كيف نعيد العقل إلى الخدمة؟
مسألة العقل حاسمة في أي ثقافة وفي أي عصر، ونعني به مؤسسة المعنى التي من خلاله تتبلور سياسة معينة للحقيقة تتخذ من المبادئ الكونية إطارًا أساسيًّا لها. والمبادئ الكونية ليست مجرد وصفات منهجية أو بنود إجرائية للتطبيق على ثقافة أو شعب ما، بل هي إمكانيات معنًى ترقى إلى مستوى ادعاء الحقيقة أمام جملة الإنسانية، وبذلك هي تتجاوز أية ثقافة، ونتجت عن التقاطع المعياري المركب بين علوم العصر بمختلِف مجالاتها وبين أشكال الحياة ونماذج العيش التي ارتضتها الشعوب الحية لنفسها. لا أعني بالشعوب الحية الشعوب الحديثة أو الغربية وحدها؛ بل كل شعب حر هو قادر على إنتاج قيم كونية واقتراحها على بقية أعضاء الإنسانية الحاليَّة.
وبالتالي كل شكل من التفكير أو التشريع أو السلوك الذي لا يلتزم بتلك المبادئ الكونية التي قامت عليها الثقافات الكبرى عبر التاريخ، والتي بلغت مع ظاهرة المجتمعات المعاصرة هالتها العليا. وسياسة الحقيقة هذه تطال، شئنا أم أبينا، كل الشعوب والثقافات، بما فيها تلك التي تتعنت على التصنيف الكوني أو الخضوع المنهجي إلى نظر الفلسفة، باسم الهواجس الهُووية أو المعتقدات الدينية أو السرديات السياسية للدول أو حتى التجارِب العاطفية أو الأمراض النفسية للأشخاص. ونحن في تونس قطعنا مع المدرسة الحديثة شوطًا مثيرًا في إعادة بناء مؤسسة العقل، لكننا للأسف أخذنا منذ تسعينيات القرن الماضي نشهد جملة من الترددات أو الصعوبات أو حتى التشكيكات في مؤسسة العقل، وهو السياق الكئيب الذي سقطت فيه دول الاستقلال في فخ الدكتاتورية، ومن ثَم فتحت الطريق إلى عودة أجهزة التشريع الرُّوحي التقليدية، ما قبل الحديثة، إلى الاشتغال، في نحوٍ من الابتزاز التاريخي لمؤسسة العقل. والمشكل هو أن العقل لا يفكر إلا في عصره، وبالتالي فإن كل إرجاع لمؤسسة العقل إلى طباعٍ نظرية أو فضائل فكرية مات البراديغم الذي قامت عليه (مثلًا براديغم الوجود في الفلسفة القديمة أو براديغم الملة بالنسبة إلى التوحيديين) هو عمل تخريبي من نوع رديء. كل الثورات المحافظة هي من نوع رديء؛ لأنها تصلح التاريخ بذاكرة عميقة لم تعد توفر أفق المعنى الذي يسمح للشعوب بإعادة بناء سياسة للحقيقة قادرة على الكونية؛ إذْ إن «الكونية» هي دومًا معاصرة لنفسها، وهي لا تعوِّل على «الكلي» الرياضي أو المنطقي في العلوم إلا بشكل غير مباشر.
من الواضح أن الغرب قد رفع سقف انتظارات الإنسانية من نفسها، وخاصة سقف التحديات الجيو-سياسية وحتى الإيكولوجية التي ينبغي التغلب عليها حتى تضمن بقاءها على الأمد الطويل، إلى مستوًى غير مسبوق. ولذلك لا أمل لأي شعب في البقاء الميتافيزيقي — أي ادعاء امتلاك سياسة للحقيقة بالنسبة لأبنائه على صعيد الإنسانية — إلا بالانخراط في مواجهة تاريخية وملموسة مع تلك التحديات وتلك الانتظارات. والحال أن شعوبنا قد سقطت في ركن مهشم من ذاكرتها العميقة ولم تعد داخل السباق الإنساني نحو المستقبل. نحن تحولنا فجأة إلى ظواهر سردية مملة ولكن مرعبة يتفرج عليها العالم على مدار الساعة. وعلينا أن نسأل: هل الإرهاب هو فعلًا مساهمتنا الأخلاقية الرسمية في بلورة سياسة الحقيقة على مستوى الإنسانية الحاليَّة؟ أم أن ثمة جهةً تبتزنا وتسرق منا كل الآتي باسم صنم ما، أكان مشتقًّا من مصادر أنفسنا القديمة أم من مصادر نفس ثقافة أخرى؟ إن «داعش» تستمد أهميتها المفزعة من كونها ظاهرة مركبة من صنمين في نفس الوقت: صنم الملة وصنم ما بعد الحداثة. هي أقصى هاجس هُووي وأكثره رعبًا وتدميرًا لنموذج العيش البشري المعاصر، لكنها ليست مجرد تقليد سلفي، مثل الشطحات الصوفية أو الموسيقى الرُّوحية، بل هي آلة بيو-سياسية تم تركيبها بعناية جيو-سياسية فائقة وبعواطف إدارية جليدية، ثم اختراع التربة الأخلاقية المناسبة لزرعها والتفرج عليها وحتى ادعاء محاربتها. إلا أنه لا أحد بإمكانه أو من حقه أن يهددنا بالانقراض أو الخروج من التاريخ. طبعًا، في إطار فلسفة غضبية يمكننا أن نشعر بذلك، لكن حضارتنا هي واحدة من مصادر المعنى الكبرى للإنسانية الحاليَّة، وإن كانت الإنسانية الأوروبية قد جندت نفسها منذ قرون طويلة لمحو آثارنا من ذاكرة تاريخ العالم المتداول باللغات الغربية. نحن مقطع بنيوي من الظاهرة التوحيدية، والتي بلغت مع الحداثة الغربية أوجها الأقصى. ولذلك فإن انقراضنا يعني فقط انقراض النموذج التوحيدي الذي استولى عليه الغرب وحوَّله إلى برنامج معياري «معلمَن» للمجتمعات «الحديثة». وحتى يعني أن تحويل «الدين» إلى سياسة رسمية للحقيقة هو مشكل لم يقع حله فعلًا مع «علمنة» القوى الإيمانية، بل فقط إعادة توزيع السلطة داخلها. ولذلك حتى لو قلنا بأن داعش هم «خوارج» العصر فإن الخوارج التاريخيين خرجوا من صلب الإسلام الأول وليسوا إسقاطات سردية أو أخلاقية عليه. داعش لا هم «خارجيون» ما بعد-محدثين فقط، ولا هم نبتٌ من ثقافتنا فقط؛ في الحالة الأولى نحن نبرئ ذمتنا بشكل سخيف وغير تاريخي؛ وفي الحالة الثانية نحن نتهم أنفسنا اتهام الشعور بالذنب وبشكل غير نقدي. داعش ظاهرة مركبة وعلينا أن نفكر فيها بأسلوب مركب، وهذا أمر ينطبق على كل الظواهر ما بعد الحديثة: هي ظواهر وسرديات مصنوعة ومعولمة، ولكن بمواد أصلية وهُووية.
وفي الحقيقة ثمة مخاتلة غير بريئة في إقامة تشابه أو تناظر بين ما يسمى «الديمقراطية المسيحية» وما يسمى «الديمقراطية الإسلامية»، وهي مخاتلة مزدوِجة: (١) أن الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا الغربية ليست أحزابًا «دينية» بالمعنى التقني، بل العكس هو الصحيح: «لقد عمل المفكر الكاثوليكي الفرنسي جاك ماريتان بصورة خاصة على تقديم الحجج التي تُلزم المسيحيين باعتناق الديمقراطية وحقوق الإنسان» (نفسه). (٢) أن الديمقراطية المسيحية لم تكن ممكنة من دون توفر مناخ «العلمنة»، فهي أحزاب: «كما أصر ماريتان بإلحاح على أن المسيحيين لا بد وأن يعملوا كمواطنين أولًا، بينما يضعون في حسبانهم المبادئ والتعاليم الدينية. وعلى هذا فإن قبول التعددية والتسامح كانا من بين الأسس الجوهرية التي قامت عليها رؤيته، والتي منعت أي شكل من أشكال الترجمة التناظرية من الدين إلى الحياة السياسية. وكان في الحقيقة شديد الارتياب في الأحزاب المسيحية الخالصة» (نفسه).
ما ينبغي أن ننبه إليه هنا: أنه لا يوجد دين ديمقراطي، وإلا فإنه دين غير توحيدي أو دين مشوه، وبالتالي فالمطلوب هو اعتناق النموذج الديمقراطي ثم وضع المعتقدات في الاعتبار. والعنوان الذي ينبغي أن تدافع عنه الفلسفة هو: في أولية الديمقراطية على الدين. ما عدا ذلك نحن نخاتل المؤمنين وغير المؤمنين في آنٍ.
«الإصلاح الديني» مثل «الديمقراطية المسيحية»، وعديد المصطلحات الأخرى، هي لا تعدو أن تكون إسقاطات سردية على ثقافتنا، ولا تنبع فعلًا من توتر داخلي في أفقنا الرُّوحي. علينا أن نسأل: هل نحتاج على وجه الدقة إلى «إصلاح ديني» أم إلى إصلاح سياسي وعلمي وتكنولوجي وتربوي … إلخ؟ «من» يصر على جعل الدين محورًا للنقاش العمومي لدى «شعوب» إجرائية لم تنجح بعد في التحول إلى «مجتمعات»، أي إلى سياقات حيوية حيث يمكن تحقق «الحياة الكريمة» للبشر الحاليين، وليس إلى كائنات أخروية تحارب العالم كما هو؟ الإصلاح الديني ليس وعدًا لأحد، وإنما هو خطة للاستيلاء على سياسة الحقيقة وفرض مؤسسة معنًى من خارجٍ على ذاكرة الناس ومشاعرهم. الدين التوحيدي ليس قدَرًا، بل كان اجتهادًا رائعًا للشعوب الساميَّة، آن الأوان لمراجعته على أسس جديدة. وهي أسس لم تعد دينية أصلًا. نحن في «عصر العلم»، وهو السردية الجديدة التي تبنتها المجتمعات القوية على الأرض راهنًا لتربية البشر وتوجيه المعنى في عقولهم. ولا يعني ذلك أن الإنسانية قد مرت من عصر الدين إلى عصر العلم بشكل آلي، بل هي معركة أخلاقية ووجودية مرعبة لتدريب الحيوانات البشرية على الإقامة في العالم والتشوف إلى الكون بوسائل تعبير جديدة. ورأس هذه التعابير الجديدة هو العلم الحديث الذي نجح في إدخال الإنسانية في عصور بيو-تكنولوجية مفتوحة لا يدري أحد منتهاها. ولا مستقبل للدين إلا بقدر ما ينخرط في هذه السردية الجديدة ويدافع عنها ويتطبع بها. أما إصلاح الدين بحد ذاته فهو نافلة أخلاقية لمؤمنين غير قادرين على التكيف مع مستقبل الطبيعة الإنسانية في العصور البيو-سياسية، نعني عصور سياسة الحياة بناءً على نتائج السرديات التكنولوجية حولها. ولذلك فإن ثقافتنا لا تنتظر «لوثر» ولا جاك ماريتان ولا حتى غارودي. هي تنتظر نفسها. لا معنى لإصلاح ديني يأتي على منوال إصلاح دين آخر. وبعبارة دقيقة: إن مصادر الذات لا يمكن نقلها، بل إن مشاكل «الضمير والحرية والفردية» ليست مشاكل جوهرية في ديننا، فهذه تقع في خانة الأسئلة الأخلاقية العميقة (أسئلة مرتبطة بمقولة «الشخص») والحال أن «الدين» لدينا هو بالدرجة الأولى مشكل «سياسي»؛ إنه يتماهى بشكل مفزع مع مقولة «الملة» أو «الشريعة»، أما الحياة «الشخصية» فهي دائرة يجب قمعها أو السيطرة عليها. وليس من الصدفة أن المسلمين لم يعرفوا مقولة «الضمير» التي تأسس عليها «الإصلاح الديني» عند لوثر.
علينا أن نحترس من الخلط بين «الانفصال» و«الاستقلال»، فهما مصطلحان ينبعان من جهتين مختلفتين. المستقل بذاته لا ينفصل عن أحد، هذا هو وضع الحرية الحرة. لنقل: إن نزعة الاستقلال هي نتيجة مباشرة للعقلية الحديثة القائمة على فكرة الكوجيطو، أي فلسفة الأنا الذي يعتبر تفكيره أساسًا كافيًا لوجوده بنفسه. وكل «فرد» لا يصبح «ذاتًا» حديثة إلا بقدر ما يعتنق هذا المبدأ، وكل مغامرات الرأسمالية الحديثة هي مغامرات فردانية، وخلفيتها هي نزعة الذات نحو الاستقلال بنفسها. لكن الانفصال هو مشكل آخر، الفرد الحديث ليس انفصاليًّا، إنه على العكس من ذلك لا يعيش إلا بوصفه «عضوًا» في مجتمع مدني يؤمِّن له السياق الأخلاقي الذي يبلور داخله هُويته السردية. أما على صعيد الشعوب والدول فإن الأمر أكثر تعقيدًا. إن انفصال الأكراد مثل انفصال الكاتالونيين هو مشكل جيو-سياسي، وليس مشكلًا ذاتيًّا.
علينا أن نحسم هذا النوع من التساؤلات غير البريئة عن النخبة التونسية. أولًا: هذا تشخيص مشوه عما وقع، فالرافعة الفكرية في تونس كانت دومًا قوية وذات تقاليد. وثانيًا: ما وقع في تونس ليس «انتفاضة» بل ثورة بمقاييس ما-بعد-حديثة، نعني مركبة من عناصر هُووية وحيوية في آنٍ واحد، وهي ظاهرة فريدة سوف تعرفها المجتمعات الغربية نفسها في المستقبل، والتي لم تعرف في تاريخها الحديث سوى ثورات كلاسيكية. والفلسفة صاحبت الثورة التونسية إمكانًا وحدوثًا ومقاربة نقدية. وعلينا أن نتساءل: لماذا تصر بعض الألسنة على طمس مساهمة النخبة الفكرية والفنية لدينا في بلورة أفق الثورة التونسية وتأسيس قيمها العميقة؟ أليس في ذلك نية ما في إخراج النخبة من دائرة النقاش حول مصيرنا؟ ولكن، «من» سيفكر عندئذٍ بدلًا عن المفكرين؟