الحداثة هي الماضي الذي يأتي من المستقبل
علينا الاحتراس هنا من أن التخلي عن المضامين الهُووية الجاهزة لا يعني أبدًا إلغاء الهُويات أو التحول إلى مسوخ أخلاقية بلا انتماء. ما أقصده فقط هو تعديل خطة الحياة في أفق المجتمعات التي ننتمي إليها. الجديد هو أن الحرية قضية تأتي قبل الهُوية، وليس بالضرورة ضدها. نحن ضد هُويات جاهزة تُفرض على الناس في هذا العصر ما بعد القومي وما بعد الديني وحتى ما بعد العلماني بطرق شتى. وما تدافع عنه الفلسفة هو ترك حرية الانتماء أمام الأفراد والشعوب حتى يختاروا «من» يكونون، ومن يكونون هي هُويتهم كما صنعوها بأنفسهم، ولا يعني ذلك عدم النهل من مصادر أنفسنا العميقة. ليس المشكل في الماضي بما هو كذلك بل في طريقة استدعائنا له، والهُوية ليست ماضوية بالضرورة، لا تزال أمام الشعوب وأمام الأشخاص أنواع وأشكال لا حصر لها من حريات الانتماء، وبالتالي من اختراعات الهُوية.
ثم إن علينا أن نفصل بين الدولة والهُوية. شكل الحكم هو طريقة في ترتيب شكل الحياة بالنسبة إلى مجموعة من البشر تدعي أنها تشكل وحدة أخلاقية أو جماعة رُوحية أو شعبًا قانونيًّا منذ حقبة تاريخية معينة، لكن شكل الحكم ليس الهُوية. وربما إحدى مصائبنا الكبرى ناجمة عن الخلط المزري بين الدولة والهُوية، بين شكل الحكم وشكل الإنسانية. ينبغي أن نرحب بتغيير شكل الحكم إذا كان مستبدًّا أو فاشلًا، ولكن لا ينبغي الخلط بينه وبين إرادة الشعوب لتصوُّر نفسها على نحو ما. نعم، قد نتحرر من الشكل الهُووي (الاستبدادي) للدولة، لكن الشعوب سريعًا ما تحتمي بمصادر هُويتها العميقة. ليس هناك شيء بدائي في هُوية شعب ما. كل ما يشعر به شعب ما أنه جزء من شخصيته العميقة فهو جزء من مستقبله. وحده المستقبل يمكن أن يكون مقياسًا لتقويم مدى نجاح ثورة ما. الارتباط بالهُويات البدئية ليس خطأ أخلاقيًّا، بل نتيجة مُرة لفشل القيادات في ترجمة حرية الانتماء الجديدة إلى برنامج هُوية قابلة للحياة، أي مفتوحة على إمكانية المستقبل التي بحوزتنا — وهي فرصتنا الوحيدة لضمان مقعد في نادي الإنسانية — وليس هُوية معزولة عن إنسانيتها بحيث لن تجد من قشة خلاص سوى الدين.
لكن هذه الواقعانية التي تطبع عَلاقتنا بالغرب ليست عدوة لنا بالضرورة. من يعادي العالم الذي يعيش داخله هو يعادي نفسه، نعني يهدد نمط عَلاقته بذاته، ويحكم على نفسه بالوقوف على الربوة التي لم تعد موجودة إلا في سياسات الهُوية الفاشلة. نعني بذلك أنه يمكن أن توجد سياسة هُوية ناجحة أو صحية، أي لا تكون سياسةً هُووية، وذلك يعني أن الكونية ليست صكًّا أبيض على الاستسلام لعدو ما. العداوة والصداقة حسب كارل شميدت — زميل هَيدغر — هي المقاييس الحقيقية للسياسة، ومن ثَم فإن الكونية يمكن أن تكون لها صيغة سياسية وليس صيغة أخلاقية أو معيارية. ينبغي أن نأخذ الأعداء في الاعتبار، ولكن ليس لأنهم كونيون، ليس لأنهم مقياس الكينونة في العالم، بل فقط لأنهم يهددون شكل حياتنا. وعلى كل حال لا معنى لأي تقديم للهُوية على الحياة. وحدها الحياة تفرض على الناس نمطًا ما من الانتماء. ربما كانت العولمة قد فرضت علينا لقاءً متوحشًا مع الدين، لكن الدين كان هنا منذ زمن طويل، ولقاؤنا معه كان مبرمجًا في مصادر أنفسنا العميقة. ولذلك فإن النظر إلى المعطيات العقدية على أنها مستوردة أو معولمة هو تأجيل فقط لحدة اللقاء مع الدين في أفق الشرقيين، وليس معالجة تاريخية حقيقية له.
نحن معولمون بلا رجعة بطبيعة ثقافتنا، وليس فقط بحكم ضعفنا. وثقافتنا ليست غريبة عن الثقافة «الحديثة» كما نظن. ليست الحداثة الغربية غير الطور الأعلى أو الأخير من تاريخ التوحيد، ونعني بذلك أن الحداثة هي الصيغة المعلمنة من الرؤية التوحيدية للعالم، والتي تمتد من النبي إبراهيم إلى أمريكا الحالية. واهمٌ من يظن أنه يجلس على ربوة أخلاقية خارج تاريخ العالم الحالي، والذي بلغ مع الحداثة أوجها «العالمي». بالعكس علينا أن نشعر أننا مسئولون بشكل فظيع عن جزء جوهري من وقوع عدة شعوب من الإنسانية الحالية (مثل الهند أو الصين أو كوريا أو اليابان) تحت قبضة التصور الحداثي للعالم، ونعني بذلك أن هذه الشعوب «غير التوحيدية» و«غير الإبراهيمية» قد صارت اليوم تمارس الحداثة وتعتنق قيمها العميقة. وكان دريدا قد تساءل عن معنى ثقافة «الصفح» أو «الغفران» عندما فُرضت على كوريا أو اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. نحن ننتمي إلى التاريخ التوحيدي بل ونزعم أننا قمنا في وقتٍ ما بتأمين صيغته «الختامية». وليست الحداثة غير تعميقٍ معلمَن لهذا الادعاء التوحيدي اليهودي-المسيحي-الإسلامي.
أما عن الدولة الضعيفة فهي لا تنخرط تحت لواء العولمة لأنها ضعيفة فقط بل أيضًا لأنها لا تملك برنامج حرية تكون قادرة على تنفيذه. والسيادة لا تمثل ركيزة إلا بالنسبة إلى الدولة-الأمة الحديثة. ما وقع مع العولمة لا يمكن حصره في خسران الدول الضعيفة لسيادتها، ربما هي لم تمتلكها قط. وعلينا تعلم خطاب ما-بعد-سيادي حتى نستطيع أن نتمرن على مفردات التفاوض العالمي حول شكل الحياة في المستقبل.
علينا التمييز بين استيراد المصطلحات وبين خلق المفاهيم. الإجراء الأول عارض على الوهن الإبستيمولوجي الذي يصيب ثقافة فقدت القدرة على التفكير بنفسها أو فقدت علمها الخاص بنفسها، وصارت تعوِّل على بضاعة نظرية تصلح للثرثرة العمومية بين النخب الرسمية — كما هو حالنا غالبًا — بدلًا من خلق المفاهيم التي تمكنها من إعادة كتابة تاريخها بشكل خلاق. وفي هذا الصدد لا فرق بين أن نستورد مصطلحات «غربية» لا نسيطر على تاريخها العميق — تاريخ القيم اليونانية-الرومانية-المسيحية الذي أنتجها — وبين أن نعيد تجنيد مصطلحات فقهية من النادر أن نسمع أحدًا يسيطر على تاريخها التأويلي أو الرُّوحي الأصيل. وهكذا فإن «العلمانية» — أكانت عندنا مصطلحًا مسيحيًّا أو كانت مدعاة إلى الأخذ بقاعدة فقهية من قبيل «المورد لا يخصِّص الوارد» أو «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، ومختلِف الصيغ التي تأخذها في نظام الخطاب الإسلامي الكلاسيكي — هي تظل في انتظار تأصيل عميق يحررنا من الحاجة الخارجية والأداتية إليها. ولن يتم ذلك إلا بتغيير طبيعة الإشكال اللاهوتي-السياسي الذي فرض النقاش فيها. وحتى لو تحاشينا الاستعمال الأيديولوجي للعلمانية، وبحثنا في إمكانية بلورة مفهوم مناسب لنا عن «العلمنة» الحديثة، فإن المشكل المتعلق بدور الدين في الفضاء «العمومي» سوف يظل قائمًا. المشكل الحقيقي هو أننا مجتمعات بلا فضاء عمومي، وليس فقط بالمعنى الذي ضبطه هابرماس، نعني ذاك الذي عرفته أوروبا منذ القرن الثامن عشر. لا يمكن أن يظهر اتفاق «علماني» بين المحدَثين يحيِّد المؤسسة الدينية، أو يفصل بين الدولة والدين، أو يدافع عن استقلالية دائرة العلم أو الفن أو القانون أو الأخلاق أو السياسة … إلخ، عن دائرة الإيمان إذا كان المجتمع موضع السؤال لم يعرف في تاريخه العميق أي فصل حقيقي بين العمومي والخاص، بين المؤمن والعامي، بين السلطة الزمانية والسلطة الرُّوحية، بين الكنيسة وبين الدولة … إلخ. لا يتعلق الأمر بمجرد مصطلحات يمكن استيرادها، بل بمقامات رُوحية ومفاهيم لاهوتية-سياسية لها تاريخ فلسفي ونظري ومعياري لا يمكن تصديره. نحن لا نملك حتى تاريخ التضحيات الذي جعل شيئًا مثل التسامح، بالمعنى الذي ظهر منذ جون لوك، ممكنًا. ومن مات مصلوبًا لدينا مثل الحلاج، أو مقتولًا مثل السُّهْرَوَردي، أو نُفي مثل ابن رشد، أو كُفِّر مثل المعتزلة، أو بُدِّع مثل ابن عربي … هو لم يمت لأسباب علمانية.
غير أن نقد العلمانية ليس بالضرورة رفضًا لها أو إنكارًا لقيمتها المعرفية أو الإنسانية. ما يتطلبه التفكير الفلسفي هو التمييز بين تقاليد العقل. ونحن لا نوجد خارج التقليد المسيحي، وخاصة في صيغته الحديثة، لا يعني ذلك أن المسيحية الأصلية غريبة عنا، بل فقط أن تاريخها الروماني والأوروبي والحديث يثير مشاكل نظرية مركبة وعسيرة من الصعب التغاضي عنها عندما نطرح النقاش لدينا حول قضية العلمنة. نحن في انتظار مساهمات فلسفية حقيقية تكون قد تحررت سواء من الدفاع «الحداثوي» عن العلمانية كأنها نوع من الموت الرحيم لأنظمة المعتقدات التي تهددنا اليوم من الداخل، أو من الأسلمة الأداتية لكل قيم الغرب الحديث بتعلَّة واهية هي التأصيل بأي ثمن أو الدفاع عن الهُوية، إلخ. الهُوية الأصيلة لا تحتاج لمن يدافع عنها. ولا سيما من جيل لا يملك تقريبًا أي أدوات تفكير خاصة به ولم يخض تقريبًا أي استشكال ميتافيزيقي حقيقي حول مصادر ذاته العميقة (حول الله والنفس والعالم، مثلًا).
علينا أن نذكِّر اليوم خاصة بأن الإسلام لم يصبح «هُوية» بالمعنى الثقافي المعاصر إلا منذ مدة غير بعيدة. وثمة خلط شائع بين الدين والهُوية. الدين وُجد في أول أمره كي يكسر الهُويات القومية باعتبارها هُويات وثنية. والعيب الأكبر لليهودية أنها دين قومي أو دين شعب واحد، حيث تُعامِل كل الشعوب الأخرى على أنها مجرد «أغيار» (الغير هو من يجوز قتله) وثنيين. ومصطلح «الإسلاميين» لا يشير إلى المسلمين التاريخيين، أسلافنا العظام. ونية احتكار تاريخ الإسلام من طرف «إسلاميين» معينين هو مغالطة أخلاقية وهُووية مريبة. إن الإسلام هو جملة مصادر أنفسنا العميقة، وهو مدونة تشتمل على كل موروث لغة الضاد تقريبًا، وعلى كل حال كل ما قالته العرب عن نفسها منذ القرن السابع الميلادي. والتمييز أو الفصل بين الإسلام والعروبة هو أَلْق أسلوبي فحسب، أو جزء من سياسة هُوية اعتمدتها الدولة-الأمة كي تخترع سيادتها الخاصة. أجل، إن الدولة-الأمة الحديثة، كما اخترعتها أوروبا منذ الثورة الفرنسية تقريبًا، هي التي اخترعت جهاز الهُوية الحديث، وهي التي نجحت في ترجمة الطفرة الميتافيزيقية لفلسفة «الذات» (ديكارت، لوك، كانط …) في جهاز المقولات القانونية الذي بات تعريفًا «كونيًّا» للإنسان منذ قرنين (مثل «المواطنة» و«الجنسية» و«الهُوية الوطنية» و«الحرية الشخصية» و«الوطن» و«الإقليم» و«السكان» و«حقوق الإنسان» …). ولذلك فإن دفاع الإسلاميين أو أي حركة دينية أخرى في العالم عن «الهُوية» هو تشوه خطابي ومعياري وتاريخي مثير للتساؤل. كان الأَوْلى بهؤلاء استعمال المفاهيم الأصيلة للدين الذي يتحدثون باسمه. والإسلام لا يحتاج إلى المعجم الهُوياتي كي يفهم نفسه أو كي يساعد الإنسانية الحاليَّة — باعتباره أحد ذاكراتها العميقة — على معالجة أزماتها أو استحداث أفق أخلاقي جديد على الأرض.
لم يفلح الإسلاميون في تكلم لغتهم الخاصة أي لغة «الشريعة»، بل هم ما فتئوا يترجمون مضامينها في لغة الدولة الحديثة بكل ما فيها من قوة ومن ضعف. ما نقصده هو العكس: على الجميع — بما في ذلك من يتملص من وطأة الانتماء ويخاطب نفسه وكأنه بين ظهرانَينا «حداثي» في المنفى — أن يكفَّ عن ترجمة المصطلحات من الغرب وإليه؛ علينا أن نكفَّ عن اعتبار منجزات الغرب هي مقياس النجاح المعياري الوحيد في أفق الإنسانية. تأصيل شروط إمكان الديمقراطية انطلاقًا من مصادر أنفسنا العميقة لا يعني أسلمة المجتمع، ولا يعني ترجمة المعجم اللاهوتي-السياسي الإسلامي الكلاسيكي في اللغة القانونية للدولة-الأمة الحديثة. إن أصل الداء هنا هو أن الدولة-الأمة الحديثة ليست شكل الحياة المناسب للمواطن العالمي في المستقبل. و«العولمة» لها وجه آخر تمامًا غير الهيمنة الاقتصادية أو الغزو الثقافي، ولذلك كل من يناقشها من منطلق هُووي — إسلامي، قومي، شيوعي … — هو يؤجل المناظرة الفلسفية معها. العولمة علامة قوية جدًّا على نهاية الدولة-الأمة. ومن ثَم فإن مواصلة نزاعاتنا بالاعتماد على مقولات هُووية (ليبرالية أو إسلامية أو يسارية …) هو امتناع مريب عن بلورة موقف ما بعد هُووي، أي ما بعد-ديني مثلما هو ما بعد ديني من مشاكلنا. يجب ألا نخلط بين نقد الإسلاميين وبين نقد مصادر أنفسنا العميقة. ليس ثمة مستقبل لا يؤسس نفسه على سردية خاصة بثقافة أو مجتمع أو جماعة ما. نحن نحيي دومًا تاريخ الحياة الذي ننتمي إليه. والسفر المدني بين البلدان ليس سفرًا أخلاقيًّا بين هُوياتها. نحن ننتمي إلى أنفسنا بلا رجعة، ولذلك علينا أن نخوض معارك شرسة مع كل من يدمر مصادر أنفسنا أو يحتكرها أو يحوِّلها إلى أداة ابتزاز هُووي للأجيال. إن عبارة الخلط بين الديني والمدني لا معنى لها إلا في نطاق دولة علمانية، وعدم الخلط بين العنصرين لا يعني عدم التواصل أو التواشج العميق أو الاستراتيجي بينهما. والغرب ليس علمانيًّا بالمعنى الشائع، بل هو مجتمع ديني ومدني كأقصى ما يكون وفي آنٍ واحد، وهذا هو الامتياز الحقيقي الذي اخترعه انطلاقًا من مصادر ذاته العميقة. في الحقيقة لا وجود لأي دولة مدنية صرفة، وهذا ادعاء خطابي لا يقابله أي واقع، كما لا وجود لأي دولة دينية صرفة. ما نجح فيه الغرب هو إرساء ثقافة التفاهمات التاريخية بين القوى المعيارية الكبرى التي تكونه. وفضلًا عن ذلك فالغرب لم ينجح في تحقيق السِّلم المدني في مجتمعاته إلا منذ أمد قريب فقط.
«العودة إلى الأسلاف» شيء، وإعادة اختراع مصادر ذاتنا العميقة شيء آخر. لا وجود لشعب بلا ذاكرة عميقة، وذلك يعني من دون سيرة ذاتية طويلة الأمد، تتجسد عادة في شكل قصة تأسيسية، مثلًا القصة الإبراهيمية التي قامت عليها أديان التوحيد الثلاثة، ولا تزال الحداثة الغربية والإنسانية الحاليَّة مدينةً لها في أجزاء خطيرة من تصور الإنسان المعاصر لذاته، كما نرى ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. من نسميهم «الأسلاف» ليسوا قِطعًا أثرية في إحدى المقابر القديمة لبلداننا، بل هم شخوص مفهومية تمتد من الشعر إلى القرآن ومن الفقه إلى الفلسفة ومن النحو إلى الكلام ومن الخطابة إلى المنطق ومن السيرة إلى الآداب السلطانية ومن تهذيب النفس إلى التصوف … وهي تتمتع بمعاصرة سردية قوية جدًّا.
نحن لن «نعود» إلى «الماضي» بل إلى مستقبل الماضي الذي هو نحن. وما أحوجنا هنا إلى تمييز هَيدغر بين «الماضي» وبين «الكانية»: ما مضى مضى في الزمان التاريخي الذي لا يؤرخ لنفسه إلا بشكل كرونولوجي؛ أما «ما-كان» بالنسبة إلى ذاتنا العميقة فهو تِلكم القرارات الاستراتيجية التي صنعت نمطًا من الإنسانية يخصنا، وتِلكم اللمسات الميتافيزيقية التي رسمت خارطة الكينونة في العالم، التي ما زلنا نعوِّل عليها في التعرف على أنفسنا الحاليَّة والمستقبلية. وكذلك وبنفس القدر: الحاضر ليس «حاليًّا» دائمًا؛ والمستقبل ليس «آتيًا» دائمًا. يمكن أن يكون الحاضر مجرد «آنٍ» من آنات الساعة، ولا يهم أحدًا، لكن الحاضر الأصيل هو «اللحظة» التي نعيد فيها اختراع أنفسنا بكل ما أوتينا من إمكانيات الانتماء إلى أفق الإنسانية. والمستقبل لا يأتي دومًا؛ عديدة هي المرات التي جاء فيها المستقبل ولم يصل «الآتي».
لقد أهدر جيل كبير جهوده التاريخية وفق التقابل السخيف بين الإسلام والغرب، وكأن الأمر يمكن أن يكون على منوال التقابل العريض مثلًا بين الصين والغرب أو بين الهند والغرب. ومع ذلك نحن نرى إلى الصين أو إلى الهند كيف تملكت النموذج الغربي وهضمته وانتصرت عليه من الداخل. لكن «التغريب» ليس حلًّا أخلاقيًّا ولا هُوويًّا مناسبًا لأي شعب غير غربي. ما نتناقش حوله هو خيارات الإنسانية الحالية كما بلورتها الشعوب «الحديثة»، وهي بالمناسبة لم تعد أوروبية في عرقها القومي، بل صارت يابانية أو كورية مثلًا. نحن لسنا «قادرين» فقط على قبول تحدي العقل الحديث، بل نحن غير مخيرين في أن نكون قادرين. وما أجمل عبارة سارتر هنا: نحن محكوم علينا بأن نكون أحرارًا، أحرارًا في اختيار من نكون في المستقبل. المشكل هو في حصر الخيارات في هُويات جاهزة وفرضها لسبب وحيد هو كونها نماذج قامت على نظرية معينة في «الحقيقة». كل حزب يدافع عن «يقينه» باعتباره هو «الحقيقة». والفلسفة تعلمنا، منذ ديكارت على الأقل، أنه لم يعد بديهيًّا أن نماهي بين يقين الذات عن نفسها وبين القيمة الموضوعية للحقيقة. ما نعنيه هو أن «العقل الحديث» نتج عن علمنة لقيم توحيدية، وبهذا المعنى هو ليس «غريبًا» عنا في أساسه المعياري، إذْ نحن توحيديون بلا رجعة. لكن وعي العقل الحديث بنفسه، أي كونه عقلًا «غربيًّا» بحصر الانتماء، هو موقف معياري لا يلزمنا. علينا أن نفصل بين منجزات العقل الحديث وبين «تأويله الذاتي». ومن ثَم لا يقتصر الأمر عندنا على «القبول الليبرالي» بالعقل الحديث أو «الرفض الإسلاموي» لقيمته الكونية. بل نحن مدعوُّون إلى رِهان من نوع آخر: نحن لن نصمد طويلًا كحضارة قابلة للكوننة إلا بقدر ما ننافس (ونشارك) الشعوب الأخرى الحاليَّة في بلورة مستقبل الإنسانية على الأرض، وهو الكوكب المهدد بانقراض الحياة أو شكل الحياة التي نعرفها.
أجل أظن أنه يمكن تطوير حداثة إسلامية مغايرة للحداثة الغربية. وبوجه من الوجوه إن نمط وجود مجتمعاتنا المعاصرة (منذ قرن إلى الآن) هي قد قطعت شوطًا مُهمًّا في بلورة صيغ تحديث خاصة بنا. إن مشاكلنا الحاليَّة — ظهور «داعش» مثلًا — هي مشاكل تخصنا، نعني هي أعراض لمخاض «حداثي» من نوع غير غربي. لا ينبغي أن نحصر انتظارنا لظهور حركات تحديث لدينا في الجانب «الإيجابي» فقط. الكوارث لا تقل حداثة عن إعلانات الاستقلال. لا خيار لنا في دخول «نفق» التحديث العنيف لِبنَى وعينا بأنفسنا الطويلة الأمد. والشعوب تدخله دومًا من دون أي إذن من النخب التي بذلت جهودًا كبيرة، لكنها جهود جيل له حدوده. ولذلك فالسؤال عن «أهلية» أي طرف لإنجاز تلك «الحداثة الإسلامية» الموعودة، ليس سؤالًا حاسمًا. ربما يخير البعض الوقوف عند تملق آمال الشعوب أو تملق النخب المتنفذة حتى لا يُتهم في عرضه الفلسفي أو في نواياه السياسية. لكن أفلاطون كان قد خصص محاورة برأسها للتفريق الحاد بين التفكير والتملق. حتى الثقافة — أي الاستعمال العمومي للعقل — لا ينبغي أن تكون تملقًا لأحد، ولو كان دولة الثورة أو دولة المقاومة. العدو ليس مقولة أخلاقية ثابتة. والأعداء يغيرون أسماءهم دومًا. كل من يحصر مهمته في إرضاء الشعوب أو المجتمعات أو الدول عن نفسها هو متملق، مهما كانت الرسالة التي يحملها نبيلة. وبعبارة حادة لا يوجد اليوم طرف مؤهل لاحتكار سياسة الحقيقة في أفق أنفسنا الحاليَّة. ومن يقول بذلك ليس مثقفًا حقيقيًّا، بل هو إشاعة. نعم، بعض المثقفين إشاعة.
طبعًا، نحن لا نستعمل مصطلح «الإسلام» كما كان مستعملًا في المتن القرآني أو في مدونة الحديث أو في مصنفات الفقهاء أو في كتب السيرة. وباختصار لم يعد ممكنًا استعمال لفظة «الإسلام» كما كان متاحًا في خطاب الملة عن نفسها، أي تقريبًا إلى حدود مقدمة ابن خلدون، وهي آخر مرة تكلم فيها الإسلام الكلاسيكي وقدم آخر صيغة ميتافيزيقية وتاريخية عن نفسه. في أفق العصور الحديثة صار الإسلام مصطلحًا مدعوًّا بقوة إلى جملة متعددة جدًّا ومتنافرة جدًّا من الدلالات والتحريفات. وما نتوقعه هو ظهور اختراعات جديدة ومستجِدَّة لمعنى الإسلام في العصور القادمة. هو عندنا «ثروة أخلاقية» وليس جملة من «العلوم الشرعية» حول نفسه. كانت العلوم الشرعية تتمتع بكل ادعاءات صلاحيتها وبشكل جبار وأصيل في أفق دولة الملة، لكن استدعاءها في أفق الحداثة هو ضرب من التهكم الإبستيمولوجي الأسود. ولو كان ذلك بناء على ما يسميه ديفيدسن، أحد أقطاب الفلسفة التحليلية الأمريكية، «مبدأ حسن الظن بالقائل». قد يُقال نحن لا يمكن أن نتكلم عن نفس الشيء في كل مرة، ولذلك يحق للسلفيين حصر معنى الإسلام في مدونته وعلومه الشرعية، وهذا صحيح، لكن «الصحيح» ليس «حقيقيًّا» دائمًا، هذا ما علمه لنا هَيدغر. اختزال الإسلام في المنحى «الجهادي» مجرد استراتيجية خطابية، ويمكن اختزاله في القرآنيات أو في شرح الحديث أو في الحركات الصوفية أو في صناعة الفقه أو في سِير الأنبياء أو في حديث الإفك أو في تاريخ الخلافة … لا ضرَّ في ذلك. المشكل ليس في عيب الاختزال بحد ذاته، لأن تقديم الإسلام بصورة «غير مختزلة» و«كاملة» و«شاملة» هو أيضًا ليس حلًّا مناسبًا لنا. إن بيت القصيد هو في التعامل مع الإسلام بشكل «أداتي» وليس بشكل «تواصلي». الإسلام لم يعد — وهذا واقع حصل بلا رجعة — مدونة فقهية أو تقنية رجاء توجد في الماضي وعلينا «العودة» إليها. لم يعد الإسلام مِلك «المسلمين» التاريخيين، بل تحول في الفترة المعاصرة إلى أفق تأويلي خطير جدًّا، إنه جملة من القيم التأويلية لأنفسنا العميقة، وليس هُوية جاهزة لأحد، هو جملة معايير أخلاقية تحتوي على قدر هائل من الكونية أو من القابلية للكوننة. وبهذا المعنى هو زميل ميتافيزيقي لكل الأديان الكبرى التي كفَّت عن التدخل المباشر — أي العسكري — في شئون عالم الحياة اليومية للبشر الحاليين. من «يعود» إلى الإسلام كما يعود إلى منطقة تاريخية مغلقة على غيره هو يعامل الإسلام كتراث «وثني». إن أكبر عملية توثين للإسلام قد قام بها أهله، أكانوا علماء أو دعاة. الإسلام السياسي إسلام أداتي بحت، وليس فقط أداة سياسية، بل حتى الإسلام الفقهي أو الصوفي أو الوعظي أو الرسمي هو إسلام أداتي. يتم استدعاء نصوص أو كتب أو مصنفات أو أقوال اندثر عالم الحياة الذي أنتجها، وباتت مثل تماثيل لا تكلمنا، والإقامة مع التماثيل مريحة لمن لا يحب الأسئلة.
عندما يفلح جيلٌ ما من أجيالنا — حاضرًا أو مستقبلًا — في إعادة اختراع معنى الإسلام المناسب بالنسبة إلى ذوات أطفالنا الذين يعيشون أو سيعيشون في عصر ما-بعد-ديني وما-بعد-علماني في آنٍ، عندئذٍ يحق لنا أن ندعي أننا «مسلمون» جيدون، كما كان نيتشه يُعِد لظهور «أوروبيين جيدين». وليس ما يمنع من استشراف ذلك المعنى إلا الإسلام الأداتي الذي سيطر على واجهة النقاش مع مصادر أنفسنا. ولكن خاصة ثقافة تملق الذات التي سادت ومنعت أي استعمال حر لعقولنا، غير أن تملق الذات ليس حِكرًا على الإسلاميين السلفيين، بل أيضًا وبنفس القدر على العلمانيين السلفيين. إنه الطابع المميز لكل الهُوويين، وهم رهط يفزع من أي تفكير حر من دون غطاء هُووي.
إن شكل الدين الوحيد الذي يليق بعقولنا في أفق العصور القادمة — وهي بدأت بشكل مذهل — هو ما أسميه «الإيمان الحر» وهو عنوان كتاب جديد لي قيد النشر. وإذا صح فعلًا أننا في عصر الثورات أو عصر المقاومة أو عصر إرادة الشعوب أو عصر الإنترنت … فإن السمة الفارقة في كل ذلك هي الاستعمال الحر لأنفسنا أو لمساحة الذات التي نتوفر عليها. ما تنتظر الحياة «الحديثة» من الدين قد أخذته: انتظرت منه توفير نموذج تصالح قابل للكوننة بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، وليس ذلك النموذج غير «العلمنة»، وهي اختراع مسيحي أصيل. ولا معنى لأي علمنة لا تكون في أفق المجتمعات المسيحية. لكن المشكل هو فيما تنتظره الحياة «ما بعد الحديثة» من الدين. الحياة «ما بعد الحديثة» هي الحياة التي اكتشفت أخيرًا أن «العلمنة» نفسها ليست حلًّا مناسبًا للعيش المشترك المعاصر بين أعضاء المجتمعات «التعددية» بلا رجعة. إن إلغاء القيم الرُّوحية لجزء من المجتمع أو تغييبها أو استئصالها لم يعد حلًّا ناجعًا ولا مقبولًا بالنظر إلى تحديات الديمقراطية. وعلى عكس ما كان المحدثون يظنون، إن الديمقراطية هي التي أعادت الدين إلى الواجهة، وليس الخطاب الكنسي أو الدعوي. إن الحرية هي التي أعادت الهُوية إلى الواجهة، وليس العقائد الدينية. وما لم تُترك حرية اختيار شكل الإيمان المناسب لنموذج العيش الذي نتقوم به، فإن أي ديمقراطية سوف تكون وعدًا زائفًا. ومن الواضح أن الفشل في درس الديمقراطية ليس حِكرًا على أحد.