الدين وسياسات المعنى
في سنة ١٩٨٦-١٩٨٧م، أنجزت أول بحث جامعي في مسيرتي الأكاديمية، وكان تحت عنوان «مفهوم الذات وعمل السالب في فينومينولوجيا الرُّوح لهيغل». كان غرضي أن أخرج من نمط التكوين الوضعي الذي كان مضيعة للوقت الفلسفي، نعني تكوين متخصصين «محايدين» منهجيين في الفلسفة الأوروبية الحديثة، كما تبلورت من ديكارت إلى كانط، ثم من أوغست كونت إلى الوضعية المنطقية والفلسفة التحليلية، حيث كنت أعتقد أن إنشاء فلسفة في «علوم حديثة» لا نملكها هو ادعاء خطير يجدر بنا أن نتركه للأجيال القادمة. وكان هيغل هو الذي وَجدتُ لديه أولًا قدرًا من الاحترام للمتفلسفة من «غير الغربيين»، وقدرًا من الاعتراف الفلسفي بأصالة «الرُّوح» القومي أو الثقافي الذي ينتمون إليه. فأخذت أبحث عن «مكاني»، وعن مكان مصادر ذاتي العربية-الإسلامية أو الشرقية، داخل خارطة الرُّوح المطلق الهيغلي. تلك هي اللحظة التي وضعتني على الطريق نحو الهرمنيوطيقا، أي نحو تأويلية لتجارِب المعنى الخاصة بكل ثقافة أو عصر أو لغة أو دين، بدلًا من الادعاء الفج بأن الفلاسفة هم كائنات بأجنحة كونية، ذوات بلا هُوية، وعقول كلية لا وطن لها. وهو ما كنا نقرؤه في كل صفحة من كتابات ديكارت واسبينوزا وليبنتز وكانط. مع هيغل تغير شيءٌ ما في طبيعة التفلسف: بدلًا من «العقل» الذي لا هُوية له (حيث وقف كانط)، أي لا تاريخ له، علينا التفكير في وصف تجارِب «الرُّوح» الذي يخترق كل عصور العالم ويوطد الطريق نحو انبجاس الذات الكلية للإنسانية، حيث يمكن فعلًا لكل شعب أو رُوح قومي أن يعثر على منزلته الرُّوحية الكونية، والتي لا يَضيمه فيها أحد. بعد قراءة نيتشه، ثم خاصةً هَيدغر، وجدت أخيرًا الطريق الملَكية نحو الهرمنيوطيقا، أي نحو فلسفة عوضت أسئلة «التفكر» بأسئلة «الفهم»، ولأول مرة يصبح «المعنى» وليس «الحقيقة» هو رهان التفلسف الكبير.
حين نفكر تكون اللغة قد قالت شطرًا واسعًا من إمكان التفكير الذي نصْبو إليه. وهذا يَصدُق جدًّا على مصطلح «الهرمنيوطيقا»: إنها متأتية من اللغة اليونانية في لحظتها «المنطقية» الرائعة، لحظة اكتشاف أول تعريف عميق واستراتيجي للإنسان بما هو إنسان: أنه «حيوان ناطق». الهرمنيوطيقا هي حديث في النطق الإنساني بعامة. «النطق» الذي يحمل «منطقه» في بنيته. وهكذا ينكشف لنا هيكل الهرمنيوطيقا: هي تعبير عما تتضمنه لغة قوم من حيث ينطقون بها: إنها منطقُ نطقهم بما هم بشر. ولذلك هي ليست مجرد «تأويل» لما هو «غير مفهوم»، بل هي اشتغال على النطق البشري كيف يقول نفسه وَفقًا لمنطق لغةِ قومٍ بعينهم. ومن لغة قوم بعينهم تصدر إمكانيةُ الهرمنيوطيقا، ومن ثَم علينا أن نقر بأن كل لغة تحتمل هرمنيوطيقا معينة على أهلها أن يستخرجوها أو يفكروا بها. الهرمنيوطيقا حركة تفكير تذهب نحو إمكانيات الفهم المتاحة داخل تراث كبير من الأعمال «النطقية» الخاصة بشعبٍ ما، والتي نجح في الأثناء في تحويلها إلى نصوص تأسيسية لذاته العميقة. أفق كل هرمنيوطيقا هو فهم الذات باعتبارها تجرِبة معنًى أصيلة ومساحة انتماء بَدئية، منها يستمد كل شعب مصادر ذاته العميقة. لكن ما تريد كل هرمنيوطيقا أن تعثر عليه ليس شيئًا آخر سوى معنى أنفسنا من حيث نحن بشر، أي معنى إنسانيتنا. وهكذا لا معنى للفصل بين هرمنيوطيقا كونية وأخرى خاصة أو مفردة: لا تكون الهرمنيوطيقا فلسفة أصيلة في التأويل بعامة إلا بقدر ما تكون قادرة على استعمال الكوني في فهم ما هو خاص واستعمال الخاص في فهم ما هو كوني، في معنى أنفسنا.
أتت الهرمنيوطيقا من العَلاقة الخطيرة بمعنى الدين في أفق السلطة السائد في كل مرة. وهي ذاهبة إلى المشاركة الخطيرة جدًّا في طرح مسألة السلطة في كل مرة: سلطة النص باعتبارها في ماهيتها سلطة جميع السُّلَط. منبع كل مشكل تأويلي في أي عصر هو دومًا شرعية المعنى الذي يمكن أن نعطيه للخطابات المقدسة، وخاصةً في ضوء نَموذج السلطة السائد وبالنظر إليه.
إذا وضعنا في الاعتبار أننا «أمة» لغةٍ وثقافةُ قولٍ وحضارةُ «كتاب» فإنه لا يمكن أن يوجَد شعب أحوج منا إلى خِدمات الهرمنيوطيقا، وهي خدمات منهجية ونظرية جمة. لقد تبين اليوم أن الغرب قد تميز عن باقي الإنسانية بطريقته في قراءة تاريخه الرُّوحي وفي إعادة تأويل ذاته العميقة على نحو مكنه من اختراع أشكال جديدة من «التذوُّت» الرائع. إن فكرة «الأمة» نفسها هي فكرة تأويلية، نعني طريقة معينة في رسم خارطة لُغوية وروحية من خلالها يستطيع شعبٌ ما أن يعيَ بذاته، وبالتالي أن ينتميَ إلى ما يعتبره مصادر ذاته. الهرمنيوطيقا هي اليوم في أفق العرب والمسلمين الحاليين بمثابة فرصة تاريخية وإمكانية ميتافيزيقية فائقة لإعادة ترتيب عَلاقتنا بذاتنا العميقة ولرسم خارطة فهم مناسبة لأنفسنا الجديدة. ومن يرفض الدخول في تجرِبة تأويلية حول معنى ذاته هو كائن متخشب ويحكم على نفسه بالخروج من التاريخ الرُّوحي الجديد للإنسانية.
للدين عمر تأويلي لا يتعداه، لكن الإنسان هو الذي بإمكانه تجديد العَلاقة بالسلطة، وبالتالي بالتأويل وبالحاجة إلى التأويل في كل مرة. ولو فرضنا أن الدول هي أجهزة تأويل ضخمة، فإن الدين لن ينقرض أبدًا، إنه قائم في صُلب الحاجة التأويلية للدولة في كل مرة. أبدًا، لن يطيع أي شعب كبير إلا بعد حصوله على وضعية تأويلية كبيرة مناسبة لأطماعه الأخلاقية أو الميتافيزيقية. ثمة غرور تأويلي لدى كل شعب ينبغي إشباعه، ولم توجد الأديان والفنون والفلسفات والآداب إلا لهذا الأمر.
تأويل النصوص بعامة، والدينية خاصة، هي مهمة خطِرة جدًّا، ولا ينبغي أن يتصدى لها إلا فيلسوف أو مفكر حر. وما وقع إلى حد الآن هو في الغالب حراسة منهجية أو عقدية للنصوص من طرف «أهلها» ضد اعتداءات نقدية «حديثة» أو «استطيقية» عليها من طرف «مناوئين» لها. علينا أن نفرق بين المؤوِّل بالمعنى الفلسفي وبين عالم الشرعيات المفسر للنص الديني. ما قام به الجابري في الأخير مثلًا من تفسير للقرآن هو قراءة تراثية، وليس هرمنيوطيقا. والسؤال هو: هل يستطيع المفسر الشرعي للنص المقدس أن يضيف شيئًا جذريًّا لما قام به أسلافنا؟ ثم: ماذا تكسِب ثقافتنا العميقة من تجديد القراءات النقدية للنص الديني (كما فعل أركون) وكأنه مجموعة من «الأساطير» أو «المِيثات» التي ينبغي أن نُخضعها للنظرة «التاريخية» أو «المنهجية» الحديثة للعلوم الإنسانية الأوروبية من قبيل اللسانيات أو تاريخ الأديان أو الأنثروبولوجيا؟ وحتى لو حررنا أنفسنا من هيمنة النص القرآني مثلًا، كما دعا إلى ذلك نصر حامد أبو زيد، فإن المهمة الأساسية للهرمنيوطيقا تبقى قائمة: كيف يمكننا اليوم أن نعيد تأويل النصوص الدينية بشكل كلي؟ نعني كجزء من تجارِب المعنى الكونية للإنسانية، وليس كقضية نقدية أو تحررية لجيل عاجز أصلًا عن التفكير الفلسفي الكوني.
ما يحتاجه الناس دومًا هو وجبة إيمانية مناسبة لنمط الحرية الذي يحركهم نحو آمالهم التاريخية. الإيمان أطول عمرًا من جميع الأديان، ولذلك فالتأويل أطول عمرًا من أي عقيدة قائمة. وعلينا التنبيه إلى أن تأويل النصوص الدينية هو مشكل اقتصادي من الطراز الرفيع: اقتصاد الرغبة في التعالي. ومن لا يوفر لمؤمنيه الوجبة الإيمانية المناسبة هو يتركهم نهبًا للدعاة.
ما أخذ يُشار إليه منذ ستينيات القرن الماضي بعبارة «المنعرج اللُّغوي» (رورتي) هو حدث منهجي خطير جدًّا أخذ يتبلور منذ أواخر القرن التاسع عشر (مع نيتشه وفريغ) وهيمن على كل مساحة القرن العشرين تقريبًا (من فتغنشتاين والوضعية المنطقية إلى الفلسفة التحليلية، ومن التحليل النفسي وهَيدغر إلى فلسفات اللغة والتواصل والتفكيك، مثل آبل وهابرماس وفوكو ودريدا …). ويمكن القول إن المنعرج اللُّغوي قد أخذ صيغتين متوازيتين؛ إحداهما تأويلية-تفكيكية، تعود في جذورها إلى الرومانسيين الألمان، مثل شلايرماخر، وتمتد إلى غادامر وفوكو ودريدا وليوتار، مرورًا بنيتشه ودِلتاي وفرويد وهَيدغر وبنيمين. أما الأخرى فهي تحليلية، وتجد جذورها لدى كانط، لكنها تزدهر مع المناطقة مثل فريغ ورَسِل وفتغنشتاين وكارناب وكواين وديفيدسن. إلا أن طرافة هاتين الصيغتين من المنعرج اللُّغوي تكمن في أنهما سوف يأخذان في التواصل بينهما، خاصة مع آبل ثم مع هابرماس وريكور ورورتي.
ويستمد البراديغم التأويلي وجوده من الصيغة الثانية من صيغتي المنعرج اللُّغوي المعاصر. من شلايرماخر الرومانسي إلى دِلتاي وهَيدغر وغادامر وريكور، هناك خط تأويلي واحد. وهي صيغة لا تفهم اللغة بشكل تحليلي، أي بالتعويل على اللسانيات الحديثة، بل بشكل تأويلي، أي بالتعويل على فن الفهم باعتباره فنًّا فلسفيًّا وليس علمًا. اللغة بيت الكينونة (هَيدغر) وليس مجموعة من العلامات الاعتباطية (دي سوسير).
لذلك فإن نصوصنا التوحيدية هي أكبر تأهيل ميتافيزيقي للدخول في احتمال سعيد لنتائج فلسفة اللغة المعاصرة على نمط التذوُّت وأشكال التذاوت التي نستمد منها اليوم هُويتنا العميقة. كل نص ديني يقوم سلفًا على فرضية المنعرج اللُّغوي: أي أخذ الكائن بوصفه كلمة. وهذه المساواة الأنطولوجية بين ماهية الكينونة وماهية اللغة (من خلال الأمر التكويني «كن») هي لب الإشكال عندنا. نحن ثقافة مهيأة سلفًا لاحتمال نتائج المنعرج اللُّغوي المعاصر من دون أي خسائر ميتافيزيقية أو روحية كبيرة.
علينا في الغالب أن نميز بين ثلاثة أنواع من العقل، وبالتالي من المعقولية: (أ) العقل/الجوهر، أو العقل الذي له ماهيةُ شيء أو كينونة، وهو العقل اليوناني، وهو لا يفكر بل يعقل ما هو كائن كما هو كائن، ونوع الحقيقة الذي يجزم به هو الحقيقة/المطابقة: مطابقة الحكم للشيء. (ب) العقل/الذات، أو العقل الذي له ماهيةُ وعي، وهو العقل الحديث، وهو لا يعقل بل يفكر فيما هو متمثَّل بوصفه متمثَّلًا، ونوع الحقيقة الذي يثق به هو الحقيقة/الموضوعية: تمثيل الكائن الخارجي بوصفه موضوعًا للذهن. (ﺟ) العقل/اللغة، أو العقل الذي له ماهيةُ علامة أو نص أو فعل كلامي، وهو العقل المعاصر، وهو عقل لا يعقل ولا يفكر بل يحلل لغة الكائن الذي يدرسه أو يؤوِّل لغة القائل الذي يخاطبه، ونوع الحقيقة الذي يمفصله هو الحقيقة/الفعل القولي.
وهكذا فالإنسان لا يوجد أو يعي بنفسه أو يتكلم إلا داخل براديغم عصره الرُّوحي الذي يحكمه سلفًا. فما كان لليونان أن يعقلوا إلا داخل براديغم الكينونة، وأفضل ما يفهمونه من ماهية شيء أو كائنٍ ما هو حد جوهره وصفته وأحواله …، وما كان للمحدَثين أن يتمثلوا أي موضوع إلا داخل براديغم الذات، وأفضل ما يمكنهم تمثُّله هو صورة موضوعٍ ما في الذهن البشري. وما كان للمعاصرين أن يتحققوا من معنى كائنٍ ما أو وعيٍ ما أو قولٍ ما إلا متى تم تحليل أو تأويل اللغة أو الخطاب أو النص أو الفعل الكلامي الذي يصدر عنه أو في نطاقه.
نحن المعاصرون كائنات لُغوية بامتياز. لم يعد الإنسان بالنسبة إلينا جوهرًا ولا وعيًا، بل فعلًا لُغويًّا. عند هذه النقطة بالذات، نحن نريد إعادة قراءة نصوصنا التأسيسية باعتبارها نتاج حضارة مارست المنعرج اللُّغوي دون أن تراه. نحن قد ظلِلنا دومًا في نطاق «عقل لُغوي» عميق بامتياز. ولا نعني بذلك فقط ما أشار إليه الجابري تحت مصطلح «البيان». فحسب افتراضنا، إن كل تفكير العرب في كل المجالات قد كان صادرًا عن نوع مبكر أو خاص من المنعرج اللُّغوي: ذاك الذي يرفع الكلمة إلى رتبة الكينونة. وهذا أمر يجري مفعوله الميتافيزيقي من المعلقة الجاهلية إلى القرآن إلى التصوف مرورًا بالنحو والفقه والكلام. ما تم من فلسفة أو منطق هو نفسه لم يكن غير استثمار للعقل اللُّغوي العربي في قراءة اليونان وفهمهم، وأكثر مشاكل التفلسف بالعربية كان يدخل في باب الترجمة التأويلية أكثر منه في باب التأليف النظري الصناعي، وفي كل عَلاقة لنا مع تراث آخر، نحن مترجمون أساسيون وخطرون.
هذا الفهم الجديد للعالم الذي نعيش فيه عمره لا يتعدى قرنين، فمنذ شلايرماخر والرومانسيين، ومنذ هيغل ونيتشه، فقط، تكون العالم الجديد، العالم/اللغة، العالم/الشبكة من العلامات والنصوص والأقوال …، وأصبحنا بمثابة كلمات داخل خطاب أكبر منا، ولكن علينا أن نفهم وظيفتنا داخله، وعلينا أن نحدد دلالة كِياننا بالنسبة إليه. لا يمكن أن نفهم ماركس دون تحليل الأيديولوجيات، ولا فهم فرويد دون تأويل الأحلام، ولا فهم هَيدغر دون إقامة السؤال عن معنى لغة الكينونة على طريقتنا … إلخ. عَلاقتنا بعالمنا هي عَلاقة لُغوية بالأساس، ولأننا قوم قوَّالون منذ أنفسنا القديمة، منذ الشَّنْفرَى وامرِئ القيس إلى اليوم، فإن عَلاقتنا بالعالم لن تتغير كثيرًا من حيث طبيعة الفضاء الذي نتحرك فيه. لكن المشكل هو عَلاقتنا التأويلية بأنفسنا الحديثة: بالعوالم الجديدة الأخرى، الغربية وغير الغربية. نحن لم نأخذ في الاعتبار بجدية أن لغتنا ليست مِلكًا لنا بل هي مجرد تجرِبة من تجارِب المعنى الكبرى للإنسانية، ومن ثَم فإنه بدلًا من مزاولة حراسة الهُوية العميقة لأنفسنا (الإسلام) علينا أن نعيد اختراع أنفسنا طبقًا للتحدي الجديد الذي فُرض علينا: تحدي انتقال الغرب من الحداثة (حيث كانت مساهمتنا صامتة وفي غيابنا) إلى ما بعد الحداثة، حيث يمكننا أن نساهم عن وعي وقصد في تأسيس العقل اللُّغوي الجديد الذي ستتكلمه الإنسانية في القرون القادمة. ويبدو لي أن تراثنا اللُّغوي والرُّوحي الغني جدًّا هو رافد رائع لأنفسنا الجديدة.
الدين والتفكير الحر يتعارضان، لكن التفكير الحر غير ممكن من دون إيمانٍ ما: إيمان بضربٍ ما من التعالي، نعني من حرية التذوُّت على نحوٍ لا سقف له. وكل من يفكر بشكل حر وجذري هو يخلق للإنسانية ولمجتمعه أولًا، أفقًا جديدًا من التعالي، نعني من استعمالات الحرية. وليس التأويل بواحد منها.
علينا أن نحدد معنى الانتماء الذي يليق بمن يفكر. حين نعقد تأويلًا للنص الديني فنحن نحرر إمكانية فهم معينة موجودة في النص الديني نفسه. لكن ذلك لا يقتضي بالضرورة أن ننتمي إلى الدين أو أن تأويلنا له ينبغي أن يكون دينيًّا. ينفتح النص الديني على تأويل جديد لأنه في أعماقه هو موجَّه أو كان موجهًا نحو ضمير الإنسانية قاطبة، أو نحو ما هو إنساني في شخص كل واحد من الناس؛ ولذلك هو منفتح سلفًا على كل إمكانات التأويل، وهي إمكانات لا تولد صدفة أو معًا بل تنبجس من رحم الأنفس القارئة في عصر تلو عصر وفي ثقافة تلو ثقافة كنباتات حرة رائعة عفوية. ما هو جديد في كل مرة هو الإنسان الذي يؤوِّل، عصره، وآلامه الإنسانية وأحلامه غير المسبوقة. وليس هناك حدود نظرية للتأويل، بل فقط حدود الفهم التي تفرض نفسها على كل عَلاقة تأويلية مع النص، وهي في عمقها حدود العصر أو حدود شعبٍ ما، وليست حدودًا منهجية أو إبستيمولوجية. إن الحدود الأخيرة في كل تأويل هي حدود العقل البشري كما هو متاح في أفق ثقافةٍ ما وعصرٍ ما.
الجدوى من المساءلة بعامة هي توسيع العقل البشري وتوسيع إمكانات الفهم التي يحتاجها شعبٌ ما حول مصادر ذاته. أما مساءلة النص الديني فجدواها غير منفصلة عن ممارسة السؤال في حضارةٍ ما. إن الدين هو العنوان الأكبر عن تجرِبة المعنى في ثقافةٍ ما، وهو فضاء المقدس بعامة، حيث يمكن للفن أن يعمل ولكن دون أي ادعاء روحي حول نوع المعنى أو نوع الحقيقة الذي ينتج داخله. والدين هو الأفق الإبداعي الوحيد الذي يضفي هالة روحية ومعيارية واسعة النطاق على تجرِبة المعنى التي تنجرُّ عنه. وما دام البشر في حاجة وجودية إلى ما هو روحي، أي إلى تجرِبة معنًى كلي لحياتهم، هم سيكونون في حاجة ماسة إلى طرح الأسئلة الأساسية، وإن أطرف الأسئلة هي تلك التي تتعلق بميدان التعالي، حيث تعمل القضايا الكبرى للعقل الميتافيزيقي: الله، النفس، العالم. وما دمنا نحن لا نملك إجابات مناسبة عن معنى الله أو عن ماهية النفس أو عن طبيعة العالم، نحن سنحتاج إلى أديان.
وفي غياب تربية ذاتية عميقة، حيث يمكن للإنسان أن يستغني عن الدولة في تهذيب ذاته العميقة، وتدبير نمط كينونته في العالم، كشأن شخصي جذري، فإن الحاجة إلى التأويل بعامة وإلى تأويل النص الديني ستظل قائمة. وُجدت الأديان وتأويلاتها المتعاقبة من أجل شيء واحد: طمأنة الجموع إزاء موتها؛ إذ لا يفعل الدين في أي عصر ولدى أي شعب سوى توفير تقنياتِ رجاءٍ مناسبة كي تتغلب الجموع على هول الموت بلا معنى. وما دام لا يمكن لأي دين أن يستغني عن جهاز الآخرة، نعني عن الاستثمار الأخلاقي في الموت، فإن الحاجة إلى المؤوِّلين ستظل قائمة وملحَّة. الدين شأنه أن يخفف وطأة ثقل الكينونة في العالم على الضمير الإنساني المذعور من فكرة الموت. ذلك «القلق» الذي شخَّصه هَيدغر باعتباره قلقًا من العالم نفسه، وليس مجرد خوف من هذا الكائن أو ذاك.
التأويل حركة روحية، ومن ثَم فهو مسافة فهم من موضع إلى موضع. لكن ما يحتاج إلى تأويل ليس الكتاب أو السنة، بل الإنسان فينا. العَلاقة ليست رابطة جامدة مع نص مغلق أو سنة موثقة، بهذه الطريق نحن لن نعرف من أين نبدأ، ما دام الواقع يفرض علينا في كل مرة حاجة تأويلية جديدة، سوف تضطرنا إلى اتهام فهمنا للنص أو اتهام النص بغرابته عنا. لذلك فما تمنحه الهرمنيوطيقا هو العمل على إعادة بناء فهم مناسب للوضعية التأويلية التي في نطاقها فقط يمكن للنص المقدس أو للسنة الشريفة أن يظهرا مظهرًا تأويليًّا. الصعب هو بلورة وضعية تأويلية داخلها نحن نستطيع أن نلتقي بالمدونة الدينية التقاءً مثمرًا وشجاعًا وأصيلًا. ولذلك فنقطة الانطلاق هي مشكل نظري مركب وليست هذا الطرف أو ذاك. انطلق من أي موضع أردت (النص أو السنة أو الواقع) لكن احرص على أن يكون انطلاقك من داخل وضعية تأويلية مناسبة، وليس من أي خاطر أو موقف تحكمي أو رد فعل عقدي أو دفاعي عن مذهبٍ ما. الهرمنيوطيقا ليست مجرد وسيلة أو واسطة منهجية أو أداتية. إنها ميدان فهم ورِهان نظري وقدرة على ممارسة المساءلة المفيدة في آنٍ.
لم تحتج الحداثة إلى الهرمنيوطيقا إلا بعد الشعور الرومانسي (بعد الثورة الفرنسية مباشرة) بانحسار أفق العقل الحديث كما عبَّرت عنه فلسفة الأنا المنتصرة، في شكل حضارة الإنسان/الكوجيطو: الإنسان الفرداني (في الاقتصاد) والمواطن (السياسي) والشخص (الخلقي) والحاسة (الجالية)… إلخ. كان لا بد من الانتقال من التفكر إلى الفهم، أي من نظريات المعرفة أو الذهن أو العلم بعامة إلى تاريخ الوعي وتجارِب المعنى ولغات العالم المعيش.
«ما هي هذه الطريق التي تحولت فيها النفس إلى عقبة معرفية في وجه السير عليها؟ من/ما هو ذاك الذي يبني هذه الطريق؟» إنها طريق اكتشاف الذات والسهر على قوة الحياة فيها، ضمن ثقافة ما. طريق الذات هو الطريق الوحيد في كل تجرِبة من تجارِب المعنى التي خاضتها الإنسانية، كل ما عداها هو مقتبس منها، حتى اللقاء مع الله أو مع المقدس بعامة هو يتم دومًا داخل أفق تاريخ روحي لمعنى الذات الإنسانية المتاح لشعب ما. والثقافة لا تتيح دومًا كل إمكانات الذات في نفس الوقت. أما ما ومن يبني تلك الطريق فهو الإنسان المفرد والأكثر احتمالًا لمعنى إنسانيته. ثمة شيء كوني في كل واحد منا، وهو وحده يمكن أن يكون الطريق. أما كل أنواع الخصوصية بهذه الفئة أو الجنس أو الطائفة أو العرق أو المعتقد، فهي لا تعدو أن تكون تمارين روحية لئن كانت تجري في معاجم مختلفة فهي تشرئب إلى نفس الأفق الإنساني: أفق احتمال حقيقة النوع وتاريخ النوع وكرامة النوع في كل فرد.
ليس التأويل رسمًا لصور هُووية جاهزة عن أنفسنا أو عن ماضينا أو حتى عن مستقبلنا. كل ما هو جاهز هو غير مناسب للانتماء إليه، وذلك فقط لأنه طبقة ميتة من طبقاتنا الذاتية المتراكمة. فن تأويل النفس هو فن اختراع مقامات جديدة لولادتنا الثانية والتالية. وعلى خلاف المعنى الحرفي للتأويل، ليس هناك «أول» في عملية تأويل النصوص أو الأحداث، كل ما يقبل التأويل لم تعد له أية أوَّلية من شأنه أن يدافع عنها، بل هو قد انفتح على كل إمكانات الولادة الثانية الثاوية في صُلبه. كل نص مقدس هو جملة إمكانات التأويل التي ينطوي عليها منذ أول أمره وبلا نهاية، وتُقاس النصوص بقدرتها على الولادات التأويلية المتعاقبة عليها، ونص النصوص هو ذاك الذي يحمل إمكانية ظهور النصوص الأخرى عنه ومنه وتلقاءه وضده ومن أجله، دومًا وبلا نهاية.
ولذلك فالتغلب على النفس على عكس ما نعتقد عادة هو تغلب على الذات الجماعية أو الذات الخارجية عنا، الذات العمومية والذات المكرسة، تلك التي صارت تحتكر معنى ذواتنا وطرق تأويل أنفسنا، دون علم ودون إرادة منا. فالتغلب على النفس هو تحرر من طبقة من طبقات ذواتنا، وليس مجرد إيثار أخلاقي للغير على النفس. ليس هناك غير تأويلي، كل ما نحتاج إلى تأويله هو جزء لا يتجزأ من أنفسنا.
لا أحد يولد خارج جسده، كذلك الذوات، وفي كل عملية تجاوز أو رغبة في التجاوز نحن لا نتجاوز إلا أنفسنا، ليس لدينا ذات صُنعت خارجنا. وذلك أن «الماضي» هو طبقة من طبقاتنا الرُّوحية الحالية، وليس مقبرة أخلاقية معزولة عن هُويتنا نزورها الفينة بعد الفينة، بل، حسب هَيدغر، إن الماضي الحقيقي أو الأصيل هو نوع من «الكانيَّة»، نوع من الكينونة التي لا ننفك نكونها في كل مرة لأننا بالتحديد قد كُنَّاها دومًا منذ أول أمرنا. إن «ما – كان» في ذواتنا منذ أول أمرها لم يعد يأتينا من الماضي بالمعنى الزماني، بل من الآتي، باعتباره بوابة اللقاء المستقبلي مع أنفسنا، وكل لقاء مع أنفسنا القديمة يأتينا من أفق مستقبلنا هو كانيَّة أصيلة، أي حمَّالة لمعنى كينونتنا في العالم بإطلاق، ولذلك نحن غير مخيرين أبدًا في احتمالها كإمكانية جوهرية لأنفسنا. كذلك فإن «الغرب» ليس نوعًا من «الخارج» الميتافيزيقي الذي يمكننا متى أردنا أن نفك الارتباط الأخلاقي أو التاريخي معه. إن الغرب هو اليوم واجهة الإنسانية، وأفق المعنى فيها، وهذا أمر لا يفيد إنكاره في التحرر منه في شيء. إن الغرب هو حقًّا عدو سياسي، لكنه من الناحية الميتافيزيقية، أي من ناحية تاريخ الكينونة في العالم، هو نسيب عميق لنا، من حيث إنه التجسيد الأخير للتصور التوحيدي للعالم. لا معنى لأي خصومة ميتافيزيقية مع الغرب، وكل نزاعاتنا معه هي فقط نزاعات تأويلية.
نحن نتخاصم معه على معنى العالم وليس على العالم أو على الانتماء إلى العالم، كما هو شأن الهنود الحمر مثلًا. نحن نملك تاريخًا رُوحيًّا عتيدًا، ونتوفر على تجارِب ذاتية متنوعة جدًّا، تذهب من الفتوة إلى الشهادة إلى أدب النفس إلى شعرية الكائن إلى النبوَّة والتألُّه. وإذا كان ثمة «تيه» فهو داخلنا وليس في خارجٍ ما. التيه الأصيل هو قدرة البشر على احتمال اللانهاية الثاوية في أنفسهم، وليس في فهم الكون.
في عبارة «العقل البشري» إيحاء دائم بأن ثمة مستوًى من الوجود يتعالى على عقولنا، بما نحن بشر. ومن ثَم فإن فرضية آدم الخطَّاء إنما تسري بيسر واضح على العقل الآدمي أيضًا، إنه عقل محدود، ومفهوم «الحدود» هو تعبير غير مباشر وأنيق عن حتمية «الخطأ» البشري. وفي هذا السياق بالذات يتم تقديم التأويل وكأنه عملية ذَهاب خارج حدود العقل، وبالتالي في غياهب الخطأ في الفهم، ومن ثَم الوقوع في تيه في الفهم غير محمود. هذا السيناريو التأويلي لإرباك العقل البشري ومن ثَم دفعه إلى الاعتراف بحدود وبحاجته إلى معلم غير بشري، هو خُطة كلامية ولاهوتية تقليدية لم تعد لها أية وجاهة منذ كانط. وذلك أن الفلسفة قد كشفت عن مصدر هذا التعالي وعن طبيعة هذه الحدود التي نتحدث عنها. إن التعالي ليس مجرد مفارقة للمادة التي تؤلف هذا العالم المرئي، بل التعالي هو قدرة العقل نفسه على الحرية، أي على التشريع الرُّوحي لقوة التفكير التي في طبيعته، وذلك بسن قوانين كلية لاستعمالاته المختلفة.
علينا أن نقر أولًا أن «الاختلاف» هو رحمة للعالمين، وليس تهمة لأحد. نعني أن الاختلاف هو قائم بعدُ في كل مستويات الكينونة الإنسانية من جسد ولون وخُلق ولغة ومكان وزمان ومعتقد، فلماذا ننكره حين يتعلق بالفهم. و«الخلافيات» أو المسائل الخلافية هي جزء من تراث الاجتهاد النظري في الإسلام الكلاسيكي. ذلك يعني أن التفكير المختلف والرأي المختلف هو جزء لا يتجزأ من أي سعي نحو التفاهم. وإلا فلا معنى لأي رغبة في الحوار ولا في معنى أخلاق الحوار وأدب الحوار … وثقافة الاختلاف صارت اليوم قيمةً من قيم التعايش بين الناس في أفق الإنسانية الحديثة.
فهل نحن آخر إنسانية لا تؤمن بعدُ بثقافة الاختلاف؟ وبأن الاختلاف في الفهم هو جزء تأويلي لا يتجزأ من الحوار ومن آداب الحوار بين الذوات المتحاورة في كل فضاءات الحياة العمومية والخاصة الحديثة. يبدو الأمر أكثر تعقيدًا.
ذلك أن فهم النصوص الدينية، وخاصة دعوى التفرد بفهم النص المقدس، الفهم الواحد والوحيد، هو ليس مجرد خطأ منهجي أو موقف مذهبي، بل هو عملية لها جذور سلطوية عميقة جدًّا. إن فهم النص الديني هو جزء لا يتجزأ من خطة السلطة ومن نمط الشرعية القائم في بلاد ما. ومنذ هوبز صار المحدَثون يعرفون أن تأويل النصوص المقدسة هو من مشمولات الدولة، ولا يمكن تصور دين مستقل عن دولته، وإلا حدث تضارب في ماهية السيادة التي يقوم عليها حكم الدولة ونمط الشرعية القائم فيها. ولكن في غياب دولة قوية بإمكانها حسم النزاع التأويلي حول فهم النص المقدس، فإن نزاع التأويلات سيقود لا محالة إلى نوع من الحرب الأهلية التأويلية بين الطوائف.
علينا أن نقر بأن العنف التأويلي — وكل تأويل يحتوي على عنفٍ ما — هو جزء من أي فهم للنص الديني، ويتمثل العنف في إخراج النص من فهم سائد إلى فهم آخر. والحق أن العنف التأويلي لا يجري بين المؤوِّل وبين النص، بل تحديدًا بين مؤوِّل ومؤوِّل آخر. ولأن الأمر يتعلق بنزاع وصراع بين متخاصمَين، وبالتالي بطرح غير مباشر لمسألة السلطة — سلطة التأويل جزء من سلطة الدولة — فإن حل معضلة التأويل لا تكمن في حقل التأويل، بل في صلب ماهية السلطة داخل مجتمعاتنا.
لم يكن لتأويل النص الديني أن يتحول إلى رِهان سياسي وإلى محل صراع دموي بين «المؤمنين» بنفس النص، لو لم تحدث أزمة في شرعية الحاكم وشرعية نمط السلطة التي يسعى كل طرف إلى فرضها على جملة المجتمع.
علينا أن نفرق بين «النقل» وبين «الترجمة» حتى نرى نوع الحاجة إلى فلسفةٍ ما في هذا المضمار. الناقل هو آلة الترجمة وليس روحها، ونعني بذلك أن الاكتفاء بنقل المعاني نقلًا قاموسيًّا أو نحويًّا هو مستوًى من الترجمة لا يرقى إلى حجم الانتظار التأويلي الذي يدفع لغة من اللغات إلى توفير الضيافة الكونية المناسبة لنص فلسفي أو نص مقدس كبير. والسبب هو أن اللغات ليست مترادفة أبدًا. هي ليست منظومات متشابهة أو متطابقة من العلامات اللسانية، بحيث يمكن الاكتفاء بتوفير المقابِلات لفظًا ونحوًا وتركيبًا حتى نظفر بنص قابل للقراءة في لغة شعب آخر. والنقل يمكن أن يكون أمينًا، لكنه لن يكون ترجمة بالمعنى الأصيل. الناقل ليس ترجمانًا في معنى أنه يكتفي بنصب المقابِلات المتوفرة لألفاظ ومعانٍ وتراكيب أجنبية تطلب الإذن بالدخول إلى ساحة لغتنا العميقة، لكن ما يحدث هو أن الناقل، أكان يريد ذلك أم لا، هو لا يضيف شيئًا إلى لغته. نعني بذلك أن النقل هو عمل محافظ، أما إذا قصد فعلًا أن «يعرِّب» المعاني الأجنبية أو أن «يؤسلمها» أو «يشيِّعها» …، فهذا لم يعد مترجمًا بل صار داعيةَ خَطابية، يئد النصوص بالنقل، ولا يترجمها. إذ ما الفائدة من نقل نصوص نحن نريد سلفًا وصراحة أن نثبت أنها لا تضيف شيئًا جوهريًّا إلى قيمنا العميقة أو إلى ثوابت الملة التي ننتمي إليها، نعني لا تساهم في شيء في زحزحة وضعية التفكير الحر في أفق أنفسنا العميقة؟
إن الترجمة عمل إبداعي أو لا تكون. وفي تقديرنا، ترجمة عمل فلسفي عظيم هو مثل كتابته لأول مرة. المترجم ليس ناقلًا، ونعني بذلك هو يريد قصدًا أن يمتحن أعماق لغته، كما يريد إجراء توسيع تأويلي لقدراته العميقة على الفهم. المترجم الجيد لا ينقل بضاعة لُغوية أجنبية للاستهلاك أو لطمأنة أولي الأمر بأن عمل الفكر ليس إساءة لسلطة أحد، أو لتملق الذات حتى تواصل سكينتها التاريخية في قمقم الملة التي ننتمي إليها، أو للدفاع عن ثوابتها العقدية بطريقة دعوية، بل المترجم الجيد يدفع تراثه اللُّغوي والاصطلاحي والصوفي والقرآني والفقهي إلى وظيفة جديدة: قول العصر ورفع التحدي الرُّوحي الذي رفعه الغرب في وجه بقية أعضاء الإنسانية بواسطة الإبداع العقلي الحر والكوني.
وأنا قد خبرت لغة القرآن ومعجم المعلقات ومصطلح الفقه ومطارح الصوفية وقلم الأدباء وغواية الشعراء ورواة العرب وقصصهم، فوجدت أن لغتنا، متى ما قورنت باللغات الغربية النافذة (من ألمانية وإنجليزية وفرنسية، إلى جانب اليونانية واللاتينية)، هي تبُذُّ عليها جميعًا، متانة ودقة وأمانة وأصالة وظُرفًا وتلطُّفًا. بهذا المعنى أنا لا أُومن بترجمة تبقى نقلًا، وأدعو إلى ترجمة تكون تأصيلًا عميقًا لإمكانات أنفسنا ووجوه كينونتنا في العالم، كما قالتها الإنسانية من خلال لغات أخرى.