نصوص مختارة

النص رقم ١

في أصل أفكارنا

إدراكات العقل البشري بأسرها تنحل من تلقاء نفسها إلى نوعين متميز أحدهما من الآخر، وسأطلق عليهما لفظتي «انطباعات» و«أفكار»؛ وينحصر الفرق بين هذين النوعين في درجات القوة والحيوية اللتين يطبعان بهما العقل ويلتمسان بهما الطريق إلى فكرنا أو شعورنا: فأما الإدراكات التي ترِدُ إلينا بأبلغ القوة والعنف، فلنا أن نسميها ﺑ «الانطباعات» وإني لأجمع تحت هذا الاسم كل إحساساتنا وعواطفنا وانفعالاتنا عندما تظهر للمرة الأولى في النفس؛ وأما لفظة «الأفكار» فأعني بها ما يكون في التفكير والتدليل العقلي من صورة خافتة لتلك الإحساسات والعواطف والانفعالات … وأعتقد أن توضيح هذا الفرق (بين الانطباعات والأفكار) لا يتطلب بالضرورة الملزمة إضافة في القول؛ ذلك أن كل إنسان مستطيع بنفسه أن يدرك في غير عسر الفرق بين الإحساس والتفكير؛ إذ من اليسير أن نميز بينهما عندما يكونان في درجاتهما المألوفة؛ ولو أنه ليس محالًا في حالات معينة أن يقترب أحدهما من الآخر اقترابًا شديدًا؛ مثال ذلك في حالات النعاس والحمى والجنون، والحالات التي تتعرض فيها النفس إلى أي انفعال شديد العنف، فعندئذٍ قد تقترب أفكارنا من انطباعاتنا؛ وكذلك الأمر من ناحية أخرى قد يحدث أحيانًا أن تبلغ انطباعاتنا من الخفوت والضعف حدًّا يتعذر علينا معه أن نفرق بينها وبين أفكارنا؛ غير أنه رغم هذا التشابه القريب بينهما في حالات قليلة، إلا أنهما بصفة عامة يكونان من التباين بحيث يستحيل على أحد من الناس أن يتردد في أن يضعهما في قسمين مختلفين، وأن يخصص لكل منهما اسمًا ليبرز ما بينهما من اختلاف.

وكذلك تنقسم إدراكاتنا انقسامًا آخر يجمل بنا ملاحظته، وهو انقسام يمد حدوده إلى الانطباعات والأفكار كليهما، وأعني به انقسام الإدراكات إلى «بسيطة» و«مركبة»؛ أما الإدراكات — أي الانطباعات والأفكار — البسيطة فهي تلك التي لا تقبل تمييزًا أو فصلًا (في عناصرها)؛ وأما المركبة فعلى خلاف ذلك ويمكن تحليلها إلى أجزاء متميز بعضها من بعض؛ فإنه وإن يكن اللون الخاص والطعم والرائحة كلها صفات متحد بعضها مع بعض في هذه التفاحة؛ فمن اليسير أن ندرك أنها مختلفة إذ يمكن على الأقل أن نميز بعضها من بعض.

«رسالة في الطبيعة البشرية»
(نشر سلبي بج) ص١-٢

OF THE ORIGIN OF OUR IDEAS

All the perceptions of the human mind resolve themselves into two distinct kinds, which I shall call Impressions and Ideas. The difference betwixt these consists in the degrees of force and liveliness with which they strike upon the mind, and make their way into our thought or consciousness. Those perceptions, which enter with most force and violence, we may name ‘‘impressions’’; and under this name I comprehend all our sensations, passions and emotions, as they make their first appearance in he soul. By ‘‘ideas’’ I mean the faint images of these in thinking and reasoning; … I believe it will not be very necessary to employ many words in explaining this distinction. Every one of himself will readily perceive the difference betwixt feeling and thinking. The common degrees of these are easily distinguished; tho’ it is not impossible but in partieular instances they may very nearly approach to each other. Thus in sleep, in a fever, in madness, or in any very violent emotions of souls, our ideas may approach to our impressions: As on the other hand it sometimes happens, that our impressions are so faint and low, that we cannot distinguish them from our ideas. But notwithstanding this near resemblance in a few instances, they are in general so very different, that no-one can make a scruple to rank them under distinct heads, and assign to each a peculiar name to mark the difference.
There is another division of our perceptions which it will be convenient to observe, and which extends itself both to our impressions and ideas. This division is into Simple and Complex. Simple perceptions or impressions and ideas are such as admit of no distinction nor separation The complex are the contrary to these, and may be distinguished into parts. Tho’ a particular colour, taste and smell are qualities all united together in this apple, ’tis easy to perceive they are not the same, but are at least distinguishable from each other.
A Treatise of Human Nature
(ed. Selby-Bigge)  pp. 1-2

النص رقم ٢

في الأفكار المجردة

لقد أثير سؤالٌ بالغ الأهمية عن الأفكار «المجردة» أو «العامة»: «أتكون عامة أم جزئية في تصور العقل لها؟» ولقد نازع فيلسوفٌ عظيم (يقصد باركلي) الرأي التقليدي في هذا الصدد، وقرر أن كل الأفكار العامة إن هي إلا أفكار جزئية رُبطت باسم معين يخلع عليها دلالة أوسع مدًى، ويجعلها تستشير — إذا ما لزم الأمر — أفرادًا أخرى شبيهة بها؛ ولما كنت أعد هذا كشفًا من أعظم وأنفس الكشوف التي تمت إبان الأعوام الأخيرة في عالم الآداب، فسأحاول هنا أن أؤيده ببعض الحجج التي أرجو أن تجاوز بالموضوع كل حدود الشك والجدل.

فواضح أننا في تكويننا لمعظم أفكارنا العامة، إن لم يكن كلها، نجردها من الكم والكيف بجميع درجاتهما الجزئية؛ وواضح كذلك أن الشيء (الذي نشير إليه بالفكرة العامة) لا يُبْطِلُ انتماءَه إلى نوع معين ما قد يطرأ عليه من اختلافات يسيرة في امتداده المكاني أو الزماني أو غير ذلك من الخصائص؛ ولذلك فقد يقال إن ثمة إشكالًا صريحًا فيما يختص بطبيعة تلك الأفكار المجردة التي أثارت كل هذا الذي أثارته بين الفلاسفة من تأملات نظرية؛ فالفكرة المجردة عن الإنسان تمثل الناس على اختلاف أحجامهم واختلاف صفاتهم، وهو تمثيل لا تستطيع القيام به إلا بإحدى طريقتين، فإما أن تمثل دفعة واحدة كل ما يمكن تصوره من أحجام ومن صفات، وإما ألا تمثل فردًا جزئيًّا على الإطلاق؛ أما وقد عد سُخفًا أن نتصدى لتأييد الافتراض الأول لكونه يقتضي أن يكون العقل ذا قدرة لا نهائية، فقد كانت النتيجة المستخلصة غالبًا في صالح الافتراض الثاني، وبهذا كان الفرض هو أن أفكارنا المجردة لا تمثل كمًّا ولا كيفًا في أية درجة جزئية محددة؛ لكنني سأحاول أن أبين أن هذا الاستدلال خاطئ، وذلك — أولًا — بالبرهنة على أنه يستحيل استحالة قاطعة على إنسان أن يتصور كمًّا أو كيفًا دون أن يكوِّن لنفسه فكرة دقيقة عن درجة ذلك الكم أو الكيف، وثانيًا بأن أبين بأنه وإن تكن قدرة العقل ليست باللانهائية، إلا أنه في وسعنا أن نكوِّن فكرة عن كل الدرجات الممكنة للكم وللكيف دفعة واحدة، على نحو مهما يكن بعيدًا عن الكمال، إلا أنه على الأقل قد يحقق كل الأغراض التي نستهدفها بالتفكير وبالنقاش.

«رسالة في الطبيعة البشرية»
(نشر سلبي بج) ص١٧-١٨

OF ABSTRACT IDEAS

A very material question has been started concerning ‘abstract’ or ‘general’ ideas, ‘whether they be general or particular in the mind’s conception of them’. A great philosopher has disputed the received opinion in this particular, and has asserted, that all general ideas are nothing but particular ones, annexed to a certain term, which gives them a more extensive signification, and makes them recall upon occasion other individuals, which are similar to them. As I look upon this to be one of the greatest and most valuable discoveries that has been made of late years in the republic of letters, I shall here endeavor to confirm it by some arguments, which I hope will put it beyond all doubt and controversy.
’Tis evident, that in forming most of our general ideas, if not all of them, we abstract from every particular degree of quantity and quality, and that an object ceases not to be of any particular species on account of every small alteration in its extension, duration and other properties. It may therefore be thought, that here is a plain dilemma that decides concerning the nature of those abstract ideas, which have afforded so much speculation to philosophers. The abstract idea of a man represents men of all sizes and all qualities; which ’tis concluded it cannot do, but either by representing at once all possible sizes and all possible qualities, or by representing no particular one at all. Now it having been esteemed absurd to defend the former proposition, as implying an infinite capacity in the mind, it has been commonly inferred in favour of the latter; and our abstract ideas have been suppos’d to represent no particular degree either of quantity or quality. But that this inference is erroneous, I shall endeavour to make appear, first, by proving, that ’tie utterly impossible to conceive any quantity or quality, without forming a precise notion of its degrees: And secondly by showing, that tho’ the capacity of the mind be not infinite, yet we can at once form a notion of all possible degrees of quantity and quality, in such a manner at least, as, however imperfect, may serve all the purposes of reflection and conversation.
A Treatise of Human Nature
(ed.selby-Bigge) pp. 17-18

النص رقم ٣

الوجود المتصل المتميز لا ينشأ أبدًا عن الحواس

لكي نؤكد هذا [أعني أن الفكرة عن وجود متصل ومتميز لا تنشأ أبدًا عن الحواس] نلاحظ أن ثمة أنواعًا ثلاثة مختلفة من الانطباعات التي تنقلها إلينا الحواس؛ أولها هو الانطباعات التي تمثل الأشياء المادية شكلًا وحجمًا وحركة وصلابة؛ والثاني هو الانطباعات التي تمثل الألوان والطعوم والروائح والأصوات والحرارة والبرودة؛ والثالث هو الآلام واللذائذ التي تنشأ عن اتصال الأشياء بأجسادنا، كما تحز لحم الإنسان بقطعة من الصلب مثلًا أو ما شابه ذلك؛ أما النوع الأول من الانطباعات فهو عند الفلاسفة وعند عامة الناس على السواء يمثل أشياء موجودة وجودًا متميزًا ومتصلًا؛ وأما النوع الثاني فعامة الناس وحدهم هم الذين يعدونه مماثلًا تمام المماثلة للنوع الأول؛ ثم يعود الفلاسفة فيتفقون مع عامة الناس إزاء النوع الثالث إذ يجعلونه مجرد إدراكات، وبالتالي فهو يمثل كائنات متقطعة الوجود ومعتمدة في وجودها على وجود من يدركها.

غير أنه من الواضح أنه مهما يكن من أمر المذهب الفلسفي الذي نذهب إليه فإن الألوان والأصوات والحرارة والبرودة كما تبدو لحواسنا، لا تختلف في طبيعة وجودها عما تكون عليه حركة الأجسام وصلابتها [كما تبدو لحواسنا] وأن وجه الاختلاف الذي نفرق بينهما على أساسه من هذه الناحية لا ينشأ عن إدراكنا لهذا وذلك؛ فالطائفة الأولى من الصفات [الألوان والأصوات … إلخ] إنما تمثل عند الناس أشياء موجودة وجودًا متميزًا متصلًا، وإنهم ليأخذون بهذه العقيدة أخذًا يبلغ من قوته أن الفلاسفة المحدثين إذا ما تقدموا إليهم بالرأي المضاد في هذا الصدد، كادوا يفندون رأي الفلاسفة هذا تفنيدًا يعتمدون فيه على شعورهم وخبرتهم، حاسبين أن حواسهم نفسها تنقض مثل هذه الفلسفة غير أنه كذلك من الواضح أن الألوان والأصوات وما إليها هي في أسسها شبيهة بالألم ينشأ عن حز أجسادنا بجسم صلب، وباللذة تنشأ عن الدفء ينبعث من النار، وأن الفرق بين هذه وتلك لا ينبني على إدراك الحس ولا على العقل، ولكنه وليد الخيال؛ لأننا ما دمنا نعترف لكلا النوعين معًا بأنهما ليسا سوى إدراكات حسية تنشأ عن الطريقة الخاصة التي تتشكل بها أجزاء الجسم وتتحرك، فمن أين يمكن أن يجيء ما بينهما من اختلاف؟ إننا نستطيع — إذن — أن نستنتج على وجه الجملة أنه في حدود ما تحكم به الحواس فلا فرق بين الإدراكات الحسية في شتى أنواعها من حيث طريقة وجودها.

«رسالة في الطبيعة البشرية»
(نشر سلبي بج) ص١٩٢-١٩٣

CONTINUED AND DISTINCT EXISTENCE NEVER ARISES FROM THE SENSES

To confirm this (that the opinion of a continu’d and of a distinct existence never arises from the senses) we may observe, that there are three different kinds of impressions convey’d by the senses. The first are those of the figure, bulk, motion and solidity of bodies. The second those of colours. tastes, smells. sounds. heat and cold. The third are the pains and pleasures, that arise from the application of objects to our bodies, as by the cutting of our flesh with steel, and such like. Both philosophers and the vulgar suppose the first of these to have a distinct continu’d existence. The vulgar only regard the second as on the same footing. Both philosophers and the vulgar, again, esteem the third to be merely perceptions; and consequently interrupted and dependent beings.
Now ’tis evident, that, whatever may be our philosophical opinion, colours, sounds, heat and cold, as far as appears to the senses, exist after the same manner with motion and solidity, and that the difference we make betwixt them in this respect, arises not from the mere perception. So strong is the prejudice for the distinct continu’d existence of the former qualities, that when the contrary opinion is advanc’d by modern philosophers, people imagine they can almost refute it from their feeling and experience, and that their very senses contradict this philosophy. ‘Tis also evident, that colours, sounds, etc. are originally on the same footing with the pain that arises from steel, and pleasure that proceeds from a fire; and that the difference betwixt them is founded neither on perception nor reason, but on the imagination. For as they are confest to be, both of them, nothing but perceptions arising from the particular configurations and motions of the parts of body, wherein possibly can their difference consist? Upon the whole, then, we may conclude, that as far as the senses are judges, all perceptions are the same in the manner of their existence.
A Treatise of Human Nature
(ed. Selby-Bigge) pp. 192-193

النص رقم ٤

في أفكار الذاكرة والخيال

إن الخبرة لتدلنا على أنه إذا ما مَثُلَ للعقل انطباعٌ ما، فإن ذلك الانطباع يعود إلى الظهور في العقل باعتباره فكرة، وإنه ليفعل هذا بإحدى وسيلتين، فإما أن يتم له ذلك حين يحتفظ في ظهوره الجديد بدرجة ملحوظة من حيويته الأولى، بحيث يكون كأنما هو وسط بين أن يكون انطباعًا وأن يكون فكرة؛ وإما أن يتم له ذلك حين يفقد تلك الحيوية الأولى فقدانًا تامًّا، فيصبح فكرة بأكمل معاني الكلمة؛ والملكة التي نستعين بها على إعادة انطباعاتنا في الحالة الأولى تسمى ﺑ «الذاكرة»، وتسمى الأخرى ﺑ «الخيال»؛ وواضح من النظرة الأولى أن أفكار الذاكرة أشد جدًّا في حيويتها وقوتها من أفكار الخيال، وأن الملكة الأولى تصبغ موضوعاتها بألوان أكثر تميُّزًا من تلك التي تستخدمها الملكة الثانية؛ فنحن إذا ما تذكرنا حادثة ماضية، تدفقت فكرتها في العقل تدفقًا فيه قوة دفع، على حين يكون الإدراك في حالة الخيال ضعيفًا فاترًا، ولا يستطيع العقل إلا في عسر أن يحتفظ به ثابتًا مطردًا لفترة من الزمن ذات امتداد ملحوظ؛ وإذن فهذا فرق محسوس بين نوعين من الأفكار.

وهنالك فرق آخر بين هذين النوعين من الأفكار، ليس أقل من الأول وضوحًا، وهو أنه على الرغم من أنه لا أفكار الذاكرة ولا أفكار الخيال، لا الأفكار الحية ولا الأفكار الخافتة تستطيع أن تحقق لنفسها ظهورًا في العقل ما لم تكن قد سبقتها ومهدتْ لها الطريق انطباعات مقابلةٌ لها، إلا أن الخيال ليس مقيدًا بنفس الترتيب والصورة اللذين جاءت عليهما الانطباعات الأصلية، على حين أن الذاكرة مقيدة بهما على نحو ما، دون أن يكون في مستطاعها إحداث شيء من التغيير.

«رسالة في الطبيعة البشرية»
(نشر سلبي بج) ص٨-٩

OF THE IDEAS OF THE MEMORY AND IMAGINATION

We find by experience, that when any impression has been present with the mind, it again makes its appearance there as an idea; and this it may do after two different ways: either when in its new appearance it retains a considerable degree of its first vivacity, and is somewhat intermediate betwixt an impression and an idea; or when it entirely loses that vivacity, and is a perfect idea. The faculty, by which we repeat our impressions in the first manner, is called the Memory, and the other the Imagination. ‘Tis evident at first sight, that the ideas of the memory are much more lively and strong than those of the imagination, and that the former faculty paints its objects in more distinct colours, than any which are employ’d by the latter. When we remember any past event, the idea of it flows in upon the mind in a forcible manner; whereas in the imagination the perception is faint and languid, and cannot without difficulty be preserv’d by the mind steady and uniform for any considerable time. Here then is a sensible difference betwixt one species of ideas and another.
There is another difference betwixt these two kinds of ideas, which is no less evident, namely that tho’ neither the ideas of the memory nor imagination, neither the lively nor faint ideas can make their appearance in the mind, unless their correspondent impressions have gone before to prepare the way for them, yet the imagination is not restrain’d to the same order and form with the original impressions; while the memory is in a manner ty’d down in the respect, without any power of variation.
A Treatise of Human Nature
(ed. Selby-Bigge) pp. 8-9

النص رقم ٥

فكرة السبب والمسبَّب

افرض أن شخصًا — رغم كونه موهوبًا بأقوى ملكات العقل والتفكير — قد جيء به فجأة إلى هذا العالم؛ فإنه وإن يكن سيلاحظ من فوره تتابعًا في الأشياء متصلًا، وأن حادثة تتبع أخرى، إلا أنه لن يستطيع أن يلحظ وراء هذا الحد شيئًا؛ فلن يستطيع للوهلة الأولى أن يدرك فكرة السبب والمسبب مهما تكن وسيلته العقلية إلى ذلك؛ وذلك لأن القوى الخاصة التي بفعلها تتم العمليات الطبيعية كلها، لا تظهر أبدًا للحواس؛ وليس من المعقول أن نستنتج أنه ما دامت حادثة ما في سياق معين قد سبقت أخرى، إذن فلا بد أن تكون الأولى سببًا والثانية مسبَّبًا، إذ قد يكون ارتباطهما جزافًا وعرضًا؛ وقد لا يكون هناك مبرر من العقل أن نستدل وجود إحداهما من ظهور الأخرى؛ وبعبارة موجزة فإن مثل هذا الشخص؛ إذ لم تزدد خبرته، فيستحيل عليه أن يستعين بالتخمين أو بالتدليل العقلي ليعلم شيئًا عن أي أمر من أمور الواقع، أو أن يستوثق من أي شيء يجاوز ما هو حاضر حضورًا مباشرًا أمام ذاكرته وحواسه.

ثم افرض أنه قد حصَّل خبرة أوسع، وعاش في العالم أمدًا أتاح له أن يلاحظ أن الأشياء أو الحوادث المألوفة إنما يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا لا يتخلَّف، فماذا ينتج عن هذه الخبرة؟ إنه لا يلبث أن يستدل وجود شيء ما من ظهور شيء آخر، ومع ذلك فإن خبرته كلها لا تمكنه من إدراك أية فكرة أو معرفة بالقوة الخفية التي بها يُنتج الشيء السابق شيئًا لاحقًا، كلا وليس هنالك عملية عقلية واحدة تضطره أن يستدل ظهور اللاحق من وجود السابق، ولكنه رغم ذلك يجد ألَّا محيص له عن هذا الاستدلال، وعلى الرغم من وجوب اقتناعه بأن العقل لا دخل له في هذه العملية، إلا أنه مع ذلك يمضي في نفس هذا المجرى من التفكير؛ فثمة مبدأ آخر يضطره أن ينتهي إلى مثل هذه النتيجة.

هذا المبدأ هو «العادة»، ذلك أنه حيثما أدى تكرارنا لفعل معين أو عملية معينة إلى ميل فينا نحو العودة من جديد إلى أداء الفعل نفسه أو العملية نفسها، دون أن يكون ثمة دافع من تدليلات العقل أو عملياته، قلنا دائمًا عن هذا الميل إنه أثر «العادة»؛ وإننا حين نستخدم هذه الكلمة فإننا لا ندعي بأننا قد وقعنا بذلك على العلة التي لا علة وراءها لمثل هذا الميل؛ بل إننا لا نفعل بذلك سوى أن نبرز مبدأً من مبادئ الطبيعة البشرية، يعترف به كل إنسان، وهو مبدأ نعرفه جيد المعرفة بآثاره؛ وقد لا يكون في مستطاعنا أن نمضي في طريق البحث وراء هذه النقطة، أو ندَّعي بأن في مقدورنا أن نعين علة لهذه العلة؛ لكننا لا بد أن نرضى بهذه النهاية مطمئنين، على أن نعدها المبدأ الذي لا مبدأ وراءه — مما نستطيع أن نحدده — من مبادئ تفسر كل ما ننتهي إليه من نتائج في حدود خبراتنا، وإنه لتكفينا هذه الدرجة من الطمأنينة أن استطعنا بلوغ هذا الحد (في طريق البحث)، فلا مبرر للتبرُّم من ضيق ملكاتنا العقلية لعجزها عن السير بنا إلى ما وراء هذه النهاية التي انتهينا عندها؛ وليس من شك أبدًا في أننا ها هنا نقدم قضية معقولة جدًّا على أقل تقدير، إن لم نقل عنها إنها قضية صادقة، وهي القضية التي نثبت بها أنه إذا ما ارتبط شيئان ارتباطًا لا تخلف فيه — كالحرارة واللهب مثلًا، أو الثقل والصلابة — فإن العادة وحدها عندئذٍ تقتضينا أن نتوقع أحد الشيئين إذا ما ظهر الآخر؛ وإنه ليبدو لي أن هذا الفرض هو الفرض الوحيد الذي يفسر لنا هذه المشكلة، وهي: لماذا نستدل نتيجة من أَلْفِ مَثلٍ (لظاهرة ما) على حين أننا نكف عن مثل هذا الاستدلال من مثل واحد لا يختلف عن تلك الأمثلة الألف في شيء؛ فليس في مستطاع العقل أن يفرِّق مثل هذه التفرقة؛ إذ النتائج التي يستدلها من بحثه في دائرة واحدة هي نفسها النتائج التي يستدلها من استعراضه لكل ما في الكون بأسره من دوائر؛ لكن أحدًا من الناس لا يستطيع — بعد أن يرى جسمًا واحدًا يتحرك نتيجة لدفعه بجسم آخر — أن يستدل من ذلك أن كل جسم آخر سيتحرك إذا ما تعرض لمثل هذا الدفع نفسه؛ وعلى ذلك فكل الاستدلالات التي نقيمها على الخبرة إنما هي نتيجة العادة لا نتيجة التدليل العقلي.

العادة إذن هي المرشد العظيم للحياة البشرية؛ فهذا المبدأ وحده (أي العادة) هو الذي يجعل خبرتنا ذات نفع لنا، ويتيح لنا أن نتوقع في المستقبل سلسلة من الحوادث شبيهة بسلسلة الحوادث التي ظهرت فيما مضى؛ وبغير تأثير العادة نكون على جهل تام بكل أمر من أمور الواقع فيما يجاوز الحاضرات حضورًا مباشرًا أمام الذاكرة والحواس؛ وعندئذٍ كنَّا لا ندري أبدًا كيف نوفق بين الوسائل وغاياتها، أو كيف نستخدم قوانا الطبيعية في إحداث أي أثر نريد أن نحدثه؛ وعندئذٍ أيضًا تنتهي فورًا كل قدرة لنا على العمل، كما تنتهي قدرتنا على القيام بالجزء الأكبر من تأملاتنا النظرية.

وقد يكون من الملائم أن نلاحظ في هذا الموضع أنه على الرغم من أن النتائج التي نستخرجها من خبرتنا تجاوز بنا حدود ذاكرتنا وحواسنا، وتؤكد لنا أمورًا من الواقع حدثت في أبعد الأماكن عنا وفي أنأى العصور عن زمننا، إلا أنه لا بد دائمًا من أن تكون واقعةٌ ما حاضرة أمام الحواس أو الذاكرة، تكون لنا نقطة بداية للسير في طريق استنتاجنا لتلك النتائج، فإن منْ يجد في أرض يباب آثار مبانٍ شامخة، ليستنتج أن تلك الأرض قد كانت في العصور القديمة مأهولة بسكان متحضرين؛ أما إذا لم يصادف في تلك الأرض شيئًا من هذا القبيل، فقد كان يستحيل عليه أن يقوم باستدلال كهذا، إننا نحيط علمًا بحوادث العصور الماضية من التاريخ، لكننا في هذه الحالة لا بد لنا أن نقرأ الكتب الحاوية لهذه المعلومات، بحيث نجعلها نقطة ابتداء لاستدلالاتنا التي نسير بها من شاهد إلى شاهد، حتى نصل في النهاية إلى شهود العيان والرائين الذين رأوا تلك الحوادث البعيدة؛ وبعبارة موجزة، إننا إذا لم نبدأ سيرنا من واقعة معينة حاضرة أمام الذاكرة أو الحواس، كانت تدليلاتنا العقلية فرضية خالصة، ومهما تكن — بعد ذلك — الروابطُ التي تربط الحلقات الجزئية، فإن سلسلة الاستدلالات بصفة عامة تكون بغير دعامة تستند إليها، ويكون محالًا علينا أن نصل بوساطتها إلى معرفة بأي وجود حقيقي؛ إنني إذا سألتك لماذا تعتقد في وقوع أمر من أمور الواقع مما تروي لنا عنه، تحتم عليك أن تدلني على سبب يبرر ذلك، ولا بد أن يكون هذا السبب واقعة أخرى مرتبطة بالواقعة التي تروي عنها؛ ولما كنت لا تستطيع أن تمضي على هذا النحو [راجعًا بواقعة إلى واقعة] إلى ما لا نهاية، فلا مندوحة لك عن أن يكون ختام سيرك واقعة ما تكون حاضرة أمام ذاكرتك أو حواسك، وإلَّا وجب عليك الاعتراف بأن اعتقادك ذاك لا يستند إطلاقًا إلى أساس.

«بحث في العقل البشري»
(نشر سلبي بج) ص٤٢–٤٦

THE IDEA OF CAUSE AND EFFECT

Suppose a person, though endowed with the strongest faculties of reason and reflection, to be brought on a sudden into this world; he would, indeed, immediately observe a continued succession of objects, and one event following another; but he would not be able to discover anything farther. He would not, at first, by any reasoning, be able to reach the idea of cause and effect; since the particular powers, by which all natural operations are performed, never appear to the senses; nor is it reasonable to conclude, merely because one event, in one instance, precedes another, that therefore the one is the cause, the other the effect. Their conjunction may be arbitrary and casual. There may be no reason to infer the existence of one from the appearance of the other. And in a word, such a person, without more experience, could never employ his conjecture or reasoning concerning any matter of fact, or be assured of anything beyond what was immediately present to his memory and senses.
Suppose, again, that he has acquired more experience, and has lived so long in the world as to have observed familiar objects or events to be constantly conjoined together; what is the consequence of this experience? He immediately infers the existence of one object from the appearance of the other. Yet he has not, by all his experience, acquired any idea or knowledge of the secret power by which the one object produces the other; nor is it, by any process of reasoning, he is engaged to draw this inference. But still he finds himself determined to draw it: And though he should be convinced that his understanding has no part in the operation, he would nevertheless continue in the same course of thinking. There is some other principle which determines him to form such a conclusion.
This principle is custom or Habit. For wherever the repetition of any particular act or operation produces a propensity to renew the same act or operation, without being impelled by any reasoning or process of the understanding, we always say, that this propensity is the effect of ‘Custom’. By employing that word, we pretend not to have given the ultimate reason of such a propensity. We only point out a principle of human nature; which in universally acknowledge, and which is well known by its effects. Perhaps we can push our enquiries no farther, or pretend to give the cause of this cause; but must rest contented with it as the ultimate principle, which we can assign, of all our conclusions from experience. It is sufficient satisfaction, that we can go so far, without repining at the narrowness of our faculties because they will carry us no farther. And it is certain we here advance a very intelligible proposition at least, if not a true one, when we assert that, after a constant conjunction of two objects—heat and flame, for instance, weight and solidity—we are determined by custom alone to expect the one from the appearance of the other. This hypothesis seems even the only one which explains the difficulty, why we draw, from a thousand instances, an inference which we are not able to draw from one instance, that is, in no respect, different from them. Reason is incapable of any such variation. The conclusions which it draws from considering one circle are the same which it would form upon surveying all the circles in the universe. But no man, having seen only one body move after being impelled by another, could infer that every other body will move after a like impulse. All inferences from experience, therefore, are effects of custom, not of reasoning.
Custom, then, is the great guide of human life. It is that principle alone which renders our experience useful to us, and makes us expect, for the future, a similar train of events with those which have appeared in the past. Without the influence of custom, we should be entirely ignorant of every matter of fact beyond what is immediately present to the memory and senses. We should never know how to adjust means to ends, or to employ our natural powers in the productions of any effect. There would be an end at once of all action, as well as of the chief part of speculation.
But here it may be proper to remark, that though our conclusions from experience carry us beyond our memory and senses, and assure us of matters of fact which happened in the most distant places and most remote ages, yet some fact must always be present to the senses or memory, from which we may first proceed in drawing these conclusions. A man, who should find in a desert country the remains of pompous buildings, would conclude that the country had, in ancient times, been cultivated by civilized inhabitants; but did nothing of this nature occur to him, he could never form such an inference. We learn the events of former ages from history; but then we must peruse the volumes in which this instruction is contained, and thence carry up our inferences from one testimony to another, till we arrive at the eyewitnesses and spectators of these distant events. In a word, if we proceed not upon some fact, present to the memory or senses, our reasonings would be merely hypothetical; and however the particular links might be connected with each other, the whole chain of inferences would have nothing to support it, nor could we ever, by its means, arrive at the knowledge of any real existence. If I ask why you believe any particular matter of fact, which you relate, you must tell me some reason; and this reason will be some other fact, connected with it. But as you cannot proceed after this manner, in infinitum, you must at last terminate in some fact, which is present to your memory or senses; or must allow that your belief is entirely without foundation.
An Enquiry Concerning Human Understanding
(ed. Selby-Bigge) pp. 42–46

النص رقم ٦

في الحرية والضرورة

إنه لمما يسلِّم به الناس جميعًا أن المادة — في كل عملياتها — إنما تتحرك في فعلها بقوة ضرورية، وأن كل نتيجة إنما تتحدد على وجه الدقة بفاعلية سببها، إلى الحد الذي لا يجيز لأي نتيجة أخرى، في مثل هذه الظروف عينها، أن تنتج عن ذلك السبب؛ إن كل حركة إنما تتقرر من حيث ما لها من درجة واتجاه. بقوانين الطبيعة، على نحو من الدقة، بحيث إن جاز لنا أن نقول إن كائنًا حيًّا يمكن أن ينشأ عن مجرد اصطدام جسمين، جاز لنا كذلك أن نقول إن اصطدام جسمين قد يولد حركة لها من الدرجة والاتجاه ما تختلف بهما عن الدرجة والاتجاه اللذين يتولدان فعلًا عن ذلك الاصطدام؛ وعلى ذلك فلو أردنا أن نكوِّن فكرة دقيقة مضبوطة عن «الضرورة» وجب علينا أن نبحث عن مصدر تلك الفكرة حين نستخدمها في الأجسام وفعلها.

إنه لواضح — فيما يبدو — أنه لو كانت شتى مناظر الطبيعة في تغيُّر متصل حتى ليمتنع على أي حادثين أن يتشابها بأي وجه من الوجوه، بحيث يجيء كل شيء جديدًا من شتى نواحيه، لا يحمل أدنى شبه بأي شيء آخر مما قد سبق للإنسان أن رآه؛ فقد كان يستحيل علينا في مثل هذه الحالة أن ندرك فكرة الضرورة أقل إدراك، ولا أن ندرك فكرة الارتباط الذي يربط هذه الأشياء بعضها ببعض، وكان يجوز لنا — على أساس هذا الفرض — أن نقول إن الشيء أو الحادث المعين قد أعقب شيئًا أو حادثًا آخر، لا أن نقول إن شيئًا قد أحدث شيئًا آخر؛ وهكذا كانت علاقة السبب والمسبب تكون مجهولة أتم الجهل للناس؛ وبهذا كان يبطل قيام الاستدلال والتدليل فيما يختص بعمليات الطبيعة، وكانت الذاكرة والحواس تصبح هي المسالك الوحيدة التي يمكن أن يتسرب منها إلى العقل علمنا بأي وجود حقيقي؛ وعلى ذلك ففكرتنا عن الضرورة والسببية تنشأ كلها عن الاطراد الذي نلحظه في عمليات الطبيعة، حيث ما تنفك الأشياء المتشابهة يصاحب بعضها بعضًا، ويتحتم على العقل بفعل العادة أن يستدل شيئًا إذا ما ظهر شيء آخر [كان مصاحبًا له دائمًا]؛ ومن هاتين الحالتين تتكون تلك الضرورة بأسرها التي نعزوها إلى المادة؛ فليس لدينا أية فكرة عن أي نوع من الضرورة أو الارتباط، تجاوز نطاق «المصاحبة» المتصلة بين الأشياء المتشابهة، وما يترتب عليها من «استدلال» مصاحب من مصاحبه.

وعلى ذلك فإن تبين أن الناس جميعًا قد سلَّموا دائمًا — بغير أدنى شك أو تردد — بأن هاتين الحالتين تتحققان في أفعال الناس الإرادية، وفي عمليات العقل؛ لزم عن ذلك حتمًا أن الناس جميعًا كانوا دائمًا على اتفاق في الرأي عن الضرورة، وأن ما بينهم من نزاع في هذا إن هو إلا نتيجة لما بينهم من سوء التفاهم.

«بحث في العقل البشري»
(نشر سلبي بج) ص٨٢-٨٣

OF LIBERTY AND NECESSITY

It is universally allowed that nature, in all its operations, is actuated by a necessary force, and that every natural effect is so precisely determined by the energy of its cause that no other effect, in such particular circumstances, could possibly have resulted from it. The degree and direction of every motion is, by the laws of nature, prescribed with such exactness that a living creature may as soon arise from the shock of two bodies as motion in any other degree or direction than that is actually produced by it. Would we, therefore, form a just and precise idea of “necessity”, we must consider whence that idea arises when we apply it to the operation of bodies.
It seems evident that, if all the scenes of nature were continually shifted in such a manner that no two events bore any resemblance to each other, but every object was entirely new, without any similitude to whatever had been seen before, we should never, in that case, have attained the least idea of necessity, or of a connexion among these objects. We might say, upon such a supposition, that one object or event has followed another; not that one was produced by the other. The relation of cause and effect must be utterly unknown to mankind. Inference and reasoning concerning the operations of nature would, from that moment, be at an end; and the memory and senses remain the only canals, by which the knowledge of any real existence could possibly have access to the mind. Our idea, therefore, of necessity and causation arises entirely from the uniformity observable in the operations of nature, where similar objects are constantly conjoined together, and the mind is determined by custom to infer the one from the appearance of the other. These two circumstances form the whole of that necessity, which we ascribe to matter. Beyond the constant “conjunction” of similar objects, and the consequent “inference” from one to the other, we have no notion of any necessity or connexion.
If it appear, therefore, that all mankind have ever allowed, without any doubt or hesitation, that these two circumstances take place in the voluntary actions of men, and in the operations of mind; it must follow, that all mankind have ever agreed in the doctrine of necessity, and that they have hitherto disputed, merely for not understanding each other.
An Enquiry Concerning Human Understanding
(ed. Selby-Bigge) pp. 82-83

النص رقم ٧

في الذاتية الشخصانية

هنالك فريق من الفلاسفة يتصور أننا في كل لحظة نكون على وعي وثيق بما نسميه فينا «نفسًا»، حتى لنحس وجودها واستمرارها في ذلك الوجود، وأننا على يقين يجاوز حدود الأدلة البرهانية من أن تلك النفس تتصف ببساطة التكوين وبالذاتية الكاملة في آنٍ معًا؛ ويزعم هؤلاء الفلاسفة أن أقوى أحاسيسنا، وأعنف عواطفنا، بدل أن يصرف أنظارنا عن هذا الرأي، يزيده رسوخًا وثباتًا، ويحملنا على أن ننظر إلى تأثيرها [الإحساس القوي والعاطفة العنيفة] على «النفس» بما تحدثه فيها من ألم أو لذة؛ وكل محاولة لإقامة برهان آخر [على ذلك الرأي] تعد إضعافًا له؛ ذلك لأنه محال علينا أن نستمد برهانًا من واقعة كائنة ما كانت بحيث نكون منها على وعي يوازي وَعينا بالنفس قربًا منَّا؛ كلا ولن نجد شيئًا قط نبلغ في إدراكه مبلغ اليقين إذا نحن شككنا في هذا.

غير أن هذه التوكيدات الإيجابية كلها — لسوء الحظ — مضادة لتلك الخبرة نفسها التي يحتكم إليها [أنصار الرأي السابق] برهانًا على صدق ما يقولون؛ فليس لدينا أية فكرة عن «النفس» على النحو الذي أسلفنا شرحه؛ وإلا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ إنه محال علينا أن نجيب عن هذا السؤال بغير الوقوع في تناقض ظاهر وسخف؛ ومع ذلك فهو سؤال لا بد من الإجابة عنه، فلا محيص لنا عن ذلك إذا أردنا أن نجعل فكرة النفس واضحة مفهومة؛ إنه لا بد لكل فكرة حقيقية أن تنشأ عن انطباع حسي واحد معين؛ لكن النفس أو الذات الشخصانية ليست انطباعًا بذاته من الانطباعات الحسية، بل هي ذلك الشيء الذي يُفتَرض فيه أنه المرجع الذي تستند إليه انطباعاتنا وأفكارنا على اختلافها؛ ذلك لأنه لو كانت فكرة النفس قد نشأت عن انطباع واحد معين للزم أن يظل ذلك الانطباع على حاله دائمًا لا يتغير إبان فترة حياتنا كلها؛ لأن المفروض في النفس أن يكون وجودها قائمًا على هذا النحو؛ لكن ليس هنالك انطباع واحد متصف بالدوام وعدم التغير، فالألم واللذة، والحزن والسرور، والعواطف والإحساسات كلها يتبع بعضها بعضًا، ويستحيل عليها أبدًا أن يتحقق لها الوجود كلها دفعة واحدة؛ وإذن فلا يمكن لفكرة النفس أن تُسْتَمَدَّ من أحد هذه الانطباعات أو من غيرها، وبالتالي فليس هنالك فكرة كهذه.

وإني لأجاوز هذا الحد فأقول: ماذا يتحتم أن يكون مصير إدراكاتنا الجزئية لو صدق هذا الفرض؟ إن هذه الإدراكات الجزئية كلها مختلف بعضها عن بعض ومتميز بعضها من بعض، يمكن للواحد منها أن يُعزل عن الآخر بحيث ننظر إليه على حدة، وبحيث يمكن له أن يقوم وحده لا حاجة به إلى أي شيء ليستند إليه في وجوده؛ وما دام الأمر كذلك فعلى أي صورة تنتمي هذه الإدراكات الجزئية إلى النفس؟ وكيف تكون الروابط بينها وبينها؟ أما أنا فإنني إذا ما أوغلتُ داخلًا إلى صميم ما أسميه «نفسي» وجدتُني دائمًا أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، كإدراكي للحرارة أو البرودة، وللضوء أو الظل، وللحب أو الكراهية، وللألم أو اللذة؛ إنني لا أستطيع أبدًا أن أمسك ﺑ «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أني لا أستطيع أبدًا أن أرى شيئًا على الإطلاق فيما عدا ذلك الإدراك؛ حتى إذا ما أزيلت إدراكاتي لفترة من الزمن، كما يحدث في حالة النعاس العميق، فإنني أكون طوال تلك الفترة غير حاسٍّ ﺑ «نفسي» حتى ليمكن أن يقال عني بحق إني لست موجودًا؛ فإذا ما أزيلت كل إدراكاتي بالموت بحيث يمتنع عليَّ التفكير والحس والرؤية والحب والكراهية بعد تحلل جسدي، فإنني عندئذٍ أكون في حالة من العدم التام، فلست أتصور ماذا يُطْلَبُ غير هذا ليتحقق انعدامي انعدامًا كاملًا؟ فإذا ظن ظانٌّ — بعد تفكير جاد بريء من الهوى — أن لديه فكرة عن «نفسه» تختلف عما قد وصفت، فلا بد لي من الاعتراف بأنني عاجز عن المضي في محاجته أكثر مما قد فعلت؛ وكل ما أعترف له به هو أنه قد يكون على صواب كما قد أكون أنا على صواب، وأننا مختلفان اختلافًا جوهريًّا في هذا الموضوع، فربما استطاع أن يدرك كائنًا بسيطًا ذا وجود متصل، يسميه «نفسه» ولو أنني على يقين أن ليس عندي مثل هذا المبدأ.

«رسالة في الطبيعة البشرية»
(نشر سلبي بج) ص٢٥١-٢٥٢

OF PERSONAL IDENTITY

There are some philosophers, who imagine we are every moment intimately conscious of what we call our SELF; that we feel its existence and its continuance in existence; and are certain, beyond the evidence of demonstration, both of its perfect identity and simplicity. The strongest Sensation, the most violent passion, say they, instead of distracting us from this view, only fix it the more intensely, and make us consider their influence on ‘self’ either by their pain or pleasure. To attempt a farther proof of this were to weaken its evidence; since no proof can be derived from any fact, of which we are so intimately conscious; nor is there any thing. of which we can be certain, if we doubt of this.
Unluckily all these positive assertions are cortrary to that very experience, which is pleaded for them, nor have we any idea of ‘self’, after the manner it is here explain’d. for from what impression cou’d this idea be deriv’d? this question ’tis impossible to answer without a manifest contradiction and absurdity; and yet ’tis a question, which must necessarily be answer’d if we wou’d have the idea of self pass for clear and intelligible. It must be some one impression, that gives rise to every real idea. But self or person is not any one impression, but that to which our several impressions and ideas are suppos’d to have a reference. If any impression gives rise to the idea of self, that impression must continue invariably the same, thro’ the whole course of our lives; since self is suppos’d to exist after that manner. But there is no impression constant and invariable. Pain and pleasure, grief and joy, passions and sensations succeed each other, and never all exist at the same time. It cannot, therefore, be from any of these inpressions, or from any other, that the idea of self is derived; and consequently there is no such idea.
But farther, what must become of all our particular perceptions upon this hypothesis All these are different, and distinguishable, and separable from each other, and may be separately consider’d, and may exist separately, and have no need of anything to support their existence. After what manner, therefore, do they belong to self; and how art they connected with it? For my part, when I enter most intimately into what I call ‘myself’, I always stumble on some particular perception or other, of heat or cold, light or shade, love or hatred, pain or pleasure. I never can catch ‘myself’ at any time without a perception, and never can observe anything but the perception. When my perceptions are remov’d for any time, as by sound sleep; so along am I insensible of ‘myself’, and may truly be said not to exist. And were all my perceptions remov’d by death, and cou’d I neither think, nor feel, nor see, nor love, nor hate after the dissolution of my body, I should be entirely annihilated, nor do I conceive what is farther requisite to make me a perfect non-entity. If any one upon serious and unprejudic’d reflexion, thinks he has a different notion of ‘himself’, I must confess I can reason no longer with him. All I can allow him is, that he may be in the right as well as I, and that we are essentially different in this particular. He may, perhaps, perceive something simple and continu’d, which he calls ‘himself’; tho’ I am certain there is no such principle in me.
A Treatise of Human Nature
(ed. Selby-Bigge) pp. 251-252

النص رقم ٨

في العاطفة الخلقية

لما كان المفروض أن أحد الأسس الرئيسية للثناء الخلقي إنما يقع في النفع المترتب على أية صفة أو فعل، كان من الواضح أن «العقل» لا بد أن يدخل إلى حد كبير في كل القرارات التي من هذا القبيل؛ ذلك لأن هذه الملكة وحدها [ملكة العقل] هي التي تستطيع أن تهدينا إلى ما قد ينجم عن الصفات والأفعال، فتبرز لنا نتائجها النافعة للمجتمع ولصاحبها؛ إذ في حالات كثيرة يكون هذا الأمر موضعًا لجدل كثير؛ فقد تنشأ الشكوك وقد تتعارض المصالح، بحيث يتحتم أن نعرف كيف نفضِّل جانبًا على جانب، من هذه الآراء التي قد تَدِقُّ بينها الفوارق إلى حد بعيد، فلا يَرْجَحُ أحدها الآخر في النفع إلا بقدر يسير؛ وإنا لنلحظ هذا بصفة خاصة في المسائل المتصلة بالعدالة؛ إذ من الطبيعي حقًّا أن يطرأ على الذهن ما عساه أن ينشأ من اختلاف الرأي في نوع المنفعة التي تصاحب هذه الفضيلة [فضيلة العدالة]؛ فلو كان كل مثل جزئي من أمثلة العدالة — كالإحسان مثلًا — نافعًا للمجتمع، لكان الأمر من أهون جوانب الموضوع، ولَقَلَّ أن يتعرض إلى كثير جدل؛ ولكن لما كانت الأمثلة الجزئية للعدالة غالبًا ما تكون مؤذية في نتائجها الأولى المباشرة، ثم لما كانت فائدة المجتمع لا تنتج إلا بعد مراعاة القاعدة العامة، ومن التقاء مختلف الأشخاص واشتراكهم في السلوك العادل الذي لا يختلف عند أحدهم عنه عند الآخر، فقد أصبحت المسألة أكثر تعقُّدًا وتعقيدًا؛ فالظروف المختلفة التي تحيط بالمجتمع، والنتائج المختلفة التي تترتب على أي فعل معين، والمصالح المختلفة التي قد يقدمها أصحابها، كل هذه تكون في حالات كثيرة مثارًا للشك وموضوعًا لنقاش وبحث كبيرين؛ والقوانين المدنية إنما تستهدف غاية هي أن تحسم الأمر في مسائل العدالة كلها؛ وهي نفسها الغاية التي يستهدفها المواطنون من مناقشاتهم ورجال السياسة من تأملاتهم، وسوابق التاريخ والمدونات العامة؛ وكثيرًا ما يكون الأمر بحاجة ماسة إلى «عقل» أو «حكم» غاية في الدقة، لنقرر به القرار الصائب وسط أمثال هذه الشكوك الشائكة التي تنشأ عن غموض المنافع أو تضاربها.

ولكن على الرغم من أن العقل إذا ما لقي من المعونة والتقويم أكمله، كافٍ لهدايتنا في التفريق بين ما هو ضار وما هو نافع من الصفات والأفعال، فليس وحده بكافٍ أن ينتج لنا الاستهجان أو الاستحسان في مسائل الأخلاق؛ فما المنفعة إلا وسيلة إلى غاية معينة؛ فلو كانت الغاية غير ذات خطر بالنسبة لنا لأحسسنا تجاه الوسائل المؤدية إليها بعدم مبالاة كذلك؛ فلا مندوحة لنا ها هنا عن «عاطفة» تكشف عن نفسها، لتعيننا على تفضيل الوسائل النافعة على الوسائل الضارة؛ ولا يمكن أن تكون هذه العاطفة إلا الميل بشعورنا نحو سعادة النوع الإنساني، والنفور مما يشقيه، لأن هذين هما الغايتان المختلفتان اللتان تتجه الفضيلة والرذيلة نحو تحقيقهما؛ إذن فها هنا «العقل» يهدينا الطريق في مسالك السلوك المختلفة، وأما «الشعور الإنساني» فيميز بينها ليفصل منها ما هو نافع ومفيد.

«بحث في مبادئ الأخلاق»
(نشر سلبي بج) ٢٨٥-٢٨٦

CONCERNING MORAL SENTIMENT

One principal foundation of moral praise being supposed to lie in the usefulness of any quality or action, it is evident that ‘reason’ must enter for a considerable share in all decisions of this kind; since nothing but that faculty can instruct us in the tendency of qualities and actions, and point out their beneficial consequences to society and to their possessor, In many cases this is an affair liable to great controversy: doubts may arise, opposite interests may occur; and a preference must be given to one side, from very nice views, and a small overbalance of utility. This is particularly remarkable in questions with regard to justice; as is, indeed, natural to suppose, from that species of utility which attends this virtue. Were every single instance of justice, like that of benevolence, useful to society; this would be a more simple state of the case, and seldom liable to great controversy. But as single instances of justice are often pernicious in their first and immediate tendency, and as the advantage to society results only from the observance of the general rule, and from the concurrence and combination of several persons in the same equitable conduct; the case here becomes more intricate and involved. The various circumstances of society; the various consequences of any practice; the various interests which may be proposed; these, on many occasions, are doubtful, and subject to great discussion and inquiry. The object of municipal laws is to fix all the questions with regard to justice: the debates of civilians; the reflections of politicians; the precedents of history and public records, are all directed to the same purpose. And a very accurate ‘reason’ or ‘judgement’ is often requisite, to give the true determination, amidst such intricate doubts arising from obscure or opposite utilities.
But though reason, when fully assisted and improved, be sufficient to instruct us in the pernicious or useful tendency of qualities and actions; it is not alone sufficient to produce any moral blame or approbation. Utility is only a tendency to a certain end; and were the end totally indifferent to us, we should feel the same indifference towards the means. It is requisite a ‘sentiment’ should here display itself, in order to give a preference to the useful above the pernicious tendencies. This sentiment can be no other than a feeling for the happiness of mankind, and a resentment of their misery; since these are the different ends which virtue and vice have a tendency to promote. Here therefore ‘reason’ instructs us in the several tendencies of actions, and ‘humanity’ makes a distinction in favour of those which are useful and beneficial.
An Enquiry Concerning the Principles of Morals
(ed. Selby-Bigge) pp. 285-286

النص رقم ٩

في العقد الابتدائي

تكاد جميع الحكومات القائمة اليوم، أو التي احتفظ لنا الرواة بمدوَّنات عنها أن تكون قد نشأت بادئ ذي بدء إما على أساس الاغتصاب أو الغزو أو كليهما، دون أن تدَّعي مجرد ادعاء بأنها تستند إلى موافقة عادلة من الشعب أو إلى خضوع ذلك الشعب خضوعًا اختاره بإرادته؛ فإذا ما وضع رجل ماكر أو جريء على رأس جيش أو حزب، فغالبًا ما يتيسر له — باستخدامه للعنف تارة وللدعاوى الباطلة طورًا — أن يبسط سلطانه على شعب أكثر عددًا من أتباعه مائة مرة؛ وهو لا يسمح باتصال علني يتيح لأعدائه أن يعلموا في يقين كم عددهم أو ما مدى قوتهم؛ ولا يفسح لهم من وقت الفراغ ما يمكنهم من الاجتماع بعضهم ببعض في هيئة تتألف لمعارضته؛ وحتى كل أولئك الذين هم أدوات اغتصابه، قد يتمنون سقوطه، لكن جهل بعضهم بنوايا بعضهم الآخر يوقفهم جميعًا موقف المرتاع، فيكون ذلك هو المصدر الوحيد الذي يستمد منه الحاكم أمنه؛ هكذا أقيمت حكومات كثيرة بوسائل كهذه، وهي وحدها «العقد الابتدائي» الذي لديهم ويزهون به.

إن وجه الأرض دائب التغيُّر، فممالك صغيرة تزداد لتصبح إمبراطوريات عظيمة، وإمبراطوريات عظيمة تنحل لتصبح ممالك أصغر، ومستعمرات تُخْلَق، وقبائل تهاجر؛ فهل ترى في كل هذه الحوادث شيئًا سوى القوة والعنف؟ أين الاتفاق المتبادل أو الاجتماع الإرادي الذي كثر التحدث عنه على النحو الذي نرى؟

وحتى أيسر السبل التي تتلقى بها أمة ما سيدًا أجنبيًّا، بالزواج أو بالوصية، ليس مما يشرف الشعب شرفًا عظيمًا، بل إنها لتفرض أن الشعب مما يمكن أن يصرف أمره — كما هي الحال في مَهْر أو في وصية — حسب هوى حكامه ومصلحتهم.

وحيث لا تعترض القوة مجرى الحوادث، ويُجْرَى انتخاب، فما حقيقة هذا الانتخاب الذي يهللون له؟ إنه إما أن يكون التقاء نفر قليل من عظماء الرجال يقضون في الأمر نيابة عن المجموع، ولا يسمحون بصوت يعارض، أو أن يكون غَضْبَة جمهور يضلله رئيس عصابة قد لا يكون معروفًا لاثني عشر شخصًا من بين ذلك الجمهور كله، ولا يدين بصعوده إلا إلى سلاطته أو إلى ما قد اعترى زملاءه من نزوة طارئة.

أفتكون هذه الانتخابات المهوشة — ومع ذلك فقلما تحدث — من قوة السلطة بحيث تكون الأساس الشرعي الوحيد لكل حكومة وكل ولاء؟

«في العقد الابتدائي»
(النص الكامل موجود في مجموعة مقالات أخلاقية وسياسية لهيوم نشرها فردريك واتكنز بعنوان «هيوم: نظريته السياسية».) ص١٩٨–٢٠٠

OF THE ORIGINAL CONTRACT

Almost all the governments which exist at present, or of which there remains any record in story, have been grounded originally either on usurpation or conquest, or both, without any pretence of a fair consent or voluntary subjection of the people. when an artful and bold man is placed at the head of an army or faction, it is often easy for him by employing sometimes violence, sometimes false pretences, to establish his dominion over a people a hundred times more numerous than his partisans. He allows no such open communication that his enemies can know, with certainty, their number or force. He gives them no leisure to assemble together in a body to oppose him. Even all those who are the instruments of his usurpation may wish his fall; but their ignorance of each other’s intention keeps them in awe, and is the sole cause of his security. By such arts as these, many governments have been established; and this is all the original ‘contract’ which they have to boast of.
The face of the earth is continually changing, by the increase of small kingdoms into great empires, by the dissolution of great empires into smaller kingdoms, by the planting of colonies, by the migration of tribes, Is there anything discoverable in all these events, but force and violence? Where is the mutual agreement or voluntary association so much talked of?
Even the smoothest way by which a nation may receive a foreign master, by marriage or a will, is not extremely honourable for the people; but supposes them to be disposed of, like a dowry or a legacy, according to the pleasure or interest of their rulers.
But where no force interposes, and election takes place, what is this election so highly vaunted? It is either the combination of a few great men, who decide for the whole, and will allow of no oppositions, or it is the fury of a multitude that follow a seditious ringleader, who is not known, perhaps, to a dozen among them, and who owes his advancement merely to his own impudence, or to the momentary caprice of his follows.
Are these disorderly elections, which are rare too, of such mighty authority as to be the only lawful foundation of all government and allegiance?
Of The Original Contract, (Hume, Theory of Politics, ed. Frederick Watkins) pp. 198–200

النص رقم ١٠

وجود الله وطبيعته

قال «ديميا»: لا بد لي من الاعتراف يا «كلنثيز»١ بأن شيئًا لا يثير دهشتي بقدر ما يثيرها هذا الضوء الذي عَرَضْتَ فيه هذا النِّقاش منذ بدأناه؛ فالمستمع إلى حديثك قد يتصور من كل ما وَرَدَ في سياقه أنك إنما تعتقد في وجود إله وتدافع عن ذلك ضد مغالطات الملحدين والكفار، وأنك بهذا قد التزمتَ أن تكون بطل الدفاع عن هذا المبدأ الذي هو مبدأ للعقيدة الدينية بأسرها؛ ولكن هذا — فيما أرجو — ليس موضع اختلاف بيننا بأي وجه من الوجوه؛ إذ إني على اعتقاد بأنك لن تجد إنسانًا، أعني إنسانًا يتمتع على الأقل بإدراكه الفطري، قد ساوره الشك جادًّا في حقيقة لها كل هذا اليقين والوضوح الذاتي؛ فليست المشكلة خاصة ﺑ «وجود» الله، بل ﺑ «طبيعته»؛ فإني أؤكد — مستندًا إلى ما في العقل البشري من أوجه العجز — أن هذه الطبيعة (طبيعة الله) غير مفهومة ولا معلومة لنا قط؛ فجوهر ذلك العقل السامي، وصفاته، وكيفية وجوده، وحقيقة ديمومته نفسها؛ هذه الأشياء وكل ما عداها مما يتصل بهذا «الكائن» (الإلهي) الذي له كل هذا القدر من الألوهية إن هي إلا مسائل ملغزة عند الإنسان؛ فما دمنا مخلوقات محدودة بنهايات، وضعيفة، وعمياء، فلزامٌ علينا أن نُذِلَّ أنفسنا في حضرته المجيدة؛ ثم ما دمنا على علم بأوجه الضعف فينا، فحتم علينا أن نمجد في صمت كمالاته اللانهائية، التي لم ترَها عين ولا سمعتها أذنٌ، كلا ولا دخلتْ قلب إنسان فيتصور بعقله كيف تكون؛ إنها مغطاة بسحابة كثيفة تخفيها عن الإنسان في تطلعه؛ وإنه لمن انتهاك الحرمات أن نحاول التغلغل خلال هذه المعميات المقدسة؛ فالذي يتلو إنكار وجود الله في درجة البعد عن التقوى هو أن تدفعنا القحة إلى التسلل في طبيعة الله وجوهره وأحكامه وصفاته.
ولكن خشية أن يحملك الظن على أن «تقواي» قد غلبت «فلسفتي» على أمرها، فسأدعم رأيي — إن كان بحاجة إلى تدعيم — برجل هو حجة من أعظم الثقات؛ ففي مقدوري أن أستشهد بكافة رجال الدين تقريبًا منذ أن نشأت المسيحية، الذين عالجوا هذا الموضوع أو غيره من موضوعات اللاهوت؛ لكنني سأحصر نفسي ها هنا في رجل اشتهر في عالم التقوى وعالم الفلسفة على حد سواء، وأعني به «الأب مالبرانش» الذي عبر عن رأيه — فيما أذكر — بالعبارة الآتية:٢ إنه لا يجوز لأحد (هكذا يقول) أن يسمي الله روحًا لكي يعبِّر بهذه التسمية تعبيرًا إيجابيًّا عن هُوِيَّته، بقدر ما يطلق عليه هذه التسمية ليدل بها على أنه ليس مادة؛ فالله كائن كامل كمالًا لا نهائيًّا، ليس في ذلك موضع عندنا لشك …

فأجاب «فيلو»: إنه إزاء رجل حجة له هذه المكانة العظيمة كالذي استشهدت به، وألف غيره من الثقات ممن تستطيع أن تستشهد بهم، قد يبدو سخفًا مني أن أضيف شعوري (حيال الموضوع) أو أن أعبر عن استحساني لمذهبك؛ ولكنه لا جدال في أنه حين يعالج ذوو العقل المتزن هذه الموضوعات، فيستحيل أن يكون موضع الإشكال هو «وجود» الله بل «طبيعته» فحسب؛ ذلك لأن الحقيقة الأولى — كما قد لاحظت فأصبتَ الملاحظة — واضحة بذاتها وليست مما يجوز فيه اختلاف الرأي؛ إذ لا موجود بغير علة والعلة الأولى لهذا الكون (مهما تكن) هي ما نسميه ﺑ «الله»، ثم تحملنا التقوى على أن نعزو إليه كل ضروب الكمال؛ ومن يساوره الشك في هذه الحقيقة الأساسية يستحق كل عقاب يمكن أن ينزل بالفلاسفة، وأعني به أقصى درجات السخرية والازدراء والاستهجان؛ ولكن لما كان الكمال كله أمرًا نسبيًّا بكل معاني الكلمة، لزم علينا ألا نتصور أبدًا أننا نفهم الصفات التي ننعت بها هذا «الكائن» الإلهي، وألا نفترض أن ضروب كماله مما يحمل أي مماثلة أو شبه بضروب الكمال التي يتصف بها المخلوق البشري؛ ﻓ «الحكمة» و«الفكر» و«التدبير» و«المعرفة» صفات ننسبها إلى الله صوابًا؛ لأن لهذه الكلمات منزلة الشرف بين الناس، وليس لدينا لغة أخرى ولا مدركات عقلية أخرى نستطيع بها أن نعبر عن تمجيدنا له؛ ولكن لنكن على حذر، خشية أن يذهب بنا الظن إلى أن أفكارنا هذه تقابل ضروب كماله بأي وجه من الوجوه، أو أن صفاته تشبه أقل شبه أمثالها مما نطلقه على أفراد الناس؛ فهو أجلُّ بدرجة لا حد لها من إدراكنا ونظرنا المحدودين؛ وهو إلى أن يكون موضع عبادة في المعبد، أقرب منه إلى أن يكون موضوع جدل في المدارس.

ومضى «فيلو» قائلًا: إنه في الحق يا «كلينثيز» لا حاجة بنا إلى اللجوء إلى ذلك الشك المصطنع، الذي يَلْقَى منك ما يلقاه من سخط، لكي نصل به إلى هذه الخاتمة؛ فأفكارنا لا تمتد أبعد من حدود خبرتنا؛ وليست لدينا خبرة بصفات الله وأعماله؛ ولا حاجة بي إلى استخراج النتيجة من هذا القياس. وتستطيع أن تنتزع بنفسك نتيجة الاستدلال؛ وإنه ليسرني (وأرجو أن يسرك كذلك) أن الاستدلال العقلي المستقيم، والتقوى السليمة، يلتقيان هنا في نتيجة واحدة، وأن كليهما ينهض دعامة لطبيعة «الكائن الأسمى» التي يحيط بها إلغاز محبب، والتي هي فوق إدراك أفهامنا.

فقال «كلينثيز» مخاطبًا «ديميا»: بغير أن أضيع وقتًا في الدوران حول المعنى المقصود، وبغير محاولة الرد على الخطبة الحماسية الورعة التي ألقاها «فيلو» — فإذا لم أكن راغبًا في الدوران حول المعنى المقصود، فأنا أقل رغبة في الرد على «فيلو» — سأشرح في إيجاز وجهة نظري إلى هذا الموضوع؛ انظر حول العالم، وتأمل المجموع وكل جزء منه، فلن تجده إلا آلة عظيمة واحدة، تتفرع إلى ما لا نهاية لعدده من آلات أصغر، ثم تعود هذه الأقسام الفرعية فتنقسم فروعًا تبلغ حدًّا يجاوز ما تستطيع الحواس والملكات البشرية أن تتعقبه وتوضحه؛ وكل هذه الآلات المختلفة، بل كل أجزائها البالغة أقصى حد من الصغر، مهيأ بعضها لبعض في دقة تروع بالإعجاب كل من تأملها من بني الإنسان؛ فهذه المواءمة العجيبة بين الوسائل وغاياتها، في أرجاء الطبيعة كلها، تشبه أتم شبه — ولو أنها تفوق إلى حد كبير — منتجات الصناعة الإنسانية، تلك المنتجات التي ينتجها الإنسان بتدبيره وفكره وحكمته وذكائه؛ وعلى ذلك فما دامت المسببات يشبه بعضها بعضًا، فنحن مضطرون إلى الاستدلال بكل قواعد استدلال المثيل من مثيله، بأن الأسباب كذلك يشبه بعضها بعضًا؛ وأن «خالق الطبيعة» شبيه — على نحو ما — بعقل الإنسان ولو أنه ذو ملكات أوسع بكثير لتتناسب مع عظمة العمل الذي أداه؛ بهذه الحجة المستندة إلى الخبرة البشرية، وبهذه الحجة وحدها، نقيم البرهان في آن واحد على وجود إله وعلى شبهه بعقل الإنسان وذكائه.

«محاورات في الديانة الطبيعية»
جزء ٢ (نشر بروس ميوين) ص٢٦–٣١

THE BEING AND THE NATURE OF GOD

I must own, Cleanthes, said Demea, that nothing can more surprise me, than the light, in which you have, all along, put this argument. By the whole tenor of your discourse, one would imagine that you were maintaining the being of a God, against the tavils of Atheists and Infidels; and were necessitated to become a champion for that fundamental principle of all religion. But this, I hope, is not by any means a question among us. No man; no man, at least, of common sense, I ampeusr aded, ever entertained a serious doubt with regard to a truth, so certain and self-evident. The question is not concerning the BEING, but the NATURE of God. This I affirm, from the infirmities of the human understanding, to be altogether incomprehensible and unknown to us. The essence of that supreme mind, his attributes, the manner of his existence, the very nature of his duration; these and every particular, which regards so divine a Being, are mysterious to men. Finite, weak, and blind creatures, we ought to humble ourselves in his august presence, and conscious of our frailties, adore in silence his infinite perfections, which eye hath not seen, ear hath not heard, neither hath it entered into the heart of man to conceive them. They are covered in a deep could from human curiosity: It is profaneness to attempt penetrating through these scared obscurities: And next to the impiety of denying his existence, is the temerity of prying into his nature and essence, decrees and attributes.
But lest you should think, that my ‘piety’ has here got the better of my ‘philosophy’, I shall support my opinion, if it needs any support, by a very great authority. I might cite all the divines almost, from the foundation of Christianity, who have ever treated of this or any other theological subject: But I shall confine myself, at present, to one equally celebrated for piety and philosophy. It is Father Malebranche, who, I remember, thus expresses himself. ‘One ought not so much (says he) to call God a spirit, in order to express positively what he is, as in order to signify that he is not matter. He is a Being infinitely perfect: Of this we cannot doubt …’
After so great an authority, Demea, replied philo, as that which you have produced, and a thousand more, which you might produce, it would appear ridiculous in me to add my sentiment, or expressmy approbation of your doctrine. But surely, where reasonable men treat these subjects, the question can never be concerning the ‘Being’, but only the ‘Nature’ of the Deity. The former truth, as you well observe, is unquestionable and self-evident. Nothing exists without a cause; and the original cause of this universe (whatever it be) we call GOD; and piously ascribe to him every species of perfection. Whoever scruples this fundamental truth, deserves every punishment, which can be inflicted among philosophers, to wit, the greatest ridicule, contempt and disapprobation. But as all perfection is entirely relative, we ought never to imagine, that we comprehend the attributes of this divine Being, or to suppose, that his perfections have any analogy or likeness to the perfections of a human creature. Wisdom, Thought, Design, knowledge; these we justly ascribe to him; because these words are honourable among men, and we have no other language or other conceptions, by which we can express our adoration of Him. But let us beware, lest we think, that our ideas any wise correspond to his perfections, or that his attributes have any resemblance to these qualities among men. He is infinitely superior to our limited view and comprehension; and is more the object of worship in the temple, than of disputation in the schools.
In reality, Cleanthes, continued he, there is no need of having recourse to that affected scepticism, so displeasing to you, in order to come at this determination. Our ideas reach no farther than our experience; We have no experience of divine attributes and operations: I need not conclude my syllogism: you can draw the inference yourself. And it is a pleasure to me (and I hope to you too) that just reasoning and sound piety here concur in the same conclusion, and both of them establish the adorably mysterious and incomprehensible nature of the Supreme Being.
Not to lose any time in circumlocution, said Cleanthes, addressing himself to Demea, much less in replying to the pious declamations of philo; I shall briefly explain how I conceive this matter. Look round the world: contemplate the whole and every part of it: you will find it to be nothing but one great machine, subdivided into an infinite number of lesser machines, which again admit of subdivisions, to a degree beyond what human senses and faculties can trace and explain. All these various machines, and even their most minute parts, are adjusted to each other with an accuracy, which ravishes into admiration all men, who have ever contemplated them. The curious adapting of means to ends, throughout all nature, resembles exactly, though it much exceeds, the productions of human contrivance; of human design, thought, wisdom, and intelligence. Since therefore the effects resemble each other. we are led to infer. by all the rules of analogy, that the causes also resmble; and that the Author of Nature is somewhat similar to the mind of man; though possessed of much larger faculties, proportioned to the grandeur of the work, which he has executed. By this argument a posteriori and by this argument alone, do we prove at once the existence of a Deity, and his similarity to human mind and intelligence.
Dialogues Concerning Natural Religion
part II. (ed. Bruce M’Ewen) pp. 26–31
١  نذكِّر القارئ بأن «ديميا» يمثل في هذه المحاورة رجل الدين المتعصب الجامد، و«كلينثيز» يمثل الرجل المتدين حين يهتدي في تدينه بالعقل، و«فيلو» يمثل المتشكك.
٢  إذا أراد القارئ فليرجع إلى رأي مالبرانش في: Recherche de la vérité, liv. 3, chap. 9.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤