتُ أن ولدي الذي دفنته بيدي لا يزال حيًّا، وأنه يبحث عني، ثم جاءتني فتاة ذات يوم وقالت لي: إن ولدي لم يَمُتْ، وكتب إليَّ بعد ذلك كاهن قرية سانت مرتين يقول: إن البستاني اعترف له بأن ولدي لم يمُت، على أن كل ذلك كان وهمًا باطلًا، والحقيقة أن ولدي ميت، وإني وحيدة في هذا الوجود، ولكني لا أريد أن أقضي بقية أيامي في مستشفى المجانين، وأؤثر أن أعيش في دير أتقرَّب فيه إلى الله بالصلاة إلى أن أموت.

على أن هناك مصاعب قد تعترض خروجي من هنا، فإن البارون دي نيفيل وصيٌّ عليَّ، وهو الذي يتولى إدارة ثروتي، فقد يعترض على خروجي بواسطة المحاكم؛ إذ لا يروق له أن يُحرم من إدارة ثروتي الطائلة.

ولكني وجدتُ حلًّا لهذه المشكلة، وهو أن يُنقد أحد الأديرة مائة ألف فرنك مقابل إقامتي فيه، وفي مقابل ذلك أهب للبارون — بملء رضاي — كل ما أملك.

وهي يا سيدي البارون تعيد عليَّ هذا الاقتراح منذ ثلاثة أيام، وأنا أفحصها في هذه المدة، فلا أجد في عقلها ما يدل على الانحراف أو الاختلاط، بحيث بِتُّ واثقًا من أنها لا تنتكس، وأنها شُفيت الشفاء التام.

فَتَفَضَّلْ بإجابتي عما تريد أن أصنعه، واقبل احترامي.

مدير مستشفى الأمراض العقلية في أوكسر

فلما أتم البارون تلاوة هذا الكتاب قال له ميشيل: ماذا رأيت يا سيدي؟

قال: رأيت أن الأمور جارية في خير مجرى، فإذا كانت امرأة عمي قد شفيت وهي تريد الدخول في الدير، فسأوافق على إخراجها من المستشفى، وَلْتَهَبْ لي ثروتها فأطمئن وأستريح.

قال: إنك ساذج يا سيدي البارون.

قال: كيف ذلك؟

أجاب: لنبحث قليلًا، فأنت تعلم أن حكاية البستاني صادقة، وأن كتاب الكاهن أكيد، كما أنك تعلم حكاية تلك الفتاة التي ذهبت الكونتيس، وأخبرتها بأن ولدها لا يزال على قيد الحياة، ولكن الكونتيس تقول الآن إن جميع هذه الحكايات أوهام مثَّلها لها الجنون.

قال: على ما يدل كل ذلك؟

أجاب: على أن الكونتيس تريد أن تخرج من مستشفى المجانين، وأنها باتت تعرف حق العرفان من أنت؟

قال: وأيُّ خوف عليَّ من كل هذا؟ فإني سأدفع للدير مائة ألف فرنك، وتهب لي هي كل أموالها.

فضحك ميشيل ضحك الهازئ وقال: إذا عمل سيدي البارون بنصيحتي، فخير له أن يذهب ليقيم في مستشفى المجانين بدلًا من امرأة عمه.

فاستاء البارون لضحكه وقال له أوضِح ما تقول!

قال: إن خروج الكونتيس من المستشفى إلى الدير يثبت أنها شُفيت من جنونها، ومتى ثبت أنها عاقلة قاضتك أمام المحاكم، وادعت أنك أكرهتها على هبة مالها مقابل إخراجها من المستشفى، ففسدت الهبة، وحكمت المحكمة عليك برد المال، ويُحتمَل بأكثر كثيرًا من ذلك.

– ولكن، ما عساها تصنع بالمال؟

– تتمتع به في البدء.

– إنها مريضة، أيامها معدودة، وسيعود مالها إليَّ.

– كلا، بل يعود إلى ولدها «السيئ البخت» إذا وجدته.

– إذن فاسمع مقالي، فما الذي أثبت جنون الكونتيس؟

– إصرارها على القول أن ولدها الذي دُفن كما تثبته السجلات الرسمية لا يزال على قيد الحياة.

– فإذا عادت إلى ادعائها السابق — وهو أن السيئ البخت ولدها — تكون قد أثبتت أن الجنون عاودها.

– ولكنها لا تقول إنه ولدها، بل تعطيه أموالها على سبيل الهبة، وهي حرة بإنفاق مالها كما تشاء.

– ولكن ذلك لا يتم إلا بعد قضاء أمرين؛ أحدهما أن أوافق على إخراجها من المستشفى، والثاني أن يكون السيئ البخت على قيد الحياة؟

– ألم تقل أنك تُعطي المائة ألف فرنك بملء الرضى؟

– نعم، ولكن بشرط أن لا تقاضيني امرأة عمي.

– إنها لن تقاضيك، وتبقى في مستشفى المجانين.

– أحق ما تقول؟!

– نعم، وإن السيئ البخت لا يظهر في الوجود، وإذا ظهر فلا يستطيع أن يضرك بشيء.

– إذن، لمن تريد أن أمنح المائة ألف فرنك؟

– لي أنا، ورجائي أن تعذرني يا سيدي البارون، فقد بلغت الأربعين وآن لي أن أهتم بمستقبلي، فحدَّق فيه البارون مليًّا، ثم قال له: أرى أنك فقدت صوابك لسببين؛ قال ما أولهما؟

أجاب: إن هذه الأخطار التي تتوقعها لي كلها وهمية لا خوف منها.

قال: هذا ما سيظهره لك المستقبل.

أجاب: والثاني أنك شديد الطمع، فإنك تطلب مائة ألف فرنك مقابل نصيحة لا تساوي ألفًا، قال: لك أن تتروَّى في الأمر يا سيدي.

أجاب: لقد تمعنت التمعن الكافي، فإني لم أعطِ في حياتي خادمًا مائة ألف فرنك ولا أبدأ بك. والآن فإني أريد أن تذهب غدًا إلى سانت مرتين، فتخبر المسيو لوتباتي وكيلي أني في حاجة إلى الأموال المتأخرة، وأني أنتظر زيارته، فانحنى ميشيل ومشى إلى الباب، ثم عاد وقال: إن سيدي لم يفطن إلى أن غدًا يوم السوق، وأني قد لا أجد الوكيل في سانت مرتين.

قال: حسنًا! فاذهب بعد غدٍ، أجاب: بعد غدٍ يكون يوم أحد، وأرى الأفضل أن أذهب في هذا المساء فأبيت في روانيير مزرعة سيدي البارون.

قال: أتبيت خارج المنزل؟ … كلا … كلا، لا أريد … وقد أخذ يرتجف من الرعب أمام خادمه بعد أن كان يكلمه بلهجة الآمر المتكبر، فعاد ميشيل قِحَتِه وقال له: أما آن لك أن تتعود المبيت وحدك في غرفتك؟ أفلا تستطيع الرقاد إلا إذا كنتُ معك؟

قال: اسكت … اسكت، هذا الذي أريده.

– ومع ذلك فإنك تعلم أن صورة الكونت دي نيفيل التي تمثل صورة ولده السيئ البخت ليست موجودة في غرفتك فقد أحرقتَها بيدك.

قال: اسكت … اسكت!

أجاب: كما تريد يا سيدي، ثم تركه وانصرف، فجلس البارون وراء نافذة تُشرف على النهر، واسترسل إلى التفكير العميق، وكان كثير الحزن والهم، فلبث على ذلك إلى المساء، فدخل عليه ميشيل يخبره بإعداد العشاء، ورآه حزين النفس، فقال له: أرى أنك يا سيدي البارون تتمنى لو فعلت فعل «يوشع بن نون»، فأوقفتَ الشمس في فَلَكِها، فإنك لا ينتابك الخوف إلا بعد غيابها، ولا تزال تتوهم أنك ترى صورة الكونت مع أنك أحرقتها.

– لقد قلت لك إني رأيتها.

– ذلك خيال مثَّله لك الوهم.

– قلت لك اسكت، فقد رأيتها بعيني أمس.

– أرجو ألَّا تبدو لك هذه الليلة، فتنام مستريحًا، والآن تفضل إلى المائدة فقد أُعِدَّ لك العشاء، فمشى البارون وهو يضطرب، وسار ميشيل في إثره وهو يقول في نفسه: لا بد لي من نَيْل المائة ألف فرنك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤