الفصل الثاني

الإسلام وحرية الرأي

(١) أساس من أسس الدين

ذكرتُ أن العالم يضطرب اليوم بمبادئ وآراء تستوقف النظر وتدعو إلى التفكير، ليرى الإنسان ما بين هذه الآراء والمبادئ من ناحية، ومقررات الدين الإسلامي من ناحية أخرى، من نسب يقربهما أو يباعد بينهما، وما عسى أن يكون لهذا التقريب أو لهذه المباعدة من أثر في علاقات الأمم الإسلامية بغيرها من الأمم التي تدين بغير الإسلام.

وتحدثتُ عما نص عليه ميثاق الأطلنطي من حرية الرأي والتعبير عنه، وحرية العقيدة وإقامة شعائرها، وبينت فيما يتعلق بحرية العقيدة أن الإسلام يقر هذه الحرية، بقدر ما تقرها المسيحية وغيرها من الأديان.

فالقرآن يقرر أن لا إكراه في الدين، وتاريخ المسلمين يشهد بأنهم لم يفرضوا الإسلام على أحد في البلاد التي فتحوها، وأن من أقام على دينه من أهل هذه البلاد ولم يعتنق الإسلام، تمتع بحماية لا تتمتع الأقليات اليوم في أكثر الأمم حضارة بأكثر منها.

وخلصتُ من ذلك إلى أن في مقدور الناس أن يلتمسوا في مقررات الأديان على اختلافها وسائل التقريب بينهم، فالأديان كلها تدعوهم ليتوجهوا إلى الله بقلب سليم، ليربط بينهم بروابط الأخوة والمحبة والسلام.

ولا حاجة بي إلى القول بأن الإسلام قامت دعوته على أساس من حرية الرأي والتعبير عنه، فهو حين دعا الناس إلى الإيمان بالله جعل النظر في الكون والتأمل في سنة الله فيه أساس هذا الإيمان، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.

وقد كان الاجتهاد بالرأي أصلًا من أصول الشرع منذ العصر الإسلامي الأول، وكان هذا الاجتهاد بالرأي يتناول أصول الفقه في الدين، فطبيعي أن تكون حرية الرأي مطلقة فيما وراء ذلك من شئون الحياة، وهذا هو الذي جعل المسلمين الأولين في مقدمة من نقلوا العلوم اليونانية والفلسفة اليونانية، وأقاموا على أساس من تفكير اليونان مذاهب نقلها الأوروبيون عنهم من بعد.

هذا إجمال لصورة تاريخية تتولى ألوف المجلدات تفصيلها، وهي صورة صحيحة كل الصحة مع إجمالها في سطور.

وحسبك أن تذكر ما كان يقع بين النبي العربي وخصوم الدعوة الجديدة من جدل، تبلغ فيه المعارك الكلامية ذروتها لتقتنع بأن حرية الرأي كانت أساس هذه الدعوة، وأن تذكر ما تكرر في القرآن من التثريب على الذين يتمسكون بما وجدوا عليه آباءهم دون النظر فيه وتمحيصه، لنفي ما فيه من زيف باطل، لتعلم أن تحرير الفكر من رق الجمود كان أساسًا من أسس الدين الحنيف.

أما الاجتهاد بالرأي فكان يقع في عهد رسول الله، وكان عمر بن الخطاب إمامًا فيه، حتى لقد صارت آراؤه من بعد مراجع يأخذ بها أئمة الفقه.

وقد أدى نقل الفلسفة اليونانية للعربية إلى نشاط عقلي، تبدو آثاره واضحة في كتب الفلسفة الإسلامية، سواء منها ما ظهر في الشرق حين كانت دمشق وبغداد والقاهرة عواصم الإمبراطورية الإسلامية، وما ظهر منها في الغرب أيام مقام المسلمين بالأندلس واطمئنان دولتهم في ربوعها.

(٢) في عهد الانحلال

وإنما قُضي على هذه الحرية، وأُقفل باب الاجتهاد، حين بدأ عهد الانحلال. في هذا العهد انقسمت الإمبراطورية على نفسها، واستبد الملوك بأممها المختلفة، وأصبح شأن العلماء في تلك العهود المهلهلة أن يجدوا ما يؤيد سلطان هؤلاء الملوك.

فإذا خرج أحدهم على هذا اللون من التفكير، أو أراد محاربة المظالم التي تقع في ظل هذا السلطان، اتُّهم بالكفر والزندقة وحلت به نقمة الحاكم. من ذلك العهد بدأ الجمود يقيد الأذهان، وبدأت الحرية العقلية تزول من العالم الإسلامي، وارتد الناس إلى جاهلية لا تقرها مبادئ الإسلام السليمة.

واستنادًا إلى ما حدث في ذلك العهد ظن بعض المستشرقين، وبعض الجامدين من المسلمين، أن الدين الحنيف لا يقر حرية الرأي وحرية التعبير عنه، ولو أن هؤلاء رجعوا إلى الأدب الإسلامي شعره ونثره في عصر الأمويين وفي عصر العباسيين، وإلى الفنون التي ازدهرت على أيدي المسلمين الذين عاشوا أثناء تلك العهود، في بغداد وفارس وفي دمشق والقاهرة، وإلى ما كان منها في الأندلس، لرأوا نهضة في التفكير وفي التصور وفي تصوير الآراء والمذاهب والفنون، تدل على حرية لا تزيد عنها حريتنا اليوم في إبداء الرأي والتعبير عنه.

وفي عهد الانحلال الذي طرأ على الإمبراطورية الإسلامية كانت أوروبا المسيحية لا تعرف حرية الرأي، فلم تكن هذه الحرية تمر لأحد منها بخاطر، وفي هذا العهد لمَّا تكن أمريكا قد اكتُشِفت.

وإنما بدأ الناس في أوروبا يثورون بالجمود الديني في القرن السادس عشر، ومع ذلك لم تعترف دولها بحرية الرأي قبل القرن الثامن عشر، وفي ذلك العصر الذي مهد له «فولتير» و«روسو» وأضرابهما في فرنسا، كان صاحب الرأي يحارب لرأيه، وكان يُحبَس أو يُنفَى من الأرض، وكان يُضيَّق عليه في رزقه، ولم يتقرر هذا المبدأ على نحو صالح إلا بعد الثورة الفرنسية.

مع ذلك ظلت حرية الرأي تُحارَب الحين بعد الحين، حتى إذا قامت الفاشية والنازية في هذا القرن العشرين، قضت عليها في إيطاليا وفي ألمانيا قضاءً مبرمًا. ولهذا رأى روزفلت وتشرشل ضرورة النص عليها في ميثاق الأطلنطي، واعتبراها الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الحياة الإنسانية، فالإنسانية المحرومة من حرية الرأي محرومة من أول عناصر الحياة الإنسانية الصحيحة، ومن أقوى عنصر يدفع إلى التقدم في سبيل الكمال.

(٣) حرية الرأي والتعاون

أما والإسلام يقر حرية الرأي والتعبير عنه، فتعاون الدول الإسلامية مع الدول التي تدين بغير الإسلام على أساس من هذه الحرية ليس ممكنًا وكفى، بل هو واجب لخير الناس جميعًا على اختلاف أديانهم وأوطانهم.

والواقع أن التعاون غير مستطاع بين الأمم في عالم حر، إذا لم تكن حرية الرأي أساس هذا التعاون، فصلة الأمة بالأمة كصلة الرجل بالرجل، لا تقوم إلا على أحد الأساسين: التفاهم أو الإكراه.

والإكراه إذلال للروح، وتدمير لخير مقوماتها وفضائلها، فهو كذلك في أمر الفرد وفي أمر الجماعة، وفي أمر الأمم وعلاقات بعضها ببعض. وهو هو الذي يثير الحروب وما تجر إليه من آلام ودموع وخراب ودمار.

أما التفاهم فهو وحده الجدير بالإنسان، وليس للتفاهم سبيل إلا حرية الرأي، هذا إلى ما تؤدي إليه هذه الحرية من خير يعم الإنسانية كلها في مختلف العصور والأمم.

ولا حاجة بي إلى القول بأنَّا ننعم اليوم في كثير من معاركنا ومن مقومات حياتنا بثمرات هذه الحرية بعدما دفع أصحابها حياتهم ثمنًا لها، لأنهم رأوها أعز من الحياة، ورأوها وحدها التي تصل بنا إلى الحقيقة، والحقيقة الإنسانية — وإن تكن نسبية — هي التي أبلغتنا في هذا العالم ما بلغناه من رقي وحضارة.

(٤) أثر الحرية في الأفراد والجماعات

ويسير عليك أن ترى ما لهذه الحرية من أثر في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات، فالعلاقات القائمة بين الأفراد على أساس من التفاهم الحر هي التي تبقى؛ لأن هؤلاء الأفراد أقاموها مختارين لا يتحكم أحدهم في صاحبه، ولا يُكرهه على شيء لا يريده.

والأمر كذلك بخاصة إذا كان هذا التفاهم حرًّا غير مشوب بشائبة تجعل أحد الطرفين يسعى للتخلص من نتائجه إذا واتته فرصة لهذا التخلص. وعلاقات الأمم القائمة على التفاهم الحر شأنها كشأن علاقات الأفراد سواء، فإذا ارتقى الأمر من مستوى التفاهم على المنافع الخاصة أو العامة إلى حرية كل فرد في إعلان رأيه، والتعبير عنه صادق القصد حسن النية، كانت هذه الحرية أقدس شيء في الحياة وأعزه، ثم كانت إلى ذلك غذاء الحياة الاجتماعية في الأمة، حافز الإنسانية كلها إلى التقدم خطوات فسيحة نحو الحضارة المثلى.

وتاريخ الإنسانية يشهد بهذه الحقيقة، فقد تنقلت المدنيات في حقب التاريخ المختلفة من الشرق إلى الغرب، ومن حوض البحر الأبيض إلى حوض الأطلنطي وإلى حوض الباسفيكي، فلم تكن مدينة تزدهر ازدهارًا حقيقيًّا في غير ظلال الحرية العقلية الصحيحة.

فإذا أظلت الحرية الناس، كانت الفلسفة وكان العلم والأدب والفن، ترتقي كلها وتنتظم الجماعة في كل طبقاتها، وتدفع الجميع إلى الأمام، يتنافسون متضامنين في سبيل الرقي، فإذا الصناعة تعظم، وإذا الزراعة تينع، وإذا التجارة تتضاعف ثمراتها، وإذا النشاط الإنساني في شتى صوره يتضاعف تضاعفًا هندسيًّا مضطردًا

ثم لا يكون هذا كله رهنًا بإرادة رجل يوجهه، فإذا مات الرجل تضاءل النشاط وذوت مظاهره، بل كان ذلك قائمًا بذاته، حيًّا بحياة الجماعة المستظلة بعلم الحرية العقلية، باقيًا ما بقيت هذه الحرية تغذيه وتجري بواعث الحياة فيه.

والعالم بأسره يتمخض اليوم عن حضارة عالمية عامة، تشمل العالم كله في كل أرجائه وأقطاره، ولا سبيل لهذه الحضارة أن تقوم وتزدهر إلا أن تُظِلَّ الحرية العقلية العالم بأسره، وأن يتعاون الناس من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في ظلال هذه الحرية لإقامة هذه الحضارة وتثبيت أركانها. وما كان دين من الأديان، ولا كانت عقيدة من العقائد، لتحول دون هذا التعاون؛ فالأديان كلها أساسها الحق والخير، وكل حضارة تقوم ويرجى لها البقاء لا يمكن أن تقوم أو تبقى إلا على أساس من الحق والخير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤