الفصل الثاني

وقد سمع صوت امرأة تقول وهي تبكي: «أيتها العذراء الطاهرة، يا نصيرة الضعفاء وغوث الأطفال، أترضين أن يموت ولدي وليس لي سواه؟

إنه أول ثمرة من ثمرات حُبِّنا، وإنه عزاؤنا الوحيد في أعمالنا الشاقة، فزوجي السيئ الحظ يشتغل من الفجر إلى المساء في سبيل رزقنا، وأنا لم أسئ إلى أحد بالفعل أو بالقول، حتى ولا بالضمير، وما خالفت وصية من وصايا الله.

أيتها العذراء، إننا فقيران ولا ثروة لنا إلا هذا الطفل، وهو يفضل عندنا كنوز الأرض، أتأذنين بغروب شمسه وأنت تعرفين قلوب الأمهات؟»

وكانت تستغيث هذه الاستغاثة بصوت يقطعه البكاء، وهي لا تزال في سريرها من تأثير الولادة، تعض يديها من الجزع، وتنظر إلى طفلها في مهده نظرات ملؤها الحنو والشفقة، ثم تنظر إلى زوجها وهو جاثٍ يهز المهد، فتقول: «لقد نذرت، يا حنا نذرًا، أرجو أن تتمكن من وفائه، وهو أنه إذا شُفي ولدنا ذهبت وإياك حافيين لزيارة مقام السيدة.»

فسالت دمعتان من عيني زوجها، وقال: سنفعل إن شاء الله.

•••

كان أثاث الغرفة التي جرت فيها الحادثة يدل على الفقر، ولكنه لا يدل على الشقاء، وكانت مادلين والدة الطفل من أجمل فتيات القرية، وهي في مقتبل العمر، وكذلك كان زوجها، وقد تزوَّجا منذ عام، وعُرف الزوج بالجد، وعُرفت المرأة بالصلاح والتقوى.

وكان الزوج ينظر إلى ولده، وقد أقتم وجهه باليأس، فقالت له امرأته: أرى يا حنا أن بكاءه قد خفَّ.

قال: هو ذاك.

قالت: عسى أن تكون العذراء رثت لي، وأصغت إلى توسلاتي، فكفى تهز سريره، واجتهد أن تسقيه الدواء عساه يشربه الآن.

قال: سأجرب ذلك.

ثم قام إلى زجاجة الدواء، فوضع شيئًا منها في إناءٍ، وسقى الطفل، فشرب دون أن يبكي، وصاحت الأم قائلة: يا لله من عجائب العذراء! فقد أصغت إلى توسُّلاتي!

وقال لها زوجها: نامي الآن يا مادلين، فإنك في أشد حاجة إلى الرقاد، فألقت رأسها على الوسادة مطمئنة، ولم تكد تغمض عينيها حتى استرسلت إلى سُبات عميق، وبقي الأب يهز برفق سرير الطفل، وهو يحسبه من النائمين …

وكانت العاصفة في الخارج لا تزال ثائرة، ومع ذلك فإن أصوات الضحك كانت ترتفع من القصر إلى مسامع حنا فيقول: «هنيئًا للبارونة، فإنهم يحتفلون الليلة بتنصير ولدها الذي وُلد ليلة مولد ابني، ولكن شتان بين حظ هذا وحظ ذاك …»

وعند ذلك طرق الباب، فقال في نفسه: تُرى من هذا الطارق، لعله الطبيب؟!

وقام إلى الباب ففتحه، فدخل منه ذلك الرجل الأشيب وكلبه الأسود، فقال لحنا: لقد بلغ مني الجوع يا سيدي، وأنا شديد الظمأ والتعب، فهل لك أن تضيفني عندك هذه الليلة؟

قال: يعز عليَّ ألَّا أجيبك إلى ما طلبت، ولكنك ترى غرفتي، فلا يوجد فيها غير سرير واحد تنام فيه امرأتي، وهو كل بيتي، ثم إن ولدي مُشرف على الموت، وقد شغلني ما هو فيه عن إحضار طعام في هذا اليوم، فاقصد إلى هذا القصر فإن صاحبه يحتفل بتنصير ولده، وهو فاضل كريم، فعساك تنال حظًّا من الوليمة. فنظر الرجل وكلبه محدقين إلى الطفل في مهده، ثم قال له الرجل: ولكن الظمأ يكاد يقتلني، فهلَّا تغيثني بشربة ماء؟

قال: حبًّا وكرامة، فلا نبخل بما عندنا. وسقاه فشكره الرجل وودعه وانصرف.

جرى كل ذلك ومادلين نائمة، فلما انصرف الرجل، عاد حنا إلى الجثو بجانب سرير ولده، وتمعن به فوجده بلا حراك، فأخذ يده الصغيرة بين يديه فألفاها باردة، فوضع يده على قلبه، فوجد أنه لا ينبض، وقد ازرقَّت شفتاه واصفر وجهه، فوقف وقد وهنت ركبتاه، وجحظت عيناه، فإذا الولد قد مات وأمه لا تزال نائمة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤