الفصل التاسع

وكنت قد ذهبت إلى فرساي، يصحبني شيخ من رفاقنا في الجوق، وكنت علمت خلال بحثي عن قصر الكونتيس، أنها تبحث عن وصيفة تقيم معها في القصر، وبما أني أصبحت واثقة أن فيلكس هو ابن هذه الكونتيس فقد دخلت عليها بحجة أني أريد الاستخدام عندها، وإنما الحقيقة أني كنت أريد أن أخبرها أن ابنها الذي تندبه لا يزال في قيد الحياة.

فلما رأيتها وجدتها امرأة تبلغ الأربعين من العمر، ولا تزال في ريعان الجمال، غير أن الهم نهكها بعد موت ولدها وزوجها، فخارت قواها، وباتت كالخيال الجميل، وقد أشفقت أن أفاجئها بهذا النبأ.

وقالت لي بلهجة تدل على أن الحنو مَلَكَةً فيها: لقد أخبروني يا ابنتي أنكِ تريدين أن تقيمي معي؟ قلت: هو ذاك يا سيدتي.

قالت: ولكنني أعيش هنا كأنني في دير لا أزور أحدًا، ولا يزورني أحد، ألا تخشين الضجر وأنت لا تزالين في ريعان الشباب؟ قلت: كلا، فإني أرى من مخائل كرمك ما يشفع بهذه الوحدة في صحبتك.

قالت: أتريدين أن تكوني عندي منذ اليوم؟

قلت: نعم يا سيدتي.

قالت: هل أتيتِ وحدكِ؟

قلت: كلَّا، فقد صحبني قريب لي، وسيعود فيأتيني بملابسي.

قالت: اذهبي إذن يا ابنتي، وأخبريه بما اتفقنا عليه.

فقمت من فوري إلى الممثل الشيخ، وأخبرته بما عزمت عليه من الإقامة عند الكونتيس، فكان بيني وبينه جدال عنيف أسفر عن امتثاله لي بعد أن علم قصدي، فأوصيته بكتمان ذلك عن فيلكس وعن كل أفراد الجوقة.

فقال: إذن ماذا أقول للمدير؟

قلت: قل له إني أشتغل في مهمة تعود عليهم جميعهم بالربح الجزيل، فانصرف، وعُدت إلى الكونتيس، فأقمت عندها بقية ذلك اليوم أسليها بالقراءة؛ لأن نظرها كان قد تأثر من كثرة البكاء، فلم تعد قادرة على القراءة الكثيرة.

وفي المساء دخلت إلى مضجعي في غرفة ملتصقة بغرفة الكونتيس، وحاولت الرقاد فلم أستطع، وبعد ساعة سمعت الكونتيس تصلي بصوت مرتفع، ثم ختمت صلاتها بمناجاة زوجها فقالت: أيها الزوج الحبيب، لقد قدر الله لي الشقاء حتى في آخر أيامي، فهل يريد بذلك إنذاري بأني لاحقة بك قريبًا إلى دار الخلود؟ إني أحلم في كل ليلة منذ بضعة أيام حلمًا واحدًا لا يتغير، وهو أني أرى ولدنا ولا أراه، ذلك الطفل الصغير الذي كنت أركع وإياك عند مهده، بل أراه غلامًا كبيرًا يشبهك أدق الشبه، كأنه أنت، وكنت أسمعه يقول لي وهو يبتسم: لا تجزعي يا أماه فهذا أنا … أنا ابنك، فإني لم أمت! فكنت أسمع هذا الصوت، ولا أجسر أن أتحرك في مضجعي، وأقول رباه: ما هذا الحلم الرهيب؟!

ثم سمعتها تبكي بكاء يقطع القلوب شفقة، حتى لقد هممت أن أقوم إليها وأقول لها: ليس ذلك حلمًا أيتها الكونتيس، بل حقيقة، ولكني خشيت أن يقتلها الفرح، فقد سمعت قولًا لحكيم من شعراء العرب مفاده «ومن فرح النفس ما يقتل»، فعدلت عن عزمي، وعولت على أن أتدرج في إخبارها وقاية لها من تأثير هذا النبأ.

وفي صباح اليوم التالي صحوت وصحت الكونتيس، وذهبت إليها في غرفة القراءة، وبينما أنا أقرأ لها سيرة من سير الشهداء، دخل خادم يحمل كتابًا على صينية من الفضة، فتناولته الكونتيس، ونظرت في ختم البريد فاصفر وجهها؛ إذ كان هذا الكتاب واردًا من «سانت مرتين» وهي القرية التي نُكبت فيها، ودفعت إليَّ الكتاب كي أقرأه، لها ففضضته، ولم أكد أقرأ السطر الأول منه حتى اضطرب وجهي، فاختطفته الكونتيس من يدي وقالت: لقد توالت عليَّ الأرزاء حتى لم أعد أخافها.

وقد تمكنت من قراءة الكتاب حتى إذا أتمت تلاوته شهقت شهقة عظيمة، وسقطت مغمى عليها، وناديت الخدم، وأخذوا يعالجونها بنضح الماء على وجهها، بينما كنت أقرأ ذلك الكتاب وهو كما يأتي:

سيدتي

من شأن توالي الأيام أن يلطف أحزان النفوس، ولولا ذلك لما تجاسرت على الكتابة إليكِ.

لقد مات في هذه الأيام رجل كان بستانيًّا عندكم، وقد اعترف لي قبيل احتضاره بذنب عظيم جناه.

كان هذا الرجل قد أنَّبَه ضميره، فباح بجريمته لجميع الناس، ولكن الناس لم يصدقوه؛ لأنهم كانوا يتهموه بالجنون، ولكن هذا الرجل كان يقول الحق، وا أسفاه! وأنا على أتم الثقة من سلامة عقله حين اعترافه لي قبلما فاضت روحه.

والحكاية يا سيدتي أنه منذ ستة عشر عامًا، بينما كنتِ تمليئن القصر عويلًا، كان زوجك الكونت يسير في جنازة طفل قُيِّد في سجل الأموات باسم دي نيفيل، ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا ابن بستانيكم حنا وامرأته مادلين.

وقد حدثت الجناية في الليل وأنتم نيام، فإن هذا البستاني دخل قصركم يحمل ولده الميت، فوضعه في مهد ولدك، إن ولدك كان حيًّا يا سيدتي، وإن الأجراس لم تدق دقاتها الحزينة يومئذ لولدك بل لولد البستاني، وكان هذا البستاني قد جُنَّ حقيقة في البدء لهول ما جناه.

ثم احترق قصركم، وهجرتِ قريتنا مع زوجكِ، وتوالت السنون دون أن يقول لك أحد إن ولدك الذي تندبينه لا يزال في قيد الحياة، فإن البستاني كان مجنونًا، وامرأته لم تكن واقفة على هذا السر، وهي تعتقد أن ولدك إنما هو ولدها.

ثم ماتت تلك الأم، وكان زوجها البستاني قد نذر لله أن يرد إليكِ ولدك إذا شفى الله امرأته، ولكن لله مقاصد تحار في كنهها العقول، فماتت الأم، واضطرب عقل البستاني، فحقد على الطفل لاعتقاده أنه كان السبب في موت امرأته، وبات يقسو عليه قسوة الظالمين.

هنا يا سيدتي يجب أن تتسلحي بالصبر الجميل عدة المؤمنين، فإن ولدك حي، ولكنك قد لا تجتمعين به إلا في دار البقاء؛ وذلك أنه منذ سبعة أعوام رثا أحد المزارعين لولدك لما كان يراه من قسوة البستاني عليه، وجاء به إلى منزله، ثم اختفى ولم يعلم أحد حقيقة أمره، غير أنهم يشيعون أنه لحق بجوقة من الممثلين كانت مرت بقريتنا، وكان مدير هذه الجوقة يُدعى كوكليش.

وروى رجل من أهل القرية أنه رآه في «انفرس» يلعب ألعابًا بهلوانية، وأنهم يلقبونه بلقب السيئ البخت.

وفي الختام يا سيدتي، فإني لم أخبركِ بذلك إلا عملًا بإرادة البستاني الأخيرة، فهو الذي سألني أن أبلغك اعترافه الأخير، على رجاء أن يرأف الله بك فيرد إليكِ ولدكِ، ويرأف بالبستاني فيغفر له هذه الجناية.

كاهن سانت مرتين

وقد وقفتُ أعجب من غرائب الاتفاق، فإن هذا النبأ الذي لم أجسر على إخبار الكونتيس به تولته عني رسالة في البريد!

وكانت الكونتيس قد صحت من إغمائها، وأصيبت بحمَّى شديدة وبهذيان، فجعلت تذكر اسم زوجها وولدها ولقب «السيئ البخت» واسم الكاهن بشكل متقطع إلى أن جاء الطبيب، وهو من الناشئة الجديدة الذين يعلمون مقدار تأثير النفوس على الأجسام، فعلم من خادم الكونتيس الشيخ كل حكايتها، واطلع أيضًا على الكتاب الذي ورد إليها، فقال: إن الحزن كاد يقتلها، ولكن الفرح سوف يحييها.

فهز الخادم رأسه، وقال: هب أن ما رواه الكاهن كان أكيدًا، فلا سبيل إلى العثور على الولد.

فقلت له: بل أنت واهم.

فدُهِش وقال لي: ماذا تعنين بذلك؟

قلت: ألم أقل لك بالأمس أني آتية لأخبر الكونتيس بنبأ مُفْرح.

قال: فماذا تعنين؟

قلت: أعني أني كنت عالمة بأن ولدها لا يزال في قيد الحياة.

قال: أنت تعلمين؟

قلت: نعم، وأعلم أيضًا أين هو.

قال: ولكني كنت في خدمتها حين وفاة ولدها ورأيته ميتًا.

قلت: لم يكن ذاك الطفل الميت طفلها.

قال: ما الذي يضمن لنا أن ذلك البستاني قد قال الحق؟

قلت: يضمنه شكل الغلام وأثر موجود فيه من أبيه، ألم يكن للكونت خصلة بيضاء في شعره الأسود؟

أجاب: نعم، وقد كانت عند صدغه الأيسر.

قلت: وهذه الخصلة نفسها موجودة في صدغ الذي يلقبونه بالسيئ البخت.

قال: إذن فهو بعينه.

وكانت الكونتيس في خلال الحديث تنظر إليَّ نظرات ساهية، وقد انقطع هذيانها، فلما قلت جملتي الأخيرة استوت جالسة على سريرها، وقالت لي: إذن تعرفين ولدي؟

ونظرت إلينا نظرة ملؤها الرعب، فقلت لها: نعم يا سيدتي.

فصاحت تقول: ولدي! ولدي! ثم انهملت دموعها كالسيل، فقال الطبيب: لقد أنقذتها دموعها وزال الخطر، ثم قال لي: يجب أن تسرعي، فأين هو الغلام، أتعرفين؟

قلت: نعم، فهو في باريس، وسأذهب فأجيء به في الحال.

وحاولت أن أذهب من فوري، فاستوقفتني الكونتيس وقالت: اصبري يا ابنتي، فسأذهب معكِ.

وقد تداخل الطبيب عند ذلك فقال للكونتيس: إنك منهوكة القوى يا سيدتي، ولا بد لكِ من الاستراحة، وستذهب هذه السيدة مع خادمك جاك، ويعودان بعد ساعة بولدك؛ إذ لا بد لكِ من التأهب لهذا التأثير الجديد للقاء ولدك.

وبعد ساعة وصلتُ مع الخادم إلى باريس، ودخلتُ في مرسح التمثيل، وبحثتُ عن فيلكس فلم أجده، وسألت عنه مدير الجوق، فقال لي والدموع تجول في عينيه: لقد هجرنا وا أسفاه، ولا نعلم إلى أين ذهب.

وقد كدت أُجن من قلقي، فطلبت إلى مدير الجوقة أن يخبرني بكل ما جرى، فقال: نعم، لقد حدث أمر غريب لم نفهمه، فإن هذا الرجل الذي اتفقتِ وإياه على الغناء في مرسحه قد جاءنا بعد ذهابك، وسألنا عنكِ، فلما علم أنك ذهبتِ إلى فرساي ظهرت عليه علائم الانذهال ثم انقبض.

قلت: وبعد ذلك؟

قال: كان انقباضه أشد حين رأى «السيئ البخت» فإن فيلكس كان يغار منه عليكِ، وينظر إليه نظرات ملؤها الغضب، وقد سألنا الرجل عنه فقلنا إنه يُدعى «السيئ البخت».

قال: إنه اسم غريب، أليس له سواه؟

قلنا: نعم، فإننا ندعوه أحيانًا بالكونت.

فاشتد قلق الرجل، وقال: لماذا؟

قلنا: لأنه ابن كونتيس، وقد سرقه بستانيها منها كما يقولون.

فتراجع إلى الوراء كأنه قد ذُعر من هذا النبأ، ثم ضحك طويلًا، وقال وهو ينصرف: أخبروا الفتاة حين تعود أن شريكي مدير الجوق يريد أن يسمع غناءها.

ولما انصرف قال لنا فيلكس: إني أكره هذا الرجل كرهًا شديدًا، ولا أدري لماذا، ولكننا نحن علمنا السبب، فلم يدفعه إلى هذا الكره غير الغيرة.

فصحتُ به قائلة: كفى، وأخبرني ببقية ما جرى!

قال: أقام فيلكس بيننا كل ذلك اليوم لم يأكل ولم ينبس بكلمة، وفي المساء عاد الذي ذهب معك إلى فرساي، فابتدره فيلكس بسؤاله: أين ذهبتَ بباكيتا؟

فأجابه قائلًا: لقد أمرتني ألَّا أخبر أحدًا أين هي.

قال: أما أنا فأعلم أين هي، فإنها ذهبت مع هذا الرجل الذي جاء يبحث عنها، فحاول أن يقنعه بأنه واهم، ولكن جهده ذهب عبثًا، وجعل فيلكس يبكي بكاء الأطفال.

ولما دنا وقت التمثيل مثَّلَ دوره على عادته، حتى إذا فرغنا من التمثيل، وأردنا الذهاب للمبيت لم يذهب معنا، وسار في طريق آخر مدعيًا أنه مصاب بصداع، وأنه في حاجة إلى النزهة.

وقد توالت الساعات، وأقبل الصباح وهو لم يعد، فذهبتُ إلى الرجل الذي بحث عنك لاعتقادي أن الغيرة دفعته إلى الذهاب إليه، وسألته عنه فقال لي: إنه لم يرَه.

وعند الظهر اشتد قلقي عليه، فذهبت إلى مدير البوليس وأخبرته بأمره، فقال لي: لقد غرق أمس في الساعة الثانية بعد انتصاف الليل فتى لم نعثر على جثته بعد، ويظهر أنه غرق منتحرًا، فقد وجدنا بعض ثيابه عند الجسر، أتريد أن تراها؟

وهنا استرسل كوكليش إلى البكاء وهو يقول: لقد رأيت تلك الملابس فهي ملابسه، وقد صدق من لقبه «بالسيئ البخت.»

•••

وهنا توقفت باكيتا عن الحديث، وجعلت تمسح الدموع عن خديها ثم قالت: وما عسى أن أروي لكم بعد ذلك، فإن الكونتيس لم تمت، ولكن الأطباء لبثوا شهرًا قانطين من سلامتها، ولم أعلم بعد ذلك إذا كانت بقيت في قيد الحياة، فإني لم أعد أراها.

وأنا كذلك، فقد بقيت شهرًا في الفراش، وكاد الأطباء يقنطون من سلامتي أيضًا، ثم تغلب شبابي على العلة فشُفيت، ولا أزال إلى الآن أبكي فيلكس.

وعند ذلك سمع في المجلس صوت شهيق بالبكاء، فالتفت الناس إلى هذا الباكي، والتفتت باكيتا إليه، فصاحت صيحة لا تصفها الأقلام، وهجمت عليه تعانقه، وركع هذا الباكي أمامها كما يركعون أمام المعبود، فقد كان هو نفس فيلكس الملقب «بالمنحوس»، والذي كانت تندبه باكيتا وتحسبه من الأموات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤