الفصل الرابع

غير أن الأعجب من ذلك أن الخادم حين ذهب بالملابس الجديدة إلى ذلك المسافر وَجَدَ أن ثيابه التي كانت المياه تقطر منها قد نشفت، وأن الثقوب التي كانت في ثوبه قد سُدَّت كأنها رُفئت، فنظر المسافر إلى الخادم نظرة احتقار، وقال له: أعد هذه الثياب إلى موضعها، فإن ملابسي تفضل ملابس مولاك، ثم تركه وذهب إلى القاعة التي كانوا ينتظرونه فيها.

فلما رآه صاحب المنزل نهض لاستقباله، وقال له: أهلًا بك من قادمٍ يا سيدي أيًّا كنت.

قال: إني رجل فاجأتني العاصفة في الطريق، فلم أجد فندقًا أَأْوِي إليه، وقد رأيت أنواركم المتألقة، وسمعت صوت ضحككم، فعلمت أنكم في حفلة أنس، ففكرت في التطفل عليكم كي أَأْمَنَ شر العاصفة، فقال صاحب المنزل: حسنًا فعلت، وقد أتيت على الرحب والسعة، فإن أبواب منزلي مفتوحة للأضياف.

فلبث الرجل واقفًا على العتبة، وجعل ينظر إلى المَقْصَف (مائدة الطعام والشراب) والناس من حوله، فقال: أرى أنكم في وليمة، وما أخطأت فراستي بهذه الأنوار.

قال صاحب المنزل: هو ذاك، فإننا نحتفل بتنصير ولدي، وليس له من العمر غير بضعة أيام، فتعال واشرب نخبه معنا.

فخلع الرجل وشاحه ودخل، فتبعه الكلب، وذهب توًّا إلى حيث كان مهد الطفل، وجلس صاحب الكلب على كرسي مع المدعوين.

وقد أجفلت والدة الطفل لدنو الكلب من مهد طفلها، وانتهرته، فحول نظره عنه إليها، وشغل الحضور عن ذلك بالزائر الجديد، فقد كان له تأثير عظيم فيهم، فكانوا يضطربون حين ينظر إليهم، ولا يطمئنون إلا حين ينصرف نظره عنهم إلى مائدة الطعام.

وكانوا كلهم على وتيرة واحدة في اضطرابهم، لا يجسرون على مبادأته بحديث، ما خلا والدة الكونت صاحب المنزل، فإنها نظرت إليه وقالت له: لقد كنا نبحث قبل قدومك يا حضرة الضيف بشأن مولودنا الجديد أبحاثًا ذكرتني بالكونت كاليوسترو، فقد عرفته في عهد شبابي، قال الزائر: وأنا كذلك يا حضرة الكونتس، فعجبت الكونتيس لقوله، وقالت له: كيف ذلك، وكم لك من العمر؟

فلم يجبها الرجل على سؤالها، وقال: لقد علمت بما كنتم تتحدثون به، فقد تمنى كل منكم أمنية للطفل حسبما أوحى إليه قلبه، قالت: هو ذاك، ولكن فاتنا أن نتمنى له أمنية لا بد منها.

قال: نعم، فقد نسيتم أن تتمنوا له السعادة.

فوقف الجميع منذهلين لما سمعوه! وقال واحد منهم: ما هذا الذي يبدو منك يا سيدي؟! لعلك من السحرة؟

قال الزائر: في بعض الأحيان، وعند اللزوم.

وقالت له الكونتيس: أحق أنك ساحر؟!

قال: نعم يا سيدتي.

قالت: إذا كان الأمر كذلك، فستكشف لنا أسرار المستقبل، فقد ألفت ذلك في صباي في بلاط لويس الخامس عشر، فإن الملكة كانت تأتي بكثير من المتكهنين، وأذكر أن واحدًا منهم تنبأ لها عن الثورة فصدقت نبوءته، وقد كنت أحسب أن عهد السحر قد انقضى، فإن فتيات هذا العصر باتوا يعدونه من الخرافات، فلو ذكر الكونت كاليوسترو أمام ولدي الآن لهزأ به وبسحره.

قال الزائر: لست يا سيدتي ساحرًا بالمعنى الذي يفهمه الناس عن السحر والسُّحراء، ولكنني أتنبأ عن الحوادث المستقبلة.

قالت: وإن السحرة اليوم يتنبئون عن المستقبل؟!

أجاب: نعم، غير أن الفرق بيني وبين هؤلاء الذين يكشفون البخت أنهم إذا سألهم سائل عن مستقبله لا ينبئونه إلا بمستقبل سعيد طمعًا بالمكافأة.

قالت: وأنت؟ ألعلك تنذر بالشقاء؟

أجاب: على الأغلب الأعم يا سيدتي، فإني ما نظرت إلى هذا المستقبل إلا رأيت جوه مكفهرًّا ملبدًا بالغيوم السوداء؛ ولذلك أمتنع عادة عن إجابة السائلين.

قالت: أما أنا فإني جريئة، ورجائي أن تكشف لنا الحجاب عن هذا المستقبل الخفي كيفما كان.

قال: أية فائدة من هذا يا سيدتي؟

أجابت: لقد صَدَقْتَ، فلا فائدة لي من ذلك؛ لأني في أواخر أيامي، ولكني أرجوك أن تتنبأ لنا عن مستقبل هذا الطفل النائم في مهده.

فرُعبت أم الطفل وقالت: كلَّا!

فقالت لها حماتها: لا ترعبي يا ابنتي، فإنه سيقول خير الأقوال عن ولدك، فهز الساحر رأسه.

فقالت له الكونتيس: هل تريد يا سيدي أن نأتيك بورق اللعب كما كان يفعل الكونت كاليوسترو؟

أجاب: كلا، فإني أكتفي بأن أرى خطوط الكف، فأعرف الطالع …

قالت: إذن انظر في كفه.

فساد السكوت التام بين الجميع، حتى إنه لو طارت ذبابة لسُمع حفيف أجنحتها، وعاد الساحر إلى الحديث فقال: أية فائدة يا سيدتي؟ ألم أقل لك إني لا أرى في جو المستقبل غير العواصف؟

فقال له والد الطفل: لا بأس يا سيدي، ما زالت أمي تلحُّ عليك، وفي كل حال فإني أرجو ألَّا تجد في كف ولدي إلا ما يدل على الخير مراعاة لحق الضيافة ولما نحن فيه.

أجاب: هذا الذي أتمناه … ثم نهض وذهب إلى مهد الطفل النائم، فأحدقت به الأبصار كالنطاق، وهو يفحص كفه فحصًا دقيقًا، ثم قال: إن خطوط الكف لم تتكامل بعد.

فقالت له الكونتيس: إذن لا تستطيع أن تعلم شيئًا؟

أجاب: هو ذاك، غير أني رأيت أمرًا جليًّا.

قالت: ما هو؟

أجاب: إنه سيكون لولدكم قوة إرادة لا تُغْلَب.

قالت: إنها كل النجاح في هذا الوجود، ولكن هل تكون له سعادة؟ فأطرق الرجل هنيهة ثم قال: «إن الإرادة تنوب أحيانًا مناب السعادة، وتتغلب على الشقاء …»

وقد قال هذا القول، وقام إلى النافذة، فأطل منها، ثم عاد فقال: لقد سكنت العاصفة، وخمدت البروق، وصفا أديم السماء، فأستأذِن بالانصراف، واقبلوا امتناني لهذه الضيافة التي لا أنساها ما حييتُ.

فقال له الكونت: كلَّا، إني لا أدعك تنصرف قبل أن تشرب نخب سعادة ابني …

قال: يعزُّ عليَّ أني لا أستطيع الشرب، وفوق ذلك فخير لكم ألَّا أشارككم في شرابكم، فإني شؤم على من أنادمهم. وقد تركهم ومضى دون أن يخطر لأحد أن يستوقفه، فتبعه كلبه.

فقالت الكونتيس بعد انصرافه: لقد خيِّل لي حين رأيت هذا الرجل؛ أني رأيت الكونت كاليوسترو، فقد عرفته كثيرًا، وقالت إحدى السيدات: أما أنا فقد خفته كثيرًا.

وقالت أم الطفل: أما أنا فقد أثَّرت فيَّ نظراته ونظرات كلبه تأثيرًا عظيمًا، حتى إنها كادت تنوِّمني.

•••

وبعد ذلك ببضع ساعات تفرق الناس، وأُطفئت أنوار القصر، ونقلوا مهد الطفل إلى غرفة أمه، وقد نامت الأم نومًا عميقًا لتأثرها بنظرات الساحر، ولم تكَد تستغرق في رقادها حتى فُتح باب تلك الغرفة، ودخل منه رجل، فمشى إلى مهد الطفل مِشْيَة اللصوص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤