الفصل الحادي والعشرون

ولنعد الآن إلى البارون دي نيفيل فإنه رضي عن خادمه ميشيل أتم الرضى، وأخذ يتداول وإياه بعد الحوادث المتقدمة فقال له: لا يستطيع سواي إخراج الكونتيس من المستشفى، فإذا لم أوافق على خروجها بصفتي الوصي عليها، بقيت فيه إلى أن تلقى حتفها. فقال له ميشيل: إني أُسْديك نصيحة يا سيدي البارون.

قال: ما هي؟ أجاب: هي أن تسافر بعيدًا مدة عام على الأقل.

قال: إلى أين؟

أجاب: إلى أية بلاد تختارها؛ وذلك كي لا تدع سبيلًا لمدير المستشفى إلى الاتصال بك فيضغط عليك؛ لأنه يعتقد أن الكونتيس شفيت من جنونها.

قال: اصبر فسأغيِّر معتقده، ثم قام إلى منضدة، وكتب إلى مدير المستشفى الكتاب الآتي:

سيدي

تجد في ضمن كتابي هذا حوالة بقيمة خمسة آلاف فرنك، هي قيمة القسط الأول من نفقات الكونتيس.

إن هذه المنكودة قد اشتد مرضها فوق ما كنت أظن، حتى إن الجنون مثَّلَ لها أن تتفق مع عُصْبة إجرام هم الآن جميعهم في السجن؛ لأنهم ارتكبوا منذ يومين جريمة السرقة في البلد الذي أقيم فيه بعد أن حاولوا خديعتي، وأن واحدًا منهم يدَّعِي أنه ابن الكونتيس، مع أن ولدها قد مات وله من العمر ثلاثة أيام.

وإني مرسل إليك مع كتابي صورة من شهادة وفاته منقولة عن السجل الرسمي في سانت مرتين.

أما أنا فإني مضطر إلى السفر إلى ألمانيا، وسأراك بعد عودتي.

البارون دي نيفيل

ثم ختم هذا الكتاب، وعهد إلى ميشيل أن يذهب به إلى إدارة البريد، وبعد ساعة ركب مع خادمه مركبة أوصلتهما إلى نيفرس، فركبا القطار البخاري الموصل إلى مرسيليا، فبلغا إليها بعد يومين، وسافرا منها إلى إيطاليا.

وبينما كان مدير المستشفى، يقرأ كتاب البارون كانت البارونة تقرأ أيضًا كتابًا وصل إليها بواسطة ذلك الطبيب، الذي كان متفقًا مع باكيتا، وهذا ما جاء في الكتاب الذي كانت تقرؤه:

سيدتي الوالدة الكمليَّة الاحترام

لم يبقَ لكِ أقل رجاء بمحاكمة هذا الشقي الذي سلبكِ أموالك؛ إذ ليس لدينا برهان على جريمته، وقد جعلك مجنونة في عرف جميع الناس، ولكني عولت مع أصحابي على اختطافك من المستشفى، وسأشتغل وأعيش وإياكِ من كسْب يدي أَهْنَأَ عيش، فإني ولدك الذي طالما بكيته والذي لم يجد إلى الآن اسمًا يسمى به فَلُقِّبَ بالسيئ البخت.

فكان فرح الكونتيس عظيمًا بهذا الكتاب، وأقامت تنتظر الليل بفارغ الصبر، وفي المساء تغيرت الممرضة التي كانت تخدمها، ودخلت عليها فتاة حسناء لم تكن رأتها من قبل في المستشفى، أما تلك الفتاة فإنها هجمت عليها، وجعلت تعانقها وتقول: ألم تعرفيني؟ ألم تذكريني؟ فذكرتها الكونتيس وقالت لها: أما أنتِ التي جاءتني عندما …

قالت: نعم، أنا التي أتيت إليك في فرساي، وقلتُ لكِ: إن ابنك لا يزال في قيد الحياة.

وكانت هذه الفتاة باكيتا، فوضعت سبابتها على فمها، وقالت لها: صبرًا يا سيدتي، فقد احْتَلْتُ حتى دخلت المستشفى بصفة ممرضة، والمفاتيح معي، وسنهرب في هذه الليلة إذ يوجد مركبة تنتظرنا على بُعد خطوات من الباب الأكبر، فأجابتها بصوت يرتجف قائلة: أيكون ولدي فيها؟ قالت: نعم.

فضمتها إلى صدرها وقالت لها: بارك الله فيكِ! فستكونين ابنتي …

مرت الأيام وتوالت الشهور، ففي صباح يوم من أيام مايو الجميلة في باريس، خرجت باكيتا الحسناء من منزلها عند الساعة السابعة وهي بملابس الربيع، وكانت المركبة تنتظرها عند الباب وفيها كوكليش وامرأته، وقد تبنيا باكيتا وكانت تدعوهما بأبويها، فصعدت إلى المركبة بتلك الرشاقة التي تعلمتها من الألعاب الرياضية، ساق الحُوذي الجياد، فالتفتت امرأة كوكليش إلى زوجها وقالت له: مَنْ كان يظن منذ عشرة أعوام أننا نصل إلى ما نحن فيه؟ فقال لها زوجها: لقد أصبْتِ، فإن هذه النعمة لم تكن تخطر لنا في الحلم.

قالت: إننا عائشان الآن كأرباب الدخْل الثابت، والمجد التالد، نركب المركبات كأغنى الأغنياء، ولا تخلو جيوبنا ساعة من المال، وكل ذلك بفضل باكيتا.

فتنهدت باكيتا وقالت: ومع ذلك فإني أعد نفسي تعسةً وما عزاني غير سعادتكما.

فقالت المرأة بلهجة غضَب: إن فيلكس غير مُصيب بعناده.

وقال كوكليش: إن لعِزَّة النفْس حدًّا، ولكنه تجاوز كل حدٍّ.

فقالت المرأة: حين تزوجتُ كوكليش لم يكن لديه دِرْهَم واحد، في حين أني كنت أملك ألفًا وخمسمائة فرنك، ومع ذلك فإنه لم يمتنع عن زواجي، ولم يضطرني إلى أن أجذبه من أذنه ليتزوجني، بل تزوج بي واستعان بمالي على إنشاء مرسح نقَّال.

فتنهدت باكيتا أيضًا وقالت: ولكن فيلكس على غير ذلك، فإنه لا يرضى أن يتزوج بي إلا متى اتسع له مجال الرزق.

قالت: ولكنه بات الآن كثير النفقات، فإنه ينفق على أمه أيضًا منذ عامين.

فقال كوكليش: وعلى صديقه أيضًا شارنسون؟

أجابت: نعم، هو بعينه.

– ولكني لا أدري كيف يحتمل هذا الرجل أن ينفق الناس عليه وهو يبلغ ثلاثين عامًا من العمر، أمَا كان يجدر به أن يبحث عن عمل يرتزق منه، فقد أرهق فيلكس بنفقاته؟

قالت: كم يكسب فيلكس من صناعة الحفر؟

أجاب: أربعة أو خمسة آلاف فرنك في العام.

قالت: ولكنه ماهر في صناعته، وسيكون له يومًا شأن عظيم. فتنهدت المرأة وقالت: ولكن ذلك لا يكون إلا بعد زمن يا ابنتي …

وقال كوكليش: إن نجاحه لا يكون كنجاحك، فإنك بلغت إلى القمة في أقرب حين، فقالت باكيتا: ذلك لأن طريق النجاح في المراسح أقرب من سواها، ولكن رجائي وطيد في فوزه في المعرض، الذي سيُفْتتح في الخامس عشر من هذا الشهر.

– تحسبين أنهم سيقبلون التمثال الذي نحته؟

– هذا لا ريب فيه، وإني أرجو أيضًا أن ينعموا عليه بوسام.

وكانت المركبة قد بلغت بهم إلى شارع سانت لازار، وخرجت منه حتى بلغت قوس النصر، وهناك التقت بفارس جميل رأى باكيتا فاصفر وجهه، واضطربت أعضاؤه حتى كاد يسقط عن جواده، أما باكيتا فإنها ابتسمت له وحيته، وأشارت إلى السائق أن يقف، فاشتد اصفرار الفارس ورفع قبعته بملء الاحترام، ثم دنا من المركبة، فمدت باكيتا له يدها مصافحة على الطريقة الإنكليزية، وقالت له: أتريد أن تصفح عني أيها البرنس العزيز؟

فاحمر وجهه بعد اصفراره ولم يجِب، فقالت له: ألا تصفح عني لأني أرجعت إليك رسائلك دون أن أفتحها؟

فتمتم البرنس كلمات لا تفهم، وقالت له باكيتا: تفضل بزيارتي في هذا المساء واشرب الشاي عندي فإني محتاجة إليك … ثم ودعته بابتسامة، وأمرت سائق مركبتها بالمسير.

فقالت امرأة كوكليش بلهجة ملؤها الدهش: من هذا الذي رأيته يا ابنتي، أهذا الفتى الجميل من الأمراء؟

قالت: إنه من أمراء الروس، ويدعى البرنس ماربولوف، وثروته لا تقل عن مائة مليون روبل.

قالت: أهو يريد أن يتزوجك؟ فابتسمت باكيتا وقالت: لا يعوزه غير إرادتي، فإذا أردتُ عُقِد زواجي في هذا المساء.

فتنهدت زوجة كوكليش وقالت: من كان يخطر له أن يكون هذا مستقبلك حين كنت ترقصين على الحبل؟

قالت باكيتا: ولكن ليس هذا هو الذي أحبه حتى أتزوجه.

•••

لم تخطئ باكيتا فيما روته عن ثروة هذا الأمير الروسي، فقد كان له على حدود آسيا من الأراضي ما تبلغ مساحته مساحة مملكة …

وكانت أمه قالت له حين أرسلته إلى باريس: اذهب بحراسة الله إلى عاصمة العواصم، وافعل كل ما يوحيه إليك الشباب، وأنفق ما تشاء من غير حساب، فإنك مهما أسرفت لا تنفق إلا القليل من ريع ثروتك. وقد قالت له هذا القول؛ لأنها كانت من ذلك العنصر الروسي القديم الذي أخذ تقاليده وتعاليمه من عهد الإمبراطورة كاترين العظيمة، فقد كانوا يعتقدون أن الشريف لا يصير من أهل الدربة والسياسة إلا إذا استرسل في صباه إلى ملاذِّ الشباب، واندفع مع تيار ملاهيه، غير أن هذه الأميرة كانت فراستها مخطئة في ولدها، فقد كان شديد الرزانة على حداثة سنه، كثير الميل إلى الفنون الجميلة، شديد التعلق بأصحابها إذ كان منهم، فقد كان شاعرًا موسيقيًّا.

وهو في باريس منذ عامين لم يقل أحد عنه كلمة سوء، وقد اشتهر بميله إلى الرسوم والتماثيل، حتى إنه إذا عُرض شيء منها للبيع كان في مقدمة الشارين.

وقد اتفق مرةً أن دوقًا عرض أمتعته للبيع، وبينها صورة من خير ما جادت به قرائح المصورين، فذهب لشرائها وزاحمه عليها أحد المولعين بالرسوم، فجعل يزيد في ثمنها حتى امتنع الرجل عن شرائها والدموع تجول في عينيه لعجزه، وقد سأل البرنس عنه فقيل له: إنه رجل أنفق كل ثروته على شراء الرسوم المتقنة لشدة ولوعه بها، فأرسل إليه الصورة في اليوم التالي وكتب عليها: «تذكار من البرنس ماروبولوف إلى فلان.» فاشتهرت هذه الحادثة في باريس، وجعل الناس يتحدثون بكرم الأمير.

وقد قلنا: إنه كان موسيقيًّا، فكان يختلف إلى مراسح الغناء، حتى استقر على المرسح الذي تغني فيه باكيتا، واستمر يسمع صوتها الرخيم مدة ستة أشهر، ويفرغ كل ما عنده من الجهد في سبيل التعرف بها فلا يجد إلى ذلك سبيلًا؛ لأنها كانت تقصي عنها جميع عشاق صوتها، وكان آخر ما فعلته أنها أرجعت إليه رسائله دون أن تفتحها، فتأمل مقدار دهشته حين استوقفته في الطريق، وسلمت عليه دون كلفة، ودعته إلى زيارتها.

وقد كان اضطرابه عظيمًا حتى إنه عاد من فوره إلى منزله وهو شبه المجانين، فأقام فيه إلى المساء ورأسه بين يديه يفكر في حل هذا اللغز، فلا يجد له حلًّا إلا أن هذه الحسناء قد مالت إليه بعد ذلك الجفاء.

وفي المساء تأنق في ملابسه، وذهب إلى النادي كي يقضي الوقت بين أصحابه إلى الساعة العاشرة، فأجفل أصحابه لما رأوه من اصفراره، وسأله واحد منهم عما أصابه فقال له: إني أسائل نفسي منذ هذا الصباح إذا كانت السعادة تقتل صاحبها.

فأجابه المركيز دي شاومري قائلًا: إنك أدرى الناس بأسرار السعادة، فإنك أغنى رجل في أوروبا.

وأقام بين أصحابه إلى الساعة العاشرة، ثم ركب مركبته وذهب إلى باكيتا، فوجدها في قاعة جميلة لا ينيرها غير مصباح واحد، وكل ما رآه كان يدل على أنها لم تكن تنتظر سواه، فأجلسته بإزائها وقالت له: كم لك من العمر أيها البرنس؟

– سبعة وعشرون عامًا.

قالت: أما أنا فإني أزيدك بعام، ويحق لي أن أسديك نصيحة؛ فاضطرب وقال لها: بماذا تنصحينني؟

قالت: أنصحك أن تكون صديقي.

فحاول أن يركع أمامها، ولكنها أوقفته وهي تبتسم، وقالت له: هل أردت أن تكون صديقًا لي؟

فوقف البرنس حائرًا، ينظر إليها ولا يفهم ما تعنيه، فقالت له: اعلم أيها البرنس أني فتاة شريفة لا أريد أن أخدع أحدًا، ولو كان قلبي طليقًا لما أحببت سواك، فقد حويتَ من الصفات ما يدفع كل امرأة طاهرة إلى حبك، ولكني قلت لك إني لا أملك قلبي؛ ولذلك أردت أن تكون صديقي، ولا أجد خيرًا من أن أبسط لك تاريخ حياتي للوصول إلى هذه الغاية.

فأجابها بصوت مختنق قائلًا: تكلمي، فاندفعت باكيتا في بسط تاريخها وتاريخ فيلكس منذ الحداثة إلى هذه الساعة، والبرنس يصغي إليها وقد تأثر من حكايتها إلى أن سالت دموعه، وثارت فيه الشهامة الروسية، فتغلبت فيه المروءة على الحبِّ، وقال لها: لماذا لا تتزوجان؟

قالت: لأنه لا يريد.

– لماذا؟!

أجابت: لأني غنية بما أكسبه من مهنتي وهو فقير.

قال: ولكنه مَثَّال ماهر كما تقولين.

قالت: هو ذاك، وسيعرض تمثالًا جميلًا في هذا العام، فأخذ البرنس يدها بين يديه وقال لها: لقد اشتهرتُ في باريس بأني من المولعين بالفنون الجميلة، وأني من مريدي أصحابها، فإذا ظَلَّلْتُ رجلًا منهم بحمايتي أصبح من المشاهير.

قالت: لا ريب عندي في ذلك.

قال: أين يقيم خطيبك؟

– في منزل صغير في أوتيل رقم ١٧ ملك أحد خدم أبيه.

– ألا يزعجه ذهابي إليه؟

– كلَّا، إلا إذا علم بما كان بيننا.

قال: اطمئني، فإني لا أذكر اسمك، واعلمي أني لست صديقك فقط بل حليفك أيضًا، وقد أخذ منذ تلك الساعة يحدثها أحاديث مختلفة دون أن تبدو منه كلمة تشعر منها باكيتا بيأس قلبه، ثم ودعها وعاد إلى النادي.

ولقد كان هذا البرنس من أهل العزيمة والإرادة والصبر على الشدائد، فإنه كان يحب باكيتا أصدق حبٍّ، حتى إنها لو أرادت منذ ساعة لتزوج بها وباتت من الأميرات، ولكنه حين وقف على حقيقة أمرها رثى لها ولخطيبها، وتناسى كل ذلك الحب الذي كان يغلي في صدره كما تغلي المياه في القدور، ولم يعد يخطر له إلا أنه يجمع بين هذين الحبيبين بجامعة الزواج، ويمهد سبيل النجاة لذلك الخطيب الأنوف.

وقد اتفق حين وصوله إلى النادي أنهم كانوا يتحدثون بصناعة النقش، فيزعم بعضهم أن هذا الفن قد انحط عن مقامه القديم، ويقول آخرون: بل إنه سائر في سبيل الارتقاء، وإنه يوجد كثيرٌ من البارعين فيه لم تمهد لهم حظوظهم سبيل الظهور، فاغتنم البرنس هذه الفرصة، وانضم إلى أصحاب هذا الرأي، فأبدى رأيه في هذا الموضوع، ثم قال لهم: ودليل ذلك أنني علمت بالأمس عن فتى يقال أنه أبرع مثَّال ولا يعرفه أحد، فهل سمع واحد منكم باسم فيلكس المثَّال.

فقال واحد منهم: إني قرأت منذ يومين هذا الاسم تحت تمثال رأيته من آيات الصناعة. قال: عند من وجدته؟

أجاب: عند بائع رسوم، وقد أخبرني أن هذا الفتى سيعرض مثالًا جميلًا في المعرض القادم.

قال: إني أعرف عنوان هذا النقاش، ولا بد من زيارته، فمن يريد منكم أن يصحبني إليه؟

فأجابه مركيز من الحضور قائلًا: أنا.

قال: ألا يزال بيتك في شارع هيلدر؟

قال: نعم.

قال: إذن سأمر بك غدًا بين الساعة الثامنة والتاسعة، وقد اتفقنا على ذلك. وعاد الحاضرون إلى المباحثة في غير ذلك من الشئون.

كان يوجد عند الكونتيس خادم قديم يُدعى أنطوان، لازم الكونتيس إلى أن أدخلوها مستشفى المجانين، فجمع كل ما اقتصده في مدة خدمته أربعين عامًا، واشترى منزلًا صغيرًا في شارع أوتيل، فلما هربت الكونتيس من المستشفى بمساعدة الطبيب وباكيتا — كما تقدم — جاءت إلى خادمها القديم مع ولدها السيئ البخت واختبأت في منزله، ولم يكن خوفها من الحكومة أن تبحث عنها بعد فرارها فتردها إلى المستشفى؛ لأن الجنون لا يعد من الجرائم، ولا تقبض الحكومة على المجانين إلا إذا كان في إطلاق سراحهم ضرر على الناس، ولكنها كانت تخاف من البارون — وهو وصيها — أن يعثر عليها ويعيدها إلى المستشفى، فإنه قادر على إثبات جنونها وله الحق بالحجر عليها.

وكانت عائشة مع ولدها عِيشَة الفقر، ولكنها كانت تعد نفسها من أسعد البشر، فكان فيلكس يشتغل شغل الواثق المطمئن من فوزه في النهاية.

وكان صديقه شارنسون مقيمًا معه، وقد استخدم سبع مرات كي لا يكون عالة على صاحبه، ولكنه لم يكن يستطيع الثبات، حتى انتهى بأن قال لصاحبه: إني أنا الذي يجب أن ألقَّب «بالسيئ البخت» لا أنتَ. فابتسم فيلكس وقال له: وَزِد على ذلك أنك ما خلقت قوي الإرادة مثلي.

أما كاستيليون فإنه عاد إلى العمل في مكتب المحامي الذي كان يشتغل عنده، وقد يئس من إعادة الإرث إلى فيلكس بعد أن اختلس منه ميشيل ذلك الصك الذي كتبه البارون كما تقدم.

وكان فيلكس يكسب رزقه بشيء من السعة، وإنما كان الفضل في ذلك لباكيتا، فإنها اتفقت سرًّا مع أحد تجار التماثيل فكان يشتري من فيلكس بمالها كل ما ينحته فيزيده هذا الرواج رغبة في العمل وتفننًا فيه، وهو لو علم أن باكيتا كانت تشتري تماثيله لقنط، ولما بلغ شيئًا مما بلغه من الفوز بهذه الصناعة.

وكانت باكيتا تزوره، وهو مع أمه من حين إلى حين، فكان يتنهد وهي تبكي إلى أن قال لها يومًا: أقسم لكِ بالله وبشرفي أني لا أميل إلى سواكِ، ولا أتزوج غيركِ مدى الحياة، ولكني لا أقدم على الزواج إلا متى نلت شهرتي، وخلصت من هذا الجهاد في معترك الحياة؛ إذ لا أستطيع أن أقبل منكِ درهمًا.

ففي ذلك اليوم الذي قابلت فيه البرنس أرسلت إلى فيلكس تخبره أنها ستتغدى في حديقة منزله مع كوكليش وامرأته، وجاءته عند الظهر وجاءت بأجود الطعام والشراب، وكان هذا كل ما يقبله منها.

وقد وجدت فيلكس واقفًا أمام التمثال الذي كان عازمًا على عرضه في المعرض، وهو ينظر إليه وعلائم الاضطراب بادية في وجهه، فسألته قائلة: ما بالك مضطرب البال؟

قال: إني خائف.

قالت: مما الخوف وهذا التمثال من آيات فن النحت؟

فتنهد وقال: لا أنكر ما تقولين، ولكني أخاف مناوأة الأقدار، فقد تعودت البخت السيئ في كل أعمالي.

قالت: ألا تعتقد أني ملكك الحارس يا فيلكس؟

أجاب: نعم … ولكن …

قالت: ولكنك لا تزال تخاف من صاحب الكلب الأسود؟!

أجاب: نعم، ألا تزالين تشككين بنظراته وتأثيرها؟

فضحكت وقالت: ما هذه الخرافات يا فيلكس؟

فقال لها شارنسون: إنكِ مخطئة يا سيدتي.

قالت: لعلك رأيته أنتَ؟

أجاب: نعم.

قالت: متى؟

أجاب: حين كنا في الغابات، فبتُّ أعتقد فيه نفس اعتقاد فيلكس.

قالت: أما أنا فإني أرى غير رأيكما، وسأنبئكما بأمرٍ لا بد أن يكون.

قال: ما هو؟

قالت: هو أن المحكمين في المعرض سيحكمون بالجائزة لتمثال فيلكس.

قال: وبعد ذلك؟

أجابت: وبعد ذلك يشتري تمثاله أحد المولعين بالفن بما يعادل ثقله ذهبًا وسوف تريان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤