الرسالة الثالثة

لقائي وليَّ العهد وحظوتي لديه
هذا كتاب إليك أبدأ فيه بذكر لقائي وليَّ العهد؛ فإنا لفي بعض الأيام، ونحن جلوس إلى فقيه الإسلام، إذ دخل علينا البيتَ خادم من خدم الخليفة؛ فتخوَّف الفقيه من شيء لم أَدْرِ ما هو، وكذلك الناس يغشاهم الخوف والانقباض كلما دخل عليهم خادم الخليفة على غير موعد،١ فقال له أبو يوسف: سبق وهمي إلى أنك تطلبني لأمر جَلَل، قال: أَجَلْ، إن الأمير يدعوك الساعةَ إليه لأمر أقلقه الليلَ كلَّه، ولم يجرِ في خاطر أحد من العلماء التصرفُ في وجهٍ يكون به كشف الغُمة وتحقيق المسئول؛ فدعا خالدَ بن برمك إليه، فقال له: عليك بتلاميذ أبي حنيفة وما فيهم أحفظُ لعلمه من أبي يوسف.٢

فلما سمع ذلك طابتْ نفسه، وذهب ما كان يجده من الخوف، ولم يلبثْ أن استوضح هذا الخادمَ الخبرَ، فأعلمه أن الأمير حنِق على الخيزُران أم أولاده ليلًا، وقال لها في سَوْرة الغضب: أنتِ طالق ثلاثًا إن بِتُّ الليلةَ في مملكة أبي، فلما سَكَن غضبُه ووجدها براءً من التُّهمَة راعه أمرُ الطلاق؛ فاستدعى الأعيان والفقهاء فلم يكن عندهم ما يرجوه من الإفتاء الذي يطيب به نفسًا، ففكر أبو يوسف برهة؛ فلم يفتح الله عليه بشيء.

وكنتُ في ذلك الوقت أُجيل الفكرة في أمر الخيزُران وأذكر مآثرها في الدولة وذلك المسجد الذي زيَّنتْ به الزوراء؛ فوقع في نفسي ما يكشف هذه المُهِمَّة، فقلت لأبي يوسف: إن المساجد بيوت عبادة الله — تعالى — ولا تدخل في ملك أحد، فلو بات الأمير فيها الليلةَ ما حسبتُه يبيتُ في مملكة أبيه؛ فما كدت أنتهي من كلامي حتى كاد ينخلع من ثيابه لشدَّة الفرح، وهو يقول: لقد ظننت واللهِ أن إعمال الفكرة في مثل هذا التخلص الجميل جهد من غير تحصيل، وعناء للنفس ليس له من سبيل، فأما إذ ابتدعتَ هذا الرأي الميمون؛ فعليَّ عهدُ الله لأذكرنَّك عند الأمير؛ ليُقرِّبك إليه بما أنت أهله من الخير، ثم خرج وأنا أحسَب للأمير مَسَرَّة عظيمة مما رزقني الحظُّ استنباطَه ليكون في حِلٍّ من يمينه ومَبَرَّةٍ له من قسمه.

فلم تكن إلا ساعة حتى عاد إليَّ نُصَيْرٌ ذلك الحاجبُ قائلًا:٣ أجبِ الأمير؛ فقمتُ لساعتي أمتثل الأمر، فلما صِرْتُ في باب الدار وجدت جماعة من الغلمان قد أعدُّوا لي بغلةً فارهة من مطايا الأمير مجللة بالديباج، عليها حلية من الفضة، فركبت وسار الغلمان بين يديَّ حتى وصلنا إلى دُور الخلافة، وقد كان أخبرني نصير عما جرى بين الأمير وأبي يوسف من الحديث، وأنه لما مَثلَ بين يديه كاد يعدل عن استفتائه؛ ظنًّا منه أن لا يكون من فتواه جدوى، «والخلفاء وأولادهم يبدءون الناس بالكلام وليس للناس أن يفتتحوه معهم.»٤ فلما استطلعه رأيه فيما أهمَّه من الأمر وذكر له الرأي الذي تقدَّمتُ به إليه غلب عليه السرور حتى ما كاد يستقر به المجلس من القيام والقعود، ثم سأله: أمن معقوله ذلك أم من منقوله؟ فقال له أبو يوسف: لا والله، وإنما قائلُ هذا صديقٌ لي من أبناء الفرس، وأخذ يذكرني عنده بما استطاع من جميل الكلام.
فلما أقبلنا على دور الخلافة جُزْنا باب السور الكبير وسلكنا ممرًّا مفروشًا بالحصباء الحمراء تحيط به حدائق القصر وجِنان قد اتُّخِذ فيها أحواض يتصعد منها الماء وعليها عمد من الرُّخام تُقِلُّ قبابًا مغشاة بالرسوم الموسومة بماء الذهب، ورأينا في طرف هذه الجنان صناعًا يرفعون٥ قصرًا سمَّاه أبو جعفر: قصر الخُلْد٦ وأضافه إلى قصر السلام٧ الذي يسكنه في هذه الأيام؛ فانتهيا من هذا الممر إلى باب القصر وهو معقود تحت القبة التي كانت مزينة في عيد الفطر، وهي عَلَم الزوراء ومأثُرة بني العباس، فلما جاوزناه انتهينا إلى دار مسوَّرة بالعمد وبها مقاصير منجدة أرضها وحيطانها بالأرمني،٨ وفي أطرافها دِهليز ينبعث إليه الضوء من شمسيات قد اتخِذت في قباب بديعة الشكل حافلة الزينة، فجزناه فإذا نحن في دار أفسح من الدار الأولى، ولها باب عليه مسامير من الفضة والذهب،٩ وفيها كثير من العمد التي يوجه الخلفاء عنايتهم إلى تزيينها بالرسوم والإكثار منها فيما يبنون من القصور، حتى إني عددت في صحن من صحون دور الخلافة سبعًا وأربعين سارية لو أن ثمانين غلامًا وقفوا وراءها ما رآهم مَن هو في صدر الدار.
ثم انتهينا من هذا الدهليز إلى سلم من الرخام ينتهي بالراقي١٠ عليه إلى مجلس الأمير، وناهيك به مجلسًا قد فُرِش بالرخام المجزَّع، وبين كل رخامة قضيب من الذهب يشد بعضَها إلى بعض،١١ وقد اتخذ فرشه من الديباج والبسط الطَّبَرية١٢ عليها أبيات١٣ في مدح الأمير، وفيه كراسيُّ مرصعة بأصداف اللؤلؤ وعليها جماعة من الأعيان خافتون كأن على رءوسهم الطير،١٤ وفي صدرهم الأمير جالسًا في قبة قد اتُّخِذ لها فرش مبطن بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهب والإبرَيْسَم١٥ وإذا به أسمر طويل القامة معتدل الخلق مليح الشكل جَعْد الشعر، بعينه اليمنى نكتة بياض، وعلى رأسه خَصِيٌّ واقف بالمظلة، وهو من الخدام المقربين إلى السطان وأهل بيته ومَن يستميلهم الناس بالمال الكثير؛ ليذكروهم عنده أو يخاطبوه في حاجتهم.
فلما أقبلت على المجلس غلبني البُهْر من جلالة المهدي؛ فسلمتُ عليه بالإمارة فردَّ عليَّ السلام بخفض الجناح، وأظهر ما حسِب لي عليه من المنة، وقال لي: إنه يأنس بي ويجب أن يصيِّر إليَّ تأديبَ وَلَدَيْه موسى وهارون لما بلغه عني من العقل، فدنوت من كرسيه وقبَّلت الأرض بين يديه وقلت له في موقف الشكر على جزيل ما أولاني من النعمة: إنك قد جعلت لي بهذا شرفًا لم ينله أحد قبلي من العلماء، فقال لي: أحسن الله عنا جزاءك، فما الكثير من فعلنا بك بجزاء لليسير من حقك،١٦ ثم إنه دعا أبان بن صدقة كاتبه فوقف بين يديه،١٧ فقال له: اكتب له بدارنا على دجلة، وأقْطِعْه من ضياعنا الخاصة ما تقيمه غلته على السَّعة، ثم أمر لأبي يوسف بخمسين ألف درهم معجلة،١٨ وكان هذا أول اتصالي بوليِّ العهد أصلحه الله وتولى عني مكافأته بما هو واسع من الجميل.

في تأديبي الأميرين وما توالى عليَّ من نعمة بني العباس

ولما اتصل هذا الخبر بالخيزُران وقد كانت في دارٍ لها عادت إلى دُور الخلافة في موكب عظيم من الغلمان المزينة والخيل عليها القطوع من الديباج والحلية الثقيلة من الفضة؛ حتى تظهر ما عندها من الأبهة مع تقرير موضعها من السلطان، وأقام الأمير في ذلك اليوم مأدبة صرف في زخرفتها وُسْعَه، وجلس فيها لعطاء قريش١٩ وسائر الناس حتى امتلأت المدينة بأسباب المسرة والأفراح، ثم جاءني من لدن الأمير مَن ينطلق بي إلى الدار التي وهبها لي على دجلة، فإذا هي مشيدة على أساطين رفيعة وحنايا مقوسة وقباب مخرمة، ولها رَوْشَن٢٠ بديع الحسن يُشرف على دجلة وما وراءها من الرُّصافة، وفيها من السدول والأستار الحريرية والبسط الديباجية والقماقم النحاسية والآنية المزخرفة والخزائن٢١ المجزَّعة ما ليس مثله إلا في أمتعة الملوك وجلسائهم مما٢٢ يتكرمون به عليهم في سبيل الهبات، حتى لقد كانت الأوتاد التي تدق بجانب الباب ليعلق فيها الداخل٢٣ ما ثقل عليه من ثيابه متخذة من العاج الأصفر وعليها رسوم منزلة بالذهب تمثل ثمارًا تُجتنى بالأبصار لحسنها ولفرط ما أبدع فيها الممثل من الصناعة.
ثم جاءني من لدن الخيزران خادمان للمهدي لم تكن نوبتهما٢٤ في ذلك اليوم بملازمة بابه، ووضعا بين يديَّ إناءين من الذهب في أحدهما منشور٢٥ بضيعة في السواد وفي الآخر مِخْنقة في وسطها دُرَّة عن يمينها ويسارها أربع يواقيت وأربع زمردات بينها كثير من شذور الذهب٢٦ ثم جاءني وصيف آخر للمهدي — أكرمه الله — يحمل إليَّ رقعة بالضيعة التي سبق لي بها العطاء وهي في السواد من جوار الحيرة يقال لها: العُمَرية،٢٧ ثم بعده وصيف لأم المهدي، وهي بنت منصور الحميرية، ومعه إناء من ذهب قد انتثرت عليه اللآلئ،٢٨ ثم وفد للغالية أخته ومعهم جام٢٩ فيه دنانير وخاتم من العقيق قد رسمت فيه أم القرآن ولكن بأحرف صغيرة لا تبصرها العيون، وذلك أحسبه من محاسن الأشياء التي لا تكون إلا عند الملوك، فهطلت عليَّ النعمة غيثًا من الذهب، وليس ذلك إلا لأني وجدت منصرفًا في القول لحل تلك اليمين.
وأخذت من ذلك اليوم في تأديب الأميرين موسى وهارون بما أَحَبَّ أبوهما وأوصاني به يحيى بن خالد وزيرُنا، ولكن كنت إلى الصغير أَمْيَلَ مني إلى الكبير؛ لما وجدت من انصبابه على المطالعة٣٠ واعتباره بأقوال الحكماء، ووَدِدْتُ أن يكون هو السابق في الولادة؛ لتكون له حقوق الولاية قبل أخيه؛ لما هو جدير به من تعمير البلاد، وتقويم العباد؛ لأني رأيت الكبيرَ صعبَ المرام شكسَ الأخلاق، وقد عرفتُ ذلك ذات يوم من أمرٍ لم يتدبَّر معناه، فلما استطلعتُه فيه رأيَه حَرِد عليَّ وطار طائره من الغيظ، فحفظت له ذلك وأخذت أشغله من العلم السهل بما لا يحتاج إلى كبير مطالعة ولا إلى تكلف عناية به؛ فسرَّ لذلك وأوسعني عما بَدَرَ منه في وقت الحِدَّة اعتذارًا؛ فعرفت من ذلك أنه صعب المرام٣١ وأنَّ مَن تَوَقَّاه وعرف أخلاقه دخل في رضاه، ومَن فتح فاه فاتفق له أن يفتحه بغير ما يهواه اطَّرحه وأقصاه،٣٢ وهذا — كما ترى — خُلقٌ غير محمود في أولاد الملوك الذين يتجافون عن الحكماء والوعاظ إلى تقريب مَن يُداهِنهم بالثناء على ما ليس فيهم من الخلال، فإن ذلك دليل واضح على بعد الحزم منهم وضعف البصيرة عندهم.
أما هارونُ — رعاه الله — فإني عرفت فيه من الرقة واللطافة وسجية الحلم ما أعظم في عيني منزلته، ولم أرَ في أولاد الملوك أجمل منه خَلقًا وخُلقًا، وفيه مماثلة للفضل بن يحيى بن خالد في الصورة، وهما في سن واحدة ونشأة واحدة، حتى إنهما تبادلا لبن الرضاعة من ثدي واحد٣٣ فكانت أم الفضل ترضع هارون، والخيزران ترضع الفضل، وهو أبيض٣٤ اللون واسع العينين عالي الجبهة منطوٍ على خير وصلاح وسلامة قلب، وإذا تألم من أمر لم يستفزه الغضب ولا يزيد على هاه هاه٣٥ كلمة غيظٍ واحدة، وأنا أتشرف بتأديبه٣٦ إلى هذا اليوم وهو سنة ثمان وخمسين بعد المائة، وقد أتى عليه من العمر أربعة عشر عامًا، أصلحه الله ووفقه إلى ما به صلاح الملة والدولة بمنِّ الله وكرمه.
ولست أكتم عنك أنه لما صارت إليَّ نعمة بني العباس تحدَّث الناس بها كثيرًا في الحضرة، وأحدثت في النفوس غُصصًا يُثيرها الإشفاق على دولتهم من المهدي أن يَجْرِي على سُنَّة أبيه في تقديم الأغراب عليهم في المراتب إلى أن تخلو منهم مناصب الدولة، غير أن ما يخافونه من هذا الأمر لا يتعدى إلى غير مصلحتهم الخاصة، فإنما يعظم الإسلام بانضمامنا وجميع المسلمين إليه في غرض واحد حتى تشتد صولته، ويروج فيه سوق الأدب بما يوجده له العجم من فوائد العلم ومحاسن الصناعة، ولو أن الخليفة لم يقدمنا لهذه الغاية لم يكن له مع ما سَبَق من خوفه من الأمويين إلا أن يتجافى عن العرب، ويقصيهم عن المراتب إلى أن ترسخ في قبائلهم دولته من غير حاجة إلى قتل المسلمين بالمسلمين في فتن صعاب لا يرجو بها بلوغ أمنيته، وإنما رزِق من السياسة الحكمة في تقديم الأغراب واستمالتهم إلى غرضه حتى يستظهر بهم على تقويم ملكه بما يظهر من الجبروت الذي لا يلتمس في تمكين مهابته من المخالفين له سواه، كدأبه في الانقطاع عن اللهو،٣٧ وبُعده من البهرجة التي تبعده عن شعائر الملة، وتوجِسه من الناس ريبة يتهم فيها كثيرًا من أهل بيته أنفسهم، وتُجافيه عن الجُلَّاس والندماء إلا خلف ستارة يضربها فيما بينه وبينهم على بعد أربعين ذراعًا٣٨ إلى أمور غيرها تدل على أن مَثَلَه في التيقظ مَثَلُ الذين يستقلون بالملك على غير استرضاء الناس، ثم يمر بهم زمانهم في أشد ما يكون من الخوف والريبة.

بقية من أخبار أبي جعفر

وقد عرفتُ بترددي إلى دور الخلافة كثيرًا من أخبار أبي جعفر وسياسته؛ فوجدته ينظر٣٩ في أحكام الدولة وأمور العمال دون أن يدع لنفسه فرصة يستريح فيها من عناء الأعمال، فإذا طلع النهار جلس في إيوانه ونظر في حال الأمة وعزل الولاة الذين يريبه منهم مخالفته، ونصب٤٠ مَن يعرف فيه الأمانة وتظهر منه النجابة والفطانة مكانهم، ولا يزال آخذًا في ذلك بما يروم من إذلال المخالفين له إلى قبيل الظهر، فإذا تناول الغداء عاد إلى النظر في المصالح والاهتمام بأمر الجند، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته وفاوض أعمامه وغيرهم، فإذا صلى العشاء نظر في كتب العمال مما تجمع في النهار وشاور٤١ مَن يركن إليه من سُمَّاره، تلك عادته من يوم ولي الخلافة.
وإن تذكر — رعاك الله — ما وصفتُه لك من نُحوله في الرسالة السالفة، ثم تُضِف إلى ذلك ما أنا ذاكر لك من سهره على تدبير المملكة؛ تتمثل لك صورته بما هو مطبوع فيها من آثار المجاهدة العظيمة التي أفنى فيها عمره وطال منها عناؤه، فإن أيامه قد انقضت بين مخالفة الأمة له والتياثِ الجند عليه حتى اقتضت الحال أن يوجد الفرقة فيهم بين مضر وربيعة والخراسانية؛٤٢ ليملك بعضهم بالذي هو واجد على الآخرين، فترى أن ما لقي من تصاريف الزمان هو الذي جعله على سوء ظن بالرعية، فهو لا يركن في أموره إلا إلى وزيرنا خالد — أعزه الله — ولولاه ما استوى له الملك بين تغلُّب الأكراد٤٣ في فارس وظهور الخوارج فيما إليها من البلدان.
وقد علمتَ مما تقدم إليك من الكلام أن البرامكة يميلون بطبعهم مع أولاد عليٍّ — عليه السلام، فلما بعُد خالد عن الحضرة لحرب الأكراد٤٤ تمادى أبو جعفر مع وزيره أبي أيوب المورِيانيِّ٤٥ في سياسته مع أهل البيت من القتل والعنف، وجاء بالنفس الزكية وأخيه إبراهيم وقتلهما على حُنْق كثير من أهل بيته عليه، ولا سيما عمه عبد الله الذي غلب بني أمية في الشام، فإنه لما أحس منه الانحراف أسكنه في قصر بُني أساسه على الملح حتى إذا دجا الليل أرسل الماء حوله؛ فذاب الملح وسقط البيت عليه،٤٦ وهذا من الأمور التي يتناقلها الناس عنه بسوء الأحدوثة كما يتناقلون ذكر قلته لأبي مسلم داعية الإمامية في خراسان، وكلاهما من القواد الذين غلبوا الأمويين وأقاموا ملكه في فارس فالعراق فخراسان فما بين المسجد الأقصى إلى البلد الحرام، ولقد فاوضتُ أبا يوسف يومًا في هذا الشأن فحدثني عن جبروت أبي جعفر وأخبرني أن سلامة أمه لما حملتْ به رأت في منامها كأن سبعًا زأر فأقبلتْ عليه السباع من كل ناحية، وكلما انتهى إليه سبع سجد له٤٧ فصح تعبير منامها بما يُراد من معنى الملك والظفر.
ولقد دخلت على أبي جعفر مرة واحدة بعد رجوعه من الحِيرة وهي المدينة التي يقصدها٤٨ حين يشتد عليه الحر في الزوراء، إذ ليس في جوارها ما يصلح لسكنى الملوك غيرها؛٤٩ فلما أذن للناس بالدخول عليه صحبت لسان الشريعة أبا يوسف فأصبناه في مجلس الأمراء وفيهم شاعر مقرب إليه يقال له: أبو دلامة، وهو يدنيه ويضحك منه على بيتين من الشعر٥٠ قالهما في استهجان الزي الذي عمَّ استعماله في لبس الخواص والعوام كما تقدَّم، كأنهم في كتابة الآية بين أكتافهم ينبذون كتاب الله وراء ظهورهم،٥١ فلما أدينا فروض السلام أُمرنا بالجلوس، وقال لي بعد أن قمنا بالواجب من إجلاله: إني رأيتكم — يريد الفرس — أهل وفاء٥٢ وفطانة؛ فوليتكم المناصب في دولتنا، ولم أرَ بني مروان وقد انتبهوا لذلك ولا تكلفوا العناية في تجميل الدولة بانتفاعهم من آداب العجم، فقد كان عبد الملك جبارًا لا يُبالي بما يصنع، وكان سليمان همُّه بطنُه، ثم أفضى أمرهم إلى أولادهم المترفين فكان همهم الشهواتِ وركوب الملاذِّ من معاصي الله — عز وجل — جهلًا منهم باستدراجه وأمنًا منهم لمكره باطراحهم صيانة الخلافة واستخفافهم بحق الرياسة.

فلما ذكر ذلك عنهم جعل يضرب الأرض بمِخْصَرة كانت في يده، فوقع على بني أمية ممن حضر المجلس قذف شديد، يرومون به موافقة السلطان، وقالوا: إنهم كانوا يُعاقرون الخمر ويظلمون العباد حقوقَهم ويستحلُّون أخذ أموالهم بغير استحقاق، ويكلفون أهل القرى إذا خرجوا إلى الصيد ما لا طاقة لهم به من الضرب والإهانة، ولا يُقنعهم ذلك حتى يحطِّموا زرعهم في طلب دَرَّاج قيمته نصف درهم، ثم انتقل بعضهم من هذا القذف إلى أن يحث الخليفة على تتبع الهاربين منهم في جميع الوجوه، وسمعت من أنشده هذين البيتين المشهورين اللذين قالهما سُدَيْف لأبي العباس لما تمَّ له الغَلَبُ عليهم:

لا يَغُرَّنْك ما ترى من رجال
إنَّ تحتَ الضلوع داءً دَوِيَّا
فضعِ السيفَ وارفعِ السوطَ حتى
لا ترى فوق ظهرها أُمَوِيَّا
فامتلأ وجه الخليفة غضبًا، وقال: لعمري، إن الأمويين أهل مظالم قد غَمَطوا النعمة؛ فهوى نجمهم وثُلَّ عرشهم ولله فيهم٥٣ نقمة سأتتبعها فيهم حيث لقيت عاتيًا، فعجبتُ من مظاهرته بهذا الكلام وبين يديه كثير من الذين يتقربون إليه بالتدليس والمِحال، وأنا لا أقول إن الأمويين منزهون عن هذا الطعن ولا عن أشدَّ منه، ولكني أرى أنهم لو لم يكونوا حقيقين بمثله لرماهم كثير من هؤلاء الجلاس بأنكى منه تقربًا من السلطان فيما يحب من القدح في أعدائه، وكان ذلك أول ما لقيت أبا جعفر، ثم لم أرَه بعد ذلك؛ لأنه ركب٥٤ إلى مواطن الحج المباركة، شرفها الله بكرمه وإحسانه.

في ركوب الخليفة إلى الحج

كان لخروج الخليفة إلى الموسم موكب لم يُرَ أحفلَ منه في مواكب الملوك، فقد أقبل أهل المدينة إلى باب الكوفة٥٥ حيث اجتمع من النافرين إلى الحج الشريف من العراقيين والخراسانيين والفرس وغيرهم ما لا يُحصي عددَه إلا اللهُ، وكلهم مجهِّز إبله وكسوته وقِرَبه وخُرْثِيَّه وطعامه وهو الأخبصة اليابسة، والأقراص المعجونة باللبن والسكر، والكعك المنضد، والفواكه اليابسة، وغيرها من طعام الحاج،٥٦ ومعهم قطعة من الجند تحوطهم٥٧ في نزولهم وارتحالهم، وفي طليعتهم هوادج تظللها قباب من الديباج المطرز بالذهب،٥٨ وفيها يقيم الأمير المولَّى على الحُجَّاج وله في إمارته النظر في أمورٍ عشرةٍ وهي أن يجمع الحُجَّاج في مسيرهم ونزولهم حتى لا يتفرقوا فيخاف عليهم التواني، وأن يرتبهم في المسير؛ ليعرف كلٌّ منزله ويألف مكانه إذا أناخوا في بلد، وأن يرفق بهم في المسير حتى لا يعجز عنه ضعيفهم ولا يضل عنه منقطِعهم، وأن يسلك بهم أوضح الطرق وأخصبها، ويتجافى أوعرها وأجدبها، وأن يرتاد لهم المياه إذا قلَّتْ، والمراعي إذا انقطعت، وأن يحرسهم إذا نزلوا ويحوطهم إذا رحلوا، وأن يمنع عنهم مَن يصدهم عن المسير بجهاد لا بمال، وأن يُصلِح بين المتشاجرين؛ لأنهم يكونون تحت ولايته كأهل المدينة تحت ولاية رئيسهم، وأن يُؤدِّب خائنهم ويُلزم الناس آدابهم، وأن يُراعِيَ فواتَ الوقت فلا يُخشى عليهم ضيقُه؛ لأنهم إذا لم يصلوا عرفة في يوم عرفة ما بين زوال الشمس إلى طلوع الفجر فقد فاتهم الحج.٥٩
ولما صارت الشمس على ارتفاع قامة وقد غَصَّت بالناس المواقف وضاقت بهم الساحات ضُرب البوق إيذانًا بركوب الخليفة، ثم لم يلبث أن أقبل مرتفعًا على فيل أبيض قد استرسلت عليه الفضة٦٠ في الحلية الثقيلة، وهو جالس في هودج٦١ منزَّل بالأصداف اللامعة، وعلى القبة أستار من الديباج يتخللها رسوم من الذهب، وفي يده قضيب الخلافة وفي الأخرى الخاتم، وعليه جبة وشْي٦٢ من فوقها بُردة خضراء للنبي وهي غير البردة التي كانت لملوك بني أمية يُلقونها على أكتافهم في جلوسهم وركوبهم؛ لأنها فُقدت بفقدان الخلافة منهم، وكان قد اشتراها معاوية من آل زهير بن أبي سُلْمى بأربعين ألف درهم٦٣ وإنما هذه البردة هي التي أعطاها النبي لأهل الأبُلَّة لتبقى عندهم بركة، فاشتراها أبو جعفر بثلاثمائة دينار٦٤ واتخذها في شعار الخلافة موضع البردة التي كانت عند الأمويين، وأما الفِيَلة فإنه لم يَسبِق أحد من ملوك العرب إلى اتخاذها في المواكب، وقد أخبرني نُصَيْر ذلك الخادمُ الذي مضى في هذه الرسالة ذكرهُ أنه إنما اتخذها مركبًا لما كان من تعظيم الملوك السالفة إياها واقتنائهم لها، وإعدادها للحروب والزينة في الأعياد وغيرها، إذ كانت أوطأ مراكب الملوك وأمهدها.٦٥ وكان يصحب أبا جعفر جماعة من الأمراء ورجال بيت الخلافة، وراءهم الإبل التي يظَّعِنُها حريمُه وأهل بيته وفيهم موسى بن المهدي حاجًّا،٦٦ ومعهم حرس خاص بهم يحملون الرايات السود.
فلما وصل موكبهم إلى موقف الحُجاج؛ ارتفعت أصواتهم بالدعاء وعلا ضجيجهم بالتكبير والتهليل، فكان الواقف يستشعر من عزة الإسلام ما لا يخالج النفس أعظمُ منه؛ إذ ليس من فروض العبادة ما تظهر فيه أبهة الدولة غير حج البيت الحرام، فلما وقف الأمراء والعظماء إلى وداع الخليفة أوصاهم بالسهر على الرعية،٦٧ وأن يسألوا الله له النعمة، ويوفقه ويلهمه الرأفة بهم، ثم إنه عزم على ولي العهد أن يصحبه إلى قصر عبدويه على مسيرة يومين٦٨ من الحضرة؛ لتتم له الخلوة به على انفراد، إذ كان يحسب من هذا الموسم إتيان ما لا مردَّ له، وقد كان يرى في منامه كأن نجومًا تهوي من السماء٦٩ فيتشاءم من ذلك، فلما نُفخ في البوق إيذانًا بالنفير زحف الحُجاج كالبحر المتلاطم الأُباب، كأن سفنه الرِّكاب، وشُرُعَها الظُّلَل المرفوعة والقِباب، وفي مقدمتهم هودج الخليفة قد لمع ذهبه كأن الشمس ترسل إلى الناس نورًا من جلال الخلافة.
ولما كان بعد ذلك عاد المهدي إلى الحضرة وشرع في مباشرة الأحكام على الوجه الذي يريده أبوه، حتى صرنا ونحن اليوم في ولايته أشبهَ بنا في ولاية أبيه إلا فيما يصير إلينا من العطاء الذي لم نتعوده من أبي جعفر، وأما ما سوى ذلك من أمور السياسة فلم يكن له إلا أن يقتفي فيها أثره، وقد أوصاه وهو يودِّعه في قصر عبدويه الوصية التي هي من أحسن ما أوصى الملوك به أولادهم في السياسة، بدأ فيها بتحريضه٧٠ على سكن الزوراء وألا يستبدل بها غيرها، وأن يُظهر كرامة أهل بيته٧١ ويُحسن إلى مواليه ويستكثر منهم، ولا سيما أهل خراسان؛ إذ كانوا شيعتهم وأنصارهم ومن لا تخرج محبتهم من قلوبهم٧٢ وألا يستعين بأحد من بني سُلَيْم (خوفًا من ميلهم مع أهل البيت)، وأن يحفظ النبي في أمته ويلزم حدود الله والآدميين، ويعف عن البغي الذي لا حاجة به إليه مع ما خلَّفه له من المال، وأن يَشحِن الثغور ويَضبط الأطراف ويُعِدُّ الكُراع والرجال ويُسيء الظن بالعمال، وألا يُدخل النساءَ في أمره،٧٣ ولا ينام إلا وهو مستيقظ، إلى آخر ما أطال به في هذه الوصية التي ذهبت مثلًا بين وصايا الملوك.

في ذكر من لقيته من الشعراء

يحسن بي في ختام هذه الرسالة، أن أذكر لك عن الشعراء الذين زَهَتْ بهم دولة أبي جعفر ما ورد على الخاطر الفاتر، ولكن بإيجاز يدل على موضعهم من الإجادة في مذاهبهم، دون إطناب ينتهي إلى ما لا تسعه الصحف من ذكر أبياتهم ونوادرهم، فأبدأ منهم بذكر بَشَّار بن بُرْد البصري، وهو ضرير قد لقيتُه في مجالس البرامكة٧٤ لأول قدومي إلى الزوراء، وكان خالد — أعزه الله — قد أحب أن يطلق عليَّ اسم الزائر ويُبطل عني اسم السائل الذي كان ينعت به الغرباء في ذلك الوقت؛٧٥ لقوله لي: إني والله لا أحب اسم السائل إلا لطُلَّاب الإحسان، وأرفع قَدْر الكريم عن أن يُسَمِّي به أمثال هؤلاء المؤملين؛ لأن فيهم الأحرار والأشراف ومَن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبًا، ولكنا نسميهم الزُّوَّار، فوجد بشار لنفسه نصيبًا من كلام الوزير فأطلق لسانه في الإنشاد بما دلَّ على سرعة خاطره إلى النظم وسرعة تصرفه في فنون الشعر.

وقد رويت لبشار هذا الشاعر نحوًا من مائة قصيدة، ورأيت له في أكثرها ابتداء يرفعه إلى مساماة المقدَّمين من شعراء العرب، فلقد سمعت مَن لا أحصي من الرواة يقولون: أحسن الناس ابتداء في الجاهلية امرؤ القيس حيث يقول: «ألَا عِمْ صباحًا أيها الطللُ البالي» وحيث يقول: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، وفي الإسلام القطامي حيث يقول: «إنا محيوكَ فاسلَمْ أيها الطللُ»، ومن المسلمين بشار حيث يقول:

أَبَى طَلَلٌ بالجزع أن يتكلما
وماذا عليه لو أجاب مُتَيَّما
وبالجزع آثار بَقِينَ وباللِّوَى
ملاعب لا يُعرفْن إلا توهما

ووجدت له من جمال التشبيه ما يَعجز البُصَراء عن الإتيان بأفضل منه.

وفي قوله:

كأن مُثار النَّقْع فوق رءوسنا
وأسيافَنا ليلٌ تَهَاوَى كواكبُه
سموٌّ لم يعلُ عليه أحد من المتقدمين ولا المتأخرين، وهذا من الغريب الذي لم يُسمع بمثله عن أحد من العميان؛ لأن قولهم منحصر في الزهد والمديح والهجاء وما يتصرفون به من أبوابها، بخلاف هذا الشاعر فإنه يتوسع منها إلى سائر المذاهب من غير أن يقع في الانحطاط الذي لا يُؤمَن على مَن يُدخل نفسَه فيما هو غريب عنه، وكان المتبادر إلى العقل أن يكون بعيدًا عن تصوُّر الحُسن ولكنه أغزل الشعراء٧٦ حيث يقول:
أنا والله أشتهي سِحْرَ عينَيْـ
ـكِ وأخشى مصارعَ العُشَّاقِ
وهذا أحسبه من المواهب الطبيعية والملكات النفسانية؛ ولذلك أقدِّمه على جميع الشعراء من هذا الوجه الذي يُجِلُّه عن التكلُّف ولا أجد فيه من انتقادٍ عِيب٧٧ به شعرُه إلا استرساله في الهجاء، واختلاقُه بعضًا من الألفاظ التي يحتاج إليها لقيام أبياته على القافية من غير أن ترد في لغات العرب.
ولقيت من الشعراء المقدمين مروان بن أبي حفصة، وهو منقطع في شعره إلى مديح مَعْنِ بن زائدة؛٧٨ لأنه كفاه مئونة الاستعطاء من غيره، ولما أتى في بعض مديحه له على ذكر بلائه في حرب الرواندية بقوله:
ما زِلْتَ يوم الهاشمية مُعلنًا
بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعتَ حَوْزتَه وكنتَ وِقاءَه
مِن وَقْع كل مهندٍ وسنان
أعطاه مائة ألف درهم، وذلك أعظم ما أعطى الملوك من الجوائز، حتى إن أبا جعفر لما علم بذلك أكبره وقال في سبيل التعجب من سماحة معن: «لله دَرُّه من أعرابي! ما أهونَ عليه ما يعِزُّ على الرجال وأهل الحُرَم!»٧٩

وقد انتهت بلاغة هذا الشاعر إلى القصيدة اللامية التي يقول فيه مادحًا هذا الأمير:

بنو مطر يوم اللقاء كأنهم
أسودٌ لهم في غيل خفَّان أَشبُل
همُ يمنعون الجارَ حتى كأنما
لجارِهمُ بين السِّمَاكَيْن منزلُ

إلى أن يقول:

تجنَّبَ «لا» في القول حتى كأنه
حرامٌ عليه قولُ «لا» حين يُسأل
تشابَهَ يوماه علينا فأشكلا
فما نحن ندري أيُّ يوميه أفضل؟
أيومُ نَدَاه الغَمْرُ أمْ يومُ بأسِه
وما منهما إلا أغرُّ محجَّلُ
ولكني سمعتُ مَن يقول: إنه رفعها بعد حول كامل،٨٠ فقالها في أربعة أشهر، وانتخلها في أربعة، وعرضها في أربعة، فجاءت كأنها السحر الحلال٨١ يعجِز عن مثلها الشعراء، ولكن هذا يدل على أن علمه أكثر من عقله وأن الشعر عنده صناعة ينال نفسَه منها عناءٌ شديد، وإنما يحب من الشعراء سرعة الخاطر إلى النظم كمثل ما نعلم عن العرب من قولهم الشعر ارتجالًا في المجالس والأسواق، ومن كلام مروان:
طرقتْك زائرة فحيِّ خيالها
بيضاءُ تخلط بالجمال دلالها٨٢
قادتْ فؤادَك فاستقاد ومثلُها
قاد القلوبَ إلى الصِّبا فأمالها
وممن لقيته من شعراء هذه الدولة أبو إسحاق إسماعيل «من قبيلة عنزة»٨٣ ويعرف بأبي العتاهية وهو من المطبوعين المجيدين يقول المائة والمائة والخمسين بيتًا في اليوم الواحد، حتى ليس إلى الإحاطة بجميع شعره من سبيل، وله كلام لم يَسبِق إليه أحدٌ٨٤ كقوله:
الناس في غَفَلاتهم
ورحى المنية تَطْحَنُ
وله من بعض الكلام:٨٥
لا تأمن الدنيا على غدرها
كم غدرت قبلُ بأمثالكا
أجمعتِ الناس على ذمها
وما أرى منهم لها تاركا
وهو يأخذ في ذلك على أسلوب سهل يروم أن تفهمه العامة، وترضى به الخاصة، وإن كان منحطًّا عن لغة الأولين في فصاحة الألفاظ، وتصرفُه في الشعر مقصور على وصف الآخرة٨٦ ولم أحفظ له من المديح غير بيتين قالهما في عمرو بن العلاء:
إن المطايا تشتكيك لأنها
قطعتْ إليك بسابسًا ورمالا
فإذا وَرَدْنَ بنا وَرَدْنَ خفائفًا
وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا

وهذا أحسن ما يقال في امتداح الكريم؛ إذ لا يخفى أن وراءه من المديح ما يترك البلاد والعباد والحيوانات العجم ناطقة بما له من الجميل.

ولقيت منهم أبا دُلامة زَنْدَ بن الجَوْن وهو من الشعراء المجيدين، لكنه قد أضاع شعره في استعطاء أبي جعفر وهو بمكانه من الإمساك كما علمت، وقد قال في الثناء عليه:

لو كان يقعد فوق الشمس من كَرَمٍ
قومٌ لَقِيل اقعدوا يا آلَ عبَّاس
ثم ارتقُوا في شعاع الشمس كلُّكم
إلى السماء فأنتم أكرمُ الناس
وهذا كلام يسمو به إلى جمال الشعر ويملك النفس بما أودعه من وصف السعادة التي صورها محفوفة بالنور، ولكن قد ضاع تأثيره في النفوس ببعد الممدوح عن محاسن الكرم، وقد وجدتُ أبيات هذا الشاعر محلاة بالخلاعة كما أني وجدته يتوسع فيها إلى المجون٨٧ وكثيرًا ما كنت ألقاه في مجالس المَهَالِبة يلتمس نصيبه من عطائهم بما يتصرف به من الهزل والمزاح.
ومن الشعراء المجيدين محمد بن المولى الأعرابي، لقيته في مجالس المَهَالِبة مرة واحدة وقد قصدهم من البادية، وقال فيهم المدائح الرنانة؛ فأجزلوا عطيته من المال، وقد حفظت له من جملة أبيات يقولها في مديح رَوْح بن حاتم من أمرائهم:٨٨
إني لأرجو إن لقيتُك سالما
ألَّا أُعالِج بعدَك الأسفارَا

وكان روح عندما أنشده إياه قد غلبته الأريحية؛ فأمر بإفراغ المال عليه حتى تثقل به، فقلت للأمير: ما أنت إلا مَن يقول فيه زهير:

تراه إذا ما جئتَه مُتهلِّلا
كأنك تعطيه الذي أنتَ سائلُه

فقال: والله، لَأنْ أُعطِي أحبُّ إليَّ من أن أُمدح، ولابن المولى كلام يقرب أن يكون مثل أقوال الجاهليين، لمقامه في مواضعهم من البادية بعيدًا عن حضارة الأمصار، ومن شعره في النسيب:

أحِنُّ إلى ليلى وقد شطَّتِ النَّوَى
بليلى كما حنَّ اليَرَاعُ المُثَقَّبُ
تقرَّبْتُ ليلى كي تُثِيب فزادني
بِعادا على بُعدٍ إليها التقرُّبُ

وقوله:

وأبكي فلا ليلى بكتْ من صبابة
إليَّ ولا ليلى لذي الوُدِّ تبذُل
وكان الحسن بن زيد — رضي الله عنه — وهو عامل على المدينة،٨٩ قد دعاه وأغلظ له، وقال: أتُشَبِّب في حُرَم المسلمين وتُنشِد ذلك في المحافل والمساجد ظاهرًا؟ فقال: امرأتي طالق ثلاثًا إن كانت ليلى إلا قوسي هذه ذكرتها على سبيل التشبيب؛ لأن القريض لا يحسن إلا بالنسيب، على أني وجدتُ شعره إلى فصاحة البداوة أقرب منه إلى حلاوة الحضارة، وفي قوله:
سلا دار ليلى هل تُبِين فتنطقُ
وأنى تردُّ القولَ بيداءُ سَمْلقُ؟
عفَتْها الرياحُ الدامسات مع البِلَى
بأذيالها والرائحُ المتعبِّقُ
بكل شآبيبٍ من الماء خلفها
شآبيبُ ماء مُزْنُها متألقُ
ما يبعد تناوله على سكان الأمصار الذين ينقطع عهدهم بمحاضرة أهل البادية، وإنما يُدخلون في لسانهم كلام السوقة٩٠ وألفاظ الأعاجم الذين يخالطونهم في أسفارهم وتجاراتهم، حتى تصبح لغتهم في أشد المباينة للسان العرب.
وممن لقيته من الشعراء المجيدين السيد الحِميري، وهو من الواقفية القائلين بالإمام المنتظر،٩١ يأتي في شعره على غرضه في السياسة، ويُفرِط في سَبِّ أصحاب النبي٩٢ ممن كان يرغب عن آل البيت، وربما وقع عليه من الناس تجافٍ عن شعره من هذا الجنس، إلا أنه ليس لأحد من الشعراء ما له من عذوبة الألفاظ، وجودة السبك، ورونِق الشعر وطلاوته، وقد جمعني وإياه إلى هذا اليوم أكثر من مجلس، ووجدته حسن الكلام جميل الخطاب، إذا تحدث بين القوم أعطى كل رجل في مجلسه نصيبه من حديثه،٩٣ وله في النسيب كلام رقيق، فمن ذلك قوله:
ولما رأتْني خشيةَ البَيْن موجَعا
أكفكف مني أدمعًا بِيضها درر
أشارتْ بأطراف إليَّ ودمعُها
كنظم جُمان خانَه السِّلْك فانتثر
ومن الشعراء المُقَدَّمين أشجع بن عمرو السُّلَمي،٩٤ وقد نزل الشعر في صدره موهبة من الله، فانتهضت به قيسٌ لذلك؛ إذ لم يكن بها في الإسلام شاعر قبله، وإنما كان الشعر في ربيعة واليمن، فلما نجم أشجع وقال الشعر افتخرت به قيس على العرب،٩٥ ومما أستحسنه من نظمه سهولة القول التي لا يعاني إلى البراعة فيها تكلفًا، وقد حفظت له في مديح ولي العهد بيتين من جيد الشعر وهما قوله:٩٦
وعلى عدوِّك يا ابنَ عمِّ محمدٍ
رَصَدَانِ ضوءُ الصبحِ والإظلامُ
فإذا تنبَّه رُعْتَه وإذا غَفَا
سلَّتْ عليه سيوفَك الأحلامُ
هذا ما أذكره عن شعراء هذه الدولة بوجه الاختصار، وقد رأيتُهم يتسابقون إلى ابتكار المعاني الحِسان من غير أن ينتحلوا مذاهب مَن تقدمَهم في عصور الجاهلية، إلا فيما كان أقلَّ من النادر،٩٧ ولو رأينا لهم ما سُبِقوا إليه ما صحَّ أن نتهمهم بالانتحال؛ لأن العقول قد تتوافق وتتوارد، وإن كان المتقدمون من الجاهلية أشرف منهم لفظًا؛ فإنهم لَألْطَف منهم صنعًا وأكثر من المعاني حظًّا.

وهؤلاء هم أشعر العرب قد اجتمعوا في الزوراء إلا ابن هَرْمة وسَلْمًا الخاسر، وكلاهما شاعر مجيد أيضًا، إلا أن أبياتهما لم تصل إليَّ، فلم أعلِّق أخبارهما في هذا الكتاب.

وقد كتبت هذه الرسالة في منتصف ذي الحجة من السنة الثانية والخمسين بعد المائة من هجرة نبينا المكرم، والله المسئول في توفيقنا إلى السداد، وهدايتنا إلى الرشاد بمنه — تعالى — وكرمه.

١  هو أمر معروف في الحكايات وكتب التاريخ.
٢  الشريشي ٢ : ٣٦٧.
٣  ذكره الأغاني ٣ : ٥٧، والعقد الفريد ٢ : ٩٩.
٤  ابن خلكان ١ : ٣١.
٥  الأغاني، وابن الأثير ٦ : ٥.
٦  القزويني ٢١٠.
٧  الأغاني ٩ : ٤٥ والسيوطي.
٨  الأغاني ٥ : ١٧٣، والأتليدي ٢٢٦.
٩  الأتليدي ١٤٦.
١٠  في الأغاني (٦ : ٧٨) ما يشير إلى أن قصور الخلافة طبقة فوق طبقة.
١١  الأغاني ٥ : ١٦٦.
١٢  المسعودي ٢ : ٨٢، والأغاني ٥ : ٥٩ و١٢٨.
١٣  الكتابة على البسط مذكورة في الأغاني ٥ : ٨٦.
١٤  الفخري ٥.
١٥  المسعودي ١ : ٢٣٤.
١٦  الأغاني ٩ : ٣٠.
١٧  المسعودي ٢ : ١٨٢.
١٨  الأغاني ٣ : ٩٥.
١٩  الأغاني ٧ : ٩.
٢٠  الأغاني ٥ : ١٠.
٢١  الأغاني ٥ : ١٠٩.
٢٢  الأغاني ٥ : ٤٠.
٢٣  الأغاني ٤ : ٥٢.
٢٤  الأغاني ٣ : ١٨٤.
٢٥  المستطرف ١ : ٢٤٣.
٢٦  الأغاني ٧ : ٣٦.
٢٧  ذكرها في الأغاني ٢ : ١٠٣.
٢٨  الأغاني ٦ : ١٣٣.
٢٩  ابن خلكان ٢ : ٤٥٥.
٣٠  الفخري ٢٣٠.
٣١  المسعودي ٢ : ٢٠٢.
٣٢  الأغاني ٥ : ١٦.
٣٣  ابن الأثير ٦ : ٣٩، وأبو الفدا ٢ : ٥ وفي الفخري أن من بعض ما قيل في مديح الفضل بن يحيى قولهم:
كفى لك فخرًا أنَّ أكرمَ حُرَّة
غَذَتْك بثديٍ والخليفةَ واحدِ
٣٤  العقد الفريد ٣ : ٥٤، والخميس ٢-٣٣١.
٣٥  الأغاني ٥ : ٦٦.
٣٦  قال في مروج الذهب: إنه لما أسلم المهدي ولديه الهادي والرشيد إلى المؤدب؛ أوعز إليه أن يصير يده عليهما مبسوطة وطاعته منهما واجبة، وأن يقرئهما القرآن، ويعرفهما الآثار، ويُروِّيهما الأشعار، ويعلمهما السُّنَن، ويبين لهما فضل الحكماء في مواعظهم، ويبصرهما بمواقع الكلام، ويمنعهما الضحك إلا في أوقاته، ويأخذهما بتعظيم الأمراء من بني هاشم ورفع مجالس القواد، وألا تمر به ساعة إلا وهو يغتنم فيها فائدة يفيدهما إياها من غير أن يقسو عليهما فيُميت ذهنهما، ولا يتوسع في مسامحتهما فيستحليا الفراغ ويألفاه، وأن يُقوِّمهما ما استطاع بالقرب والملاينة، فإن أبياها فعليه بالشدة والغلظة.
٣٧  الخميس، والعقد الفريد، وابن الأثير ٦ : ٨، والفخري ١٨٧.
٣٨  السيوطي.
٣٩  ابن الأثير ٦ : ١٠.
٤٠  الماوردي ١٣٧.
٤١  المسعودي ٢ : ١٨٤.
٤٢  ابن الأثير ٥ : ٢٣٩.
٤٣  ابن خلكان ١ : ١٤٩.
٤٤  ابن الأثير ٥ : ٢٣٦ و٦ : ٦.
٤٥  المسعودي ٢ : ١٨٢.
٤٦  الفخري ١٩٨، وابن الأثير ٥ : ٢٣٥، والمستطرف ١ : ٩٦.
٤٧  المسعودي.
٤٨  وفي ابن الأثير (٦ : ٥٥) أن الرشيد سكنها أيضًا برهة من الزمان.
٤٩  الأغاني ٢ : ١٢٥.
٥٠  البيتان هما قوله:
وكنا نُرجِّي من إمامٍ زيادة
فجاد بطولٍ زادَه في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها
دِنَان يهود جُلِّلتْ بالبرانس
٥١  العقد الفريد ١ : ٩٨.
٥٢  ابن الأثير ٦ : ١٢.
٥٣  ابن الأثير ٥ : ١٦٧، والقزويني ١٦.
٥٤  ابن الأثير ٦ : ١٦.
٥٥  هو من أبواب بغداد.
٥٦  المسعودي ٢ : ٥٦.
٥٧  الأغاني ٩ : ٦٤.
٥٨  أبو الفداء ١ : ١٥٧.
٥٩  الماوردي ١٨٧.
٦٠  المقدمة ١٤.
٦١  الكشكول.
٦٢  كذا في العقد الفريد ٣ : ١٥٦.
٦٣  أبو الفداء ١ : ١٥٦.
٦٤  السيوطي.
٦٥  المسعودي ١ : ١٨٥.
٦٦  ابن الأثير ٦ : ١٣.
٦٧  السيوطي.
٦٨  أبو الفرج ٢٢٠.
٦٩  ابن الأثير ٦ : ٦.
٧٠  ابن الأثير ٦ : ٧، وأبو الفداء ٢ : ٧.
٧١  أبو الفرج ٢٢٠.
٧٢  العقد الفريد.
٧٣  الفخري ٤٨.
٧٤  الأغاني ٣ : ٣٦.
٧٥  الأغاني ٣ : ٣٦، الوطواط ٢٤٩، والفخري ١٨٥.
٧٦  الأغاني ٦ : ٤٩، وابن خلكان ١ : ١٢٥.
٧٧  الأغاني ٣ : ٤١ و٥٣ و٧٣، وابن خلكان، ٢ : ٢٥٢، وابن الأثير ٦ : ٣٧.
٧٨  الأغاني ٩ : ٤٤.
٧٩  المسعودي ٢ : ١٨٣، والأغاني ٩ : ٤٤، وابن خلكان ٢ : ١٦٠، والمستطرف ١ : ٧٣.
٨٠  الأغاني ٩ : ٤.
٨١  ابن خلكان ٢ : ١٣١.
٨٢  في العقد الفريد: «بيضاء تنشر بالحياء دلالها.»
٨٣  الأغاني ٣ : ١٢٧.
٨٤  الأغاني، والعقد الفريد ١ : ٣٧٤.
٨٥  المسعودي ٢ : ٢١٨.
٨٦  الأغاني ٣ : ١٢٦.
٨٧  ابن خلكان ١ : ٢٧١، والأغاني ٩ : ١٣٢، والمستطرف ٢ : ٤، والشريشي ٢ : ٢٦.
٨٨  الأغاني ٣ : ٩٠.
٨٩  ابن الأثير ٥ : ٢٤٣.
٩٠  يقول في الأغاني (٣ : ١٧٣): إن الألفاظ السوقية لا تمنع أن تكون القصيدة جيدة.
٩١  العقد الفريد ١ : ٢٦٦، والمقدمة ١٧٣، وذكره المسعودي ٢ : ٨٠، وسمَّى شيعته بالكيسانية.
٩٢  أبو الفداء ٢ : ١٥.
٩٣  الأغاني ٧ : ٣.
٩٤  الأغاني ١٥ : ١٠٨.
٩٥  الأغاني ١٧ : ٣٠.
٩٦  البيتان قيلا في هارون الرشيد.
٩٧  انظر ابن خلكان ١ : ١٠٢، والأغاني ٣ : ٤٩ و١٤٨ و٥ : ١٧٨، والحصري ٢ : ١٦٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤