الدين في ضوء المنعرج اللُّغوي
غالبًا ما ينسى المتفلسفة عندنا أن الفلسفة لئن كانت تصبو لأن تكون قولًا كليًّا في الحقيقة، ومن ثَم تحرص على أن تعِدنا في كل مرة بقيمٍ كونية عابرة للثقافات والعصور، فهي تتكلم دومًا وتستعمل سلفًا لغة قومية معينة، تُنسَب إلى شعب بعينه، مثلًا: هي تكلمت اليونانية وكُتبت بالألمانية، وهي اليوم تتفلسف بالإنجليزية … إلخ، وهذه توقيعات شعوب وليست أجهزة علامات بلا محتوًى سردي. وهكذا فإن مسألة «النحن» تقبع في خلفية كل تفكير كوني، مهما بالغنا في قطعه عن سياق العالم الرُّوحي الذي نشأ فيه. لكن هذه «النحن» ليست قوية بالضرورة. إن النوع الإنساني هو منذ الإغريق شكل من «النحن»، تمامًا مثل فكرة الإنسانية منذ كانط. ولا تعني العولمة اليوم غير صيغة من صيغ «النحن» الإمبراطورية المسيطرة على أفق العقول في بداية هذا القرن، والتي يقودها «الغرب» بوصفه «نحن» بيو-تكنولوجية عتيدة، وعليه فإن ممارسة الفلسفة تجري دومًا تحت ضمير «النحن» الخاص بإنسانية معينة.
أما عن إمكانية التفلسف في «لغة الدين» التي تخصنا فهذا سؤال رشيق وحمَّال أوجه. وعلينا أن ننبه إلى أمرين: أولًا أن الدين لا يملك لغة قومية خاصة به إلا عرَضًا؛ ولنا في الإنسانية الأوروبية مثال ساطع: هناك ترجمات للأناجيل المسيحية أو لجملة «الكتاب المقدس» بحسب عدد الشعوب التي تعتنق الدين المسيحي، ولا توجد صفْوية لُغوية أو توقيف لساني للمقدس. وثانيًا أن لغة القرآن لدينا هي ليست عربية إلا في بعدها الطبيعي فقط، نعني من حيث بنيتها النحوية والدلالية والتداولية. أما من ناحية المصطلح الديني الذي تستعمله فهي بلا ريب تستأنف و«تترجم» جملة مرعبة من التيمات والعبارات والمعاني التوراتية والإنجيلية، ومن ثَم فهي تفترض سياسة اصطلاحية داخلية هي الدليل القاطع على أن القرآن كتاب توحيدي ينضوي تحت تقليد السرديات الإبراهيمية، وليس تحت تقليد هندوسي أو بوذي أو إفريقي. ليست اللغة «القومية» التي نتكلمها هي الدليل على التحدي القرآني، بل الجهاز الاصطلاحي التوحيدي الذي يشتق منه بناه الرُّوحية وخُططه السردية، والتي تؤهله لاستحقاق مكانة أساسية ضمن عائلة الكتب المقدسة الإبراهيمية إلى جانب التوراة أو الإنجيل. إن لغة الدين تخصنا من حيث إننا توحيديون وإبراهيميون، وليس من حيث إننا عرب أو مسلمون، ونعني بذلك أن لغة الدين هي دومًا لغة «النحن» التي ننتمي إليها، لكن هذه «النحن» ليست بالضرورة نحن قومية، بل هي بالأساس نحن سردية. وإنه فقط داخل حقل هذه «النحن» السردية، أي «النحن» التوحيدية، إنما يمكننا أن نتفلسف دون خجل يُذكر. وربما علينا أن نميز هنا بين السردي والهُووي في معنى «النحن»: إن «النحن» التي تخصنا ليست هُووية إلا عرَضًا. والطابع العرَضي يعني فلسفيًّا هنا أنها مفروضة باسم سلطة رمزية تجاوزت صلاحيتها. علينا أن نميز بين ما ننتمي إليه وبين ما نملكه.
نحن نتفلسف دومًا في أفق «النحن» العميقة التي تخصنا، ولا تعدو أن تكون لغة الدين غير واحدة من لغات أنفسنا العميقة، تم رفعها إلى مرتبة اللغة التأسيسية. ثمة لغات أخرى انسحبت تاركة المجال فارغًا أمام لغة الدين. وهذا لا عَلاقة له بالدين بل بسياسة الحقيقة التي نجحت في بسط سلطتها على شعوبنا منذ أمد طويل. مثلًا: إن الشعر الجاهلي لم يعد يخاطبنا إلا عرَضًا، إن لغة المعلقات قد انسحبت، وذلك إثر زلزال سردي مثَّله الحدث القرآني. والشعوب تتكلم دومًا لغة الحقيقة التي تؤمن بها، وذلك ما لم يقع استعمار عالم الحياة اليومية، حيث يلتقي الناس ويتواصلون باستمرار، من طرف لغة أخرى أكثر قوة تداولية. إن الإسلام لا يعدو أن يكون مجموعة من «اللعب اللُّغوية» (حسب تعبير فتغنشتاين) التي نجحت في استجلاب عدد هائل من المتكلمين، لكن الدين لا يمتلك لغة واحدة أو نهائية أو أصلية كي يتكلمها المؤمنون به. إن القرآن يحتوي على لغات عدة لأنفسنا، وهي لغات ليس لها عمر ميتافيزيقي واحد، بل فيها ما يمكن فهمه في حدود الشعر الجاهلي، ومنها ما يخرج عن أفق الانتظار الذي كان يتحرك فيه العرب في بداية القرن السابع الميلادي، ومن ثمة كان لا بد من قراءة القرآن بوصفه مدونة عابرة للغات الساميَّة وغير الساميَّة، أي باعتباره نصًّا (بالمعنى الحديث) يتكلم أكثر من لغة ومن عمرٍ تداولي للألفاظ.
كل كتاب مقدس ينتج هرمنيوطيقا تخصه، نعني يؤدي إلى تطوير فن للفهم من جنس الصعوبات التي يرفعها في وجه قرائه في عصر ما. ولذلك ليس هناك عمرٌ واحد لفن الفهم أيضًا: فالنص الواحد يعيش حقبًا تأويلية مختلفة. وقد تبين منذ هَيدغر أننا لا نؤوِّل تراثًا ما لأننا لا نفهمه، بل نحن نؤوِّله لأننا نملك بعدُ في كل مرة فهمًا سابقًا له هو الذي يدفعنا نحو تأويله على هذا الوجه أو ذاك. لا يوجد نص كبير بلا ذاكرة. إذ إن كل عَلاقة جديدة هي قائمة على وراثة جذرية لكل إمكانيات واحتمالات الفهم السابقة، والتي كان الأسلاف قد بنَوا أنفسهم من خلالها. نحن لا نصل إلى النص الديني في كل مرة إلا متأخرين. ولذلك لا يحق لأحد أن يدعي أنه يملك ما يفهم، بل هو فقط يستدعيه هرمنيوطيقيًّا، أي يستفز إمكانية الفهم التي صارت متاحة بمقتضى نوع معين من التلقي. نحن نتلقى النص الديني دومًا في أفق فهمٍ جاهز سلفًا، بل إن الدين لا يتكلم نفس اللغة أو نفس كَمية اللغة في كل مرة، إذ نلاحظ أن لغة القرآن لم تعد تجد منذ وقت طويل نوع السامع القادر على الإحاطة بكل المساحة التداولية التي نصَّبتها تلك اللغة في أول مرة. وهكذا كل عصر لا يقرأ من لغة القرآن غير السياق التداولي الذي يقدر على امتلاكه أو على تنشيطه. وفي واقع الأمر لا يبدو أن فائدة التأويل هي في جعل النص مفهومًا على أوجه عدة؛ إذ لا يمكن تأسيس جماعة تواصلية حية بناءً على نزاعات تأويلية تحكمية. ينبغي أن يحتفظ النص المقدس باتساقه التداولي، ومن ثَم فعلينا أن نعترف له بحدود التأويل، بل إن فائدة التأويل الأكثر خطرًا هي في إثبات أن الدين مهما تسامى بنفسه هو لا يعدو أن يكون حدثًا لُغويًّا في تاريخ الخطاب لدى شعب ما. ومن ثَم يمكننا الآن أن نعرِّف الهرمنيوطيقا بأنها على وجه التحديد فن معاملة الدين بوصفه لغة فحسب، وهي لا تهدف إلى أكثر من ذلك. إن ظاهرة «الكتاب المقدس» هي في نواتها الأخيرة ظاهرة لُغوية أو حدث خطابي، وبالتالي فإن النزاع حول فهم النص الديني هو نزاع على سلطة الفهم، وليس على الفهم بحد ذاته. لكل قارئ حصة تأويلية من حجم أفق الانتظار الذي يتحرك داخله، لكن القارئ المؤسِّس أو القارئ الكبير هو ذاك الذي يدعي أنه يمتلك حق التأويل النهائي أو الأقصى أمام نص مفتوح منذ آلاف السنين على عدد لا يُحصى من القراء ومن آفاق الانتظار.
علينا أن نشير إلى أن الحديث عن «منعرج لُغوي في فلسفة الدين» هو أمر حديث العهد، حتى في تقاليد الفلسفة الغربية، ولم يرَ النور إلا في القرن الماضي. إن عبارات رائجة من قبيل «النص الديني» و«الخطاب الديني» … إلخ، هي منحوتات خطابية جديدة تمامًا، ولم يعرفها المفسرون القدامى ولا فكروا بها. وأهم إشارة هنا هي أن العرب لم يتوفروا على مفهوم «النص» المتداول في الاصطلاح النظري الأوروبي لا قديمًا (حيث كان يعني في القرن الثاني عشر المجلد الذي يحتوي على الكتابات المقدسة للأناجيل) ولا حديثًا (حيث صار منذ القرن التاسع عشر فقط يدل على المعنى الأدبي العام لما هو مكتوب). يعني المنعرجُ اللُّغوي أو الألسني الانتقالَ المعقد من براديغم الوعي (حيث عملت فلسفات التفكر الحديثة القائمة بنية العَلاقة ذات/موضوع) إلى براديغم اللغة (حيث صارت كل المشاكل الفلسفية تُحلَّل بوصفها قضايا لُغوية). لنذكِّر أيضًا بأن القرآن والتوراة والإنجيل هي بالأساس «كُتُب»، أي سرديات تأسيسية شكلت البنى اللُّغوية لوعي الإبراهيميين بذواتهم العميقة وبعالم الحياة الذي عاشوا فيه. ومن جهة ما هي في آخر المطاف «كُتُب» أو «سرديات» أو «قصص» مقدس، أو «وحي» خطابي، فهي تقبل من نفسها أن تخضع للتحليل اللُّغوي. لكن الخضوع للتحليل اللُّغوي لا يعني أن هذه الخطابات قد تأسست على منعرج لساني في تصور الله أو الإنسان أو العالم. كل الكتب التوحيدية هي كُتب قد أُلفت في حقبة براديغم الوجود، أي عندما كانت الألفاظ ليس لها من دلالة أخرى غير مطابقة الأشياء أو الموجودات. وبذلك فإن «لغة الدين» قد تشكلت في حقبة براديغم الوجود (كل ما يُقال «هو» لا يُراد منه سوى أن يعني الحق؛ والحق هو أن يطابق القول حقيقة الأشياء). وهذا وضع إبستيمولوجي لا يختلف عن الوضع الذي تفلسف في نطاقه أفلاطون أو أرسطو إلا بكونه أخذ صبغة «سردية»، والحال أن الفلسفة تحرص على رفض السرديات وتعويضها بالطرق البرهانية.
أما بعد المنعرج اللُّغوي فإن لغة الدين لم يعد يمكن لها أن تعني سوى ما تقوله اللغة بما هي كذلك. فالمفترض الأكبر هنا هو أن «الكينونة هي محض لغة» كما استقر مع هَيدغر وغادامر. ومن ثَم فإن اللغة هي صعيد الكينونة الوحيد لكل ما يُقال في أفق البشر. لا يملك البشر أكثر مما تتيحه اللغة. والتعريف الوحيد للإنسان هنا هو أنه فاعل لُغوي، أي أن استعماله للغة هو موقف إنجازي، أي هو نمط الفعل الوحيد الممكن له. وهكذا لن تقول لغة الدين لهذا الإنسان المعاصر سوى ما تسمح به المفاعيل التداولية للغة التي يتكلمها. إن معنى أي آية هو مفعول تداولي لجماعة تواصلية حية أسست نفسها أو وعيها بنفسها على أنها مؤلفة من مجموعة من المؤوِّلين لأنفسهم في نطاق نوع مخصوص من الانتماء السردي لتراثهم.
إن فهم لغة الدين هو مشكل له أوجه عدة. مثلًا: إلى حد ابن رشد (كما في فصل المقال) لم يكن يمكن فهم لغة الدين إلا في حدود براديغم الوجود اليوناني؛ وذلك يعني في نطاق تصور للحقيقة على أساس شرط المطابقة بين الأقوال والأشياء، في نطاق تقليد ميتافيزيقي يقوم على السؤال عن الموجود بعامة. وهكذا فإن التأويل الصحيح للغة الدين عندنا قد كان ذاك الذي يطابق المعنى «العقلي» الذي يمكن استخراجه من القول القرآني، ويعني «العقلي» هنا كل ما يمكن البرهنة عليه أو إقامة الدليل عليه حسب شرائط القياس التي ضبطها المنطق الأرسطي. وهكذا تم هدر كل إمكانيات الفهم الأخرى التي كان يحتملها النص الديني بشكل محايد عن تأويلاتنا المفضلة، وهو ما يفسر جملة النزاعات التأويلية حول كتاب مفتوح لا يملك أي طرف حق فهمه النهائي إلا عرَضًا، أي باسم سلطة خارجة عنه.
لو أخذنا لغة الدين في نطاق براديغم الوعي، فإن الآيات لن تعني لنا عندئذٍ سوى محتواها «التمثيلي»، أي ما تنجح في جعلنا نتمثله في حدود نمط الوعي الخاص بالبشر بما هم كذلك، وكل فهم عندئذٍ هو مجرد وعي آخر بما نستطيع أن نتمثله بملكات المعرفة المتاحة لنا كبشر، وهنا يتم إقصاء كل إمكانيات الفهم التي تظهر للوعي الحديث في مظهر وصاية تأويلية أو محتوًى عقدي يتجاوز دائرة إنسانيتنا أو قدرة عقولنا على «موضعة» التمثلات، إذْ كل ما لا يقبل أن نتمثله، أي أن نعامله كموضوع، هو يُعامَل كفكرة تتسامى على عقولنا المتناهية، وبالتالي لن تكون له أي قيمة موضوعية، ولا ينتج أي معرفة.
أما لو أخذنا لغة الدين بعد المنعرج اللساني المعاصر فإن الآيات القرآنية مثلًا أو الأقوال الإنجيلية هي لن تعني بالنسبة إلينا سوى مفاعيلها التداولية كما تحصل لدى قارئ أو سامع يتوفر على الكفاءة الخطابية أو التواصلية المفيدة داخل جماعة المتحاورين الأكْفَاء المعاصرين له. وكل فهم سوف يكون عندئذٍ مجرد مفعول تداولي ناتج عن ممارسة فعل كلامي أو عمل لُغوي في نطاق مجتمع يفهم نفسه بكونه جماعة تواصلية حية، وعندئذٍ يتم إهمال أي أفعال تأويلية لا تلتزم بقواعد الصلاحية المشتركة بين المتحاورين، وأهم تلك القواعد هو مبدأ المساواة التداولية بين المتكلمين والمخاطَبين، وهي مساواة لا يستطيع أي خطاب ديني من النوع «التوحيدي» أن يتحملها أو يفي بها.
وهنا يمكننا أن نجيب عن الشطر الثاني من السؤال: أجل، يمكن للأديان المختلفة أن «توجد معًا» بالاستناد إلى فهم بعينه للغة الدينية بعامة، ولكن فقط من دون ادعاء تأسيس «نحن كوزموبوليتانية»، فهذا قد لا يطلِق عِنان أطماعٍ من جنس فلسفة الوعي الحديثة: إذْ علينا أن نفرق بين موقف التنوير من الدين (نقد الدين باسم فهم عقلي له) وبين ما تعدنا به فلسفة الدين بعد المنعرج اللُّغوي (فهم الدين في سياقه المعياري الخاص).
يقوم الدين دائمًا على تكلم «لغة» منسحبة من اللغة اليومية باسم نوع من التعالي أو التسامي الذي يشكل بنية أساسية في أي عَلاقة إيمانية معه. وإذا حرمنا الدين من لغته فهذا يعني أننا نطالبه بأن يتكلم لغة «دنيوية» أو لغة بلا تعالٍ، وهذا تناقض إنجازي حسب تعبير من نظرية الأفعال اللُّغوية. بل الأجدر بنا هو أن ننطلق من «غموض» لغة الدين بوصفه غموضًا صحيًّا أو مفيدًا. فمن يدعي «امتلاك» معرفة مطلقة أو نهائية أو بديهية عن معاني «لغة الدين» هو يقوم فقط بلعبة لُغوية ويراهن على نجاحها لدى جمهور غير مدرب على التفكير بنفسه في مسائل تتخطى أفق اللغة اليومية. لكن الاستثمار في الغموض هو أيضًا كارثة تأويلية لا تخلو منها استعمالاتنا الرائجة للغة الدين في الفضاء العمومي. إن الغموض نقطة انطلاق تأويلية وليس محتوًى رُوحيًّا ندافع عنه. والقصد الفلسفي هنا هو أن علينا أن نحسن الاستفادة من غموض لغة الدين حتى ندرب الناس على فن التدبر أو الاعتبار بأنفسهم، وأن يكفوا عن التعويل على اللُّعب اللُّغوية الجاهزة، مثل الخطب الدينية المتداولة في الجوامع أو على الإنترنت. إن غموض لغة الدين هو ليس فقط ما لا تقوله في لغتنا اليومية، بل ما لا يحق ولا يمكن لها أن تقوله في تلك اللغة. ولذلك كل كتاب مقدس لا بد وأن يحتوي على مساحات من «الغموض» الإيجابي (ولا نقول من «اللامعنى» أو «المحال») هي نوع من الهِبات التأويلية التي تنتظر أجيال القراء لاستفزازها وتذويبها في لغة تواصلية قابلة للتداول في الفضاء العمومي. ولا يفعل التنوير غير نقد الغموض دون أي قدرة أصيلة على إفادة الناس منه.
ولكن لأن اللغة لا تعيش من دون ترجمة، أكانت داخلية أو خارجية، فإن لغة الدين لا يمكن أن تستمر في الحياة من دون أن تكون قابلة للترجمة، أي قابلة للتعرف عليها في نواتها المعيارية الخاصة. وإلى حد الآن لاحظنا أن كل استعمال للغة الدين من دون «ترجمة تداولية» (من دون تحديد آليات الاستعمال العمومي المناسب للخطاب المقدس) هو قد أدى إلى كوارث أخلاقية (التخلف التأويلي في فهم أنفسنا العميقة) أو كوارث سياسية (مشاريع الدولة الدينية والعمليات الإرهابية بوصفها أعمالًا تأويلية). أما كيف نترجم؟ فهي مسألة معقدة وتحتاج إلى ترتيبات عمومية وحقوقية وأخلاقية كبيرة، لكن يمكن القول مؤقتًا إن ترجمة لغة الدين لن يقوم بها المتدينون، ولا هي من اختصاص العلوم الشرعية التقليدية؛ إذ يجب على المتدين كما على عالم الشرعيات التقليدي أن يعيش هو أيضًا صيغة صحية من المنعرج اللُّغوي في طرحه أو في فهمه لقضايا الكتب المقدسة أنها في نواتها المعيارية أعمال إنجازية قامت بها إنسانية رائعة هي الإنسانية التوحيدية، والتي لا تعدو الحداثة الغربية أن تكون مجرد امتداد أخلاقي وتاريخي لها.
لكن حشد الناس باسم لغة الدين هو أمر آخر. فهو يخرج عن فلسفة اللغة ويدخل في نقد السلطة، وخاصة في مسائل الشرعنة. لا يوجد دين اليوم بالمعنى التاريخي ولكن فقط سياسات دينية، نعني خُططًا دعوية للاستعمال العمومي للدين، وذلك ليس فقط في مقابل الاستعمال العمومي للعقل الذي وعد به التنوير، بل عن طريق التبني العميق للوضعية ما بعد الحديثة التي وصفها ليوتار: وضعية أزمة السرديات التأسيسية للحداثة من جهة كونها قد تركت المجال فارغًا أمام أي تقنية تأسيسية من نوع غير حداثي، أي أمام ما يسميها هابرماس أجهزة الشرعنة التقليدية، وهنا يؤدي الدين دورًا مرعبًا. كل تنشيط دعوي للمدونة الدينية ومفرداتها ومصطلحها وخلافاتها وأحكامها هو اليوم مجرد ابتزاز للوضعية ما بعد الحديثة من خلال تحريف هيكلي لأزمة السرديات الكبرى للحداثة والعمل على ممارسة انتهازية إبستيمولوجية تجاه قضايا الفكر المعاصر. وفي هذا السياق علينا تنزيل ما يُدعى «عودة الديني» إلى الاشتغال.
وكيف يمكن أن ننطلق منها في فهم «لغة الدين»، بعد «المنعرج اللُّغوي» كما تبين ذلك في «التفكير بعد هَيدغر»؟
الفرق بينهما هو نفسه الفرق الذي بين التحليل والتأويل، نعني هو الفرق بين الدلالة والمعنى. الدلالة في كل «نص» أو «خطاب» هي مفعول لُغوي يمكن معالجته بواسطة قواعد النحو أو قضايا المنطق أو التحليل اللساني، وفي كل مرة لا يمكن للدلالة أن تقول أكثر مما تسمح به تلك القواعد أو تلك القضايا أو ذلك التحليل للغة. والغالب لدى الفلاسفة أن الدلالة مشكل يمكن حسمه بواسطة التحليل المنطقي للغة كما مارسه كارناب على بعض نصوص هَيدغر، خاصة مقالته ما هي الميتافيزيقا؟ حيث يصبح الكلام عن «الله» أو عن «العدم» مجرد «مشكل زائف» وليس مشكلًا حقيقيًّا للقول الفلسفي. أما البحث في المعنى أو في تجارِب المعنى فهي مسألة مختلفة تمامًا عن أي تحليل منطقي أو لساني للغة. إن الافتراض الهادي هنا، صراحة أو ضِمنًا، هو أن المعنى أكثر مما يُقال في كل مرة. إن المعنى أوسع أفقًا للفهم من كل ما قصده المؤلف أو القائل في حدود منطق الدلالة. ولو أردنا إشارة تصدمنا لقلنا: إن المعنى يبدأ عندما تنتهي الدلالة. وهكذا فإن لغة الدين تقبل أكثر من معالجة، وخاصة هي تقبل تحليل الدلالة (بالنحو واللسانيات) ولكن أيضًا تقبل البحث في المعنى (بالاعتماد على الفلسفة والتأويليات المختلفة، أكانت فينومينولوجية أو وجودية أو تاريخية أو اجتماعية أو نفسية أو أنثروبولوجية أو جِندرية … إلخ). ويصح عندئذٍ أن نتأسف قائلين: ما أقل ما قالت الدلالة، وما أكثر ما أشار إليه المعنى.
إن لغة الدين لا تكلمنا بنفس الطريقة في كل مرة، نعني في كل عصر أو في أفق أي شعب أو أي ثقافة؛ إذْ هي لا تقول لنا «معنًى» واحدًا أو نهائيًّا، لأن هذا المعنى هو ببساطة مفزعة لا وجود له، فإن معنى الدين لا وجود له خارج معنى الإنسان الذي تخاطبه لغة ذلك الدين. والقصد هو أننا لا نلتقي بالنص الديني في أي سياق نشاء، بل هو في حالة استقبال لا متناهية من قِبل قراء لا نهاية لهم. وهكذا فإن لغة الدين هي شيء يتم اختراعه في كل مرة، دون أن يتهدم مبنى النص قِيد أنملة، وهذه هي عظمة النصوص التأسيسية في أي ثقافة، ولذلك هي مقدسة دومًا، ولا جدوى من علمنتها. كل لقاء مع آية قرآنية، مثلًا، (أو توراتية أو إنجيلية، إلخ)، هو لقاء داخل معنًى جاهز سلفًا، تكون تلك لغة الدين قد قالته آلاف المرات لقراء آخرين. وإنه داخل أفق ذلك المعنى إنما نكوِّن نحن إمكانية الفهم التي تخصنا. «المعنى هو ما ضِمنه تقوم إمكانيةُ فهمِ شيء ما». ولذلك فإن المعنى هو حالة استشراف أو اشتراع مستمرة، ولا أحد يملك مِفتاح غلقها أو فتحها أو منعَها أو المنَّ على غيره دونها. لكن حركة التأويل ليس لها بُعد واحد: إن الفهم هو أيضًا وبنفس القدر أفق معنى، أي كل فهم أصيل هو إعادة اختراع لإمكانية المعنى. نحن ليس فقط نرث المعنى، بل نحن نخترع أيضًا ما نرثه. إن المعنى هو ما هو قابل للتمفصل ضمن فهم ما. حين نفهم نحن نبني المعنى ونهبه تمفصلًا مخصوصًا، ولذلك فإن لغة الدين لا تقول لنا إلا بقدر ما نهبها إمكانيةَ أن يتمفصل داخلها معنًى ما. وحين ننجح في بناء تصور أو مفهوم المعنى الذي يخصنا، نحن ننجح أيضًا في تحديد مهمة الفهم التي نطرحها على أنفسنا أو تحديد موضوعه وكيفية تمفصله. المعنى أفق ولكنه أيضًا مهمة، ولذلك يحرص هَيدغر على ربط المعنى بالعناصر الثلاثة المقومة لفكرة الوضعية التأويلية، أي إنه لا وجود لأي معنًى قد تقوله لغة الدين إذا هو لم يتمفصل بشكل يكشف عن تأصله السابق إلى الفهم في تربة مكاسب سابقة ورؤًى سابقة وتصورات سابقة مطمورة في مصادر أنفسنا، أي في البنى العميقة للغة الدين التي نناقشها باعتبارها تهمنا من الداخل.
قد تساعدنا فلسفة التأويل في طور حاسم من عَلاقتنا الحالية بلغة الدين، إلا أنه يجدر بنا ألا ننساق إلى التأويل وكأنه الطريقة الوحيدة لتدبير مصادر أنفسنا العميقة. من يؤوِّل لا يقول إلا إمكانية معنًى هي متاحة سلفًا في أفق الفهم الذي جعلته لغة الدين ممكنة، وهذا يعني أن التأويل لا يساعد إلا على استرداد أو تملك ما هو حاصل بعدُ تحت غشاء النص، ونحن لا نراه في نظارات القراءة غير التأويلية، الفقهية مثلًا أو البيانية. علينا إذن ألا نبالغ في انتظاراتنا حول فلسفة التأويل، فهي دومًا من طبيعة «لُغوية»، واللغة أقدم من قارئها في كل مرة، وتكون قد قالت عصورًا أخرى وهواجس سلطانية أو هُووية لا تهمنا. لذلك فإن التحرر من اللغة هو أيضًا مهمة لا تقل خطورة عن مطلب الاستفادة من فلسفة التأويل في فهم معنى الكتب المقدسة. ومن يأتي من المستقبل لا تلعب اللغة في عَلاقته بنفسه دورًا حاسمًا. علينا أن نضع في الاعتبار أن التعلق باللغة وبلغة الكتب المقدسة هو، على جلالته، عارض ثقافي خاص بالشعوب القديمة، ونحن ما زلنا متورطين في أفق هذا العارض الثقافي، لكن ذلك ليس قدَرًا لعقولنا أو لنمط كينونتنا. ومن ثم فإن المساعدة التأويلية لئن كانت ضرورية جدًّا «اليوم» (في عصر اللاهوت السياسي والدين المسلح) فهي ليست سوى عارض عن تشخيص سيئ لعَلاقتنا الراهنة بمصادر أنفسنا (والتي تمتد من المعلقات والقرآن إلى سرديات الإرهاب المعاصرة)، ونحن مدعوُّون بقوة إلى مراجعتها والعمل على مساءلتها العميقة.