مراجعة الموازين

تُساورني شكوكٌ كلما أمعنت النظر في حياتنا الثقافية، وقارنت الأسماء التي لمعت في سمائها، بالأعمال التي رجحت بأصحابها في موازين النقد والتقويم، بحيث استحقَّت مكانتها تلك؛ إذ يُخيَّل إليَّ أحيانًا — عند هذه المقارنة التي قد أُجريها بين الأسماء والأعمال — أن ثَمة فجوات، تتسع آنًا وتضيق آنًا، بين القيمة الحقيقية التي أراها في الأعمال من جهة، وحظ أصحابها من التقدير من جهةٍ أخرى؛ فلطالما وجدت عملًا جديرًا بالذِّكر، ومع ذلك لم يظفر صاحبه بنصيبٍ يُذكَر من الإشادة والتقدير، ثم ما أكثر ما وجدت أعمالًا كان يكفيها الذِّكر القليل، ومع ذلك فقد نفخ لأصحابها في الأبواق حتى امتلأت بذِكرهم المسامع؛ مما يؤكِّد لي ضرورة أن يُعاد النظر في حياتنا الثقافية، فتُراجَع موازين النقد بنظراتٍ موضوعية مُحايدة، معصومة من التأثر بالشائعات، ما استطاعت نزوات البشر إلى مِثل هذه العصمة سبيلًا.

وليست هذه الإعادة والمراجعة بالتَّرف الفكري الذي يصطنعه الناس إزجاءً للفراغ؛ لأن الأمر هنا — كما أراه — مُتعلق بمسارنا الثقافي كله في الجيل الآتي، أو الأجيال الآتية لفترةٍ طويلة من الزمن؛ فأصحاب المواهب إنما يتَّجهون بمواهبهم نحو ما يجدونه ماثلًا أمام أبصارهم من معايير أقرَّها لهم المناخ الثقافي القائم؛ إذ يندر أن تكون موهبة الموهوب مفطورةً على عملٍ محدَّد معيَّن، والأغلب أن تكون نوعًا من «القدرة» يتَّجه بها صاحبها نحو هذا الموضوع أو ذلك بحسب ما تُمليه عليه تيَّارات عصره، ومن هنا نفهم لماذا اختصَّ كل عصر بلونٍ ثقافي معيَّن، يُميزه دون سائر العصور؛ فعصرٌ قد تسُوده التأملات الفلسفية — مثلًا — وعصرٌ آخر يسوده الاهتمام باللغة وجمعها، أو بالتشريع، أو بالعلوم الفلكية، أو بالطبيعة الذَّرية، وهكذا؛ فلو عاش الفيلسوف القديم في عصر الذَّرة هذا لكان الأرجح أن يكون من علماء الطبيعة، وكذلك لو عاش عالم الطبيعة النووية الحديث في عصر التأملات الفلسفية لكان الأرجح أن ينخرط في زمرة الفلاسفة، وهكذا نرى أن قوام الموهبة يغلب أن يكون «قدرةً» يمتاز بها صاحبها، وله أن يوجِّهها إلى حيث أراد له عصره وقومه أن يوجِّهها.

فمن أهمِّ ما ينبغي أن نهتمَّ له — إذن — الإشارات المرفوعة في جوِّنا الثقافي؛ لأنها قمينةٌ أن تجذب أصحاب المواهب إلى الوجهات التي تُشير إليها، وليس من شك في أن أقوى تلك الإشارات المرفوعة تأثيرًا، التقديرات المادية والمعنوية، وإلى أي ضرب من الرجال تتَّجه؟ فإذا رأى الناس أن الدولة والهيئات الثقافية ورجال النقد قد صبُّوا الأضواء على الأدب المسرحي، أو الأدب القصصي، أو الشعر من طرازٍ معيَّن، توقَّعنا لأصحاب المواهب من الناشئين أن يتَّجهوا بمواهبهم إلى مساقط تلك الأضواء. ولست أظن أن للتاريخ حتميةً تُوجِب أن يظهر أدب المسرح في الأعوام الفلانية، وأن يُولَد أدب القصة في الفترة الفلانية، وإنما الأمر مُتعلق ﺑ «النجاح» الأدبي أين يكون، وماذا تكون شروطه.

والذي تُساورني من أجله الشكوك، كلما أمعنت النظر في حياتنا الثقافية، هو أن هذا النجاح الأدبي وشروطه لم يكن — في كثير من الحالات — مرهونًا بالقيمة الحقيقية للأعمال الفكرية أو الأدبية، بقدر ما ارتهن بضروب من السلوك قد لا يكون بينها وبين حياة الفكر والأدب أدنى علاقة؛ فلقد خلط الناس عندنا خلطًا فاضحًا بين شيئين مختلفين: المنزلة الاجتماعية للرجل، وقيمته الثقافية. فإذا ضمنت لنفسك منزلةً اجتماعية — بالمنصب الرفيع، أو الانتساب إلى مواقع النفوذ والجاه أو غير ذلك — فكن على يقين عندئذٍ بأن أعمالك في دنيا الفكر والأدب ستنال من التقدير أضعافَ أضعافِ ما كانت لتناله لو كنت واحدًا من عامة الناس، فليس الكتاب يُصدره وزير كالكتاب يُصدره عابر سبيل من سائر عباد الله.

إنه لمن أنفع المقاييس في فهمك لجماعة من الناس أن تقع على ترتيب القيم عندها، فماذا يأتي من تلك القيم أولًا؟ وماذا يأتي منها ثانيًا فثالثًا؟ فلو وقعت على هذا الترتيب للقيم — من حيث الأعلى والأدنى — سهل عليك أن تفهم من أمور الناس ما لم يكن مفهومًا من قبل، ولا أظنني أقول جديدًا إذا قلت إن القيمة العليا في مجتمعنا المصري، التي لا تدنو منها قيمةٌ أخرى، هي أن تكون من أصحاب السلطان النافذ، فإن فاتك أن تكون منهم فلتتشبَّه بهم مظهرًا وسلوكًا؛ لعل أمرك يختلط على الناس، فيضعونك حيث يضعونهم، ومن هذه القيمة العليا تتفرع سائر القيم صعودًا وهبوطًا.

فماذا يصنع من أراد منا أن يكون من أصحاب الأسماء المذكورة المشهورة في عالم الفكر والفن والأدب؟ إنه إذا اعتمد على التجويد وحده فقد يُصيب سهمه وقد يخيب، وربما كانت الخيبة أقرب إلى الحدوث من الإصابة؛ لأنه حتى لو عرف الناس قدره في ميدان نشاطه، فالأغلب أن يقف تقديرهم ذاك عند حدود الهمس بالشفاه، أما التقدير الآخر المُتجسد في قيادة وريادة، فمدَّخَر لمن استطاع أن يصطنع مظاهر الجاه الرفيع.

لقد قلتها صريحةً لرجلٍ مسئول منذ سبع سنوات أو نحوها، وكان ذلك حين دعاني ليستوضحني السر فيما ظنَّه غضبًا مني على أوضاعٍ معيَّنة من حياتنا الثقافية، قلتها له صريحةً مُخلِصةً صادقة، بأنني لا أتأرَّق لشيءٍ يمسُّ شخصي، فمن هو في مِثل سنِّي ينعم بشيء من السكينة؛ لأن حياته كادت أن تكون ماضيًا يُذكَر فيروي ما يروي من سيئاته وحسناته، أو لا يُذكَر فيغوص في بحر النسيان إلى القاع. وأما الذي يؤرِّقني فهو جيل أصحاب المواهب، أراهم يتلفَّتون حولهم ليلتمسوا الطريق إلى النجاح، فماذا هم صانعون في ذلك أيسر من أن ينظروا إلى المُتربعين في أماكن القيادة والريادة؛ ليحذوا حذوهم، وها هنا مَكمن الخطر؛ لأنهم ربما وجدوا نفرًا من هؤلاء لم يبلغوا ما بلغوه بنتاجٍ جيدٍ عرَضوه في الأسواق واستحقُّوا من أجله التقدير، بل هم بلغوا ما بلغوه بتخطيطٍ دقيق لطرائق السلوك؛ فمتى يظهر في الحفل ومتى لا يظهر؟ وإذا ظهر، ففي أي الصفوف يكون مجلسه؟ ومن ذا يُكلم من الناس ومن ذا يتولَّى عنه مُستكبرًا؟ أين يذهب ليلتفَّ حوله الحواريون؟ وهكذا وهكذا إلى آخر التفصيلات التي لا تَرِد لنا على بال، ومن جملة أمور كهذه ينشأ له المناخ الصالح، الذي لا يصعب عليه بعده أن يُعَد «أديبًا» أو «مفكرًا» أو «فنَّانًا»، أو ما اختار لنفسه أن يلمع نجمه فيه.

لقد مررت فيما مضى بخبرتين مُتشابهتين، كان لهما عندي أثرٌ مفيد فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه. كانت الخبرة الأولى حين طلبت إليَّ هيئةٌ رسميةٌ أن أكتب بيانًا مطوَّلًا عن الفكر الفلسفي في بلادنا خلال هذا القرن؛ ليُنشَر ضِمن موضوعات أخرى، تصوِّر بمجموعها حياتنا في مختلف ضروب نشاطها. وكانت الخبرة الثانية حين طلب إليَّ أن أعدَّ بحثًا وافيًا عن حياتنا الفكرية والأدبية الحاضرة بصفةٍ عامة؛ ليُنشَر في موسوعة «لا روس» الفرنسية. والذي أريد قوله عن تلك الخبرتين، هو أنني كنت قد انتهجت فيهما منهجًا راعيت فيه ألا أتعرَّض لخطر الحذف والنسيان، فقسَّمت موضوع البحث قسمين؛ ليكون كل قسم منهما صمام أمن للقسم الثاني، وذلك بأن نظرت إلى الأمر مرةً من زاوية المضمون، ثم نظرت إليه مرةً أخرى من زاوية الأشخاص؛ بمعنى أن أقول — مثلًا — ماذا كتبه الكاتبون في النقد الأدبي؟ ثم أعود فأُراجع قائمة الأسماء التي لمعت في هذا الميدان؛ لأستوثق من أن كل اسم منها قد وجد مكانه الصحيح، فراعَني — في كلتا الحالتين — أني وجدت بين يديَّ أسماءً تعذَّر عليَّ أن أجد لها مواضع في السياق، فكيف إذن تأتَّى لهذه الأسماء أن يكون لها دويٌّ في الأسماع، إذا لم يكن لأصحابها نتاجٌ يُذكَر؟ الجواب هو أن هؤلاء لا بد أن يكونوا قد بلغوا ما بلغوه، لا عن طريق الدرس أو الإبداع، بل عن الطريق السلوكي الذي أسلفت لك لمحة منه.

والذي نخشاه هو أن ينصرف نفرٌ من أصحاب المواهب، الراغبين في النجاح، نحو هذا الطريق السهل، فيرتفع ذِكرهم على خواء؛ ولذلك ندعو إلى إعادة النظر ومراجعة الموازين ليهتدي أبناء الجيل الجديد بمعايير الحق، فلا يضلِّلهم بهرجٌ رخيص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤