الذات بلا هُوية
• ما معنى أن تكون فيلسوفًا «لاهُوويًّا»، أو بالأحرى أن تكون فيلسوفًا «ما بعد هُووي» يطمح إلى التفكير في ذات بلا هُوية؟
نعم هذا سؤال مركب وطريف، ولكن قبل ذلك أشكرك على هذه الهمة النبيلة لاستدعاء الذين تفلسفوا أو تجشموا مثل هذه الصعاب الكبيرة، أي استعمال عقولنا الآن بشكل فلسفي، في وقت يشعر كلٌّ منا أن التفكير أو أفق التفكير، أو أمل التفكير، أصبح منحصرًا نتيجة تعويل الشعوب على طرق أخرى لإثبات ذاتها، لكن على عكس ما يظنه الرائي في هذه الأمور، وقت الفلسفة الآن مناسب تمامًا ومناسب جدًّا أيضًا؛ مناسب تمامًا لأن الفيلسوف لا ينبغي أن ننتظره في جهة تعويض أي نوع من الأبطال الرُّوحيين التقليديين، علماء الملة الأنبياء الساسة الكبار … إلخ، الفيلسوف يعوض نفسه فقط، ومكان الفيلسوف هو أن يمتحن إمكانية العقل في ثقافة ما، هذا النوع من الامتحان المخصوص والنادر هو الذي يؤهل ثقافةً ما للدخول في نادي الإنسانية، وإذا أصبحنا نملك هذا الحق في الانتماء إلى نادي الإنسانية دون أي خجل يُذكر، يمكن عندئذٍ أن نستشرف مهمة خاصة للذي يتفلسف، هذا النوع من المهمة الخاصة أشعر أنها لم تعد تتعلق بتاريخ الهُوية بعامة على المستوى الميتافيزيقي، يعني بالنسبة إلى الثقافة الإنسانية كما بلورها الغرب إلى الآن، ولا على مستوى تاريخ الانتماء الخاص بنا، أي الانتماء إلى الأفق الرُّوحي الذي مثله الإسلام ومثلته اللغة العربية إلى الآن، هذا التكريس للانتماء لم يعد مناسبًا لمن يتفلسف، لماذا؟ لأن هناك نوعًا من استنفاد هاجس الدفاع عن كل شيء، الفيلسوف لم يعد هنا لكي يدافع عنا، على عقولنا الجديدة، لأننا الآن تأكدنا أننا ذوات جديدة، وإنتاج لمسيرة تاريخية جديدة فرضتها علينا الأزمنة الجديدة، الاسم الحقيقي للأزمة الحديدة، فهي أزمة جديدة، الآن كل أنواع الماضي أصبحت نوعًا من العبء الرُّوحي الذي ينبغي أن — لا أقول أن نستريح منه، ولكن أن — نتدرب على عَلاقة صحية معه، وهذه العَلاقة الصحية وصفتها بأنها «ما بعد هُووية»، لا أقصد بذلك أنها ستقضي على الهُوية أو ستتخلص منها أو ستتبرأ منها، أقول فقط إن الشخص مثلًا لا يمكن أن يتبرأ من شبابه أو من جزء من أعضائه أو من عائلته أو من ذاكرته أو حتى من أمراضه، لا ينبغي أن نخجل من مرضنا، كما لا يمكن أن نخجل من أخطائنا لأنها جزء منا، الهُوية ربما ستصبح ذلك الراسب، أو التراكم الذي يفرض علينا أن نعيد ترتيب عَلاقتنا معه، وهذا الما-بعد — ربما اللغة العربية جميلة هنا لأن الما-بعد هو خلق — نوع من البعد المناسب كي نرى أنفسنا بشكل مناسب، والهُوية تحتاج اليوم إلى أن تبتعد عن نفسها قليلًا حتى ترى نفسها قليلًا حتى ترى ملامحها الجديدة، نحن أصبحنا نخيف العالم، أصبحنا مخيفين، طبعًا في تاريخنا الرُّوحي كانت الجلالة فكرة عظيمة، ويبدو أن الإله التوحيدي مشتق من هذا، فهو الجلالة، لكن الجلالة هي أيضًا المخيف، والمريع والجبار، والآن علينا أن نكيف عَلاقتنا بهذا الشيء الذي ظلِلنا نستمد منه ماهية أنفسنا، ولذلك نحن الآن عثرنا على لفظة الهُوية لم نكن نستعملها في هذا السياق، نتيجة — طبعًا — لسياسات الهُوية التي فرضت نفسها في النقاش الجماعي للفلسفة الأمريكية، والفلسفة الغربية بصفة عامة، فهل هذا النوع من النقاش حول الهُوية مناسب لنا الآن؟ هو لا يكرس شيئًا، هو فقط يريد أن يقول كل ما ظننا أننا نحن منذ مدة طويلة، هو مصيب ورفيع وينبغي الدفاع عنه إلى آخره، ولكن علينا أن نعرف أن الشعوب لا تهتم بهُويتها إلا في لحظة وهنها وفي لحظات جراحاتها، عندما تشعر هُويةٌ ما بأنها مهددة فيصبح مفهوم الأنا قويًّا، على عكس ما وقع في أوروبا، في أوروبا قدموا لنا سردية الأنا بوصفها سردية انتصارية، وأصبح الشخص عندما يفكر فهو في الحقيقة يأخذ مكان الإله المسيحي، ويغلق العصور الوسطى المسيحية ويبدأ العصور الجديدة، عصور الإنسان، نحن الآن نشعر أن عصور الإنسان تتخبط ولا تريد أن تبدأ في ثقافتنا، وعلينا أن نسأل: متى سيبدأ الإنسان؟ متى ستصبح نقاشاتنا حول أنفسنا تقع بعد أنفسنا القديمة؟ أقول بعد أنفسنا القديمة، بالمعنى «الكرونولوجي»، ولكن أيضًا بالمعنى الميتافيزيقي؟ علينا أن نفكر بعد أنفسنا القديمة.
هذه الصياغة التي ذكرتها مرتين الآن «هُوية بلا ذات وذات بلا هُوية»، كنت قد شرحتها في مقدمة كتاب «الهُوية والحرية» سنة ٢٠١١م، وأقصد بها أن الغرب مثلًا وعد نفسه ووعد بقية أعضاء الإنسانية بأنه سيقدم لهم تفكيرًا في الحقيقة يبني عليها الهُوية الإنسانية بطريقة جديدة تمامًا، وهي أنها ستكون إنشاد ذات «كوجيطو» ولكن بلا هُوية أي بلا هُوية ثقافية، وهذا هو معنى الكونية في الغرب، عندما تقول بأنك مفكر كوني، أنت كانط أو روسو أو اسبينوزا أو ديكارت، أو تريد أن تؤسس علمًا رياضيًّا كونيًّا، أو علمًا أخلاقيًّا كونيًّا، أو علمًا قانونيًّا كونيًّا، فأنت تقول: احترسوا من أي رواسب هُووية في كلامي، ستجدونني مسيحيًّا، أو يهوديًّا، أو أوروبيًّا … إلخ، وهذا كان الوعد الكبير للقرنين ١٧ و١٨، والتنوير لا معنى له من دون هذا، التنوير هو الوعد الكبير بذات استطاعت تحييد رواسبها الهُووية، وأصبحت كونية، لكن منذ «هيجل» اكتشفنا أن هذا الغرب يكذب ويخادع، وأنه تحول إلى أكبر برنامج استعماري في التاريخ، ومن هنا هو وصل إلينا، عندما تلفت إلينا وأصبح فجأة الآخر، نحن كنا دائمًا أنفسنا فإذا بنا نصبح فجأة الآخر، وعلينا منذ الآن أن نفكر بأننا «آخَر الآخر» ولسنا أنفسنا، هذا الوضع غير المريح يوضح أن كل الفلاسفة تقريبًا منذ «هيجل» على وعي تام بأنهم داخل سردية محددة جدًّا، واكتشفوا ما يسمى ظاهرة فلسفة التاريخ، كل فلسفة التاريخ، من «هيجل»، ويمكن أن نقول إلى الآن (إلى فوكو، وهو مفكر أوروبي بشكل جذري وبشكل لعين)، هو لا يفكر في أي حضارة أخرى، لا يعترف بأن كل ذلك الكم من الذوات المتناثرة على الأرض خارج أوروبا هي لا تعني له شيئًا، وطبعًا هذا ليس ضد الكونية كما قد يعتقد شخص، بل هو درس جديد في الكونية، وهو أنه منذ الآن علينا أن نعترف بأن اختلافنا يمكن أن يكون هو وسيلة الكونية المناسبة، وإذا كان شخص يريد أن يفكر الآن فعليه أن يدخل في نقاش حقيقي مع هؤلاء الفلاسفة منذ «هيجل»، وهو هل نحن — طبعًا هناك سؤالان: هل نحن قادرون على أن نبني «كوجيطو»، أي ذاتًا بلا هُوية؟ وهل نحتاج فعلًا إلى ذلك؟ ونحن خصَّصنا دروسًا طويلة في الجامعة لإقناع الطلبة بأن يصبحوا ديكارتيين واسبينوزيين، ولم نفلح، كان هذا مناسبًا لأنه كان يتساوق مع وعود دول الاستقلال بتحقيق الديمقراطية والتنمية من خلال التعليم، ومن خلال المواطن، ومن خلال بناء وضعية حقوقية تنسينا الوضعيات السابقة، نقول وضعيات مرتبطة بفكرة الملة، لكن بعد فشل دول الاستقلال في التنمية الديمقراطية، رجعنا القهقرى أمام نفس الصعوبة، فهل نستطيع أن ننتمي إلى أنفسنا بشكل كوني؟ وكنا نظن أن الكوني هو التنويري، إذن متى كنت مفكرًا مستنيرًا أو منوِّرًا فأنت كوني، وهذا في الحقيقة مجرد تلوينة أوروبية تُلحقنا بسردية ثقافة أخرى. الآن ما وقع هو أن هذا الوعد بالذات بلا هُوية لم يعد مناسبًا لأي ثقافة، علينا أن نعود إلى ذات تفكر بشكل ما بعد هُووي وليس هُوية.
هو باحث ما بعد مثقف أو ما بعد ثقافي، ينبغي أن نترك له الفرصة لكي يقول لنا تريثوا نحن الآن سنبدأ في … سنؤسس ورشات للتثبت من أنفسنا، بعيدًا عن أي نوع من الريادة، هذا المثقف البطل لم يعد مناسبًا لنا، يمكن لأي شخص أن يواصل هذا الحلم لأنه كان جزءًا هو نفسه من الجيل السابق، هناك مفكرون اليوم يشعرون أنهم زعماء في التفكير وليسوا مفكرين، وعندما تكون زعيمًا في التفكير فأنت ستكتفي بأن تدافع عن أسوارك وتفرق الناس بين من هو داخل وخارج السور، وهذا مهم ربما بالنسبة إلى أجيال أخرى كانت جزءًا من تصور العالم، هذا النوع من التقسيم كان جزءًا من تصورهم للعالم، الآن لن نستطيع مثلًا أن نقنع هؤلاء الشباب بأن يستغنوا عن العنف، وفي نفس الوقت نريد أن نواصل نفس رؤية العالم الدعوية التي تقوم على تقسيم الناس إلى زعماء وإلى تابعين، العنف جزء من ذلك التقسيم، وعندما يجد هذا الجيلُ نفسَه ضائعًا، فسيستعمل ضياعه كوسيلة الدفاع عن النفس، لذا أقول بأن العنف هو طريقة استعمال الضياع كوسيلة دفاع عن النفس.
العبارة التي تشير إليها هي من نص ﻟ «هَيدغر»، كنت قد ترجمته واشتغلت عليه في مقالة منشورة ضمن كتابي «الفيلسوف والإمبراطورية» سنة ٢٠٠٥م، وعبارة هَيدغر ترجع إلى الثلاثينيات، يعني إلى ذلك الجو الذي قاد الإنسانية إلى الحرب الكونية الثانية، وهي تعني ما يشبه إلى حدٍّ ما اللحظة الفارقة، التي يُضطر فها شعب إلى الخروج عن حدود نفسه ويدخل في عَلاقة — إن شئت — رومانسية أو مفتوحة أو عنيفة مع قدَره، أي في نوع من القرارات الكبرى التي يقوم بها شعبٌ ما، والتي ينبغي احترامها، حتى ولو كانت تبدو في نطاق تحليل معين لمدرسة معينة، قرارًا خاطئًا؛ أقول بكل بساطة: الشعوب لا تخطئ، إنها ربما تغير مسارها، ربما تتراجع عن مجموعة معينة من المكاسب الرُّوحية أو الأخلاقية، ربما هي لها أسبابها التي لا نستطيع نحن كمثقفين أن نتابعها فيها؛ لأننا سنتابعها في نطاق نوع معين من العادات النظرية والفكرية والنقدية، وليس في نطاق إحساس تلك الشعوب بخوفها على مصيرها، لأن المثقف له مجموعة كبيرة من الاحتياطات حتى لا يخاف؛ الشعوب ليس لها هذه الاحتياطات، هي تفكر بشكل أعزل أو إن شئت تتفلسف بشكل أعزل، لا تفكر بأدواتنا، وهذا هو بالضبط الكارثة التي أشعر بها عندما أقرأ مثقفين ما زالوا قبل الثورات، ما زالوا يفكرون قبل ما وقع، وينبغي أن نعترف بأن الشعوب فكرت بدوننا وعلينا ألا نخجل من ذلك، لأن هذا النوع من الفيلسوف المنتظر الذي يأخذ على عاتقه التشريع الرُّوحي الكلي لشعبه أو للإنسانية، هذا الموظف الكبير لدى الإنسانية على حد تعبير «أوساروا»، الآن أصبح نكتة ميتافيزيقية، لم يعد مناسبًا لأحد أن يزعم هذا كما لم يعد مناسبًا لأحد أن يزعم أنه نبي مثلًا، هناك أشياء، وهناك آفاق ظهرت في تاريخ الضمير الإنساني واختفت، لا ينبغي أن نبرر استمرارها حتى نستطيع أن نقول لدينا فلاسفة أو لدينا أنبياء أو لدينا ساسة كبار إلخ، من قال إن الشعوب في حاجة إلى ذلك؟ الشعوب التي نزلت إلى الشوارع لم تنزل في الحقيقة لأن حزبًا أو مفكرًا كبيرًا أو مثقفًا كبيرًا دعاها إلى ذلك، هذه العَلاقة الدعوية بين الداعي والمدعوِّ لم تعد صالحة، والعَلاقة الأيديولوجية بين إنشاد النخبة والجماهير هي أيضًا لم تعد صالحة، الاعتراف بهذا لا ينبغي أن نخجل منه لأن البعض سيقول إذن هي ثورة مثلًا لا تعبر عن أي شيء ولا قيادة لها وليس لها برنامج ولذلك ستفشل، لا، سنقول فقط يبدو أن الشعوب ملت شيئًا معينًا دام طويلًا ومرت إلى شيء آخر …
نعم، اعتبرها حدثًا فلسفيًّا من الطراز الرفيع، بمعنى أنه قادر على التأسيس لشيء لا معنى له، هناك شيء أسسناه كشعوب ولا ندري ما هو، وهذا التفكير منذ الآن هو محاولات ستكون مريرة وطويلة للانتماء إلى هذا الشيء الذي تأسس دون وعينا دون علم منا دون أن نراه، والفشل الآن على مستوى تكوين الحكومات ما بعد الثورة، أو النجاح في إنجاز وعود الثورة، أو النجاح في إقامة نوع معين من العدالة الانتقالية، أي نوع معين من الإنصاف وليس من التطبيق الشكلي للقوانين، فشِلنا في ذلك، والجميل أن هذا الفشل كريم؛ فهو يقع لدى الجميع، لدى من يظن أنه ممثل للإسلام، كما لدى من يظن أنه ممثل للحداثة، كما لدى من يمثل اليسار، فهؤلاء جميعًا أصبحوا فجأة غير مناسبين لما تنتظره الشعوب. طبعًا في غياب ذلك النجاح الشكلي والرسمي للثورات، وهو إقامة حكومة ثورية وإقامة دولة … إلخ، وفي نطاق هذا الفشل، كما يحدث مثلًا في ليبيا، سيقع تعويضه طبعًا بالحرب الأهلية، والحرب الأهلية هي — إن شئت — حالة الانتظار المفترس التي يمكن أن تصيب شعبًا لم يجد — إن شئت — من ينتظره على الشاطئ، شعوب أتت من بحر الثورة، ولم تجد أحدًا ينتظرها على الشاطئ، فأصبحت تدمر نفسها، وإن كان ينبغي أن نلوم أحدًا فينبغي أن نلوم كل من لم يصدِّق هذا، كل شخص لم يصدِّق أن الثورة قد وقعت، هذا الشخص ينبغي أن نلومه لأنه لن ينتمي إليها، الذين الآن يمكن أن نشجعهم على المضي في الإيمان بهذا الذي وقع وبأنه حَراك غير مسبوق تمامًا في تاريخ أنفسنا، إلى حد الآن …
يمكن أن نقول مثل هذا الكلام، لكن أنا أشعر أنه عندما كنت طالبًا كنت أقول متى ستتم ترجمة هذا الكتاب، هذا منذ أواسط الثمانينيات، وأشعر دائمًا بأن هناك شخصًا ما لا بد أن يقوم بهذا، لا بد أن يترجم هذا الكتاب، ثم بدأت أتطلع إلى كل اللذين تعلموا الألمانية أو درسوا الفلسفة الألمانية، وأشعر بأنهم كانوا على مقربة شديدة من النص، مثل عبد الرحمن بدوي خاصةً، أو عبد الغفار مكاوي، ولكنهم لم يفعلوا، وأتساءل لماذا؟ وطبعًا فيما بعد عندما سجلت أطروحة الدكتوراه سنة ١٩٩١م، فهمت الأمر، عندما أخذت أتعلم الألمانية بشكل مكثف وأتدرب على قراءة هذا النص سرًّا، عن نفسي — أنا لا أخجل أمام نفسي — أقول إن هذه الألمانية التي تقرؤها في معهد «غوته» لا تكفي لكي تواجه مثل هؤلاء العمالقة، كما أن العربية التي تُدرَّس الآن لغير العرب لا تكفي لمواجهة الشنفرى أو ابن سينا، هذا مشكل كبير، يعني أنت تتعلم لغة ستقضي وقتا طويلًا جدًّا وهي تمُجُّك وأنت لقيط فيها لا تستطيع أن تصبح ابنًا لها، وحتى بعض الأصدقاء الذين ذهبوا إلى ألمانيا وتعلموا وكتبوا أطروحاتهم بالألمانية، عندما أتفحص معهم بعض الجمل من «هَيدغر» يقولون إننا لا نفهم، فأقول أنا عربي ودرست العربية ولا أستطيع أن أفهم بعض النصوص من معلقة جاهلية، أو من القرآن، أو من ابن عربي مثلًا، فلا أفهم شيئًا مما يقصد، ولا من التائية الكبرى لابن الفارض، ولا من بعض نصوص ابن سينا التي شكْلُها — إن شئت — جزء من فهمها، إذا لم تكن تستطيع أن تشكِّل جملة من ابن سينا فأنت لا تستطيع أن تفهم ماذا يقول. نفس الشيء ينطبق على الفارابي، فماذا يعني قوله: «الأول هو الذي عنه وُجد»؟ من يستطيع اليوم أن يفهم هذه الجملة الآن؟ سوف ينبغي علينا أن نترجمها مرة ثانية لكي نفهمها.
هو في الحقيقة أستاذ عظيم، وأنا دائمًا كنت أقرؤه باحترام شديد، والمشكل أنه يذكرني بالغزالي، يعني هو شخص يتصدى للدفاع عنا، لماذا؟ وأنا ربما سألته مرة، رأيته في حياتي مرة واحدة، وأنا ما زلت أستاذًا مساعدًا في الفلسفة، تقابلنا في جِربة في ندوة مشتركة حول «المعقول واللامعقول»، رأيت شخصًا يمتلك قوة رائعة على صناعة الفلسفة والمنطق، وهو نفس الشعور الذي أشعر به عندما أقرأ الغزالي، فهو رائع وقوي ومَهيب، لكنه … وهذا الخطر هو الذي نبهنا إليه نيتشه، يتمثل في أن الاختيارات الأخلاقية هي أكبر سم يمكن أن يصيب الفيلسوف، ما هي تلك المهمة التي اخترتها لكي تقضي حياتك كلها وأنت ناهض بها، هذه المهمة هي ضعيفة جدًّا في حالة الغزالي كما في حالة طه عبد الرحمن، وهي الدفاع عن تراث مظلوم. الفلسفة ليست محكمة بالمعنى الذي ستدافع به عن شعب ضد بقية الشعوب أو عن ثقافة ضد بقية الثقافات، لأن هذا العمل سيصبح جزءًا من نقد الثقافة وليس من نقد العقل المحض، ليس من التفكير في الكوني، وأنا مع الأسف أقول هذا الكلام لأنني أظن أن العقلاء والنبهاء قليلون ولا ينبغي تبذيرهم بهذه الطريقة. أنا أرى أن طه عبد الرحمن ربما قام بتنفيذ المهمة التي نذر نفسه لها بشكل رائع، إلا أنه كان يجدر به أن يختار شيئًا كونيًّا، لأنه كان فيلسوفًا وليس فقيهًا، ولو كان فقيهًا أو متكلمًا فالأمر هين، بل ومشرِّف، والانتصار للمتكلم أو الفقيه لن يكون مشرِّفًا للفيلسوف، الفيلسوف له معارك أخرى، وما يسميه التأصيل هو في الحقيقة التعريب أو الأسلمة، ويأخذ …
هذا التأصيل أو التفكير المقصود منه فقط هو التعريب الجميل أو الفائق أو الأسلمة الفائقة. أنا جربت مرة معه فكرة واحدة وهي ترجمته ﻟ «كوجيطو» ديكارت التي يقولها في صيغة الأمر «انظر تجد»، ولكن الذي ضاع في هذه الترجمة هو كل الحدث الميتافيزيقي الذي جعل الإنسان يأخذ مكان الإله في أفق الغرب، وما قام به طه عبد الرحمن في الحقيقة يشبه بعض كتابات بول ريكور، وهو تهويم الصدمة التي تقلقل عندما يقوم فيلسوف بإزاحة الإله من مكانه وتنصيب الإنسان في أفق التشريع الرُّوحي للإنسانية، هو يقول فقط هذه الطريقة موجودة لدينا وثوابت الملة يمكن أن تمتص الصدمة التي أيقظها ظهور فكرة الكوجيطو في أفق العقل الحديث. المشكلة الآن تتمثل في هذا السؤال الذي يؤرقني دائمًا: ما الذي نجحنا في إثباته عندما دافعنا عن أنفسنا؟ لا شيء، الكائن الرائع الأصيل لا يدافع عن نفسه بل هو يوجد، أي يخترع نمط الكينونة المناسب له، ويذهب في إمكانات كينونته إلى النهاية، بقطع النظر عن أي نوع من المقارنة الفاسدة بين الكوائن. هذا الشيء لم يفهمه قراء التراث، وحتى ننصف الجميع: حتى المثقفون أو القراء اليساريون، يعني لو أخدنا الجابري ووضعناه لقلت عنه نفس الشيء، يعني أن تثبت أنك عربي أو أنك إسلامي لا يغير من الأمر شيئًا. وطبعًا المخيف، ولذلك طبعًا هذا النوع من الكتابة له حظوة المخيف، هو أن يأخذ شخص طريق الاستشراق ويحقق أحلام المستشرقين (الغرب) قائلًا الأشياء التي … يقع تقوُّلها في نطاق التنويم، فسيقول لك شخص، انطلاقًا مثلًا من عمل أركون، بأن العرب لهم ذهن متكلس ومتخشب، وأن الأرثوذكسية ما زالت كذا، وأنهم لا يتمتعون بالحرية طيلة القرون الوسطى إلى العصور الحديثة، وبأن الحل هو أن يخضع الدين إلى دراسة تاريخية وأنثروبولوجية، حتى نستطيع أن نتحرر من سطوته، كل هذا الكلام هو في الحقيقة هراء نقدي، لأن العرب كانوا يتمتعون بقدرات رهيبة على التفكير وعلى كل شيء، وهذا الأمر يعني موجود في جميع الثقافات … المثقف الكبير لا يمكن للدولة أن تصل إليه، لا يمكن لأي نوع من الدولة أن يحلم على الأقل في لحظة فائقة من أن يفكر بشكل قوي، وسنظلم كتابات رائعة في تراثنا عندما نقول إن الخلافة مثلًا قائمة على الاستبداد وكذا وكذا … وبأن هؤلاء العرب لم يفكروا أبدًا بشكل كوني لأنهم منفعلون، وبأنهم يعانون، وهذه كلها تهم استعمارية في القرن ١٩ ضدنا. حتى الشعراء، يعني نحن عندنا أبو القاسم الشابي كتب في الخيال الشعري عند العرب، هو لم يستطع أن يُفلت من هذا الحكم المسبق الذي كان رائجًا: أن العرب ليس لديهم مخيلة. نفس الشيء وقع فيه طه حسين في الشعر الجاهلي. وأنا الآن مثلًا أستحضر جبران وأحيي جبران؛ لأنه لم يقع تحت هذه الضغطة، لماذا؟ لأن جبران كان يعيش في أمريكا، كان مفكرًا حديثًا بالفعل وليس مجرد معاصر للحداثة.
جبران كان مبتكرًا، كان — وهو في نيويورك أو في بوسطن — يعتقد فعلًا أنه كشرقي لديه ما يقوله للإنسانية، وهذا الشيء فقدناه يعني … جبران من الناحية الميتافيزيقية، بالنسبة إليَّ، متقدم على قراء التراث الذين سيظهرون في نهاية القرن ٢٠.
ما نسميه الفصاحة في العالم العربي يدين بشطره أو أكثر إلى جبران أو — حتى لا نظلم بعض الزملاء — إلى رهط من جيل الرابطة القلمية، خاصةً إلى جبران وإلى نُعيمة وإيلِيَا أبو ماضي، هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم كمسيحيين لديهم تلك الفسحة من الحرية إزاء تكلُّم العربية أو الكتابة بها، دون المرور بذلك التعليم في تونس الزيتوني مثلًا أو الأزهر في مصر مثلًا، الذي سيفرض رؤية للعالم عند تعلم اللغة العربية. الشيء المهم أن جبران كان واعيًا … وعليك أن تذكر أن «جورجي زيدان» مثلًا له فلسفة في اللغة، الآن لا نتجرأ أن نقول لدينا فلسفة في اللغة، فهو لديه فلسفة في اللغة في بداية القرن (١٩٠٧م أو شيء كهذا)، وجبران في كتاب العواصف، الذي صدر سنة ٢٠، له مقالة في كتاب البداهة والثراء لا أذكر، مقالة اسمها «مستقبل اللغة العربية»، وهناك مجموعة كبيرة من النصوص النثرية الرائعة لجبران حول اللغة أو حول الشاعر أو حول الكاتب، وهذه الأشياء جبران كان مجددًا فيها وكان على بينة من خطورة ما يفعل، إلى درجة أنه لا يرى عيبًا في أن تظهر بعض الأخطاء التي تصبح جزءًا من اللغة لاحقًا، وهو يعرف مثلًا أن الإيطالية أو الفرنسية هي كتابة خاطئة للاتينية.
يعني أنا أتصور أن الفيلسوف لن يظهر شخصًا في هذه المرة، بل يظهر حالة، وعلينا أن نكف عن انتظار الفيلسوف بوصفه شخصًا، الفيلسوف سيظهر في شكل حالات فلسفية تعيشها الشعوب، ولا يعيشها المثقف، فهنا أنا أدفع بالثورة إلى أقصى درجة وأقول إن الفيلسوف ظهر، وظهر في شكل ثورة، والثورة هي حالة فلسفية رائعة ونادرة واستثنائية، وإذا أردت تعريف التفلسف فهو الدخول في تلك الحالة الاستثنائية التي يعيشها شعب من الشعوب، المشكل طبعًا هل لدينا الاستعدادات والكفاءة اللازمة الآن لامتشاق هذه الآلة الجديدة، الثورة، من يستطيع الآن أن يقول ما في حجم أو في مستوى أو في وتيرة هذه الحالة الفلسفية التي تعبر عنها الثورة، والتي يقوم بها شعب وليس مثقفًا، طبعًا ربما نحن الآن، كما قال هَيدغر ذات مرة عن نيتشه، قريبون جدًّا من الثورة، وهذا لا يسمح لنا بأن نراها وبأن نبصر تخومها وملامحها، ولكن هي الآن الأداة الوحيدة ربما، هي الحدوث، الآن من لديه حدوث أفضل ربما يقترب أكثر من غيره فقط، ولا يستطيع أحد أن يزعم أن لديه المفهوم أو التعريف المنطقي الصحيح أو التوصيف الموضوعي، كل تلك العُدة أنها نقدية أصبحت عبئًا على من يفكر؛ لأنها تحجب المشكل الذي سيفكر فيه.
الثورة «حدث» فلسفي بالمعنى العميق للكلمة: أنها تجمع بين أن تفاجئنا لأنها ليست وتيرة عادية في سرعة تاريخنا، ولكنها في المقابل «واقع» لم يعد يمكن إنكاره أو التصرف إزاءه وكأنه لم يحدث. في المعنى الأول، الثورة نوع من استعمال «العدم» أو «اللاوجود» من أجل خلق وضع جديد للأشياء. لكنها في الحالة الثانية تفرض علينا أفقًا جديدًا لأنفسنا لم يعد يمكن إنكار وجوده. أجل تعبر الثورة عن «يقظة وعيٍ» ما لدى الجيل الراهن من الشباب. و«تحقيق الوجود الإنساني الحر في العالم العربي» هو نمط انتظار خاص بفئة محددة جدًّا: هم أولئك الذين لم يملكوا بعدُ مكانًا يخصهم داخل هذا «العالم». لكن الثورة ليست نتاج «الوعي» مهما كان نبيلًا أو حادًّا. إنها أيضًا، وخاصةً، انكسار في أرضية الوعي التي نقف عليها. نحن سطح ذاتي للثورة، أما الثورة فهي العمق الموضوعي لجيلنا. ولا أحد بإمكانه أن يحصر حدث الثورة في وعي نخبة أو فئة أو طائفة أو طبقة معينة، بل علينا أن نحاول استشراف «الحدث في جملته»، نعني كنمط كينونة من نوع جديد هو قصد الفلسفة الأكبر: ما معنى أن نكون في أفق الثورة؟ وليس: هل نحن الوعي الذي خلقها أم لا؟
أجل، من دون شك؛ ذلك بأن الفلسفة، حتى حيث لا تُدرَّس، هي تصل إلى الناس بأشكال شتى، وخاصة بسبب كونها ترسم خارطة رُوحية وذهنية للعقول العالمة أكثر من كونها تعلمهم هذا المذهب أو ذاك. الفلسفة هي دومًا حس كوني استثنائي بعقولنا وبقدرة نفوسنا على الحرية. ويبدو أن الغرب انتصر على جميع أعضاء الإنسانية الحالية بواسطة «الحداثة» وليس بالتكنولوجيا الحربية، نعني بواسطة الفلسفة الحديثة: فلسفة الأنا أفكر بنفسي وفلسفة الفرد المتملك لحقوقه وفلسفة المواطن المشارك في حكم بلده والمتأول لمعنى وجوده الشخصي … إلخ. وكل ما وقع في أفق الفكر العربي المعاصر منذ قرن على الأقل كان من أصول فلسفية حديثة، حتى قبل أن يبدأ العرب المعاصرون في تدريس الفلسفة. إن «الحَراك العربي» الذي أدى إلى الثورات هو حَراك حداثوي، حتى حين يزعم أنه «إسلاموي»، فالحركات الإسلاموية (وليست «الإسلامية» إلا تسمية أو تجوُّزًا فقط) هي حركات «حديثة»، حتى ولو لم تكن في وعيها الخاص «تحديثية».
إن «ما بعد الجابري والعروي وحنفي وأركون وتيزيني …» له معنًى كبير واحد: أننا صرنا لأول مرة بلا «قراء تراث». علينا أن نتفلسف منذ الآن بشكل معاصر. ما يدعونا إلى التفكير هو نمط كينونتنا في العالم، وليس عبء الانتماء إلى مصادر أنفسنا. والثورة يمكن أن تكون أكبر بشارة فلسفية وصلت إلى العرب المعاصرين منذ مدة طويلة: إنها بشارة «الإنسان». لم يعد يدعو إلى التفكير سوى ما «يحدث» لنا في أفق أنفسنا الجديدة بعد الثورة. نحن صرنا لأول مرة «حدث» أنفسنا، لا غير. طبعًا، هذه البشارة لم تصل إلى كل المتفلسفة، وسوف يواصل فقهاء جدد إقناعنا بأن ما حدث «لم» يحدث، وأن الثورة كذبة دعائية لأعداء «الأمة»، أو أن الثورة هي «رسالة» علماء الأمة الجدد، أو هي «هبة» الله للمؤمنين الذين أوشكوا على اليأس من رحمته … إلخ. لكن الفلسفة هي التي تحررت من أفق التراث، بكل مكوناته العميقة. وربما تكون الثورة هي التي ستحرر العقل الفلسفي أكثر مما ستتحرر «الشعوب» أو «المجتمعات» أو «الدول» التي ما زلنا ننتمي أو نظن أننا ننتمي إليها.
على الرغم من أن العرب المعاصرين قد أنتجوا مؤلفات عديدة جدًّا حول «الثورة العربية» و«حروب التحرير» و«معارك الاستقلال» … إلخ، فنحن في الحقيقة نشهد أول استعمال فلسفي بحت للثورة باعتبارها «مفهومًا». الجديد أن العصر الدكتاتوري قد انتهى أخلاقيًّا، وأن الاستعمال «الأيديولوجي» أو «الهُووي» لمصطلح الثورة لم يعد ممكنًا إلا عنادًا دعائيًّا فقط. وإن مصطلحات «الكرامة» و«المشاركة السياسية» و«حرية التعبير» و«الديمقراطية» و«الانتقال الديمقراطي» و«العدالة الانتقالية» و«المواطنة» … إلخ، هي مفاهيم جديدة بالفعل، رغم أنها كانت متواترة. وجِدَّتها تكمن في كونها قد صارت اليوم جزءًا «ترنسندنتاليًّا» أو «قبْليًّا» من عقولنا، وليس مجرد معجم خشبي على مِلكية الدولة الهُووية. لم يعد ممكنًا التفكير بشكل أيديولوجي، وهذا يعني أن مجموعة فظيعة من المفاهيم من قبيل الدولة-الأمة والدولة القومية والوطن والانتماء والقضية والزعامة … إلخ، لم يعد لها أي فعالية نظرية. في المقابل هناك مفهومات جديدة من نوع «المواطنة» و«المشاركة» و«الاختيار» و«التمثيل» و«الحقوق» و«الاعتصام» و«التعبير» و«استحقاقات الثورة» و«الكرامة» والحريات الفردية والحياة الخاصة والطابع الشخصي … إلخ. لكن هذا الأمر هو وضع اصطلاحي مؤقت ولا يبعد أن تنبثق مفاهيم جديدة فعلًا، شكلًا ومضمونًا، في السنوات القليلة القادمة.
لا يمكن لهذا الحَراك إلا أن يؤدي إلى بعث «حياة فلسفية جديدة»، وذلك لن يتم بالانتقال من «إبداع المفاهيم» إلى شيء آخر، فنحن لم نشهد إبداعًا حقيقيًّا للمفاهيم إلا نادرًا. كل قراء التراث لم يبدعوا مفاهيم وإنما هواجس خطابية جديدة، والأمل الآن هو البدء بالفعل في إبداع أسئلة جديدة تؤدي إلى إبداع مفاهيم جديدة، وعندئذٍ فقط يحق لنا الطموح إلى «ابتكار كيفية جديدة لفن الحياة». وإذا كان من أثر كبير لحدث الثورة فهو تمكين المتفلسفة من التحرر من كل تبعات العَلاقة التراثية بالعقل، وذلك أن الثورة هي أول مفهوم عن فلسفة لا نراها لكنها قادمة في معجمها الخاص. و«الإبداع» ليس في تكلم ألفاظ منحوتة كما دأب البعض في مخالفة الناس في الكلام والتسميات، كأن ذلك هو شرط التفلسف الحاسم، بل في العودة إلى لغتنا في أعماقها الخاصة، حيث تكون قد سبقتنا إلى الأشياء ذاتها، وابتكار كيفية جديدة لفن الحياة يستوجب قبلُ أحياءً من نوع جديد، وليس مجرد «فلاسفة» بلا حياة، كما رأينا ذلك في فترة قراء التراث. كانت قراءات التراث نوعًا من تملق الذات التراثية أكثر منها تحريرًا عنيفًا لها من سُباتها الطويل. والثورة، بهذا المعنى، هي التي فعلت بشكل «لا-فلسفي» ما عجز عنه جميع المتفلسفة إلى حد الآن.