الفصل الأول

الاشتراكية الإسلامية

(١) وجهة الاشتراكية الإسلامية

لم يطبَّق النظام الاشتراكي في الحياة الاقتصادية لأمة بأسرها إلا في هذا العهد الحديث، وذلك منذ أصبحت الشيوعية النظام الأساسي لروسيا السوفيتية. والشيوعية صورة من صور الاشتراكية الكثيرة المتباينة، وهي أكثر هذه الصور تطرفًا وأشدها إمعانًا في إنكار الملكية الفردية. وهذه الشيوعية تناقض المبادئ الإسلامية كل المناقضة، فهي تنكر المِلك والميراث والأسرة، والمِلك والميراث والأسرة نظم جوهرية في الحياة الإسلامية. هذا التباين، بل هذا التناقض الصريح بين الإسلام والشيوعية، يقتضينا ونحن نبحث في الاشتراكية الإسلامية أن ندع الشيوعية جانبًا، وأن ننظر فيما عداها من صور الاشتراكية حتى نرى أوجه الاتفاق وأوجه الخلاف بين هذه الصور والاشتراكية الإسلامية.

ويجمل بنا قبل أن نواجه هذا البحث أن نذكر أن الفكرة الاشتراكية التي نشأت منذ ألوف من السنين، إنما نشأت صيحةَ أَلَمٍ لما بين الناس من التفاوت في حظهم المادي من الحياة، وأنها كانت ترمي دائمًا إلى محو هذا التفاوت حتى تقضي على نتائجه الاجتماعية، وفي طليعتها التباغض والحسد والنضال المستتر حينًا، الواضح حينًا آخر، وحتى تزيل ما يشعر به المحرومون من ألم الحرمان.

ولقد طالما تحدَّث العلماء والكتَّاب الاشتراكيون عن هذا التفاوت في حظوظ الناس، ونسبوه إلى فساد النظم التي تقوم الجماعات الإنسانية عليها. وليس يحدثنا التاريخ الذي نعرفه عما كان قبل أفلاطون من صور الاشتراكية، ولذلك أَلِفَ كثيرون أن ينعتوا أفلاطون «أبا الاشتراكية» ومن يومئذ إلى يومنا الحاضر لم يفتأ الاشتراكيون يتحدثون في هذا التفاوت في وسائل إزالته، ويقيمون من المذاهب ويقترحون من النظم ما يرونه كفيلًا بتحقيق الغاية التي يرمون إليها.

والأكثرون من العلماء والكتَّاب ينظرون إلى المسألة من ناحيتها الاقتصادية البحتة. والأمر كذلك في عهدنا الحديث بنوع خاص. ولا ريب في ذلك، والنظام الاجتماعي في هذا العهد يقوم على أساس اقتصادي صرف، وعلاقات الناس بعضهم ببعض، وعلاقات الأمم بعضها ببعض، تخضع خضوعًا تامًّا لما بينها من صلات اقتصادية، بل لا عجب في ذلك وقد أقام كثير من الفلاسفة قواعد الخُلق على أساس اقتصادي، وقد نادى كثيرون بأن تاريخ الإنسانية لا تفسير له إلا في نظمها الاقتصادية، وأن حضارات العالم في الأزمان المختلفة إنما تكيفت بتطور نظم العالم الاقتصادية. لا مفر لمن يجعل هذه الناحية وجهة نظره للحياة، ثم يكون من دعاة الاشتراكية، أن يجعل غاية همه في الدعوة إلى إزالة ما بين الناس من التفاوت المادي، ليرتفع الظلم عن عاتق الأكثرين، ولتكون الكثرة من الناس أكثر بالحياة سعادة، وعنها رضا.

ولقد أثبت تعاقب القرون أن إزالة هذا التفاوت أمر غير مستطاع، وأن إقامة الاشتراكية على أساس من المساواة بين الناس في حظوظهم المادية، لا يزيل الظلم الذي يذكرونه، فمقدرة الناس على العمل في الحياة تتفاوت، ومتاعهم بنعم الحياة يتباين؛ ففيهم القوي والضعيف، وفيهم الصحيح والمريض، وفيهم المتهالك على لذائذ العيش ومن يرى الزهد فيها لذة تفوق كل لذة، ولا سبيل إلى التسوية بين هؤلاء جميعًا، وعلى أساس يرضى الجميع عنه.

الديمقراطية الحقة

ثم إنك لا تستطيع أن تنكر على الفرد ذاتيته، ولا تطمع في أن تصل من الجماعة إلى العدل المطلق، لا بد إذن من مزاج يحقق خير الجماعة وحرية الفرد في ظل العدل الإنساني. وتحقيق هذا المزاج يجب أن تراعى فيه ذاتية الفرد وكيان الجماعة لا من الناحية المادية وحدها بل من النواحي الإنسانية المختلفة، ومن بينها الفطرة والعاطفة والهوية، ومن بينها الغرائز الاجتماعية التي تقيم الأسرة، وتقيم المدنية، وتقيم الجماعة الإنسانية بوجه عام.

وهذا المزاج هو ما قصد إليه الإسلام، فهو لم ينكر ذاتية الفرد، ولم ينكر حقه في التملك، ولم يغفل الغرائز المختلفة التي تحركه في الحياة، لكنه قدر إلى جانب ذلك أن الجماعة يجب ألا تبلغ من حماية الذاتية الفردية حدًّا يزيد القوي قوة والضعيف ضعفًا، ويكون لذلك سببًا في تداعي الجوانب السامية في نفس الإنسان، جوانب الإيثار والمحبة، وما إليها من عواطف أصيلة في النفس هي قوام الأسرة وهي قوام الجمعية كلها. وتحقيق هذا المزاج هو الأساس الأول للاشتراكية الإسلامية. وهذا الأساس يقوم على مبادئ تكفل رفع الظلم الذي يشكو الناس منه، والذي أدى منذ أقدم العصور إلى التفكير في الاشتراكية ومحاولة تنظيمها لتكون صالحة للحياة العملية في الجماعات.

ولم ينكر غير الشيوعيين مثل هذا المزاج، فكثير من المبادئ الاشتراكية لا تنكر الملكية الفردية إنكارًا مطلقًا، ولا تنكر الأسرة ولا التوارث. وبعض هذه المذاهب يقر الملكية الصغيرة في الزراعة والصناعة والتجارة، وإن أنكر الملكية الكبيرة فيها جميعًا. ومنها من يدعو إلى الاشتراك المطلق في مواد الإنتاج، ويقر الفردية في التمتع بثمرات هذا الإنتاج. ومنها كذلك ما يجعل العمل أساس توزيع الثمرات، يتخذ العمل بديلًا من رأس المال الذي يقوم النظام الفردي على أساسه.

هذا التعدد في صور الاشتراكية، هو الدليل على أن الإنسانية تحاول منذ القدم أن تهتدي إلى نظام يزيل الإجحاف الناشئ عما بين الناس من تفاوت في حظوظهم المادية. ولم تذهب هذه المحاولات عبثًا، فلم يستقر النظام الفردي بصورة مطلقة في الحياة الاجتماعية إلا في فترات وجيزة. وأنت ترى اليوم صورًا من الاشتراكية تجاور النظم الفردية في الحياة الاقتصادية للأمم كلها. وما تقرر من حقوق مشتركة للجميع، كالتعليم والصحة والتعاون وما إليها، ليست إلا بعض هذه الصور تقررها الجماعات للخير العام من ناحية، وإقرارًا لمبادئ العدل بين الأفراد من الناحية الأخرى.

وهذا التجاور بين النظم الفردية والنظم الاشتراكية في الجمعية الواحدة أمر طبيعي، بل هو وحده الطبيعي، فالجماعة الإنسانية — على أي أساس أقمتها — لا يمكن أن تنهض إلى الكمال الواجب عليها، إلا إذا كفلت للفرد حريته في النشاط الذاتي، وحقه في المتاع العادل بثمرات هذا النشاط، ثم حالت في نفس الوقت بينه وبين الضغط على نشاط غيره، وبينه وبين ما لغيره من حق في ثمرات نشاطه والمتاع بها، بذلك يكفل تضامن الجهود في توجيهها لخير الجميع.

والمبادئ الإسلامية في التنظيم الاجتماعي تحقق هذا كله، فهي تقر الملك والأسرة والميراث كما قدمنا، وتعتبرها نظمًا أساسية في الحياة الاجتماعية. لكنها تقدر ما في قيام الملكية الكبيرة واستمرارها من خطر الطغيان من جانب الأغنياء، والشعور بالظلم الناشئ عن تفاوت الحظوظ المادية من جانب الفقراء؛ لذلك عملت للحيلولة دون قيام الملكية الكبيرة على أساس غير المجهود الذاتي، ولبلوغ هذه الغاية حرَّم القرآن الكريم الرِّبا، وجعل نظام الميراث وسيلة فعالة لتجزئة الملكية الكبيرة. وفي تجزئتها، وفي تسهيل انتقال أجزائها من فرد إلى فرد، ومن أسرة إلى أسرة، ما يزيل الخوف من ألم النفوس لتفاوت الأرزاق تفاوتًا ظالمًا.

لم يكتفِ الإسلام بهذه القيود التي فرضها على الملكية وثمراتها وطريقة توزيعها، بل جعل على أصحابها حقوقًا لبيت مال المسلمين يؤدونها زكاة عن أموالهم وصدقة تطهرهم، وجعل للفقراء الذين حُرموا السعة في الرزق، وللمحتاجين الذين ثقلت عليهم الحياة حقوقًا في بيت مال المسلمين مقررة بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والحديث المأثور عن النبي — عليه السلام — أنه قال: «أُمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم» يتفق تمام الاتفاق وأحكام الآية السابقة من القرآن، على أن الإسلام لا يريد أن يكون هذا الاشتراك في مال الأغنياء — مما جعله حقًّا للفقراء — أمرًا تشريعيًّا ينزل المشرع حكمه طائعًا أو كارهًا، بل أراده أمرًا تعبديًّا يجب أن يتصل بالإيمان اتصال الصلاة والصوم وسائر الفروض. وذلك قوله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

الاشتراكية الإسلامية يجب أن تقوم بالنفس على أنها من فرائض الإيمان، وهذا الإيمان نفسه له في قيام الاشتراكية أثر بالغ.

(٢) أسس الاشتراكية الإسلامية

الاشتراكية الإسلامية تناقض الشيوعية وتحاربها، فهي — على خلاف الشيوعية — تعتبر المِلك والأسرة والميراث نظمًا أساسية في الحياة الاجتماعية، لكنها ترى الغنى الفاحش مصدر طغيان يُخشَى خطره؛ لذلك عملت للحيلولة دون قيام الملكية الكبيرة على أساس غير المجهود الذاتي، فحرَّم القرآن الكريم الربا، وجعل الميراث وسيلة فعالة لتجزئة الملك، ثم فرض للفقراء حقوقًا على الأغنياء، وجعل هذا كله من فرائض الإيمان، فكفل بذلك للاشتراكية الإسلامية القوة والبقاء.

وأبادر، بادئ ذي بَدء، بتفسير ما أقوله من أن الإسلام جعل هذه الأمور من فرائض الإيمان، فإن كثيرين يسألون: لِمَ فرض الإسلام على الناس أمورًا تدخل في نظام حياتهم في هذا العالم، ولم يكتفِ بالعبادات وما بين المرء وخالقه مما يتصل بالعقيدة، ليترك ما بين الناس بعضهم وبعض، ينظمونه على مقتضى مصالحهم في العصور المختلفة، والأمم المختلفة؟

وأكرر ما سبق أن قلته غير مرة: إن القرآن الكريم لم يتناول تفصيل المسائل بل مبادئها العامة، ثم ترك التفاصيل ينظمها الناس بما يحقق مصالحهم، واجتهاد المسلمين في العصور المختلفة، واحترامهم جميعًا للمذاهب المختلفة التي أقامها هذا الاجتهاد، أقوى حجة على هذا. وما جاء به القرآن الكريم من المبادئ العامة لنظام الحياة الدنيا جوهري في الإسلام لسلامة العقيدة، ولذلك كانت العقيدة السليمة والإيمان الصادق، قوام هذا الدين، وكانت مصدر النظام الروحي الذي يجب أن يقوم الخلق الحسن على أساسه. وكل خروج في نظم الحياة الاجتماعية على قواعد الخلق، وعلى النظام الروحي الذي تقوم عليه، جدير بأن يترك أثره السيئ في الأخلاق وفي العقائد العامة، وفي الإيمان والعبادات المترتبة عليه.

يجب علي، لأزيد هذه الفكرة وضوحًا، أن أذكر اتجاه الإسلام الواضح في تقرير سلطان الروح في سموها إلى المثل الأعلى على الغرائز الإنسانية الجمعية في حدود الحياة، وحاجاتها العاجلة. والناس جميعًا — على اختلاف أديانهم ومذاهبهم — يؤمنون بهذا السلطان، وإن كانوا لا يرتبون عليه كما يرتب الإسلام كل نتائجه. وهل غرضنا جميعًا من تربية أبنائنا وتهذيب نفوسنا إلا أن نهذب هذه الغرائز، وأن نبلغ بتهذيبها أسمى المبادئ الإنسانية؟ وأكثر الأمم رقيًّا، وأكثرها نجاحًا في تربية أبنائها، هي التي تصل بهم إلى الإيمان بمبادئ الغيرية والإيثار على أنها واجب عليهم لأنفسهم، ولأبناء جنسهم. وهم لذلك يقررون ما توجبه هذه المبادئ بوحي ضمائرهم، وإن لم يفرضها عليهم قانون أو يلزمهم بها سلطان.

والتربية والتهذيب غرضهما الأساسي تقوية سلطان العقل والروح على الغرائز الأولية التي يحركها الحرص على الاحتفاظ بالحياة، وكلما زاد سلطان العقل والروح على الغرائز السليقية، ازددنا إيمانًا بفكرة الواجب وإذعانًا لندائه المنبعث من ضمائرنا، فإذا بلغ اقتناعنا بهذه الفكرة مبلغ الإيمان، وأيقنا بأن هذا الواجب يفرضه علينا بارئ الوجود، وزاد بنا اليقين فعلمنا أن هذه الحياة ليست كل شيء، وأن النتائج العاجلة التي نجنيها من إطاعة غرائزنا الأولية كثيرًا ما تضرنا في حاضرنا وفي مستقبلنا، كنا أشد بالواجب إيمانًا، ثم رتبنا على مقتضى هذا الواجب معاملتنا للناس وصلتنا بهم.

وضرورة الإيمان بالواجب، وتقديمه على حاجات الحياة المادية مقررة في النفوس جميعًا منذ بدأ الإنسان يفكر، والجندي الذي يبذل حياته فداء لوطنه، مَثَل حي لهذا الإيمان في كل العصور. وحينما فكر بعضهم في إقامة نظم دينية بأوروبا تساير حضارتها في القرون الأخيرة، كان دين الواجب بعض ما فكر فيه «أوجست كنت»، ذلك لأن الغرائز الفردية الحبيسة في حدود الحياة وحاجاتها العاجلة، تقتصر عن أن تسمو بالإنسان إلى حيث أعده القدر؛ ولذا وجب أن يكون سلطان العقل والروح على هذه الغرائز الفردية قويًّا إلى الحد الذي يكفل حياة الجماعة الإنسانية وطمأنينتها وسعادتها، وقواعد الخلق هي الكفيلة بتحقيق هذه الأغراض، والإيمان بأن هذه القواعد جوهرية لبلوغ الكمال في أداء الواجب هو القوة الروحية السامية التي تطمئن إليها قواعد الخلق، وتدعو الناس إلى القيام بالواجب حرصًا على رضا الضمير، ورضا الله.

على هذا الأساس كانت الزكاة ركنًا من أركان الإسلام، وكانت الصدقة فريضة من فرائضه. والزكاة لها قواعدها، والوالي ينظمها حسب مقتضيات الوقت كما تنظم الحكومات الضرائب، ويقتضيها الناس بقوة الشرع وسلطانه، فإذا نكل الناس عن أدائها أُكرهوا عليها. وامتناع العرب عن أداء الزكاة هو الذي أدى إلى حروب الردة في عهد أبي بكر. أما الصدقة ففريضة تعبدية أوجبها الإسلام على كل قادر عليها لخير من هو في حاجة إليها، وجعل جزاءها عند الله كجزاء الإيمان بالله، وذلك قوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ وقوله جل شأنه: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وكون الصدقة فريضة صريح في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وفي قوله جل شأنه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.

والأحاديث الواردة في الصدقة متفِقة مع ما جاء في كتاب الله، مستفيضة قوية غاية القوة في الحض عليها.

تحديد الثروة

أما نزعة الإسلام إلى تحديد الثروة ورغبته عن الثروات الضخمة، فواضح في القرآن الكريم كل الوضوح، من ذلك قوله تعالى: إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ومنه قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ.

هذه كلها ميول اشتراكية واضحة، على أن أشد ميول الاشتراكية الإسلامية اتفاقًا مع ما تنادي به بعض المذاهب الاشتراكية المعتدلة في عصرنا الحديث، فذلك جعله العمل الأساس الأول لتوزيع الثروة واعتباره رأس المال وسيلة للعمل، وليس عنصرًا قائمًا بذاته تترتب لصاحبه ثمرات كالتي تترتب للعامل، أو لمالك الأرض وغير الأرض من أدوات الإنتاج.

وهذا الاعتبار هو في رأيي السبب الجوهري لتحريم الربا، فإقراض المال وفرض فائدة معينة له، بقطع النظر عن الثمرة التي يجنيها من يثمر هذا المال، وعما قد ينشأ عن هذا التثمير من الخسارة، معناه اشتراك رجل لا يعمل في ثمرات العمل الذي يقوم به غيره. فإذا اعتبرنا رأس المال ثمرة عمل سابق اشترك به صاحبه مع من يثمر المال المقترض كانت النتيجة العادلة أن يكون المقرض والمقترض شريكين لكل من الربح، وعليه من الخسارة حظ معلوم. أما أن يكون لأحد الطرفين ربح ثابت سيان رَبِح الآخر أو خسر، وأن يسمى هذا الربح فائدة المال، فذلك ما لا يقره الإسلام بحال.

ليس معنى هذا بالطبيعة أن الإسلام لا يقر قيام الشركات، فكل شركة تتألف للقيام بعمل من الأعمال، ويكون للشركاء فيها حظ من الربح وعليهم حظ من الخسارة، بمقدار نجاح الشركة أو مصادفتها العقبات، يتفق وما قدمنا تمام الاتفاق. ولقد ظل التجار يقومون من مكة بعد الإسلام، كما كانوا يقومون قبله، فيجمعون الأموال من أهلها ويتجرون فيها ثم يقسمون الأرباح بين الشركاء. وقد تطورت نظم الشركات بتطور الأحوال التي مرت بها الدول الإسلامية، فنظم الفقهاء أحكامها بما هداهم إليه اجتهادهم.

العمل أساس الجزاء

وكما قصد من تحريم الربا إلى أن يكون عمل العامل هو الركن الأساسي لتوزيع الثروة، قصد من قواعد التوريث الإسلامي إلى الحيلولة دون قيام الملكية الكبيرة واستمرارها أجيالًا في يد واحدة. وقد لاحظ الذين تتبعوا انتقال الثروة في الأمم الإسلامية خلال العصور، سرعة تنقلها وعدم استقرارها في يد واحدة استقرارًا يغري بالطغيان. وكانت هذه الملاحظة موضع تفكير من جانب الذين يظنون أن تقدم الأمم رهن باستقرار الأسر العريقة وتقاليدها الصالحة، لكن هذا التفكير لا يتفق وميول الإسلام الاجتماعية، ولا يتفق مع ما ينطوي عليه هذا الدين من حرص على قيام المزاج الضروري من الفردية والاشتراكية لخير المجموع، ثم هو لا يتفق أخيرًا مع الأساس الجوهري الذي وضعه الإسلام أساسًا لهذه الحياة الدنيا وللحياة الآخرة، والذي تلخصه الآية الكريمة: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.

وهذا الأساس الجوهري هو ما جعلني أقرر من غير تردد أن الإسلام يشترك مع المبادئ الاشتراكية المعقولة في هذا العصر الحديث، إذ يقرر أن العمل أساس الجزاء، ويجب لهذه الغاية أن يكون أساس توزيع الثروة. ولا أراني بحاجة إلى ذكر نصوص القرآن الكريم التي تقرر هذا المبدأ في وضوح وصراحة، فالآيات التي في معنى قوله تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ متواترة في القرآن الكريم تواتر الآيات التي تحض على الزكاة، وعلى الصدقة، وعلى الإيمان بالله.

الاشتراكية الإسلامية لا تنكر إذن ذاتية الفرد، ولذلك لا تنكر المِلك ولا الأسرة ولا التوارث. وهي مع ذلك تنكر التفاوت الذي يخلق الطبقات، ويقيم بينها النضال، وما ينشأ عن النضال من عداوة وبغضاء. ومن ثم، جعلت العمل أساس الجزاء وتوزيع الثروة، وحرمت كل وسيلة للغنى تجيز الاستيلاء على مجهود الغير.

(٣) تطبيق الاشتراكية

في عهد النبي

النظام الاقتصادي في الإسلام مِزاج من الفردية والاشتراكية، فهو يقرر المِلك والأسرة والميراث، وهو يقيم طائفة من القيود والحدود تخفف من التفاوت بين الناس في حظهم المادي، وهو يجعل قواعد الخُلق القائمة على أركان الإيمان الإسلامي أساس هذا النظام، ليكفل له القوة والبقاء.

كيف طُبقت الاشتراكية الإسلامية القائمة على هذا الأساس في الصدر الأول للإسلام؟

أما في عهد رسول الله، فقد بلغ تطبيقها غاية السمو، وكان الرسول الكريم الأسوة الحسنة فيها، ثم كان أصحابه مثال الإيثار على أنفسهم. وأنت إذ ترجع إلى ما قبل الهجرة إلى المدينة ترى من أمثلة ذلك الشيء الكثير، فكثيرًا ما افتدى أبو بكر الأرقاء الذين أسلموا فعذبهم سادتُهم، ثم أعتقهم بعد افتدائهم. وكذلك فعل غير أبي بكر، بل لقد كاد المسلمون يعتبرون أموالهم جميعًا ملكًا مشتركًا بينهم جميعًا، ولذلك أفنى أكثرهم ماله، فلم يبقَ له إلا القليل حين الهجرة إلى المدينة.

كانت أموال خديجة أم المؤمنين طائلة، وكان رسول الله يتصرف فيها كما يشاء. ولقد أنفقها جميعًا على المسلمين، فلم يكن له منها حين الهجرة شيء. وكان أبو بكر قد جمع من التجارة أربعين ألف درهم قبل إسلامه، ومع أنه ظل يتجر بعد أن أسلم، فيجني من التجارة وافر الربح، فقد كان كل ماله يوم هاجر إلى المدينة خمسة آلاف درهم. وأنفق عثمان بن عفان لخير المسلمين صدقات يخطئها العد.

ولما قاطعت قريش رسول الله وأصحابه، وأكرهتهم على أن يقيموا بشعاب الجبل ثلاث سنوات متعاقبة لا يتصلون بسائر أهل مكة في تجارة، كان الفقراء يأكلون من مال ذوي اليسار، لا يحاسبهم أحد، وذوو اليسار هؤلاء مطمئنون إلى أن الله سيجزيهم عن بذلهم لإخوانهم أوفى الجزاء.

فلما هاجر المسلمون إلى المدينة، وبدأ رسول الله يعلن إلى أهلها تعاليم الإسلام، كان الإخاء الإسلامي حجر الأساس في دعوته إلى الدين الجديد والحضارة الجديدة. وكان هذا هو الدليل على أن تعاليم مكة لم يدعُ إليها اضطهاد المشركين للذين أسلموا، ولذلك لم يكن الاضطهاد سبب ما رأيت من إخاء وبذل واشتراكية، فلقد ظلت تعاليم محمد بمكة قائمة على الأساس الذي نادى به منذ اليوم الأول، أساس الإخاء الصادق، فلا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يصل به هذا الإخاء إلى غاية البر والرحمة من غير ضعف ولا استكانة.

سأل رجل من أهل المدينة محمدًا: «أي الإسلام خير؟» فأجابه: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.» وكان رسول الله يرى الفقر فخره، ويرى في ادخار المال ما لا يتفق ومقامه من الرسالة.

كان عنده أول ما اشتد به المرض الذي أعقبته وفاته سبعة دنانير، خاف أن يقبضه الله إليه وما تزال باقية عنده، فأمر أهله أن يتصدقوا بها، لكن اشتغالهم بمرضه أنساهم تنفيذ أمره، وسأل عنها قبيل وفاته، فلما ذكرت عائشة أنها ما تزال عندهم، طلب إليها أن تحضرها ووضعها في كفه، وقال: «ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه.» ثم تصدق بها على فقراء المسلمين.

ولما تمت هجرة المسلمين من أهل مكة إلى المدينة، فانصرف تفكير الرسول إلى تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم، كان أول ما صنعه أن دعا المهاجرين والأنصار جميعًا ليتآخوا في الله أخوين أخوين، ثم جعل لهذا الإخاء حكم إخاء الدم والنسب. ولقد أبدى الأنصار في هذا الموقف من حسن الإيمان ما جعلهم يعرضون على المهاجرين أن يشاركوهم أموالهم، لكن المهاجرين أبوا أن يعيشوا كَلًّا على إخوانهم، ثم كانوا يجدون في الجهد للعيش من الطمأنينة لأنفسهم ولعقيدتهم ما لم يكونوا يجدونه بمكة.

فأما الذين لم يجدوا عملًا، أو لم يكونوا يستطيعونه، فأولئك أفرد لهم الرسول مكانًا مسقوفًا بالمسجد هو صفته يبيتون به ويأوون إليه، ولذلك سُموا أهل الصُّفة، وجعل لهم رزقًا من مال المسلمين الذين آتاهم الله رزقًا حسنًا. وهذا بعض الاشتراكية الإسلامية، وهو يتفق مع ما يقع اليوم حين حدوث بطالة بين العمال في الأمم المتمدينة.

وقبل أن أنتقل إلى تطبيق الاشتراكية الإسلامية في عهد أبي بكر أذكر ما حدث حين قسمة النبي في «حنين»، فقد كان الخُمس من الفيء والغنائم يُرَد إلى رسول الله بحكم القرآن. على أن رسول الله رأى في أعقاب حنين أن يتألف خصومه من أهل الطائف وغيرهم بأن يرد إليهم ما غنمه المسلمون منهم.

وأخذ هؤلاء المؤلفة قلوبهم من الفيء شيئًا غير قليل، فخشي المسلمون أن تنقص قسمتهم من الفيء إن أفشى محمد هذه الأعطيات، لذلك ألحُّوا في أن يأخذ كلٌّ فيئه وتهامسوا بذلك. فلما بلغ التهامس النبي، وقف إلى جانب بعير فأخذ وبرة من سنامه، فجعلها بين أصبعيه، ثم رفعها وقال: «أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخُمس، والخُمس مردود عليكم.» وهذه العبارة الأخيرة: «الخُمس مردود عليكم» تنطوي على معنى من معاني الاشتراكية لا يفوت أحدًا.

تطبيق الاشتراكية في عهد أبي بكر

ولما اختار اللهُ رسولَه، وخلفه أبو بكر على المسلمين، سار سيرته في المساواة بين الناس وفي تنفيذ فكرة الاشتراكية الإسلامية تنفيذًا دقيقًا، كانت الزكاة تُجمع إلى بيت مال المسلمين، فينفق منها ومن الصدقات والمغانم على شئون الدولة فيما يُصلح الجيوش وغيرها، فإذا بقي بعد ذلك شيء قُسِّم بين المسلمين بالسوية، لا يُمَيَّز منهم حر على عبد، ولا يميز عربي على أعجمي.

وقد اكتُشف منجم للذهب على مقربة للمدينة في أراضي بني سليم، فسار أبو بكر في تقسيم الذهب المستخرَج منه مسيرته في تقسيم ما بقي من الزكاة وأخماس الفيء والغنائم، فكان يسوي في قسمته بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام وبين الحر والعبد والذكر والأنثى. وقيل له: «ألا تقدم أهل السبق على قدر منازلهم؟» فكان جوابه: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.»

هذه النزعة الجديدة إلى الاشتراكية لم تكن مألوفة عند العرب، ولذلك كانوا يعترضون على أبي بكر في مساواته هذه في التوزيع بين المسلمين. وكان أبو بكر يحتج بسنة رسول الله، ويجعل الإخاء والمساواة أساسين جوهريين لنظام هذه الحياة الدنيا كما أنهما ركنان من أركان الإيمان بالله، ومن الأسس التي تقوم عليها عبادته جل شأنه.

الاشتراكية في عهد عمر

ومثل هذه المبادئ الناشئة في جمعية من الجمعيات الإنسانية تتأثر في أحيان كثيرة بميول الجمعية؛ ولهذا عدل عمر بن الخطاب عن سنة أبي بكر في توزيع الصدقات، وفي توزيع الخُمس الذي لبيت المال في الغنائم والفيء، فقارب العرب في ميولهم لأنه كان متفقًا معهم فيها. من ذلك أنه فَضَّل السابقين إلى الإسلام في توزيع ما للمسلمين من حق في بيت المال على غيرهم، كما فَضَّل نساء النبي أمهات المؤمنين، ثم فَضَّل أهل بيت النبي وذوي قرابته.

ولم يبدأ عمر بهذا التفضيل لأول ما تولى إمارة المسلمين، فقد اتبع رأي أبي بكر في التسوية بين الناس حتى تم له فتح العراق، عند ذلك شاور الناس في التفضيل ورأى أنه الرأي. وكان يقول: «لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه.» لذلك فرض لكلٍّ من السابقين الذين شهدوا بدرًا من المهاجرين والأنصار خمسة آلاف، وفرض لمن لم يشهد بدرًا من هؤلاء أربعة آلاف، وفرض لكل واحدة من نساء النبي اثني عشر ألفًا، وفرض للعباس عم رسول الله اثني عشر ألفًا، وفرض لكلٍّ من الحسن والحسين خمسة آلاف، وفرض لأبناء المهاجرين والأنصار ألفين، وفرض لمن دون هؤلاء فروضًا تختلف وتنزل إلى ستمائة درهم وأربعمائة درهم ومائتي درهم.

على أن عمر قد أقام على رأي أبي بكر في أمر الأرض، فلم يرَ قسمتها بين المسلمين على أنها غنيمة غنموها، ولقد كتب إلى سعد بن أبي وقاص حين فتح العراق يقول، بعد أن أمره أن يُقسِّم المال بين من حضر من المسلمين: «واترك الأراضي والأنهار لعمالها، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء.» وإنما قصد بذلك أن تبقى الأرض وما عليها من الرجال للدولة، يأخذ الرجال مقابل عملهم، وتأخذ الدولة سائر غلتها لتضمه إلى بيت المال، فتتصرف فيه تصرفها في بيت المال.

تطورات جديدة

ظل التطور بعد عهد عمر والخلفاء الراشدين يطَّرد متأثرًا بالفتوح وبالنظم القائمة في البلاد التي فتحها الله للمسلمين، وكان اطراد هذا التطور يقتضي تغير الأوضاع الفقهية للمِلك والخراج والزكاة والصدقة؛ فأنت ترى في بعض الأحيان ما يساير الأفكار التي يقول بها أصحاب مذهب اشتراكية الدولة من أنصار اشتراكية العهد الحديث، وترى في أحيان أخرى نظمًا تكاد تتفق وما كان في عهود الإسلام الأولى، على أن المسلمين في كل العهود قد اعتبروا طائفة من الحقوق التي تقررها المذاهب الاشتراكية فوق الجدل، فكما كانوا يبنون المساجد للعبادة ويرونها حقًّا مشتركًا للجميع لا ينازع فيه منازع، كانوا يبنون المدارس للجميع يتعلمون فيها بلا مقابل، ويرون التعليم حقًّا مشتركًا للجميع لا ينازع فيه منازع، وكانوا يقيمون موارد للماء يشرب منها كل ظامئ، وكانوا يعتبرون هذا كله وما إليه حقًّا مسلَّمًا به لذوي الحق في الصدقة ممن ورد النص عليهم في آيات القرآن الكريم، كما كانت الصدقة فريضة تعبدية يؤديها ذوو اليسار شكرًا لله على ما رزقهم هذا اليسار، والتماسًا منه جل شأنه أن يحفظه عليهم وأن يزيدهم منه.

واعتبار الصدقة فريضة تعبدية، وجَعْلُ ما في بيت مال المسلمين منها حقًّا مقررًا لمن فرضه الإسلام لهم، هو الذي يؤكد معنى الاشتراكية على ما فهمها في العصر الأول، وعلى ما طبقوها في عهود الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم.

(٤) الأمم الإسلامية في العصر الحديث

مرت الأمم الإسلامية في العصور المختلفة بأطوار متفاوتة في قربها من النظام العربي الذي نشأ مع الإسلام، واستمد أصوله من البيئة العربية، وفي بعدها عن هذا النظام وقربها من النظم التي كانت تحيط بالعاصمة الإسلامية حين كان للمسلمين عاصمة معترَف بها منهم جميعًا، وبأقوى العواصم الإسلامية حين تعددت هذه العواصم وتنافست، واستقلت بعضها بالخلافة على المسلمين وخرجت بعضها عن سلطان الخليفة وحكمه.

كان ذلك شأن هذه الأمم في نظامها السياسي، وفي نظامها الاجتماعي، وفي نظامها الاقتصادي، ولئن ظلت كلها خاضعة لأحكام القرآن الكريم في إيمانها وعباداتها. لقد كان لاجتهاد الفقهاء وكبار العلماء أثره البالغ في التطور من نواحيه المتصلة بنظم الحياة الاجتماعية، ولن يزال ذلك شأنها اليوم وفي المستقبل كما كان شأنها في الماضي، فما جاء بالقرآن من نظم هذه الحياة الاجتماعية لم يتعدَّ المبادئ العامة كما قدمنا، وتفصيل هذه المبادئ وتوجيهها كان ولا يزال مصدر تطورها واتصالها بسائر أمم العالم وبالحضارة القائمة فيه.

ولقد عم الحكم المطلق الأمم الإسلامية، حين ساد هذا النظام أمم العالم كله، أما اليوم فالأمم الإسلامية تؤمن كلها بالمبادئ الديمقراطية، وتراها وحدها المتفقة مع مبادئ الإسلام الأساسية، ومع ما قررته هذه المبادئ من قواعد الإخاء والحرية والمساواة.

على أن تغير النظم التي أظلت العالم الإسلامي في مختلف العصور لم يغير المبدأ العام للحياة الاقتصادية، ولا الأساس الذي تقوم هذه الحياة عليه، فقد ظلت هذه الحياة دائمًا مِزاجًا من الفردية والاشتراكية.

لذلك ظل المِلك والأسرة والميراث أسسًا جوهرية لحياة هذه الأمم، وظلت لليتامى والفقراء والمساكين وأبناء السبيل وغيرهم ممن نص الكتاب الكريم عليهم حقوق مقررة في بيت المال تُقتضَى من الزكاة ومن الصدقة، كما ظل في مال كل مؤمن حق معلوم للسائل والمحروم.

الاشتراكية في العبادات

وما كان لهذه القواعد أن تتغير أو تتبدل وهي متصلة بالإيمان بالله كما قدمنا، وما كان للاشتراكية الإسلامية أن تزول أو تضعف ولها في سائر مظاهر الإيمان والعبادات المترتبة عليه نصيب واضح. ولقد أشرنا إلى أن الزكاة والصدقة واتصال هذه الاشتراكية واضح في صلاة الجماعة، وفي الصوم، كما أن فريضة الحج تنطوي على معاني الاشتراكية الإسلامية، حتى لا يبالغ من يقول إنها أوضح مظهر لهذه المعاني جميعًا.

فالتفاوت بين الناس يسقط أثناء هذه الفريضة، فلا يبقى له أثر في لباسهم، ولا في زينتهم، ولا في أيٍّ من مظاهر حياتهم. هم أثناء طوافهم بالكعبة وسعيهم بين الصفا والمروة وقيامهم على عرفات وإقامتهم بمنى، صورة قوية الدلالة على زوال التفاوت، وعلى سعادة الإنسانية بهذا الزوال. ودلالة هذه الصورة أقوى وأكثر صراحة في أن التفاوت النفساني أعظم من التفاوت المادي.

هذا كله جعل الاشتراكية الإسلامية تبقى قوية عميقة القواعد في نفس كل مسلم. ولقد كانت واضحة الأثر منذ نصف قرن في الأمم الإسلامية، وتطورت صورها في هذا القرن العشرين حتى كادت تخفى عن الأعين، وسبب هذا التطور شدة اتصال الأمم الإسلامية بالغرب وأخذها بمبادئه وبحضارته. والاشتراكية الإسلامية مع ذلك باقية، وأنا واثق بأن التطور في حياة الأمم الإسلامية سيعيدها على أساس من القواعد التي عرفها أهل الصدر الأول وأهل العصور الأولى للإسلام.

ولقد يعجب بعضهم لقولي إن الاشتراكية الإسلامية كانت واضحة الأثر إلى خمسين سنة مضت، لكن الواقع هو ما أقول. والذين عاشوا خلال الحقبة الأخيرة من القرن الماضي — وهم لحسن الحظ كثيرون — يذكرون أن السجايا الإسلامية التي كانت متداولة بين المسلمين الأولين من أهل شبه جزيرة العرب كانت متداولة في مصر، فكان الذين آتاهم الله رزقًا حسنًا يشعرون بما عليهم للفقير واليتيم والمسكين وابن السبيل من حق واجب الأداء لرضا الله، وكان مظهر ذلك باديًا في نواحي الحياة بوجهٍ عام.

ولقد كان أكثر وضوحًا في شهر الصوم من كل سنة، حتى لقد كان أهل القرى لا يتناول أحدهم طعامه داخل داره، بل أمام الدار، ويرى حقًّا لكل من يمر به — عرفه أو لم يعرفه — أن يجلس معه وأن ينال من هذا الطعام كفايته. هذا إلى أن من آتاهم الله رزقًا حسنًا هم الذين كانوا يتكفلون بالمرافق العامة للقرية، فكان الأذكياء من أبناء الفقراء يتعلمون على نفقتهم، وكان المرضى موضع عنايتهم ورعايتهم، وكان في مالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وكانوا يرون أداء هذا الحق واجبًا يحاسبهم الله ويجزيهم عليه.

ولقد قلنا من قبل إن الإسلام حرم الربا على أساس اشتراكي مقبول، ذلك ألا يستغل من لا يعمل ثمرات العمل الذي يقوم به غيره. وكلنا لا نزال نذكر أن الربا كان إلى عهد قريب بغيضًا إلى النفس الإسلامية أشد البغض، وأن المسلمين جميعًا كانوا لا يفتَئُون يذكرون قوله تعالى: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وقوله جل شأنه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.

وكان العمل بهذه المبادئ متَّبعًا في الأمم الإسلامية في هذا الزمن القريب الذي أشير إليه، وكان القرض الحسن وإنظار ذي العسرة إلى ميسرة، بعض ما يراه صاحب المال واجبًا عليه لمن كان في حاجة إلى هذا المال.

تطورت هذه الأخلاق في مصر، وتطورت في غير مصر من الأمم الإسلامية، وكان من أثر هذا التطور أن كانت هذه الاشتراكية تخفى عن الأعين، فلم يبقَ لها مظهر إلا في الجمعيات الخيرية التي تألفت لتسد الأغراض التي جنى عليها هذا التطور، على أن ما نراه في مصر وفي غير مصر يدل على أن هذه الأمم الإسلامية تلتمس في نظمها الجديدة وسيلة يتحقق بها هذا المزاج بين الفردية والاشتراكية على النحو الذي قرره الإسلام منذ عهوده الأولى.

وآية هذا الاتجاه ما هو واضح من حرص المسئولين في الشئون العامة على العناية بشئون الطبقات الفقيرة عناية تقوم الدولة بأعبائها. ولم يعارض أحد هذه النزعة التي تحقق المزج بين الفردية والاشتراكية، وهذا الإجماع صريح في الدلالة على أن الفكرة أصيلة في النفس الإسلامية، متصلة فيها بالعقيدة وبالمبادئ الإنسانية العامة التي تدعو هذه العقيدة إليها.

هذا واقع بالفعل لا ينكره أحد، وبإجماع لا يخرج عليه أحد، على أن ثمت أمرًا يتصل به يستوقف النظر، وهو في رأيي جدير بالإعجاب والتقدير. ذلك أن الذين يدعون هذه الدعوة ويتحمسون لها في الأمم الإسلامية ينادون بها على أساس مدني بحت، ويعتبرونها تنظيمًا للحياة الاجتماعية والاقتصادية متصلًا بشئون الحياة الدنيا، ينطبق عليه الحديث النبوي: «أنتم أعلم بأمور دنياكم.» وأنت تراهم لذلك لا يتقيدون فيه إلا بما يحقق المصلحة العامة على النحو الذي يهديهم إليه تفكيرهم، مستمدين من شئون الحياة في تطوراتها الحاضرة بحكم الحضارة القائمة ما يتفق والمبادئ الإنسانية السامية القائمة على أساس من قواعد الخلق السليم المتصل في نفوسهم بحكم ضمائرهم.

وهذا الاتجاه المدني متفِق مع المنطق الإسلامي الذي يجعل العقل حَكمًا في كل شيء، حكمًا في الإيمان نفسه، وذلك قول المغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: «إن المرء لا يكون مؤمنًا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، فمن رُبِّيَ على التسليم بغير عقل، والعمل — ولو صالحًا — بغير فقه، فهو غير مؤمن، فليس القصد من الإيمان أن يذلَّل الإنسان للخير كما يذَّلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم، فيعمل الخير لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.»

التنظيم الاقتصادي

وتفكير المفكرين من أهل الأمم الإسلامية في التنظيم الاقتصادي على أساس مدني تعينه المصلحة العامة، قد كان سائدًا بين المسلمين منذ العصور الأولى، لا تقيده إلا المبادئ العامة المقررة في كتاب الله. ومن هذه المبادئ الأساسية قيام المِلك الخاص والأسرة والميراث، أما المرافق العامة فيجب أن تكون ملكًا عامًّا مشاع النفع بين الناس جميعًا. وتحديد المرافق العامة متروك أمره للدولة، وهو لذلك مدني بحت.

وقد وقع الخلاف على هذا التحديد منذ العصور الأولى للإسلام، فكان من أصحاب النبي من يجعل الأرض وما تحتويه مرفقًا عامًّا كالماء والهواء، وإنما يقع التملك على ثمراتها ينال منها كلٌّ على قدر سعيه ومجهوده، وهذا رأي آحاد كما يقول المحدثون، أما الرأي الذي ساد دائمًا فيقول بتملك الأرض واعتبارها من العروض التي يقع عليها التبادل.

ولو أننا التمسنا في تفكير المسلمين الأولين قاعدة منطقية عامة يمكن الاهتداء بها الآن في تقدير الاشتراكية الإسلامية واتجاهها، لوجدنا هذه القاعدة: يجب على كل إنسان أن يبذل للجماعة كل كفاياته، ويجب على الجماعة أن تبذل لكل فرد منها ما يسد حاجاته مما تقصر عنه ثمرات عمله، فلكل مسلم حق في أن ينال من بيت مال المسلمين ما يكفل حاجاته وحاجات من يعول ما دام لا يجد عملًا يرتزق منه، أو ما دام العمل الذي يزاوله غير كافٍ لرزقه ورزق عياله.

وهذه القاعدة العامة الثابتة في نفوس المسلمين، هي التي تدعو مفكريهم اليوم إلى تنظيم المزاج بين الفردية والاشتراكية تنظيمًا مدنيًّا متفقًا مع تطورات الحياة في هذا العصر، بحكم الحضارة القائمة في العالم. وهم لذلك يطلقون أنفسهم من كل قيد حين هذا التفكير، وإن لم يفكر أحدهم في تخطي المبادئ العامة التي وضعها القرآن الكريم، والتي يؤمن كل مسلم بأنها أساسية للحياة متفقة مع الفطرة الإنسانية وطبائع الجماعات.

والتفكير على هذا النحو في العصر الحاضر يعتبر تفكيرًا حديثًا في العالم الإسلامي. وهو كما قدمت لا يرجع إلى أكثر من أوائل هذا القرن العشرين، لذلك لا يمكن التكهن بمداه ولا بنتائجه، فلندعه يسير في طريقه مطمئنين إلى أنه لن يعدو في يوم من الأيام هذا المزاج الصالح بين الفردية والاشتراكية، وأنه سيكون وسيلة سريعة الأثر في تقدم الأمم الإسلامية ورقيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤