ثامنًا: ابن باجه وابن رشد

(١) ابن باجه

(أ) وفي «الغاية الإنسانية» يُحال إلى أرسطو والحكماء فقط؛١ إذ يستشهد ابن باجه بقول أرسطو إنه إذا حصل الإنسان على الكمال فقد نجا من مجاهدة الطبيعة وآلامها والنفس وقواها، وصار كما يقول أرسطو في فرح وسرور دائمين. مجرد اتفاق في الآراء، وتوافق في الخواطر، كنموذج لإجماع العقلاء وتبادل الخبرات بين الحضارات. كما يستعمل لفظ الحكماء دون تحديد انتمائهم للوافد أو الموروث بعد أن أصبح الوافد موروثًا. ويُحيل إلى «تدبير المتوحد» أكثر مما يُحيل إلى أرسطو والحكماء مجتمعين؛ مما يدل على أن مذهب ابن باجه يأتي قبل مذهب أرسطو، وأن تمثُّل الوافد ليس من أجل تمثُّل الآخر، بل من أجل إبداع الأنا.٢ وما زال لفظ «الأسطقسات» معرَّبًا هو المستعمَل، وحتى الآن.
(ب) ولابن باجه (٥٣٣ﻫ) أعمالٌ صغيرة يتمثل فيها الوافد؛ فقد أتى في القرن السادس بعد أن كانت عملية تمثل الوافد قد تمَّت؛ ففي «قولٌ يتلو رسالة الوداع»٣ يُحيل إلى أرسطو فحسب، ثم يُحيل من أعماله إلى الحيوان، ثم السماع الطبيعي، والسماء والعالم، والكون والفساد.٤ فبعد أن يقوم ابن باجه بدراسة الموضوع يستشهد بأرسطو، مثل وجود حسي أبدي في البذر مُجانس لأسطقسات الكواكب؛ لأن جوهرها واحد وهو العقل، ومثل حد النفس بأنها استكمال لجسمٍ طبيعي ذي الحياة للنعم في الأولى والآخرة. وهو غير التعريف التقليدي المشهور لتعريف النفس عند أرسطو. أما بالنسبة إلى أعمال أرسطو فإنه يبيِّن أن جوهر الفاعل عقلٌ إلهي، ويُحيل إلى السادسة عشرة من كتاب «الحيوان»، فإذا يبيِّن أن به روحانية، كما رأى الأوائل أن السماء مَسكن الروحانيين، فإنه يُحيل إلى «السماء والعالم» وإلى «السماع الطبيعي». كما يُحيل في «التمييز بين الترداد والتردد» إلى آخر المقالة الثانية من «الكون والفساد». ولا يُحيل ابن باجه إلى مؤلفات أرسطو وحده، بل يُحيل إلى مؤلفاته هو، مثل «رسالة الوداع» و«النفس» و«تدبير المتوحد» و«النبات»؛ تأكيدًا لوحدة المذهبين، أرسطو وابن باجه، وتفسير الجزء بالكل.٥
(ﺟ) وفي «الصورة الأولى والمادة الأولى» لا يذكر إلا الحكيم (مرةً واحدة) دون أن يعني أرسطو بالضرورة، بل أي حكيم من الوافد أو الموروث في موضوعٍ طبيعي إلهي باعتبارهما علمًا واحدًا؛ فالطبيعيات إلهياتٌ مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعياتٌ مقلوبة إلى أعلى.٦ ويبدو فيها ابن باجه جامعًا علم الكندي، ومنطق الفارابي، وإشراقيات ابن سينا. كما يُحيل إلى بعض مؤلفات أرسطو؛ فقد تحوَّل الوافد إلى نصوص وليس أشخاصًا، إلى مؤلفات وليس مؤلفين، بدايةً للتحول من الشخص إلى العلم، ومن التراث العلمي إلى العلم ذاته؛ فإذا كانت أول الصورة تحصل في المادة هي صورة الأسطقسات لأنها بسائط الموجودات، يُحيل ابن باجه إلى «الكون والفساد» ثم «الآثار العُلوية» و«السماء والعالم»، كنوع من الأدبيات السابقة.٧ ابن باجه هو الدارس، وأرسطو هو صاحب الأدبيات في الموضوع قبله. وما زال يُستعمل لفظ «الأسطقسات» معرَّبًا.٨
(د) وفي «تراتب العقول وخلودها» يذكر من الوافد كتاب «إيضاح الخير» (مرةً واحدة)، وليس اسمَ علَم، تحولًا من المؤلف إلى النص، ومن النص إلى العلم، كنوع من التأكيد والتثبت من الموضوع الذي درسه ابن باجه من قبلُ مع تحديد للأبواب الرابع والمائة والخامسة والمائة والسادس والمائة؛ مما يدل على معرفةٍ دقيقة بالكتاب. ولا يذكر مؤلفه نظرًا لشهرته لأولوية النص على الشخص، وإمكانية نسبة النص إلى أكثر من شخص، وربما هو كتاب «الخير المحض» المنسوب إلى البغدادي، والمنتحَل على النسق الأفلوطيني. والرسالة دينية الطابع، تبيِّن ثلاثة أمور للتقرب إلى الله، ذكره باللسان تمجيدًا أو تعظيمًا، وأخذ الجوارح بما يُعطيه القلب، وتجنَّب ما يُنهى عن ذكره أو يشغل القلب عنه، وذلك كله لا يتم إلا بالصبر على الدوام معه. وتنتهي الرسالة بمخاطبة القارئ وتبصرته، إذا أخذ ما فيها كان من المُخلصين لله، ولا يتم ذلك إلا بالصبر على إدامته.٩

(٢) ابن رشد

وبالرغم من الصورة الشائعة عن ابن رشد (٥٩٥ﻫ) أنه «الشارح الأعظم»، أي أنه يقوم بتمثل الوافد، إلا أن الشروح والملخَّصات والجوامع كانت في الحقيقة استعمال الوافد لنقد الموروث، خاصةً علم الأشعرية؛ أي الكلام، والفلسفة الإشراقية، خاصةً ابن سينا، ولكن يظهر تمثل الوافد في مقالاته الصغيرة المنطقية والطبيعية (ثمانية عشر مقالًا) فيما لا يتجاوز مقالين طبيعيين «في المزاج»، و«في البذور والزروع».

(أ) «في المزاج». يتقدم جالينوس باعتباره منطقيًّا وطبيعيًّا، ثم أرسطو. ويختفي الشُّراح نظرًا لأن المقالة في الطب، وجالينوس هو الطبيب، وليس أرسطو. ويُحال إلى القدماء ثم إلى الفلاسفة والمفسرين على العموم. كما يُحال إلى «في المزاج» نفسه ربطًا لأجزائه وتفسيرًا للكتاب بالكتاب، ثم إلى «الكون والفساد» و«الآثار العلوية».١٠ ويُدافع ابن رشد عن أرسطو ضد سوء تأويل جالينوس له عندما جعل المفاعلات أربعة؛ الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة؛ مع أنهما عند أرسطو اثنان فقط؛ فقد أخطأ جالينوس تصوُّر الأربعة بضرب اثنين في اثنين، فاعل ومُنفعل. عند أرسطو الحرارة والبرودة فاعلتان، واليبوسة والرطوبة مُنفعلتان، وعلاقة الصورة بالهيولى هي علاقة الفاعل بالمُنفعل. وخطأ جالينوس قياسه الكل على أنه فاعل ومُنفعل كأضداد. ويقوم ابن رشد بدور الحكم والقاضي والإمام الواحد، ويبحث عن سبب سوء التأويل كما يفعل القاضي لمعرفة أدلة الاتهام أو البراءة، اتهام جالينوس، وبراءة أرسطو. وسؤال ابن رشد إلى أي حد يمكن إضافة جالينوس إلى الرأي القديم في المزاج يُوافق الأصول الطبيعية، ويدل على البحث عن الأصل، كما هو الحال عند الأصوليين.١١
ولجالينوس مقالة في «المزاج» يبيِّن فيها أن الأمزجة تسع؛ فالدافع على التأليف هو الموضوع، هل الأمزجة تسع كما هو الحال عند جالينوس، أم أربع كما هو الحال عند أرسطو؟ والأمزجة ثمانٍ بالإضافة إلى المعتدل، وهو الموجود في اللحم في جلد الكف وطرف السبابة؛ فالمعتدل في أطراف النوع. وتوجد فيه كيفيات الأسطقسات بمقادير مُتساوية، من الحار والبارد، والرطب واليابس. وقد غلط جالينوس في إضافة المُعتدل إلى الكيفيات الأولى؛ لأنه شبَّه الأمور الطبيعية بالأمور الصناعية؛ فأرسطو أكثر طبيعية من جالينوس، قايَس بينهما، وتصوَّر أن كل واحد منها فاعل ومُنفعل.١٢ وبالنسبة للمشَّائين الأمزجة الأربعة مركَّبة على نحو وجودها في البسائط، ولكن جالينوس وأتباعه لم يفهموا هذا المعنى في فعل الحرارة والبرودة في الرطوبة واليبوسة، وجعلوا كل واحدة من الأربعة فاعلة، وأوَّلوا أرسطو تأويلًا بعيدًا. والمشَّاءون مجرد رُواة للتاريخ الفلسفي ينقل عنهم جالينوس.١٣
ويضع ابن رشد جالينوس مع تاريخ الحكماء، وأنه استدرك ما فات جميع الفلاسفة والأطباء قبله، وتابَعه من أتى بعده، ويشكره ابن رشد على حسن صنيعه، ويحكم بينه وبين القدماء، أيهما حق وأيهما باطل، ويشكر صاحب الحق وينبِّه على غلط صاحب الباطل. ويستشهد بالقدماء؛ فليس كل ما يقوله القدماء خطأً على الإطلاق. وعلى مستوى المصطلحات ما زال ابن رشد يستعمل أيضًا اللفظ المعرَّب «الأسطقسات» مفردًا ومثنًّى وجمعًا، وليس المترجَم بعد أن استقرَّ، مثل الموسيقى والجغرافيا والفلسفة والسفسطة.١٤
ولا فرق في آليات الإبداع بين الشرح والتلخيص والجامع والعرض والتأليف من حيث تحليل أفعال الشعور المعرفي، ومنطق الاستدلال، والتطابق بين المقدمات والنتائج، والمسار الفكري بين البداية والنهاية، والمنطق المعياري باستثناء أفعال القول؛ لأن التأليف لا يبدأ بشرح أقوال. يظهر أرسطو كأحد مكوِّنات التأليف أثناء تمثل الوافد. إنما تظهر أفعال القول للمُعترض الذي يرد عليه سلفًا طبقًا للأسلوب الفقهي. كما تظهر أفعال البيان والإيضاح للغرض والقصد؛ فالتأليف قصدي وليس مجرد تجميع. وتظهر أفعال الشعور المعرفي التي تبيِّن أفعال الفكر في اتجاهه القصدي. فغرض ابن رشد فحص عدد إضافات المزاجات والموجود في كل نوع من الأجسام المُتشابهة الأجزاء، سواء كانت لذي نقص أو لم تكن؛ فإن النظر في المزاج يكون ذاتيًّا أو جسميًّا. ويبدأ بالإعلان عن القصد، وينتهي بالإعلان عن تحقيق القصد. وتظهر البيئة الدينية كالعادة في البداية والنهاية، بالبسملة والحمدلة، والصلاة والسلام على الرسول، وطلب الرضا عن المؤلف.١٥
(ب) وفي «البذور والزروع» يظهر أرسطو وحده دون أي شارح أو أي فيلسوف آخر.١٦ ولا توجد إحالات إلى مؤلفات لأرسطو أو لابن رشد؛ نظرًا لأنها مُكتفية بذاتها. ويبدأ المقال بأرسطو لمعرفة مسار فكره، وهو نفس بنية الموضوع؛ نظرًا لوحدة العقل والطبيعة؛ لذلك أتى المقال بسيطًا سهلًا واضحًا. يعرض أرسطو من الداخل عن طريق عرض الموضوع مُتجاوزًا القول في الشروح والملخَّصات والجوامع. ولا يوجد نقد لأحد، بل فقط بيان الاتساق الفكري الداخلي وحقيقة الموضوع أو موضوعية الحقيقة تمثلًا للوافد. ويرفع ابن رشد الاشتباه في فهم أرسطو بين الذي يتحرك من ذاته والذي يتحرك بالمحرك الأول، والشبه مقدمة للاشتباه. الموضوع في ظاهره طبيعي، وفي حقيقته ديني؛ لأن الفكر الديني يفضل النوع الثاني، الحركة بالمحرك الأول على النوع الأول، الحركة الذاتية لأن النوع الثاني يسمح بوجود محرك أول لا يتحرك؛ ومن ثَم يمكن إثبات وجود الله. يؤلف ابن رشد في الموضوع ثم يُحيل إلى تأليف أرسطو لبيان الاتفاق في النتائج بين حكيمين في حضارتين مختلفتين، وربما بمنهجين مختلفين؛ جزئي عند أرسطو، اتفاق العقل والطبيعة، وكلي عند ابن رشد، اتفاق الوحي والعقل والطبيعة. تمثُّل الوافد هو إخراج ما بالقوة إلى ما بالفعل في الوافد، إظهار الكامن، قراءة ما بين السطور، دفع الشيء إلى نتائجه الأخيرة، القول في استدلالاته ومعاركه ثم نقله إلى بؤرة الحضارة الجديدة كمرحلة من مراحل التحول من النقل إلى الإبداع.١٧
ويبيِّن ابن رشد غرضه منذ بداية المقال، الفحص عن القوى الموجودة في البذور والزروع، جوهرها ووجودها، فاسدة أم غير فاسدة، الجنين المحمول قبل أن يتكوَّن، وكل ما تتُوق النفس إلى معرفته. ويشعر ابن رشد بمسار فكر أرسطو، مقدماته ونتائجه، خطواته ووحدة مذهبه. ويُحيل الأجزاء إلى الكل. يقول أرسطو ويقول ابن رشد. فليس القول حكرًا على أرسطو، بل إن قول ابن رشد أكثر من قول أرسطو.١٨
ليس الحديث عن البذور والزروع موضوعًا قرآنيًّا مباشرًا، وإن كان موضوعًا قرآنيًّا غير مباشر؛ نظرًا لوجود الصورة في القرآن؛ ومن ثَم فإن اتفاق فلسفة أرسطو مع العقل والطبيعة يجعل من السهل اتفاقها مع الوحي والحكمة الشعبية؛ أي التاريخ؛ فالطبيعة قيمة. ويظهر ذلك من استعمال تعبيرات مِثل «أكرم في وصف جسد الطبيعة»، «أكرم من الأسطقسات الأربعة»، واستعمال لفظ إلهي بهذا المعنى التفضيلي يكون به الكرم والشرف. ويبدو أن تمثُّل الوافد يتمُّ عن طريق إيجاد وعاء عقلي خالص أو طبيعي أو من الوحي اللاشعوري في وعي المؤلف؛ فالوعاء معَدٌّ ومهيَّأ لاستقبال الوافد. وعلى مستوى المصطلحات يستعمل ابن رشد اللفظ المعرَّب «الأسطقسات»، وليس المترجم العناصر، بعد أن تحوَّل بطول الاستعمال إلى لفظٍ عربي أصله أجنبي، وفي القرآن البعض منه.١٩
وتظهر البيئة الدينية للتأليف في البداية بالبسملة، والنهاية بالحمدلة، وطلب العون من الرب، والصلاة والسلام على الرسول وآله، وطلب الرحمة والرضا للمؤلف. إيمانيات في موضوعاتٍ طبيعية، لا فرق بين أن يكون ذلك من المؤلف أو الناسخ أو القارئ؛ فالنص عملٌ حضاري مشترك، وثيقةٌ حضارية تعبِّر عن موقفٍ واحد.٢٠
١  أرسطو والحكماء (١).
٢  تدبير المتوحد (٣). في الغاية الإنسانية، ص١٠٠، ١٠٢، ١٠٤.
٣  «قول يتلو رسالة الوداع»، ص١٤٩-١٥٠.
٤  أرسطو (٧)، الحيوان (٢)، السماع الطبيعي، السماء والعالم، الكون والفساد (١).
٥  رسالة الوداع (٣)، النفس (٢)، تدبير المتوحد، النبات (١)، (٦). السابق، ص٨٢، ٨٠، ٢٦.
٦  «في الصورة الأولى والمادة الأولى»، العنوان من الناشر، الرسائل الإلهية، ص١٠٣-١٠٤.
٧  الكون والفساد (٢)، الآثار العلوية، السماء والعالم (١).
٨  الرسائل، ص١٠٣–١٠٥.
٩  المصدر السابق، ص١٩٥-١٩٦.
١٠  جالينوس (١٧)، أرسطو (٦)، القدماء (٣)، الفلاسفة، المفسرون (١)، الكون والفساد، الآثار العلوية (١).
١١  المزاج، ص٢٤٧، ٢٤٩، ٥٧.
١٢  المصدر السابق، ص٢٤٥-٢٤٦، ٢٥٧.
١٣  المصدر السابق، ص١٤٧، ١٤٩.
١٤  المصدر السابق، ص٢٤٦، ٢٥٠.
١٥  المصدر السابق، ص٢٥٩، ٢٦١-٢٦٢، ٢٦٤، ٢٥٢–٢٥٤، ٢٥٦-٢٥٧، ٢٤٥، ٢٥٠-٢٥١، ٢٤٩، ٢٤٤.
١٦  أرسطو (٦)، وقد نشرها عبد المجيد الغنوشي بعنوان «مقالة في قوى النفس»، ص٦٠.
١٧  المصدر السابق، ص٢٥٨–٢٦٢.
١٨  المصدر السابق، ص٢٥٨-٢٥٩، ٢٦٣.
١٩  المصدر السابق، ص٢٥٨–٢٦٣.
٢٠  المصدر السابق، ص٢٢٥، ٢٥٨-٢٥٩، ٢٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤