الفصل الثاني

الإسلام والديمقراطية

(١) المبادئ العامة

يختلف نظام الحكم في الأمم الديمقراطية، ويرجع اختلافه إلى تاريخ هذه الأمم حينًا، وإلى طباع أهلها أو نظامها الاقتصادي حينًا آخر، فنظام الحكم في إنجلترا برلماني وفي أمريكا نيابي، والتقاليد البرلمانية في إنجلترا تختلف عن مثلها في فرنسا، ومع ذلك تتفق هذه الأمم في المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم فيها، والتي يؤمن أبناؤها بضرورتها لسعادة أممهم ورقيها.

وفي مقدمة هذه المبادئ حَكَم الشعب نفسه عن طريق التمثيل الصحيح والمناقشة الحرة والتسليم برأي الأغلبية، على أن هذه المظاهر التي تمثل مجتمعة نظام الديمقراطية في الحكم تقوم على أساس من مبادئ سبقتها، هي التي تعارف الناس على تسميتها حقوق الإنسان، والتي جمعها الفرنسيون في شعارهم: الحرية والإخاء والمساواة.

إذا أردنا أن نعرف نظام الحكم في الإسلام وجب علينا أن نرجع إلى المبادئ الأساسية التي قررها وجعلها أساس الحياة الإنسانية. ومتى عرفنا هذه المبادئ واستقرت في أذهاننا، لم يبقَ لدينا ريب في أن الإسلام والديمقراطية يلتقيان في الأمور الجوهرية جميعًا، وأن نظام الحكم في الإسلام يجب أن يكون في صورة أو أخرى من صور الحكم في الأمم الديمقراطية في عصرنا الحاضر، وأن كل نظام لا يقوم على أساس من حرية الفرد وتضامن الجماعة وحق الشعب في حكم نفسه عن طريق المناقشة الحرة والانتهاء إلى رأي الأغلبية، كل نظام لا يقوم على أساس من هذه المبادئ التي تدعو الديمقراطية إليها، لا يتفق والقواعد الأساسية التي قررها الإسلام ودعا إليها، ولا يتفق وواجب المسلم في التمسك بقواعد دينه والدفاع عنه.

وقد ألِف كثير من الذين يتعرضون لهذا الموضوع، ويؤيدون الرأي الذي نقول الآن به، أن يستندوا إلى بعض آيات القرآن الكريم كقوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ثم يكتفون بها في التدليل على رأيهم. وهذا الدليل لا ريب قائم وله قوته، وبخاصة أنه نص من كتاب الله، على أن جماعة من المسلمين في عصور مختلفة قد لجَئُوا لأغراض خاصة إلى تفسير هذه الآيات بما يلائم أغراضهم، فلا بد لذلك من أن نرجع إلى المبادئ العامة للإسلام، لنرى كيف تتوج هذه الآيات تلك المبادئ، ولنتبين أن نظام الحكم القائم على الشورى الإسلامية يجب أن يتحقق به للناس حظ من الحرية والإخاء والمساواة يعادل أو يزيد على ما تحققه لهم النظم الديمقراطية كما نفهمها في عصرنا الحاضر.

مبدأ الإخاء

ولنبدأ بمبدأ الإخاء. لقد ذهب الإسلام في تقرير هذا المبدأ إلى أبعد مدى؛ فهو لم يضع له حدًّا من الحدود، ولم يُقِمْ في سبيله عقبة من العقبات، لم يجعل الجنس ولا اللغة ولا اللون سببًا في التباعد بين الناس، ولم يفضِّل العربي على العجمي كما يفضِّل بعضهم الآري على السامي، ولم يفضل الأسمر أو الأبيض على الأسود.

والقرآن الكريم صريح في تقرير مبدأ الإخاء إذ يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وإذ يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ والحديث عن النبي — عليه السلام —: «إنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.» فالناس في إسلامهم إخوة لا يتفاضلون إلا بالأعمال الصالحة، ولا يميز بعضهم عن بعض غيرها، وإن اختلفوا لونًا ولغةً وجنسًا ومذهبًا.

والإخاء في الإسلام ليس حديثًا يجري به اللسان، أو مظهرًا من مظاهر المجاملة وكفى، بل هو مبدأ أساسي وعقيدة يجب أن تقوم بالنفس، وأن تكون لها آثارها في أعمال الإنسان أو يكون ضعيف الإيمان.

ولا أحسب تصويرًا لهذا المعنى بلغ في قوته قول رسول الله: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» وأول المحبة الاحترام، ومظهرها الأسمى الإيثار على النفس. فإذا لم أحترم أخي لأنه من جنس غير جنسي، أو لأنه يتكلم لغة غير لغتي، فأنا ضعيف ناقص الإسلام.

وإذا أنا لم أوثر أخي على نفسي فيما هو بحاجة إليه، فأنا ضعيف الإيمان ناقص الإسلام، وإذا أنا قامت الكراهية بنفسي للناس فحقدتُ عليهم فأنا ضعيف الإيمان ناقص الإسلام. فأما الذي يحب أخاه ويرجو له ما يرجوه لنفسه، فذلك بين المسلمين رجل كمل إيمانه وتمت عليه نعمة الله.

ولا أخال مذهبًا من المذاهب بلغ في تصوير الإخاء ما بلغه المسلمون. ولست أدلل على ذلك بأقوال المتأخرين الذين لعلهم تأثروا بالفلسفة اليونانية أو بغيرها من المذاهب التي نُقلت إلى العربية في العصور الزاهرة للأمم الإسلامية، وإنما أدلل عليه بأعمال النبي العربي وبأعمال أبي بكر وعمر.

فلم يرضَ النبي — على إكبار المسلمين له وتقديسهم إياه — أن يظهر في مظهر السلطان أو الملك أو الرياسة الزمنية حين تم له السلطان في شبه جزيرة العرب كلها، بل كان يجلس من أصحابه حيث ينتهي به المجلس، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأَمَة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة.

وكان أبو بكر في خلافته أخًا لكل الناس صغيرهم وكبيرهم، وكذلك كان عمر، بل لقد كان النبي وصاحباه يرون الضعفاء أحق بإخائهم من الأقوياء، فكانوا لا يضنون به على أحد، ويرونه الأساس الأول للتضامن الاجتماعي.

والحق أني لا أستطيع أن أفهم التضامن الإنساني الذي ننشده جميعًا، وندعو إليه بكل قوتنا، حتى يتحقق هذا الإخاء بين الناس، ويتحقق إخاء مثله بين الأمم، وحتى يشعر كل فرد وتشعر كل أمة شعورًا صادقًا قويًّا، بأن واجب الإخاء يقتضي أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه.

المساواة في الإسلام

أما المساواة في الإسلام، فهي المثل الأعلى في تصور المساواة، ليست هي المساواة أمام القانون وكفى، بل هي تتناول ذلك وتسمو عليه، هي المساواة أمام الله. وهذه المساواة لا يجني عليها التفاوت في الرزق، ولا التفاوت في العلم، ولا التفاوت في عرض من أعراض الدنيا.

ولم أرَ في حياتي مظهرًا للمساواة أعمق أثرًا في النفس من عشرات الألوف من المصلين مجتمعين حول الكعبة في المسجد الحرام، يتوجهون كلهم إلى الله، ويعلمون كلهم أن ما بينهم من تفاوت في المال أو الجاه أو السلطان يتضاءل ويذوي ويصبح لا شيء في هذا الموقف الرهيب الجليل الذي يشعر فيه كثيرون ممن تزدهيهم الحياة، بأن غيرهم ممن هم دونهم مالًا وجاهًا وسلطانًا أقرب إلى الله منهم بطهارة نفوسهم وصالح أعمالهم.

إذا كان الإيمان بفكرة المساواة أمام القانون بعض أركان الديمقراطية، فما عسى يكون جلال الإيمان بفكرة المساواة أمام القوة العليا مصدر القانون ومصدر كل شيء، قوة بارئ الكون ومدبره.

الحرية أعز مبادئ الإسلام

أخرتُ الكلام عن الحرية في الإسلام لأختتم بها هذا الحديث، ولأن هذه الحرية أعز مبادئ الإسلام منذ نشأته.

والحرية تُعرف اليوم بما لك من حق في أن تصنع ما تشاء، ما دمت لا تؤذي غيرك ولا تعتدي على حريته. ولست أرى فرقًا بين هذا التعريف وبين قول المسلمين: المسلم من سلم الناس من لسانه ويده. والواقع أن الإسلام يقرر الحرية للناس كاملة إلا فيما يوجب الشرع عليه الجزاء، شأنه في ذلك شأن غيره من الشرائع في كل الأزمان، وفي هذا الزمن الذي نعيش فيه.

على أن أهم صورة للحرية المقصودة في شعار الثورة الفرنسية، إنما هي حرية التفكير وحرية الرأي والتعبير عنه. وليس يبالغ من يقول إن هذه الحرية مقررة في الإسلام بأوسع صورها ومعانيها، ولا أدل على ذلك من قيام المذاهب الأربعة بين أهل السنة من المسلمين، واحترامهم إياها جميعًا، على ما بينها من اختلاف في التفكير والرأي. وهذه المذاهب قررها الأئمة الذين يعترف المسلمون جميعًا بفضلهم، وحسن إيمانهم، وعُلو مكانتهم.

ولا تنسَ أن المذاهب الأربعة تتناول أحكام الشريعة على ما قررته قواعد أصول الدين. فإذا جاز الاختلاف في هذه الأحكام وصح الاجتهاد في أمرها، فما بالك بما سواها مما لا يتصل بها من الآراء والمذاهب، إن حرية الرأي والتعبير عنه مطلقة فيه إطلاقًا لا حد له إلا العقل والعلم.

وإذا كان قيام المذاهب الأربعة دليلًا على حرية الرأي، حتى في المسائل الشرعية، فإن ما تركه فلاسفة الإسلام من أمثال ابن رشد والغزالي وابن سينا والفارابي وغيرهم، يُسقط كل حجة يمكن أن يتذرع بها من يرى غير رأينا.

أحسبني بما تقدم قد أقمت الدليل على أن شعار الديمقراطية متحقق في الإسلام على أتم وجه وأكمله، كما أقمت الدليل على أن هذه المبادئ أساسية في الإسلام مثلها في الديمقراطية سواء. أما والنتيجة اللازمة لهذه المبادئ في نظام الحكم أن يقوم في صورة من صور الحكم الديمقراطي المختلفة، فالشورى الإسلامية واحدة من هذه الصور لا ريب، والدفاع عنها دفاع عن مبدأ إسلامي سليم.

على أن التقاء الإسلام والديمقراطية في الأمور الجوهرية لا يقف عند هذه المبادئ العامة بل يتناول غيرها مما يتصل بها أو يترتب عليها.

(٢) التشريع والقضاء

الحرية، والإخاء، والمساواة، شعار الديمقراطية الحديثة، وهي كذلك من المبادئ الأساسية في الإسلام، ذلك ما أقمنا عليه الدليل. وهذه المبادئ المترتبة على الحقوق الطبيعية للإنسان في الديمقراطية وفي الإسلام جوهرية للجماعة بمقدار ما هي جوهرية للفرد. وهي بهذه المثابة أساس التضامن الاجتماعي، وأساس النظام الذي يقوم عليه الحكم سواء في الديمقراطية أو في الإسلام.

وقد أشرنا إلى أن هذه المبادئ تقتضي حتمًا حكم الشعب نفسه، عن طريق التمثيل الصحيح والمناقشة الحرة والتسليم برأي الأغلبية، وأول مظهر لهذا الحكم إنما يتجلى في التشريع وفي القضاء. فليس من حق فرد بالغة ما بلغت مكانته من السمو، أن يشرع للمجموع على كره منه أو أن يلزم الشعب قوانين تأباها إرادته الحرة.

وليس من حق فرد، بالغة ما بلغت مكانته، أن يجعل إرادته المطلقة فيصلًا في القضاء بين الناس، بل لا بد للقضاء من قواعد يجري عليها، تتفق وإرادة الشعب وتكفل حقوقه الطبيعية. ولا بد للقضاة من استقلال يجعلهم إذ يحكمون لا يرعون في قضائهم إلا القانون وقواعد العدل وما ترضاه ضمائرهم النزيهة الطاهرة. وهذه القواعد التي تقررها الديمقراطية الحديثة هي بعينها القواعد التي يقررها الإسلام.

ولعلك إذا رجعت إلى قواعد القضاء والتشريع في الأمم الإسلامية رأيتها أقرب ما تكون في صورتها لقواعد القضاء والتشريع في إنجلترا في عهدها البرلماني الذي يمثل مبادئ الديمقراطية أصح تمثيل، فقد ألف الناس في إنجلترا إلى عهد قريب جدًّا ألا يقوم العدل على قواعد من التشريع البرلماني ويلجأ إلى تغييرها من حين إلى حين حسب ما تقضي به الظروف.

وإنجلترا لم تألف هذا التقليد الفرنسي في التشريع إلا من عهد قريب، وهي لم تألفه إلا في المسائل الاجتماعية المتصلة بالسلطة العامة أكثر من اتصالها بمعاملات الأفراد وعلاقاتهم بعضهم ببعض. أما فيما خلا ذلك، فمرجع التشريع الإنجليزي إلى أحكام القضاء التي تثبت قواعدها على الزمن فيرضاها الناس ويتخذونها شرعًا لهم في معاملاتهم، ثم تصبح في إنجلترا كلها قانونًا يطبَّق على الجميع ويسترشد به القضاة للفصل فيما يُعرض عليهم من المنازعات.

وأنت إذا أردت أن ترجع إلى كتاب من كتب القانون في إنجلترا، لأمر يتعلق بالمعاملات المدنية أو التجارية أو بالعقوبات أو الشئون الدولية الخاصة والعامة، فأكثر ما تقع عليه من الكتب التي تكشف لك عما تبحث عنه كتب القضاء وأحكامه، وما تنطوي عليه هذه الأحكام من مبادئ، تطبق في القضايا المماثلة في أنحاء الدولة جميعًا.

هذا النظام بعينه كان ولا يزال الأساس للقضاء وللفقه عند المسلمين، فكُتب الفتاوى هي المرجع الأول للأحكام. وأنت إذا أردت أن تبحث موضوعًا فقهيًّا أو قضائيًّا، فأكثر ما ترجع إليه كتاب ابن عابدين والفتاوى الحامدية والفتاوى الهندية وما إليها إذا كنت تريد أحكام الفقه الحنفي.

ومثل هذه الكتب تمامًا هي ما نرجع إليه لمعرفة أحكام المذاهب الأخرى. وهذه الكتب كلها من طراز الكتب الإنجليزية التي أشرنا إليها، فكلها تذكر قضايا فصل فيها القضاة برأي أصبح مبدأ تشريعيًّا مسلَّمًا به، وأصبح لذلك مرجعًا للقضاة ولجميع المشتغلين بالقانون والفقه من بعد.

والقاضي العادل في البلاد الإسلامية، كان ولا يزال يتمتع بالمكانة والاستقلال اللذين يتمتع بهما القاضي العادل في الدول الديمقراطية جميعًا، ليس لأحد على هذا القاضي سلطان، وسلطانه نافذ في الناس جميعًا، وما دام الناس مطمئنين إلى عدله فله أن يجتهد في قضائه ما وجد إلى الاجتهاد سبيلًا.

فإذا رأى يومًا أن يعدل عن رأي رآه سلفه من القضاة الذين شهد لهم الناس في عصرهم بالنزاهة والعدل، بل إذا رأى يومًا أن يعدل عن رأي رآه هو من قبل، اقتناعًا منه بأن رأيًا غيره أدنى إلى الحق وإلى تحقيق المنفعة العامة، كان بعمله هذا يؤدي واجبًا ذا قيمة في الحياة الفقهية، ما دام هذا الرأي قائمًا على القواعد السليمة المقررة للعدل بين المسلمين. والواجب الذي يؤديه القاضي في هذه الناحية هو أداة التطور الفقهي، وهو الذي يجعل الفقه كفيلًا دائمًا بأن يحقق الرخاء والأمن والسلام في حدود الحق والعدل.

وفرنسا التي درجت، منذ قرن ونصف قرن على الأقل، على سنة التشريع المقنن، تعتبر الفتاوى وأحكام القضاء مناهل أساسية لحياة العدالة. ومجموعات دالوز وسيري، وكتب جارسون وأمثاله، تقيد الأحكام والفتاوى على النحو الذي قيد به المسلمون من قبل أحكام قضاتهم وفتاوى مفتيهم، وتتخذ منها مرشدًا لقواعد العدل ولتطور التشريع.

الإسلام وتطور التشريع

يحاول بعضهم أن يصور الإسلام تصويرًا لا يتفق مع ما قدمنا، ويذكر سندًا لرأيه أن التشريع والقضاء في الإسلام مقيدان بالقرآن الكريم تقييدًا يحول دون التطور الذي يقضي به النظام الديمقراطي. وهذا الرأي خاطئ، إن كان صادرًا عن حسن نية، فالفقه الإسلامي يعتمد على القرآن الكريم اعتمادًا أساسيًّا، هذا صحيح، لكن ما ورد في القرآن من التشريع لا يتخطى القواعد العامة التي تقرها قواعد العدالة مصورة في مَثَلها الأعلى، والقواعد العامة الواردة في القرآن قليلة، لم تتناول من التفاصيل إلا أمورًا بذاتها محصورة العدد جدًّا. ولهذا رأى المسلمون منذ العصر الأول أن يجعلوا مصادر الفقه والتشريع أربعة: الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع، وأن يكلوا إلى القاضي تطبيق هذه القواعد مع مراعاة أدق صور العدالة.

والسنة في الفقه الإسلامي هي ما تواتر من الأحكام عن رسول الله، وليس يتسع المقام للحديث عما ثبت بالتواتر من هذه الأحكام. وحسبنا أن نذكر ما رُوي عن رسول الله أنه قال: «إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فمني، وما خالفه فليس عني.»

وقد قال ابن خلدون، وهو يتكلم عن الحديث: «لو انتُقِدَت الروايات — يقصد روايات الحديث — من جهة فحوى متنها، كما تُنقَد من جهة سندها، لقضت المتون على كثير من الأحاديث بالنقض. وقد قالوا إن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.»

أما الأصل الثالث من أصول الفقه — وهو القياس — فمرجعه العقل ومنطقه، وإلى العلم بالكتاب والسنة.

بقي الأصل الأخير وهو الإجماع، وهذا الأصل هو الظاهرة الديمقراطية الواضحة التي تدل على أن حق الشعب في الحكم، وفي التشريع، مقرر في الإسلام على وجه لا يحتمل مناقشة أو جدلًا. ولو أنك رجعت إلى كتب الأصول والفقه لتبينت أن القواعد التي تسير عليها ديمقراطية هذا العصر في التشريع والتي ترمي دائمًا إلى الملاءمة بين المنطق العقلي والعدل وبين حاجات الناس ومنافعهم، هي بعينها القواعد التي قررتها هذه الكتب الإسلامية.

يجب عليَّ أن أعترف مع هذا الذي قدمت، بأن القواعد التي وردت في القرآن — وإن تكن قواعد عامة — هي قيد للمشرع، وذلك هو ما دعا بعضهم إلى الظن بأنها لا تدع للإرادة العامة الحرية في التشريع والحكم، لكن التاريخ أثبت أن هذه القواعد ضرورية لحياة الديمقراطية، فلا يمكن الخروج عليها.

خذ مثلًا لذلك المبادئ الاقتصادية المقررة في كتاب الله، هذه المبادئ لا ترضى عن الفردية المطلقة القائمة على أساس من الأنانية الذاتية التي لا حد لها، بل هي تدعو إلى نوع من الاشتراكية جدير بأن يُطلق عليه اسم الاشتراكية الإسلامية، لكن هذه الاشتراكية الإسلامية لا تتعدى ما يقتضيه تضامن الجماعة، وتدعو إليه مبادئ الرحمة الإنسانية التي تعتبر في الإسلام قاعدة مقررة لا كمالًا نفسيًّا وكفى.

ثم إن هذه المبادئ الاقتصادية المقررة في القرآن تأبى إباءً صريحًا أن تزيد الاشتراكية على هذا القدر، وترفض رفضًا باتًّا هدم الملكية الخاصة، وهي لذلك تقف في وجه المبادئ الشيوعية التي قررها كارل ماركس بكل قوة وشدة.

ومَثَل آخر من المبادئ التي قررها القرآن، يتصل بالأسرة ويدخل لذلك في نطاق الحياة الاجتماعية. فالزواج والأبناء والتوارث من الأمور التي لا يصح للمسلمين الخلاف على مبدئها ولا على ما ورد في القرآن عنها، فإذا اعتبرت هذه المبادئ وأمثالها قيدًا لإرادة الشعب في التشريع، فهو قيد تقتضيه الحياة الديمقراطية.

وها نحن أولاء نرى أن ما يخالف هذه المبادئ قد استحال قيامه في إنجلترا وفرنسا وأمريكا والديمقراطيات كلها، وإنه حيث قام ألغيت المبادئ العامة للديمقراطية — مبادئ الحرية والإخاء والمساواة — وقامت مقامها مبادئ الطغيان والحكم المطلق.

ولو أن الطغيان رفع عن كواهل الأمم التي قامت فيها المبادئ التي تخالف ما أسلفنا مما قرر القرآن الكريم لرأيت الناس يعودون إلى هذه المبادئ شيئًا فشيئًا، لأنها من فطرة الإنسان، كما أن الحياة الديمقراطية من فطرته.

لا عجب بعد الذي قدمنا أن تنزع الشعوب الإسلامية كلها في العصر الحاضر إلى ناحية الديمقراطية، وأن تجعل تشريعها على النظام الديمقراطي وسيلتها للحياة وللرقي والتقدم، وهي إذ تنزع هذا المنزع عن إيمان بالديمقراطية يؤدي بها إلى الدفاع عنها بكل قوتها، إنما تؤيد حكم الإجماع في حدود القواعد التي نص عليها القرآن الكريم. وهي فيما تصنع من ذلك لا تخالف تاريخها ولا تخرج عليه، وإنما تسير في طريق التطور الطبيعي للحياة الإنسانية. فقد كان حكم الشعب نفسه أساسًا للحكم الإسلامي منذ العهد الأول، وإنما اختلفت الصور التي صور فيها نظام هذا الحكم باختلاف العصور، كما جاءت عصور مظلمة أساءت وجنت عليه.

(٣) صور الحكم الديمقراطي

تختلف صور الحكم الديمقراطي في العصر الحاضر بين النظام النيابي والنظام البرلماني، كما تختلف بين الملوكية والجمهورية، على أن هذه الصور ليست قديمة العهد، وإنما ترجع إلى ثلاثة قرون أو نحوها في إنجلترا، وترجع إلى عهد الثورة الفرنسية في فرنسا، وإلى عهد الاستقلال في أمريكا.

أما إذا نحن رجعنا إلى صور الحكم الديمقراطي في العصور القديمة، وبخاصة في اليونان، فقلما نجد هذا الحكم ممتدًّا في أمة يبلغ عددها الملايين، وإنما نجده على الأغلب في مدن أو مقاطعات محصورة العدد على نحو ما نعهده اليوم في سويسرا، لكنه كان محتفظًا دائمًا بالمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الديمقراطية، مبدأ حكم الشعب نفسه عن طريق التمثيل الصحيح والمناقشة الحرة وإقرار رأي الأغلبية.

ونحن إذا رجعنا إلى الحكم الإسلامي في عهوده الأولى — أي منذ ألف وثلاثمائة سنة وأكثر — وجدنا المبدأ الأساسي للديمقراطية مبدأه، ورأينا الصور التي تصوَّر فيه تختلف بعض الاختلاف عما نعهده اليوم في نظم عصرنا الحاضر، ولكنها تتفق وإياها في الغاية وفي المبدأ.

ولا غرابة في ذلك، فقد نشأ الإسلام في بلاد العرب، وكان كتابه عربيًّا، وكان رسول الله به عربيًّا. وقد كانت بلاد العرب في ذلك العصر تعيش في نظام ديمقراطي بحت، أدنى إلى نظام سويسرا اليوم وإلى نظام المدن اليونانية القديمة. ولقد كانت الحرية التامة أعز شيء على العربي، بدويًّا كان أم حضريًّا.

وكان أهل القبيلة أو أهل المدينة يجتمعون للنظر في شئونهم العامة، وللقضاء فيما يقوم بينهم من المنازعات. وكانت دار الندوة بمكة، مكان هذا الاجتماع بالنسبة للمدينة الإسلامية المقدسة من عهد إبراهيم، فكان طبيعيًّا أن ينعقد نظام الحكم في الإسلام على هذا الأساس العربي الصريح، وأن يكون ديمقراطيًّا بالمعنى الذي يفهمه العربي من الألفاظ التي ترادف هذه الكلمة في لغة ذلك العصر.

وأنت إذا رجعت إلى بيعة أبي بكر، وبيعة عمر، وبيعة عثمان، وجدت هذا المعنى واضحًا فيها تمام الوضوح، فقد كان الناس يجتمعون ويختارون خليفتهم ثم يبايعونه. ولم يكن هؤلاء الخلفاء يتولون السلطة التشريعية؛ لأن هذه السلطة كانت متروكة إلى القضاة — كما ذكرنا من قبل — وكان القضاة يستمدون قضاءهم من القرآن الكريم، ومن السنة، ومن القياس، ومن الإجماع، ثم كانت أحكامهم، كما كانت فتاوى العلماء، هي الأساس الذي يقوم عليه الفقه، وتجري على مقتضاه المعاملات بين الناس.

كان الخلفاء إذن إنما يتولون السلطة التنفيذية، على حد تعبيرنا في النظام الديمقراطي، فهل كانوا يتولونها مستبدين لا يحاسبهم أحد، أم أنهم كانوا يُحاسَبون وكانت عليهم رقابة سواء من نوع الرقابة البرلمانية في أوروبا، أو من نوع الرقابة النيابية في أمريكا؟ إذا كانت عليهم رقابة — أيًّا كان نوعها — لم يبقَ ريب في أن نظام الحكم الإسلامي نظام ديمقراطي، إن اختلف في الصورة عما نألف اليوم، فهو متفق معه في المبدأ والأساس تمام الاتفاق.

لما تمت البيعة لأبي بكر خطب الناس، فقال: «لقد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.» وقال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.»

وهذا صريح في أن أبا بكر يقر بحق الرأي العام في مراقبته وإرشاده، ويذهب في ذلك إلى حد الإقرار لهذا الرأي العام بعصيانه إذا هو عصى الله ورسوله.

ونحن إذا أردنا أن نرتب على هذا الكلام نتيجته المنطقية لم نكن مخطئين في القول بأن الذين بايعوا أبا بكر كان لهم حق محاسبته وتقويمه، فإن عصى كان لهم حق العصيان، وبعبارة أخرى كان لهم حق عزله. ولا نحسب معنى أبلغ في تقرير مبادئ الديمقراطية من هذا المعنى.

وكان عمر بن الخطاب بعد أن أصبح أمير المؤمنين يخطب الناس يومًا بمثل المعنى الذي تحدث فيه أبو بكر، ويذكر للناس أن لهم أن يقوموه إن رأوا في تصرفاته عوجًا، ولقد أجابه أحد الحاضرين بهذا الجواب الذي يحفظه كل مسلم عن ظهر قلبه: «والله يا عمر، لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا.»

هذا الجواب يشهد لعمر بأنه كان رجل عدل وصدق ونزاهة، لكنه يشهد كذلك بأن العرب كانوا يعرفون ما لهم من حق في محاسبة صاحب السلطان عليهم ومراقبته، شأنهم في ذلك كشأن أهل إسبرطة وأثينا في اليونان القديمة، وشأنهم كشأن الأمم الديمقراطية اليوم.

والنظام النيابي القائم في أمريكا، لا يعرف المسئولية الوزارية على الصور المقررة في النظم البرلمانية، فإذا كان العرب لم يعرفوا المسئولية البرلمانية هم الآخرون، فقد كان الحاكم مسئولًا أمام الرأي العام كمسئولية رئيس الولايات المتحدة. ونتيجة هذه المسئولية أن لا يجدد الرأي العام انتخاب هذا الرئيس متى تمت مدته، أو يضطره للتخلي عن منصبه بإظهار عدم الرضا عن تصرفاته أو بعصيان سياسته، على حد تعبير أبي بكر.

مدة الحاكم الإسلامي

لماذا لم تحدد مدة الحاكم الإسلامي في الصدر الأول، كما تحدد مدة الرئاسة لرؤساء الجمهوريات في عصرنا الحاضر؟ وهلا ينهض ذلك حجة على أن الفكرة الديمقراطية كانت ناقصة عند العرب، وبقيت ناقصة حين نفذها المسلمون؟

الواقع أن التفكير في هذا الأمر لم يَدُرْ بخاطر المسلمين الأولين لاعتبارات جوهرية؛ أولها: أن أبا بكر لم تطل خلافته أكثر من سنتين وأشهر، وأن عهده وعهد عمر كانا جميعًا عهد فتح متصل انفسحت به أطراف الإمبراطورية الإسلامية شرقًا وغربًا، فلم يكن العرب ليقيموا أثناء ذلك في شبه الجزيرة، بل كانوا مشتغلين خارجها بالغزو ومغانمه والنصر وأعياده.

وقد ألِفت الأمم في كل العصور ألا تفكر في انتخابات أو ما يشبهها في أوقات الحروب، حين يكون الاستقرار الداخلي جوهريًّا لحياة الدولة، ثم إن أبا بكر وعمر كانا حاكمين من طراز لم يعرف التاريخ له نظيرًا، لم تغير الخلافة ولا غيرت الإمارة على المسلمين من حياة أيٍّ منهما، ولم تنتقل به من داره إلى دار أخرى، بل لقد كانت نظريتهما في تولي أمور الدولة قائمة على أساس من إنكار الذات، بلغ حدًّا يحسبه أهل جيلنا ممعنًا في المبالغة.

نسي كل واحد منهما، منذ تولى أمور المسلمين، نفسه، ونسي أهله وأبناءه، وتجرد لله تجردًا مطلقًا، وأوجب على نفسه أن يشعر بضعف الضعيف وحاجة المحتاج تحقيقًا لمعنى الإخاء في أسمى صوره، وإيذانًا بأنه ليس له في الحياة هوى، وأنه لذلك يقدر على أن يقيم بين الناس عدلًا منزهًا لا يعرف محاباة، ولا يعرف إلا حق الله في أن يعيش الناس جميعًا في ظل عدله — جل شأنه — آمنين مطمئنين.

فلما انقضى عهد أبي بكر وعمر كانت رقعة الإمبراطورية الإسلامية قد انفسحت، ومع ذلك بقي الحكم عربي الأساس، ديمقراطي المبدأ، حتى قامت الثورات والفتن بين علي ومعاوية.

وقد تأثر الحكم الأموي بهذه الثورات لا ريب، لكنه بقي مع ذلك قريبًا من المبدأ العربي الذي يقدس الحرية، ويتفق وما نفهمه اليوم من الديمقراطية.

وقد لبث الحكم كذلك طيلة عهد الملوك الأولين من الأمويين، فلما استعرت الثورات ثانية بين الأمويين والعباسيين، ولما دخل الفرس ثم دخل الروم في البلاط الإسلامي، بدأت هذه المبادئ العربية التي تتفق والروح الإسلامي الصحيح تتأثر بالبيئة الجديدة، ثم طغت هذه البيئة عليها، ثم آمن ملوك المسلمين بحقهم المقدس في الملك، كما كان يؤمن به ملوك أوروبا، ثم كان من أثر ذلك أن تدهورت الإمبراطورية الإسلامية، وأن بدأ عصر الانحلال الذي استمر أجيالًا وقرونًا.

ليس من الإنصاف أن يحاسب الإسلام عما استحدث في هذه الأجيال مما يخالف مبادئه ولا يتفق وتعاليمه، وقد بينا بوضوح ما تنطوي عليه هذه التعاليم، وما تقرره هذه المبادئ، على ما صورت في أول عهد الناس بهذا الدين.

وليس ثمة شبهة في أن هذه المبادئ تتفق ومبادئ الديمقراطية، ولا شبهة كذلك في أن المسلمين يجب عليهم أن يقيموا أنظمة الحكم في بلادهم على أساس من هذه المبادئ ليصوروا هذه النظم كما يشاءون، ليجعلوها برلمانية أو نيابية، ليقيموها على أساس المسئولية الوزارية أو المسئولية العامة أمام الرأي العام، مسئولية من نوع ما هو حاصل اليوم في أمريكا، وما كان حاصلًا في عهد الخلفاء الراشدين، ليختاروا من ذلك أو مما يشبهه ما يشاءون.

لكن الأساس يجب أن يكون دائمًا حكم الشعب نفسه عن طريق التمثيل الصحيح، والمناقشة الحرة، والانتهاء إلى رأي الأغلبية، ويجب على المسلمين أن يدفعوا عن المبادئ التي قررها دينهم بكل قوتهم، ففي ذلك تثبيت لما يدينون به، وما تتحقق به آراؤهم الإسلامية السليمة.

فأما الذين يحاولون التدليل على أن الإسلام يقر حُكمًا غير الحكم الديمقراطي، ويلتمسون الحجة على ذلك بما كان في عصور مختلفة من حياة الأمم الإسلامية، فأولئك يخالفون المبادئ الجوهرية للإسلام على ما خرج في صفائه من شبه الجزيرة.

وحسبي دمغًا لحجة هؤلاء أن المسلمين لم يصبهم ما أصابهم فأحزنهم إلا بفضل هذا الحكم المطلق، وما كان لنظام جنى على المسلمين هذه الجناية أن يكون نظامًا إسلاميًّا يقره المسلمون ويحترمونه! فأما الديمقراطية الإسلامية، على ما خرجت من شبه الجزيرة، فهي التي جعلت للإسلام ما أراده الله له، وما حفظ حتى اليوم كيانه.

ولم تقف المبادئ الديمقراطية في الإسلام عند نظام الحكم في أمة بذاتها، بل لقد تعدت ذلك إلى العلاقات الدولية وتنظيمها، فاحترام المعاهدات، ومقاتلة الباغي حتى يفيء إلى أمر الله، واحترام المحايدين والسكان الآمنين، كل ذلك وما إليه مما تفرضه المبادئ الديمقراطية قد فرضه الإسلام وقرره القرآن الكريم.

(٤) الحياة الدولية

الإسلام دين حرية، وإخاء، ومساواة، والتشريع والقضاء ونظام الحكم فيه صورة من صور الديمقراطية، كما فهمها اليونان الأقدمون، وكما نفهمها في العصر الحاضر، أفكان ذلك شأنه في الحياة الدولية كذلك؟ وهل قرر في علاقات الدول بعضها مع بعض من المبادئ ما يقارَن بما تقرر في عصرنا الحاضر؟ وإن يكن من ذلك شيء، فهل تتفق هذه المبادئ وما تدين به الأمم الديمقراطية؟

وطبيعي ألا يغفل الإسلام العلاقات الدولية، وقد كانت معروفة أول ظهوره، وكانت معروفة قبله بمئات السنين بل بألوفها، لكن الذي قد يعجب له بعضهم أن يكون الإسلام قد نادى بالفكرة الدولية التي حققتها الأمم الديمقراطية سنة ١٩١٩ في أعقاب الحرب الكبرى الماضية، أقصد فكرة عصبة الأمم.

والواقع أن هذه الفكرة ليست إلا تحقيقًا لمعنى الديمقراطية في الحياة الدولية على الوجه الذي تتحقق به في الحياة القومية، والأساس الذي تقوم عليه هو بعينه أساس الحرية والإخاء والمساواة، المساواة بين الأمم الصغيرة والكبيرة، وحريتها في إبداء رأيها في كل مسألة تُعرض على العصبة، وسعي الدول المشتركة فيها جميعًا لتحقيق معنى التعاون والإخاء توطيدًا للسلم ودفعًا للحرب.

وذلك ما تجده في الفكرة الإسلامية، فأنت إن رجعت إلى عهدة هذه العصبة وجدتها كلها تتلخص في قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، هذه الآيات تتناول مواد العهدة كلها تقريبًا.

ولست أشك في أن قيام العصبة على أساس من هذه المبادئ الواردة في القرآن الكريم، والتي أقرتها الأمم الديمقراطية العريقة في الحضارة في عصرنا الحديث، هو وحده الوسيلة الأكيدة لاستقرار السلام في العالم. على أن الإسلام والمسلمين كانوا يقدِّرون أن قيام عصبة للأمم على هذا الأساس الديمقراطي ليس من الأمور اليسيرة، وأن رضا الأمم جميعًا بهذا النظام — عن طواعية واختيار — لا يتحقق إلا بعد عصور طويلة؛ لذلك قرروا مبادئ اتبعوها في الأزمان المختلفة، ثم خولفت في أزمان أخرى، تبعًا لتطور الأحوال مما أشرنا إليه في الفصول السابقة.

ومن أهم المبادئ التي قررها الإسلام احترام العهود وعدم الإخلال بالمعاهدات، وهذا المبدأ أساسي في الحياة الدولية الإسلامية، حتى لقد ضحى المسلمون الأولون من أجله أكبر التضحية.

لما فتح رسول الله مكة كان العرب من مختلف الأديان يحجون إلى الكعبة، ويعتبرون ذلك من عباداتهم لآلهتهم، وإذ فرض الإسلام الحج إلى مكة، فقد أُوحي إلى رسول الله ما اقتضاه أن بعث علي بن أبي طالب في موسم الحج يعلن إلى الناس بمكة أن البيت الحرام أصبح للمسلمين دون غيرهم، وأنه لا يصح لمشرك أن يحج بعد ذلك العام. مع هذا، ومع أن الأمر الذي نزل به من عند الله كان صريحًا فيه، فقد اشتمل هذا الأمر على استثناء صريح للذين عاهدوا رسول الله من المشركين؛ لذلك قال علي حين أعلن للناس أنه لا يحج بعد ذلك العام مشرك، إنه من كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته. وهو في ذلك إنما نفذ قوله تعالى في سورة براءة بعد إنذار المشركين ومنعهم من الحج: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين.

ومن قبل ذلك عقد رسول الله عهد الحديبية مع أهل مكة، وكان من شروط هذا العهد أن من جاء محمدًا من قريش بغير إذن وليه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشًا من رجال محمد لم يردوه عليه. وما كاد هذا العهد يوقَّع حتى أقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى المسلمين يريد أن يذهب معهم إلى المدينة بغير إذن أبيه، ومنعه أبوه، وجعل يجره ليرده إلى قريش، فنادى: «يا معشر المسلمين، الرد إلى المشركين يفتنونني في ديني.» وكان جواب رسول الله: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين مخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.»

وبعد زمن من ذلك، خرج أبو بصير من مكة إلى المدينة بغير إذن مولاه، فكتب أهل مكة إلى النبي يطلبون رده، فأمره أن يعود إلى قومه، وقال له: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح لنا في ديننا الغدر، فانطلق إلى قومك.»

ولما تولى أبو بكر خلافة رسول الله فارتدت العرب، فانتصر خالد بن الوليد على مسيلمة بن حبيب المتنبئ باليمامة، عقد خالد صلحًا مع أهلها من بني حنيفة، ثم إنه جاءه أمر من أبي بكر يخالف نصوص هذا الصلح. ومع أن خالدًا إنما كان يعمل بإذن أبي بكر، فإنه احترم المعاهدة التي عقدها مع أهل اليمامة، وأجاز أبو بكر تصرفه في ذلك، ورأى فيه ما يتفق ومبادئ الإسلام الأساسية. والأمثال على الوفاء بالعهد واحترام المعاهدات الدولية مستفيضة في تاريخ المسلمين.

أما في الحرب، فقد كان المسلمون متأثرين بالقواعد المقررة في عهدهم في مختلف البلاد، ومن بينها الإمبراطوريتان البيزنطية والفارسية. وأنت لا تستطيع في الحرب إلا أن تقابل عمل عدوك بمثله، أو على الأقل بما يزيل أثره.

على أن المسلمين قد وضعوا قواعد إنسانية سامية نفذتها جيوشهم في كل حالة، لم يضطرهم العدو فيها إلى الخروج عليها، من هذه القواعد ما ذكره أبو بكر في وصيته لجيش أسامة بن زيد، إذ قال: «لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرًا إلا لمأكله.»

وكتب أبو بكر في خاتمة كتاب بعث به إلى قائده المهاجر بن أبي أمية المخزومي، حين بلغه أنه مَثَّل ببعض أعداء الإسلام: «إياك والمثلة في الناس، فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.»

ولم تكن هذه القواعد التي جرى عليها المسلمون تقتصر على ما بين الأمم الإسلامية بعضها وبعض، فما ذكرناه عن النبي حدث مع المشركين، ولم يكن الخلاف في الدين سببًا قط في نقض العهود، كان أهل نجران نصارى يقيمون باليمن، وقد أقاموا على دينهم، وتعاهدوا مع رسول الله على الجزية، فلما تولى أبو بكر الخلافة، أقام أهل نجران على عهدهم، فاحترمه أبو بكر، بل جدده معهم باحترام «ملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وغائبهم وشاهدهم وأسقفهم ورهبانهم وبِيَعهم حيثما وقعت وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير».

هذه بعض القواعد التي أقرها الإسلام في أمر العلاقات الدولية، وهي تتفق مع أحدث القواعد الديمقراطية في عصرنا الحاضر.

نقف الآن هنيهة لنسأل: كيف التقى الإسلام والديمقراطية في الأمور الجوهرية جميعًا؟ فقد ثبت لنا في البحوث الأربعة التي قمنا بها أنهما يلتقيان في المبادئ العامة، وفي أسس التشريع والقضاء، وفي نظام الحكم، وفي تنظيم العلاقات الدولية.

والإجابة على هذا السؤال يسيرة، فالإسلام والديمقراطية يتجهان جميعًا وجهة مشتركة ويرميان إلى غاية واحدة: سعادة الإنسانية وأمنها وسلامها، وغرضهما في هذا إنساني مطلق لا تحده حدود القومية، ولا الجنسية ولا اللغة ولا غيرها من الحدود، وهما يعتمدان في اتجاههما وفي تحقيق غايتهما على توجيه الفطرة الإنسانية توجيهًا يسمو بها على حكم الهوى ويجنبها نزغ الشهوات.

ويتجاوز الإسلام الديمقراطية في غايته، فهي تحد غايتها بهذه الحياة، أما الإسلام فيتعدى هذا الحد، شأنه في ذلك شأن الأديان السماوية الأخرى.

وإنما يعتمد الإسلام وتعتمد الديمقراطية على الفطرة الإنسانية؛ لأن كل ما يخالف هذه الفطرة لا بقاء له على الحياة. من ثم تعرضت المذاهب الاقتصادية القائمة على منطق العقل المطلق لفشل كل تجربة قصد بها إلى إقامة نظام على أساس هذه المذاهب.

لماذا؟ لأن فطرة الإنسان مركبة، وليست بسيطة، فهي تتصل بالعقل، وبالعاطفة، وبالهوى، وبالشهوة، وتنزع إلى السمو إذا وجدت التوجيه الصالح، لذلك كان العقل وحده، بمنطقه المجرد، غير كافٍ لإقامة النظام الاجتماعي، وكذلك كانت العاطفة وحدها، والهوى وحده، وكل عنصر منفرد مما تتكون منه فطرة الإنسان، غير كافٍ لإقامة هذا النظام الاجتماعي.

وهذه العناصر التي تتركب منها الفطرة الإنسانية تتفاوت بين الأفراد، لكن تفاوتها هذا لا يحول دون توازنها في نظام الجماعة. والجماعة الإنسانية كائن حي متصل على الأجيال، فكل تنظيم لحياتنا يهمل عنصرًا من عناصر الفطرة الإنسانية لا يمكن أن يكون له بقاء أو دوام.

لا عجب واتجاه الإسلام والديمقراطية واحد، وغايتهما واحدة، وطريقتهما في الاعتماد على الفطرة الإنسانية وتوجهها إلى الكمال متحدة، لا عجب أن يلتقيا في الأمور الجوهرية جميعًا، مما يتصل بشئون الحياة. ثم لا عجب بعد ذلك أن تقصد الأمم الإسلامية في عصرنا الحديث إلى النظام الديمقراطي، تتخذه أداتها للسعادة الإنسانية وللأمن والسلام، ولا عجب في أن تدافع عنه بكل قوتها، لا تدخر في هذا الدفاع وسعًا، ولا ترضى عن النظام الديمقراطي بديلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤