مقدمة

يُعَدُّ «ديفد هيوم» David Hume أبًا لحركة فلسفية تعاصرنا اليوم ونعاصرها، وهي الحركة التي يطلق عليها أنصارها اسم «الوضعية المنطقية» حينًا، واسم «التجريبية العلمية» حينًا آخر؛ وإلى هذه الحركة الفلسفية أنتمي؛ على أن «هيوم» وإن يكن أصلًا تفرعت عنه المدرسة التجريبية العلمية القائمة بيننا اليوم، إلا أن بينه وبينها ما بين الأصل وفرعه من اتفاق في الأساس واختلاف في تفصيلات الورق والثمر.

والأساس الذي وضعه لنا هيوم فجئنا اليوم نبني عليه، هو التفرقة الفاصلة الواضحة بين ضربين من المعرفة: المعرفة التي تنحصر أطرافها في رأس صاحبها؛ إذ تكون تحديدًا للعلاقات القائمة بين فكرة وفكرة، كأن يدرك أن إحدى الفكرتين نتيجة تلزم عن الأخرى؛ والمعرفة التي تنبئنا عن أمور الواقع، فليس الأمر ها هنا مقتصرًا على تحليل الأفكار الذهنية لتحديد ما بينها من علاقات، بل إنه يجاوز حدود الذهن ليمد أطرافه إلى العالم الخارجي، فيغترف من حوادثه ووقائعه تقريرًا عمَّا يدور حولنا.

هذان ضربان من المعرفة مختلفان جِد الاختلاف، ففي الضرب الأول منهما يقيم المفكر فكره بغض النظر عما يقع في العالم الخارجي أو لا يقع، كما هي الحال في العلوم الرياضية وما لفَّ لفها، فما على المفكر ها هنا إلا أن يبدأ شوط تفكيره من فكرة بعينها، ولتكن فكرة المثلث — مثلًا — ثم يأخذ في تحليل الفكرة واستخراج ما يكمن في جوفها، فإذا كانت الفكرة الأصلية مقدمة نبدأ منها، فهذه العناصر التي نستخرجها منها هي النتائج التي تلزم عن تلك المقدمة لزومًا منطقيًّا ضروريًّا؛ كأن أقول مثلًا إنه ما دام المثلث سطحًا مستويًا محوَّطًا بثلاثة أضلاع، إذن فلا بد أن تكون زواياه ثلاثًا كذلك، وإذا كان كذا، إذن فلا بد أن يكون كيت … وهكذا؛ ها هنا تكون النتائج التي نصل إليها يقينًا حتى ولو لم يكن في العالم بأسره مثلث واحد؛ لأننا لا نتعرض فيها إلى نبأ ننبئ به عن الطبيعة الواقعة بحيث يجوز علينا الصواب والخطأ، بل إننا بمثابة من يكرر الفكرة الواحدة مرتين؛ إذ نقول الفكرة الأولية ثم نحللها لنستخرج من خيوطها خيطًا نبرزه، فليس هذا الخيط الذي انتزعناه من النسيج الأَولي شيئًا جديدًا، بل هو كشف عما هناك.

لا عجب إذن أن تكون الاستدلالات الرياضية يقينية النتائج إذا ما سلِمَتْ خطوات الاستدلال، لكن ما هكذا يكون الأمر في النوع الثاني من معرفتنا، وأعني به ما يصف لنا العالم الخارجي، كأن نعلم — مثلًا — أن البرودة تجمد الماء، وأن السِّباع لا تأكل العشب، وأن الأجسام تتجاذب على نحو معين وهكذا؛ هنا يتحتم علينا أن نتلقى من الخارج انطباعات معينة على حواسنا لنعلم ماذا عسى أن يكون في الطبيعة من وقائع وأحداث؛ فليس الفكر الخالص وحده بقادر على أن يعلم أن البرودة تجمد الماء وأن السباع لا تأكل العشب، بل لا بد في مثل هذه الأمور من النظر إلى ما يحدث، كما تدلنا عليه خبراتنا التي مارستها حواسنا من رؤية وسمع … إلخ، ذلك لأن الفكر الخالص غير المعتمد على الخبرة الحسية ليس لديه ما يمنع أن يتصور نقائض هذه الحوادث، فليس محالًا على العقل أن يتصور الماء تذيبه البرودة وتجمِّده الحرارة، وأن يتصور السِّباع آكلة للعشب والخيل آكلة للحوم؛ فالذي حملنا على قول ما نقوله عن وقائع الطبيعة هو الخبرة الحسية التي أحاطتنا بما يقع فعلًا؛ فإذا كنَّا نقرر أن البرودة وتجمُّدَ الماء حادثان متصاحبان دائمًا، فما ذلك إلا لأننا رأيناهما متصاحبَين فعلًا؛ إننا لم نتناول فكرة «البرودة» في أذهاننا لننصرف إلى تحليلها إلى عناصرها، كما فعلنا في فكرة «المثلث» ونحن نفكر تفكيرًا رياضيًّا؛ لم نتناول بالتحليل الذهني الصرف فكرة «البرودة» لنقول بعدئذٍ إن في جوف هذه الفكرة عنصرًا هو أنها تجمِّد الماء؛ كلا، فليست العلاقة بين الطرفين — البرودة وتجمد الماء — رابطة عقلية تحليلية ضرورية الحدوث، بل الأمر مرهون بالملاحظة الحسية وحدها، فنلاحظ ملاحظة متكررة أن الطرفين متصاحبان، يتحقق أحد الطرفين إذا تحقق الآخر بغير تخلُّف، فنستفيد بهذه الخبرة أن نتوقع حدوث أحد الطرفين إذا ظهر لنا الآخر؛ وإذا ما قلنا إن بين هذين الطرفين علاقة «سببية» فلسنا نريد بهذه الكلمة إلا هذه المصاحبة التي خبرناها فيما مضى ونتوقع لها أن تعود إلى الحدوث في المستقبل على نحو ما حدثت في الماضي.

هذه التفرقة الفاصلة بين نوعي المعرفة السالفَين، وَضَع لنا أساسها هيوم، فجئنا اليوم نبني عليها ونمضي في طريقها إلى غاياته المنطقية، ومن هذه الغايات المنطقية — ومن أهمها — أن وضَّحنا بقدر ما وسعنا التوضيح أن «المعرفة» بمعناها الصحيح، أي بمعناها الذي يمكن به أن يتبادل الناس معارفهم، يستحيل عقلًا أن تخرج عن هذين النوعين — مع تبيُّن الفرق بين النوعين — وهما العلوم الرياضية من جهة والعلوم الطبيعية من جهة أخرى؛ وأما ما عدا ذلك من صنوف الكلام فمقبول إذا أراد به صاحبه أن يخرجه تعبيرًا ذاتيًّا عن دخيلة نفسه لا يريد غيره أن يناقشه فيه، أو بعبارة أخرى، إن ما عدا هذين النوعين من «المعرفة» لا يكون من المعرفة في شيء؛ حتى إن قبلناه على أنه تعبير فني كالقصيدة من الشعر مثلًا، فإنما نقبله في هذه الحالة، لا على أنه «معرفة» موضوعية يجوز فيها الجدل والمراجعة، بل على أنه حالة انفعالية هي أقرب إلى ضحكة الضاحك أو صرخة المتألم؛ وعلى هذا الأساس نحذف الأقوال الميتافيزيقية كلها من مجال «المعرفة»؛ لأنها لا هي باعتراف أصحابها مجرد تحليلات فكرية لا تمت إلى العالم الخارجي بسبب، ولا هي معتمدة على خبراتنا الحسية، نحذفها من مجال «المعرفة»، ولأصحابها — إذا شاءوا — أن يعدوها تعبيرات فنية كقصائد الشعر وما إليها من فنون القول، على أن يكون الحَكَم في قبولها أو رفضها هو الناقد الفني لا صاحب المنطق العقلي؛ يقول «هيوم» في ختام كتابه «بحث في العقل البشري» (نشر «سلبي بج»، ص١٦٥): «إننا إذا ما استعرضنا المكتبات مُزَوَّدين بهذه المبادئ، فيا لها من إبادة تلك التي نضطر إلى فعلها! فلو تناولنا بأيدينا كتابًا كائنًا ما كان، كتابًا في اللاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسية — مثلًا — فلنسأل: «هل يحتوي هذا الكتاب على تدليلات مجردة بالكم والعدد؟ لا؛ هل يحتوي على تدليلات تجريبية خاصة بأمور الواقع والوجود الفعلي؟ لا؛ إذن فألْقِ به في النار، لأنه يستحيل أن ينطوي على شيء غير سفسطة ووهم.»

إلا أننا — نحن التجريبيين العلميين المحدثين — إذا كنَّا على اتفاق مع رائدنا الأول في أمثال هذه الأصول، فإننا نختلف وإياه في طريقة السير، وفي مجال النشاط؛ فبينا هو يحلل الفكر الإنساني تحليلًا «نفسيًّا»، ترانا نحلله تحليلًا «منطقيًّا»، ومِن ثَم تسمية مدرستنا المعاصرة بالوضعية المنطقية؛ فرائدنا هيوم يتقصَّى بالتحليل الوحدات الأولية التي منها يتألف المحصول العقلي — إذا صح هذا التعبير — حتى يقع في نهاية الأمر على تلك العناصر الأولية المنشودة، وهي الانطباعات الحسية، أي ما تنطبع به حواسنا الخارجية والداخلية على السواء انطباعًا مباشرًا، كأن ترى بعينك لمعة من الضوء أو أن تحسَّ خوفًا، حتى إذا ما أزيلت المؤثرات الخارجية التي طبعت حواسنا، تخلَّفتْ لنا صور ذهنية هي نفسها تلك الانطباعات الأولى بعد أن زالت مؤثراتها، وهذه الصور المتخلفة هي ما يسميه هيوم ﺑ «الأفكار»؛ وإذن فالمحصول العقلي عند الإنسان يرتد إلى هذه العناصر الأولية: انطباعات وأفكار، أو إن شئت فقل إنها انطباعات وما يتخلَّف عنها من صور … هكذا يجعل هيوم مجال تحليله «نفسيًّا»، فلا فرق بينه في الحقيقة وبين عالم نفسي يحلل التفكير الإنساني؛ أما أتباعه المعاصرون فلا شأن لهم بالمجال النفسي، وإنما شأنهم كله في العبارات الكلامية التي فيها يتجسَّد التفكير؛ فالذي يحلله المحدثون هو «اللغة» التي تقع عليها أعيننا مكتوبة أو تطرق آذاننا مسموعة؛ ولذلك فالوحدات التي ينشدونها بتحليلهم هي «قضايا» أوَّلية، لا «حالات نفسية» أوَّلية كما كانت الحال عند هيوم.

إنني لا أريد أن أستطرد في هذه المقدمة استطرادًا يخرج بها عن حدودها، لأنني أريد للقارئ أن يطالع «هيوم» نفسه؛ وإنما أقول «يطالع هيوم» لأنني في هذا الكتاب قد حرصتُ على أن أترك الحديث لصاحبه، فاعتمدت في كل ما ذكرته على مؤلفات هيوم، حتى يحس القارئ كأنما الفيلسوف نفسه يعرض عليه بلسانه خلاصة وافية لفلسفته.

وحسبُ القارئ ليَعلم مكانةَ هيوم في الفلسفة أن يَعلم أنه شقَّ في أرضها طريقًا جديدًا؛ وعزف على أوتارها نغمةً لم تَألفها الأسماع قبله؛ نغمةً أيقظت جبَّار الفلسفة الحديثة — عمانوئيل كانت — من سُباته، فهو القائل عن هيوم: «إنني لَأعترف صادقًا أن ما استذكرته من تعليم ديفد هيوم كان هو على وجه التحديد العاملَ الذي أحدث — منذ أعوامٍ كثيرة — أولَ هزة أيقظتني من سُبات جمودي الاعتقادي، ووجَّه أبحاثي في مجال الفلسفة التأمُّلية وجهةً جديدة» (من كتابه «مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة»).

وإني لآمل أن يُحدِث هذا الكتاب عند دارسي الفلسفة عندنا هزة — كالتي يذكرها «كانت» — توقظهم من سبات جمودهم الاعتقادي، ولو فَعَل لكان ذلك لكاتبه خير الجزاء.

زكي نجيب محمود
الجيزة، في ٩ سبتمبر ١٩٥٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤