الفلسفة والحدث
الثورة «حدث» فلسفي بالمعنى العميق للكلمة: إنها تجمع بين أن تفاجئنا لأنها ليست وتيرة عادية في سرعة تاريخنا، ولكنها في المقابل «واقع» لم يعد يمكن إنكاره أو التصرف إزاءه وكأنه لم يحدث. في المعنى الأول، الثورة نوع من استعمال «العدم» أو «اللاوجود» من أجل خلق وضع جديد للأشياء، لكنها في الحالية الثانية تفرض علينا أفقًا جديدًا لأنفسنا لم يعد يمكن إنكار وجوده. أجل تعبر الثورة عن «يقظة وعيٍ» ما لدى الجيل الراهن من الشباب. و«تحقيق الوجود الإنساني الحر في العالم العربي» هو نمط انتظار خاص بفئة محددة جدًّا: هم أولئك الذين لم يملكوا بعدُ مكانًا يخصهم داخل هذا «العالم». لكن الثورة ليست نتاج «الوعي» مهما كان نبيلًا أو حادًّا. إنها أيضًا، وخاصةً، انكسار في أرضية الوعي التي نقف عليها. نحن سطح ذاتي للثورة، أما هي فهي العمق الموضوعي لجيلنا. ولا أحد بإمكانه أن يحصر حدث الثورة في وعي نخبة أو فئة أو طائفة أو طبقة معينة، بل علينا أن نحاول استشراف «الحدث في جملته»، نعني كنمط كينونة من نوع جديد هو قصد الفلسفة الأكبر: ما معنى أن نكون في أفق الثورة؟ وليس: هل نحن الوعي الذي خلقها أم لا؟
أجل، من دون شك؛ ذلك بأن الفلسفة، حتى حيث لا تُدرَّس، هي تصل إلى الناس بأشكال شتى، وخاصة بسبب كونها ترسم خارطة رُوحية وذهنية للعقول العالمة أكثر من كونها تعلِّمهم هذا المذهب أو ذاك. الفلسفة هي دومًا حس كوني استثنائي بعقولنا وبقدرة نفوسنا على الحرية. ويبدو أن الغرب انتصر على جميع أعضاء الإنسانية الحالية بواسطة «الحداثة» وليس بالتكنولوجيا الحربية. نعني بواسطة الفلسفة الحديثة: فلسفة الأنا أفكر بنفسي وفلسفة الفرد المتملك لحقوقه وفلسفة المواطن المشارك في حكم بلده والمتأول لمعنى وجوده الشخصي … إلخ. وكل ما وقع في أفق الفكر العربي المعاصر منذ قرن على الأقل كان من أصول فلسفية حديثة، حتى قبل أن يبدأ العرب المعاصرون في تدريس الفلسفة. إن «الحَراك العربي» الذي أدى إلى الثورات هو حَراك حداثوي، حتى حين يزعم أنه «إسلاموي»، فالحركات الإسلاموية (وليست «الإسلامية» إلا تسمية أو تجوُّزًا فقط) هي حركات «حديثة»، حتى ولو لم تكن في وعيها الخاص «تحديثية».
إن «ما بعد الجابري والعروي وحنفي وأركون وتيزيني …» له معنًى كبير واحد: أننا صرنا لأول مرة بلا «قراء تراث». علينا أن نتفلسف منذ الآن بشكل معاصر. ما يدعونا إلى التفكير هو نمط كينونتنا في العالم، وليس عبء الانتماء إلى مصادر أنفسنا. والثورة يمكن أن تكون أكبر بشارة فلسفية وصلت إلى العرب المعاصرين منذ مدة طويلة: إنها بشارة «الإنسان». لم يعد يدعو إلى التفكير سوى ما «يحدث» لنا في أفق أنفسنا الجديدة بعد الثورة. نحن صرنا لأول مرة «حدث» أنفسنا، لا غير. طبعًا، هذه البشارة لم تصل إلى كل المتفلسفة، وسوف يواصل فقهاء جدد إقناعنا بأن ما حدث «لم» يحدث، وأن الثورة كذبة دعائية لأعداء «الأمة»، أو أن الثورة هي «رسالة» علماء الأمة الجدد، أو هي «هبة» الله للمؤمنين الذين أوشكوا على اليأس من رحمته … إلخ. لكن الفلسفة هي التي تحررت من أفق التراث، بكل مكوناته العميقة. وربما تكون الثورة هي التي ستحرر العقل الفلسفي أكثر مما ستتحرر «الشعوب» أو «المجتمعات» أو «الدول» التي ما زلنا ننتمي أو نظن أننا ننتمي إليها.
على الرغم من أن العرب المعاصرين قد أنتجوا مؤلفات عديدة جدًّا حول «الثورة العربية» و«حروب التحرير» و«معارك الاستقلال» … إلخ، فنحن في الحقيقة نشهد أول استعمال فلسفي بحت للثورة باعتبارها «مفهومًا». الجديد أن العصر الدكتاتوري قد انتهى أخلاقيًّا، وأن الاستعمال «الأيديولوجي» أو «الهُووي» لمصطلح الثورة لم يعد ممكنًا إلا عنادًا دعائيًّا فقط. وإن مصطلحات «الكرامة» و«المشاركة السياسية» و«حرية التعبير» و«الديمقراطية» و«الانتقال الديمقراطي» و«العدالة الانتقالية» و«المواطنة» … إلخ، هي مفاهيم جديدة بالفعل، رغم أنها كانت متواترة. وجِدَّتها تكمن في كونها قد صارت اليوم جزءًا «ترنسندنتاليًّا» أو «قبْليًّا» من عقولنا، وليس مجرد معجم خشبي على مِلكية الدولة الهُووية. لم يعد ممكنًا التفكير بشكل أيديولوجي، وهذا يعني أن مجموعة فظيعة من المفاهيم من قبيل الدولة-الأمة والدولة القومية والوطن والانتماء والقضية والزعامة … إلخ، لم يعد لها أي فعالية نظرية. في المقابل هناك مفهومات جديدة من نوع «المواطنة» و«المشاركة» و«الاختيار» و«التمثيل» و«الحقوق» و«الاعتصام» و«التعبير» و«استحقاقات الثورة» و«الكرامة» والحريات الفردية والحياة الخاصة والطابع الشخصي … إلخ. لكن هذا الأمر هو وضع اصطلاحي مؤقت ولا يبعد أن تنبثق مفاهيم جديدة فعلًا، شكلًا ومضمونًا، في السنوات القليلة القادمة.
لا يمكن لهذا الحَراك إلا أن يؤدي إلى بعث «حياة فلسفية جديدة»، وذلك لن يتم بالانتقال من «إبداع المفاهيم» إلى شيء آخر، فنحن لم نشهد إبداعًا حقيقيًّا للمفاهيم إلا نادرًا. كل قراء التراث لم يبدعوا مفاهيم وإنما هواجس خطابية جديدة، والأمل الآن هو البدء بالفعل في إبداع أسئلة جديدة تؤدي إلى إبداع مفاهيم جديدة، وعندئذٍ فقط يحق لنا الطموح إلى «ابتكار كيفية جديدة لفن الحياة». وإذا كان من أثر كبير لحدث الثورة فهو تمكين المتفلسفة من التحرر من كل تبعات العَلاقة التراثية بالعقل، وذلك أن الثورة هي أول مفهوم عن فلسفة لا نراها لكنها قادمة في معجمها الخاص. و«الإبداع» ليس في تكلم ألفاظ منحوتة كما دأب البعض في مخالفة الناس في الكلام والتسميات، كأن ذلك هو شرط التفلسف الحاسم، بل في العودة إلى لغتنا في أعماقها الخاصة، حيث تكون قد سبقتنا إلى الأشياء ذاتها، وابتكار كيفية جديدة لفن الحياة يستوجب قبلُ أحياءً من نوع جديد، وليس مجرد «فلاسفة» بلا حياة، كما رأينا ذلك في فترة قراء التراث. كانت قراءات التراث نوعًا من تملق الذات التراثية أكثر منها تحريرًا عنيفًا لها من سُباتها الطويل. والثورة، بهذا المعنى، هي التي فعلت بشكل «لا-فلسفي» ما عجز عنه جميع المتفلسفة إلى حد الآن.