غواية الشعراء أو في الفيلسوف المستحيل
أيها السائل الكريم، هناك دومًا بأسٌ ما من كونك شاعرًا أو مفكرًا، فمن يحمِّل نفسه القليلة هذا العناء الاستثنائي كي «يسكن الأرض شعرًا» كما قال هولدرلين ذات قصيد، أو أراد أن يكون عقلُه «عصرَه مدرَكًا في الفكر» كما أشار هيغل العجوز في آخر كتبه، هو بلا ريب يتعرض عمدًا إلى كل معاني البأس من خوف وحرج وضرر: خوف من مجرد الكينونة في العالم بلا عنوان، والحرج من نظرة الخالدين الذين انسحبوا من هذا العالم كي يتفرغوا ربما للسخرية من أي كائن زائل ما زال يطمع في التألُّه بوسائل بشرية، وضرر التفكير العميق، الذي ينتهي بالأرواح الحرة إلى الجلوس على ربوة الإنسانية من دون أية ضمانات عن المصير.
أما ما أريد من الشعر فهو التخفف الأقصى من كل أنواع الضجيج العمومي حول أنفسنا الجديدة. ليس كالقصيد فنًّا رائعًا للصمت. كل شعر حقيقي هو تدرب لانهائي على الصمت ما بعد البشري، لكن ما يحصل عليه الشعراء غالبًا هو بعض من سياسات السكوت فحسب؛ السكوت كحصاد سيئ لنفوس تأبى التحول إلى مجرد حراس للفراغ. وأما ما أريده من التفلسف فهو مساعدتنا قليلًا على تغيير قصة أنفسنا العميقة. نحن في قصة واحدة منذ وقت طويل، وآن الأوان كي نعترف أن الرُّكْح الذي نقف عليه لم يعد يحتملنا. لا يمكنني أن أستثني أحدًا من هذا الشعور بالملل من أنفسنا الحالية، لا الفرد ولا الدولة. بقي أن الإحراج الوحيد الذي يزعج الجميع — أعني جميع سكان أنفسنا الحالية، من ثلاثية الأب/الحاكم/الإله إلى كل الرهطيين الجدد الذين أخذوا يؤثثون مساحة ذواتنا من دون إذن من أحد — هو أن القصة الجديدة هي تبدو ليس فقط على غير مثال سبق، بل هي أصلًا بلا مؤلف، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنه يعرف حبكتها ولا نهايتها. إن المؤلف هو الطرف الوحيد الذي بقي خارج أنفسنا، نحن اليوم ذوات بلا مؤلف، وهذا ترف روحي غير مسبوق، حوَّل كل تدخلاتنا في العالم، أكانت باسم الدولة أو باسم الشخص العادي، أكانت باسم الله أو باسم الحزن اليومي؛ حوَّلها إلى نوع غريب من الشعر أو ما يشبه الشعر. لا يحتاج الكلام إلا إلى صمت مناسب كي يصبح شعرًا، والشعراء الحقيقيون هم، ربما، أولئك الذين لم يكتبوا قط، وعلى الأرجح يكون الشاعر العظيم قد مر بعد، حتى نكتشف أنه بيننا. لذلك ليس ثمة فاصل، كما قال دريدا، بين الفلسفة والأدب، بل فقط هناك تفكيك مناسب لحقيقتنا. أما عن مصطلح «الشعر الفلسفي» فهو مثل صيغته المقلوبة «الفلسفة الشعرية» تجنيس للأقوال في الوقت الضائع؛ لأن كل جنس من القول يكون دومًا قد قال نفسه، ولم يعد محتاجًا لأي سلطة مرجعية كي تصنفه. ذلك أن «النقد» (أي سلطة التجنيس) هو متأخر دومًا عن إبداعه. وحين يخاطب الكاتبَ أو يحاكمه تكون الأقلام قد استقالت من عناء الرُّوح، وسلَّمت المشعل لحدس آخر.
لا يموت الشعر ولا تموت الفلسفة إلا بالنسبة إلى عقول القبائل العاجزة عن تنفس هواء الأعالي التي أشار إليها زرادشت نيتشه: حيث يشعر الزمن نفسه أنه صار وحيدًا. لذلك لا يحتاج المتفلسف إلى «سؤال جديد» كي يتفلسف، وحسب هَيدغر، كل كائن يحتمل السؤال «من؟» هو بمثابة «مشروع» كينونة ملقًى به في العالم. كل مقطع من بشر هو مشروع جديد تمامًا في العالم. عليه فقط أن يقف على السؤال المناسب عن نفسه. ومع ذلك لا أحد يملك خطة مسبقة عما أو عمن سيكون. كذلك فعل الفلسفة: إنه استشراف للإمكانية الاستثنائية لأنفسنا ككائنات مدعوَّة، ليس إلى الاستقالة من أفق نفسها، وهو ما يقوم عليه كل دين دعوي، بل إلى الاضطلاع بمهمة الكينونة في العالم كمهمة شخصية بشكل جذري. وإذا كان هذا هو وضع جميع البشر، فإن الفيلسوف وحده هو الذي يتجرأ على المشي في هذه الطريق الوعرة نحو أعالي احتمال قدر الإنسانية من دون أي نزعة إنسانوية مريبة، نعني تمُنُّ على الناس مرتبتهم الإنسانية باسم هذا المبدأ أو ذاك.
لا يضيف الفلاسفة إلى عصرهم إلا ما يجدونه فيه. وما يبحثون عنه على الدوام هو تلك الطريقة التي تمكنهم من ترك عصر أو شكل من الحياة أو نوع من الانتماء؛ تركه يتكلم عن نفسه، وتركه يقول ذاته على طريقته. وليس هناك من ضرر في أن تقول ثقافةٌ ما أو أمة رأيَها العميق في نفسها. إذ كل ما سيُقال هو سيقال تحت سقف النوع البشري وفي حدود فكرة الإنسانية التي يستند إليها في تصوره لذاته العميقة.
وآن الأوان كي نقول إن الحديث عن «سؤال جديد» في الفلسفة أو عن «مشروع» جديد في التفكير هو لم يكن — حتى في أقوى لحظات صدقه ونزاهته — سوى مجرد استعارة، استعارة قوية لرسم طريقة مناسبة للدخول في العصر أو في الانتماء العميق لأنفسنا. لا أحد يفكر بعقل جديد. نحن نستخدم دومًا إمكانية من إمكانيات التفكير التي صارت متاحة نتيجة أنواع محددة من الشجاعة على استعمال عقولنا بشكل كوني. العلم مثلًا، والفن العظيم أو السياسة الكبرى أو الأديان الحرة … إلخ، هي أنواع من الشجاعة الكونية للنوع، وهي وحدها شروط إمكان المشاركة في تجديد تجارِب المعنى الممكنة لنا، على أرضية ثقافتنا العميقة.
تعَوَّد المتفلسفة، في كل العصور، أن يتحرجوا من لقب «الفيلسوف»، ومن ثمة هم يلجئون إلى أنحاء شتى من طلب العذر لأنفسهم. ولذلك لا تخلو أي فلسفة من سياسة اعتذار مكتومة عن عدم وجود الفيلسوف أو عن استحالته، أو على الأقل عن عدم ادعاء لقب الفيلسوف بدون حرج يُذكر. طبعًا ثمة طرق شتى للاعتذار عن حمل لقب «الفيلسوف»، وهذا ليس استثناء لأحد. حتى الفلاسفة من حجم سقراط أو كانط أو هَيدغر، اعتذروا عن كونهم إما «لا يعرفون شيئًا» أو «أننا لا نتعلم الفلسفة بل فقط كيف نتفلسف» أو أن المتفلسف «ليس فيلسوفًا، بل مفكرًا في الكينونة». وكثرة أخرى من العباقرة خُيِّروا أن يكونوا شخوصًا مفهومية من قبيل «زرادشت» نيتشه والذي ظهر له لدينا أحفاد من نوع «نبي» جبران أو «مرداد» نُعيمة، إلخ. ولكن أيضًا «الفيلسوف المقنَّع» (فوكو) و«المفكِّك» (دريدا) و«الكلبي» (سلوتردايك) و«المتهكم الديمقراطي» (رورتي) … إلخ. ليس للفيلسوف اسم واحد أو اسم مفضل واحد، بل هو يتسمى كما يُتاح له في زحمة السرد ما بعد الشخصي للمؤلف.
بهذا المعنى، لا يرهبني «لقب فيلسوف»، ففي بعض العصور كان الإنسان لا يرهبه أن يسمى «ربًّا» أو «إلهًا» أو «حكيمًا»؛ ولا يخجلني، فأنا لم أسمع أن «لقبًا» ما كان خطأ ضد أحد. وأما أنه «غير ملائم معرفيًّا حتى هذه اللحظة»، فإنه لا وجود للحظة تكون فيها معرفة أي شخص حول العلم أو حول ذاته كافية أو مناسبة كي يكون فيلسوفًا. وذلك فقط لأن الفلسفة ليست معرفة، بل هي حسب تمييز كانط، «تفكير» قبلي. ونحن لا نضيف شيئًا إلى عقولنا حين نفكر، بل نشرِّع لحريتنا بأقصى ما تستطيعه طبيعتنا كبشر. الفيلسوف هو من يحب كل إمكانية الحكمة المتاحة في طبيعة العقل البشري بما هو كذلك، وهو لا يدَّعي أكثر من ذلك، لكن ذلك ليس مهمة هينة أبدًا. كما أن «الحكمة» ليست معرفة، بل هي فن استعمال عقولنا بشكل كوني، نعني بدلًا عن النوع البشري برمَّته في لحظةٍ ما. ولأن الفلاسفة يختلفون في تقدير ذلك فلا أحد منهم يتسمى «فيلسوفًا» إلا تجوُّزًا. وبمعنًى ما كل تفكير فلسفي يستحق صلاحية كونية هو بنفس القدر مجرد تمرين على إعادة الإنسانية إلى عقلها. والفرد في هذا النوع من المهام التي لا ينتظرها أحد ولا تنفع أحدًا بعينه، هو بلا أهمية. نعم، الفلسفة لا تفيد أحدًا بعينه ولا ينتظرها أحد، ولذلك هي استثنائية بشكل فظيع.
وعلينا أن نقر بأن هناك من يمنُّ على المتفلسفة العرب لقب «الفلاسفة» والحال أنهم يمنحون صفة «الشاعر» أو «الكاتب» أو «الإمام» للمعاصرين من دون حرج يُذكر. وإذا كان المقياس هو استحالة وجود الأسلاف الكبار من جهابذة الفلسفة مرة أخرى، من وزن أفلاطون أو أرسطو أو كانط … إلخ، واستحالة ادعاء اللَّحاق بهم، فإن الأمر نفسه ينطبق على أسلاف أي صناعة أخرى، فمن هو المتنبئ اليوم أو الجاحظ اليوم أو علي بن أبي طالب اليوم …؟
وبعيدًا عن أي تهيُّب مصطنع من لقب الفيلسوف أو إكباره أو تقديسه، هذه أنحاء مختلفة من رغبة مريبة في «توثين» الفيلسوف وإخراج إمكانية ظهوره من أفقنا الأخلاقي، وكل توثين هو في سرِّه قتل رمزي للوثن. أو إخراجه من أفق البشر، ولو كان ذلك باسم قداسته أو جلالته.
علينا الإقرار أولًا أن الشعر هو دومًا شعر حقبة معينة من حقب الكينونة في أفق إنسانيةٍ ما. لا يظهر الشعراء سُدًى، بل هم سلفًا أبناء نمط روحي هو الذي هيكل رُوح اللغة، وهيأ لهم سياقًا مخصوصًا من سياسة الإيحاء وآداب القول وصلات مفضلة مع الأشياء التي تؤثث لحم العالم. وبمعنًى ما فإن كل قصائدنا تكون في كل مرة قد قيلت، ولم يبق للشعراء سوى أن يهتدوا إليها فقط. وهنا يكمن سر الأهمية القصوى لظهور الفلاسفة: إنهم بعبارة هَيدغر حراس اللغة، ومن ثم رعاة الكينونة في عصرٍ ما وفي أفق شعب من الشعوب الكبيرة، نعني تلك التي تمتلك قدرة توجيه العالم نحو أفق جديد للنوع البشري. «قيل كلام كثير وعميق حول عَلاقة الشعر بالفلسفة»، أجل، لكنه قد قيل دومًا وفي كل مرة في أفق معنًى ما للكينونة في العالم، إذا تغير، تحوَّل كل ما قيل إلى سياسة انتماء لا أكثر. ما لم يتم التطرق إليه إلى حد الآن هو ما لم يتم التفكير فيه بعد. وحسب عبارة هَيدغر الشيخ الرشيقة: «أكثر ما يدعو إلى التفكير هو كوننا لم نفكر بعد.» إنها سقراطية من نوع ما بعد ميتافيزيقي. وعلينا أن نكمل الخانة المريعة هنا: أكثر ما يدعو إلى كتابة الشعر هو أننا لم نكتبه بعد. وكل شاعر عظيم يشعر بذلك في أعماق أعماقه، ويكتمه، فقط، لأن كتمانه جزء لا يتجزأ من البوح به. ولذلك كل شعر عظيم هو سياسة صمت من نوع فظيع، صمت في انتظار الفلسفة المناسبة التي هي وحدها ما يطلقه كبلابل من عصر لم يحِن بعد.
الشعر أكثر تفلسفًا من الفلسفة نفسها. وهو «أكثر» في معنًى غير كمي إطلاقًا. وعلينا فقط أن ننزِّل كلام أرسطو في سياقه: هو يجعل من «الكلي» مقياس الحكم على هذه الأجناس من القول، وبالطبع فإن التاريخ، أي الخبر عن الأحداث، هو يقع دومًا في المفرد؛ كل تاريخ، من حيث هو تاريخ حدثي، هو تاريخ المفرد، وبعبارة الفلسفة هو تاريخ الجزئي. «ما وقع» هو دومًا ما وقع في تلك المرة، وليس في أي مرة أخرى. وإذا حسبنا أن الماضي هو الميدان المفضل للتاريخ، وأنه ليس هناك تاريخ للمستقبل إلا تجوُّزًا، فإن الشعر يبزُّ على التاريخ في جهات الكينونة أيضًا. حرج المؤرخ هو كونه يخاطب الأحياء، لكنه لا يتكلم أبدًا إلا عن الموتى. تاريخ الأحياء مشكل أكثر صعوبة مما يبدو. ولذلك يمتاز الشاعر بأنه ليس فقط يتحرك في ميدان الممكن، بل هو لا يتحرج أبدًا في طَرْق ميدان المستحيل وجرِّه إلى التحول إلى قصة، أي إلى تجرِبة معنًى كلية.
بقي أن نذكِّر بأن وضع هذا الإشكال لم يبق حيث تركه أرسطو، فهيغل قد بين أن التاريخ هو أيضًا تاريخ كلي، وهذا يعني أن المفرد فيه ليس سوى نمط من «مكر العقل» الذي يتخفى في الجزئيات، أي في نوع من سياسة الانفعال، حتى يهيئ لروح العالم الطريقة المناسبة كي يتكلم.
حسب قراءة هَيدغر لهولدرلين، الشاعر لا «يفكر» في الكينونة، بل يشير فقط إلى ميدان «المقدس» إشارة من نوع خاص، حيث تصبح الصلة بالكينونة ممكنة. ليس على الشاعر أن يضطلع بالسؤال عن معنى الكينونة في حقبة ما، بل عليه أن يحرس لغة الكينونة أو اللغة التي تجعل اللقاء مع السؤال عن الكينونة ممكنًا. ولذلك ليس على الفلاسفة أن يتعلموا من الشعراء، بل فقط أن يخوضوا معهم محاورة عميقة حول طريق المقدس في حضارة ما. وحده الشاعر يمكنه أن يتوغل في تلك الأقاصي من رُوح شعب ما، حيث يمكن أن ندخل في مقام قولٍ ما حول معنى الكينونة. وعلى خلاف ما ننتظر، فميدان المقدس ليس ميدان الآلهة، بل هو الفضاء الذي يجعل ظهورهم في أفق البشر ممكنًا. المقدس هو ما يجعل فكرة الإله ممكنة. ولذلك فدور الشعراء العمالقة دور حاسم في الإعداد لظهور الآلهة، لكن دور الشعراء ليس دينيًّا أبدًا، وكذا دور الفلاسفة، إنهم يقفون حيث لا يستطيع أي عالم لاهوت أن يرنو ببصره.
هذا قول يحتاج إلى بعض التحقيق. لا أفلاطون ولا نيتشه يمكنهما أن يحتقرا الشعر، بل فقط هما يخافان من حضور الشعر حيث لا ينبغي له. الشعر لا يقول ما يكون، بل ما لا يكون، وله تبريره الخاص لذلك. وأفلاطون نفسه بدأ شاعرًا، وكذا حال نيتشه، وهَيدغر أيضًا. في البدء كان الشعر، أو هكذا قال الرومانسيون. وربما لأنه يكون قد شرَّع لعَلاقة البشر بما يتجاوز أفقهم، وذلك قبل أن يدخل الفلاسفة أو الساسة على الخط. ثمة تأخُّر رائع في كل فلسفة وكل سياسة كبرى، تأخُّر عن ماهية الشعر، ولذلك فإن الأقرب هنا سيستحيل إلى الأبعد. وهذا قدَر الشعراء، هم السكان الأصليون للعالم، وتراهم يُطردون من مدينة الفيلسوف (أفلاطون) ومن ملة النبي (سورة الشعراء) ومن صحبة المفكر الحر (نيتشه). هل من الصدفة أن هذا قدَرُ الشعراء في ثلاث ثقافات أو عصور مختلفة ومتباعدة؟ لكن هذا ليس دليلًا ضد الشعر ولا سببًا وجوديًّا كونيًّا لاحتقارهم، ولذلك فإن ما سنَّه أفلاطون وقال به نيتشه ليس احتقار الشعراء، بل ضرورة ضبط سياسة كبرى للحقيقة يكون من شأنها أن تحدَّ من خطر الشعر على إمكانية الحقيقة في أفق إنسانية ما. وكان نيتشه يعترف متألمًا على لسان زرادشت: «والحق إني لأخجل من أنه ما زال ينبغي عليَّ أن أكون شاعرًا.» الشعر هو القدر العميق لكل فلسفة ترنو بوجهها نحو التعالي الأكبر للغة البشر: معنى الكينونة.
ولذلك لا عَلاقة للشعر والشعراء بالعوام ولا بسياسة العوام. خطر الشعر لا يتأتى من أنه يؤثر في رأي العوام في أنفسهم أو في الكينونة، بل في أنه يهدد صرح الحقيقة الذي يبنيه الفيلسوف أو النبي أو الفكر الحر، وليس أقل من ذلك. إن كلام هوميروس عن آلهة اليونان هو خطر على مدينة يحكمها الفلاسفة، كما تَصوَّرهم سقراط/أفلاطون: فلاسفة الفضيلة التي تحب الحكمة أكثر من الحياة. والشعراء خطر على صحبة العقول الحرة؛ لأن الفنانين، عامة، لا يملكون ما يكفي من «إرادة الاقتدار» للطموح فعلًا للذَّهاب الجَسور إلى «ما بعد» الإنسان. وربما نحتاج هنا لأن نقرأ بعض جمل نيتشه عن «وهن» الفنانين:
لا يملك الفنان حدسًا على القيمة الإبداعية لأثره الفني ولا هو يسيطر عقلًا على كل إمكانية الحقيقة التي تثيرها أعماله. ربما هو يصاحب إبداعه دون أن يملك آفاقه أو أعماقه. لكن ذلك لا يخوِّل لأحد، ولو كان أفلاطون أو نيتشه، أن يسخر من تجرِبة المعنى التي تتمخض عن إبداعه، فذلك مِلك الإنسانية، وليس هذا الناقد «العامي» أو ذاك.
هذا سؤال عاش أكثر من اللازم، وتقدم به العمر عن انتصاراته، كما يقال. ونبرة التشكيك الساذج أحيانًا التي تتصادى في بعض أنحائه، هي قد باتت عارًا منهجيًّا على ثقافتنا المعاصرة. نعم، هناك «فكر عربي معاصر»، بل أكثر من ذلك هناك مبدعون من طراز رفيع، وعيبهم الوحيد هو أننا لم نتفطن لهم إلى حد الآن من الجهة المناسبة، نعني من جهة دورهم الكوني في تجريب ذواتنا الجديدة بعيدًا عن مقابر الماضي. طبعًا، ثمة من اعتاد المقابر وحوَّل الجلوس حولها إلى فضيلة إبداعية راقية. و«التراثيون» في كل ميادين أنفسنا المعاصرة هم زبانية التكفير الصامت للفكر الحر وللإبداع الذي يجرِّب قبل أن يستأذن. وهذا الأمر ليس طارئًا، لقد كان ثمة دومًا رهط غير مرتاح لأي ولادة كونية جديدة في أفق أنفسنا. وهذا ليس منحصرًا في الفلسفة بل يتعدى ذلك إلى أي ميدان آخر. من تكذيب النبي إلى سجن المتنبي، ومن جلد بشار إلى صلب الحلاج، ومن تسميم ابن باجة إلى نفي ابن رشد … إلخ، كان ثمة دومًا مشككون في كوننا قادرين على أن نذهب أبعد من الأنفس «العادية» القائمة في أفقنا، نعني النفوس السائدة من «عهد عاد» في دمنا، الذي يصرخ في كل عصر في وجه جدران الانتماء الذي تكلَّس وتجمدت فيه كل أنواع التأله المتاحة للبشر.
وما نطلق عليه اسم «الفكر العربي المعاصر» (ويبدو أنه اسم يزعج البعض) هو بلا منازع أفضل فكرة رُوحية ظهرت في أفق العرب المعاصرين. إن أسماء الكواكبي وأنطون وجبران ونُعيمة وعبد الرازق والشابي والسيَّاب وطه حسين والحكيم ودرويش، وغيرهم كثير إلى اليوم … إلخ؛ هي زهور الشر الرائعة التي تحملت بدلًا عن كل المعاصرين آلام المخاض الجديد لأنفسنا، فحوكم بعضهم وتغرب البعض الآخر، ومات الآخرون في إهمال ميتافيزيقي مريب.
هنا نجد أنفسنا أمام مشكل طريف في تاريخ ذواتنا: ليست الذات غير «عصرها مدرَكًا في الفكر». بعد هيغل، صار هذا المعطى الأخلاقي مقامًا تاريخيًّا لجميع الشعوب. إنك لن تتعرف على ذاتك الجديدة في أي عصر أو في أي أفق تريد، بل في أفق عصرك. نحن دومًا «حالة متخيَّلة» في ذهن عصر معين. لكن مصدر القلق هنا هو بالطبع إطلاق صفة «الغربية» على العصر. وفجأة ينقلب كل انتماء جديد لأنفسنا إلى مسار «تغريب» مزعج. إن ما نسميه «النظرة الغربية لشعوب العالم» ليس معطًى متجانسًا ولا هو قدَر قاهر. بل نحن من طرفنا جزء من هذه النظرة حين نكرسها في تصور أنفسنا أو في محاسبتها. أخطر جزء في سردية الغرب عن الشعوب غير الغربية يكمن في أن هذه الشعوب نفسها قد استبطنت هذه النظرة وحولتها إلى مقياس ذاتي لنفسها. نحن «غربيون» لأن الغرب يزعم اليوم أنه المرآة الوحيدة المصقولة عن الإنسانية الحاليَّة. ولأن الغرب ما زال ينجح في إقناعنا بذلك، فهو غير ملوم البتة في تشبُّهنا به، حتى في أقصى لحظات التمرد الرُّوحي على سطوته الميتافيزيقية. كل «نقاد الحداثة» لدينا هم أساتذة في صناعات نظرية غربية، وهم أقرب إلى ذهنية الغرب وأكثر تورطًا في رِهانات الثقافات الغربية، مما يعتقدون عن أنفسهم، بل إن بعضهم — نعني أشرسهم في نقد الغرب والمطالبة بالاستقلال الرُّوحي عنه — هو لا يفعل غير تَكرار خطط العقل الغربي في نقد ذاته وتفكيك إرادة المعرفة التي قام عليها منذ اليونان، ونعني بذلك، على سبيل المثال، أن «العلوم العربية» التي طورها العرب القدامى (المسلمون) هي في نَموذجها النظري يونانية تمامًا، ونعني أنها خاضعة لنفس إرادة المعرفة التي حكمت تاريخ الميتافيزيقا منذ أفلاطون. وهذا يعني أن التعويل على نظام الخطاب الذي قامت عليه العلوم العربية أو الإسلامية الكلاسيكية (من نحو وفقه وكلام وتصوف … إلخ) لنقد الغرب الحديث، وكأنه مفكوك الارتباط عن العقل «الغربي»، هو موقف ساذج ومدعاة لمساءلة كبيرة.
نحن جزء لا يتجزأ من «الإنسانية الغربية» التي وصفها هوسرل في نصوصه الأخيرة، مدَّعيًا أنها احتكار ميتافيزيقي «أوروبي»، وهو ما لم يوافقه فيه فلاسفة أوروبيون من حجم ريكور أو هابرماس. صحيح أن الغرب هو من طوَّر منذ اليونان فكرة «الكلي» باعتباره شرط إمكان «الكونية»، لكن الكوني ليس غربيًّا بالضرورة؛ ذلك أن الصفة الكلية لا تصلح إلا للحقائق في العلوم، ومن ثَم ليس الكلي غير حالة خاصة أو نوع فقط من حالات أو أنواع «الكوني» الذي يتبلور على أنحاء متعددة وفي شتى تجارِب المعنى التي خاضتها الإنسانية الحالية.
نحن اليوم في حرب ضد مكاسبنا الوجودية والرُّوحية الحديثة، وهي «حرب أهلية» كانت متوقعة منذ جيل على الأقل؛ لأن أجهزة التشريع التقليدية ما زالت تعمل وَفقًا لبرنامج أخلاقي غير حديث تمامًا. ولا يعني ذلك أن البرنامج هو ديني أو أصيل أو تراثي صادق، بل هو استعمال سيئ لأجهزة رُوحية وكَميات عنف رهيبة يمتلكها كل شعب، فما بالك بمجموعة واسعة من الشعوب المترابطة ميتافيزيقيًّا. والحل ليس تجريد الشعب من عنفه، بل تمرينه على الانخراط في دولة مدنية قادرة على منافسة الغرب، ليس في الخروج من التاريخ، بل في تملُّك ناصية الإنسانية نفسها.
مصادرة العقل «العربي» صناعة ثقيلة لها أربابها، لكن هذا الأمر ليس جديدًا في أفقنا. علينا فقط أن نكف عن سوء الظن بهذا العقل، فهو ليس «عربيًّا» إلا تجوُّزًا. لا يوجد عقل قومي لأي شعب، بل فقط طاقات متجددة على التفكير، وعلى إعادة إنتاج تجارِب المعنى التي تؤمِّن أنماطًا معينة من «التهوِّي» أو الاستمرار في الهُوية. لكن التفكير ليس شخصيًّا بالضرورة، فمن يكتب اليوم قصيدة بالعربية هو لا يكتب لنا بالضرورة. ونحن عادة ما نمن على الناس «عربية» ما يكتبون. لكن العربية هي لغة عابرة للأجيال وللشعوب وللثقافات. ومن ثَم فإن العقل ليس مِلكًا لأحد، وبالتحديد لا يوجد عقل يمكن إتلافه. بقي أن «الاستهلاك» هو سلوك اقتصادي ضروري لدورة الثروة، والعقل ثروة رُوحية ومادية معًا. وأما «ثقافة الخوف والإرهاب» فهي جزء من هُويتنا ومن تاريخنا، ومن ثم فإنه لا يجوز لأي سلطة أخلاقية أن تحاكمنا من هذه الناحية. كل الثقافات طورت تقاليد في الخوف، وفي «الإرهاب»، ومن الصدفة فقط أننا وجدنا أنفسنا معاصرين لجيل من العدميين والقتلة، الذين يستعملون الجزء الأخطر والأكثر فظاعة من تراث أنفسنا العميقة: جهاز الشريعة كجهاز حرب أو كتقنية قتل. ولكن علينا الحذر من أن كل الأجهزة الرمزية للإنسانية الحالية يمكن بكل يسر تحويلها إلى أدوات وبرامج قتل نسقي، وهذا ما وقع مع الثورة الميتافيزيقية (ديكارت، كانط، هيغل) والسياسية (هوبز، لوك، روسو) والعلمية التقنية (غاليلي، نيوتن، لافوازييه)، إذْ تم تحويلها سريعًا في أفق الغرب إلى أكبر برنامج استعماري قاتل في تاريخ الإنسانية، وكل ما وقع للشعوب التي ننتمي إليها، هو مجرد نتيجة تاريخية لذلك البرنامج. ولذلك فإن تجارِب التفكير ومعارك التحرير الجارية الآن هي مرتبطة أشد الارتباط بتاريخ الحداثة الغربية، وليس موقفًا خارجيًّا منها، كما يتوهم «الإسلامويون» عندنا مثلًا، فهم أكبر نتيجة مباشرة لأزمة التحديث لدينا.
هذا التوصيف هو نفسه ينتمي إلى حقبة فكرية ومنهجية ولَّت. ومن ينقد «الأنتلجنسيا العربية» هو يتحدث عن جيل آخر، وفي الحقيقة هو يحاسبها من جانب استحقاقات حقبة أخرى، حيث كانت «المواقف والخيارات والرؤى الأيديولوجية» ذات دور حاسم، وبالتالي هذا النحو من التوصيف أو النقد لم يستوعب بعدُ جسامة ما وقع مع الانكسار الكبير الذي أصاب مستقبل مشروع الدولة/الأمة بعد العولمة. كل من يقيِّم «السياسة والثقافة» من وجهة نظر الاستحقاقات الأيديولوجية الجاهزة للجيل السابق (من يسارية وقومية وإسلامية) هو يحكم عليها سلفًا بمعايير وقيم فكرية بطلت وصارت بلا أي صلاحية أخلاقية أو منهجية. ولذلك بدلًا من السقوط في نقدانية سيئة وبلا أفق، علينا أن نوجه بصرنا إلى ما وقع وأن نتساءل كما فعلت حنَّا أرندت في مطلع كتابها عن «أصول الكُلِّيَّانية» في أواخر الأربعينيات: ماذا وقع؟ وكيف لنا أن نفهم ما وقع؟ وما وقع لا عَلاقة له بانتظارات الجيل السابق من الجيل الحالي الذي لم تتضح معالمه الفكرية بعد. نحن بإزاء نوع جديد من المهام الفكرية التي لم تعد فيها للمواقف الأيديولوجية أي دور حاسم. إن الصراع اليوم يدور حول فكرة وجودنا المعاصر نفسه. وهو مشكلٌ ما كان ليُطرح لولا صيرورة العولمة التي جاءت لترسم حدود الدولة/الأمة وتكشف عن هشاشتها المدنية والتاريخية في بلداننا. ولذلك فإن علينا الفصل هنا بين مصير السياسة ومصير الثقافة: ففي حين لم يعد أمام السياسيين هامش كبير للمناورة الأيديولوجية (فهم في ملاعب حزبية غير صالحة لتدبير الدول)، نحن نقدِّر أن «المثقفين» مدعوُّون إلى بذل جهد من نوع جديد وجد خطير؛ وهنا أتحدث عن مثقفٍ ما بعد أيديولوجي، وبالتالي «ما بعد هُووي». وإن ثقافة شُفيت من الهواجس الأيديولوجية والهُووية للدولة/الأمة هي ثقافة أخطر من أن تكون مجرد «حالة مهينة للمعاش». حتى ولو كان الحاكم في أي بلد ما زال يعوِّل على تحويل المثقفين إلى موظفين نسقيين لسُدَّة السلطة.
لا يمكن للإسلام السياسي أن يأخذ مكان الدولة الحديثة؛ وذلك لسبب تاريخي راسخ هو أن الحركات «الإسلاموية» (وليس الإسلامية إلا على سبيل الادعاء) هي في عمقها ظواهر «حديثة»: نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لأزمة التحديث في البلاد غير الغربية، ورد فعل على فشل الدولة/الأمة في امتحانَي التنمية الشاملة والديمقراطية التشاركية. ليس «الإسلاميون» في السياسة غير فصيل من فصائل المجتمع المدني الغاضب، وهم جزء من النسيج السياسي للمجتمع العربي الحديث الذي شكلته الدولة/الأمة وحولته إلى أداة تاريخية لبسط سلطتها. أما «الإسلاميون» فهم عدميون، لأنهم لا يرون من تصالح ممكن مع نموذج الدولة المدنية الحديثة، وبالتالي فإن مشروعهم يقوم على إلغاء كل المكاسب الوجودية والأخلاقية والقانونية للفرد الحديث وإعادة هذا «المواطن» (الناقص المواطنة) إلى مجرد «رعية» (كاملة الرعوية)، وهذا موقف أصيل لديهم، ولا يمكن لأية تقية أن تحجبه.
بقي أنه لا بد من التمييز بين ما وقع في مصر وما وقع في تونس. كما أنه ليس من الضروري أن نخلط بين «الإسلاميين» وبين «الإخوانيين». وإن كان ذلك لا يغير في شيء أن الإسلاميين اليوم غير جاهزين لتحمل كل تبعات الحكم الحديث بواسطة دولة حديثة، أي غير جاهزين لحكم «مواطنين»، وغير جاهزين لتحمل احتجاجات «مجتمع مدني»، وليس «جماعة» من الإخوان تقابلها جموع من «غير» الإخوان. بين المؤمن والمواطن هناك هوة وجودية عميقة صارت مترجمة اليوم في أجهزة مدنية وقانونية وأخلاقية لا يحق لأحد ولا يمكن لأحد القفز عليها.
طبعًا لا. فالإسلام ليس مضمونًا دعويًّا جاهزًا ومحصورًا يمكن سرقته أو إبطال مفعوله. إن الإسلام وعد مدني وأخلاقي عالمي يمكن تشكيله بناء على اجتهادات ثرية لا يُحصى عدد مصادرها، تمتد في تاريخ المسلمين من نزول القرآن إلى اليوم. ومن يظن أنه يمكنه أو يجوز له أن يحتكر الأفق الأخلاقي أو الإيماني للإسلام هو واهم أو ماكر. نعم، هناك أنواع قاتلة من الهُوية ومن الانتماء، وينبغي تطوير العلاجات المناسبة لذلك، لكن الاستئصال — وقد جُرِّب ذلك — ليس هو بالحل المناسب، بل علينا أن نجرب الإسلام نفسه — «الإسلام التسامحي المدني» — باعتباره هو الشفاء العميق لهذا الجيل الجديد من «الصبية» الهُوويين، «المتأسلمين» على حرف. لكن مع ذلك لا ينبغي أن يكون هذا الإسلام التسامحي إسلامًا ضعيفًا أو مترددًا أو مجرد لياقة تجاه جيل من التكفيريين المراهقين، بل لا بد أن يكون إسلامًا شجاعًا، حديثًا، مدنيًّا وعقلانيًّا، وبالتالي قادرًا هو بدوره على استعمال آلة العقل الشرعي التي طورتها الثقافة الإسلامية الفقهية استعمالًا صارمًا. بكلمة واحدة لا يمكن مقاومة ثقافة التكفير بدون قدرة الدولة نفسها على تكفير التكفير، نعني على محاسبة المتأسلمين المزيفين بمقتضى العقل الفقهي الإسلامي نفسه، وهذا مجال واسع النطاق وثري، ولم يُجرَّب بشكل حاسم إلى حد الآن. فالمتأسلمون الذين حولوا التشدد الديني إلى استبداد شرعي كأنما هو ماهية الإسلام، هم ليسوا من الإسلام التاريخي في شيء، بل هم في أفضل الأحوال مجتهدون سيئون ومجتهدون معاصرون و«غربيون»، ولا يليق أبدًا بنا (كمبدعين محدثين في شتى المجالات، وبوصفنا وُرَثاء «شرعيين» لتراثنا العميق) أن نترك لهم ذاكرتنا العميقة وكل مصادر أنفسنا القديمة كي يعبثوا بها أو يستعملوها ضد الجيل الحالي، باسم انتماء كاذب وأصالة مزيفة. وأكبر دليل على ذلك أنهم لم يستعملوا إلى حد الآن من مصادر أنفسنا العميقة غير مدونات الأحكام وأجهزة الفتاوي وسِيَر القتل، التي مات أهلها واندثر العالم المعيش الذي كانت تخاطبه. أما أروع ما قالته لغة الضاد لفظًا وشعرًا ووحيًا وسيرةً وأدبًا وكلامًا ونحوًا وتصوفًا ومنطقًا وفلسفةً وعلومًا، فهو غير مرغوب فيه ولا مرحَّب به، كأنه حداثة ملعونة قبل الأوان.
بقي أنهم لم يتدفقوا من «ليل التاريخ وليل الأيديولوجيا»، بل هم أبناؤنا الأقربون إلينا من ناحية الحداثة ومن ناحية النسب الأخلاقي العميق، إذ علينا الإقرار بأن ثقافتنا الإسلامية تنطوي من نفسها على كل إمكانات الاستعمال العمومي للدين، بما في ذلك جهاز القتل، والمشكل ليس في أن ديننا «إرهابي» أم لا (بالمقارنة مع المسيحية أو البوذية مثلًا) بل في طريقة حماية إمكانية العنف التي تتوفر عليها كل ثقافة. وكان فرويد قد بين الأصل القمعي للحضارة الإنسانية ورسوخ هذه الغريزة في تاريخ البشر. وبكلمة واحدة: المشكل هو — وكان دومًا — مشكل الدولة وطبيعة الدولة التي ستتكفل بالاستعمال الشرعي للعنف داخل محيط شعب ما. ولم يستولِ «الإسلاميون» على الدولة، بل على كَمية العنف الثاوية في ثقافتنا العميقة.
ليس من الضروري أن تحلم الشعوب بمستقبلها بنفس الطريقة في كل مرة، فمن حق كل جيل أن يمتحن قدرته على الانتماء الصحيح بالشكل الذي يناسبه. أجل، كان «مشروع الثقافة القومية العربية» في يومٍ ما مناسبًا، أي قادرًا على منحنا وعودًا «مدنية جامعة» تستحق النضال من أجلها، لكن الشعوب من حقها أن تغير ما بنفسها متى أرادت ذلك، وعندئذٍ لن يكون «المشروع الثقافي المناسب» غير ذاك الذي اختارته الشعوب على طريقتها، وبقي على المبدعين (وليس على «المثقفين»، فهذا نفسه مصطلح من مصطلحات ثقافة الدولة/الأمة) أن يترجموا ذاك المشروع في شكل آثار عظيمة، نعني في مستوى فكرة المستقبل التي أخذت في التبلور.
وعلينا أن نقر لأول مرة، بأن المستقبل (بعد العولمة) لم يعد وصفة هُووية أو أيديولوجية يمكن لهذا المثقف أو ذاك أن يفرضها أو يدافع عنها. إن المشروع الثقافي المناسب اليوم هو ترك الثقافة لحالها، وعدم إملاء أي سياسة ثقافية على الشعوب أو على المبدعين. إن شعوبنا قد صارت توجد اليوم «بعد» مثقفيها السابقين، نعني هي صارت تعاملهم وكأنهم جزء من ماضيها، وليس من مستقبلها. ووزارات الثقافة اليوم، في دول ما بعد الثورة خاصة، هي وزارات بلا مشروع ثقافي، بل هي مجرد وكالات سياحة رديئة، لأنها تريد أن تبيع للأجنبي ما لم يعد مناسبًا حتى للمحليين: تقاليد الانتماء التي لم تعد ينتمي إليها أحد من أبنائها.
بذلك علينا أن نبحث عن الثقافة بعيدًا عن الدول الهُووية، وأقرب ما يكون من الشعوب. لقد تجزأ المستقبل في أفقنا، وبالتالي، ينبغي على الثقافة أيضًا أن تتنوع بالقدر الذي يجعلها ورشة إبداعية، لا يدري أحد علامَ ستتمخض. لكن ذلك ليس سببًا كي تكون ضد الدولة أو معها؛ عليها فقط أن تصاحب شعوبها، ولا سيما حين تنجح في إرساء دولة الحرية التي برئت من أمراض الهُوية القاتلة أو المهترئة أو المجروحة. ومن قال إن صحبة الشعوب العظيمة في اختراع المستقبل ليس إبداعًا؟