من هو الناقد؟

١

ألقى الأستاذ يوسف السباعي سؤاله هذا في سباقٍ غاضبٍ غضبة المظلوم على قاضيه، فلم تعُد المسألة في رأيه مسألة الحكم وعدالته، ولكن أعمق من ذلك جذورًا؛ لأن مناقشة الحكم وعدالته يسبقها سؤالٌ حقيق بأن يُلقى وينتظر الجواب: فمن ذا الذي أجلس القاضي على منصة القضاء؟ هكذا يعرض الأستاذ الأديب مشكلته وهو في ثورة غضبه من النُّقاد في «سخافاتهم وأحقادهم وكلامهم غير المفهوم»، فيمضي في حديثه ليسأل: «ما هي المميزات التي يجب أن يتميز بها إنسانٌ معيَّن لكي نقول عنه إنه ناقد؟»

إنه ليُقال حقًّا إن السؤال المحكم أعمق أثرًا في تاريخ الفكر من جوابه؛ لأن إلقاء السؤال السديد هو في الحقيقة إيذان بقيام حركة فكرية واسعة أو ضيقة، ثم تتتابع الإجابات متفِقة أو مختلفة، لكنها في اتفاقها واختلافها تكوِّن حركةً فكرية واحدة ما دامت دائرة حول محور واحد، ولا تبدأ حركة جديدة إلا إذا نهض سائلٌ آخر بسؤالٍ جديد من هذه الأسئلة الخِصبة المُتحدية الشاحذة للعقول، وأعتقد أن سؤال الأستاذ السباعي هو من هذا القبيل؛ فقد كان لدينا نقد يغزُر حينًا ويضحُل حينًا، وكان لنا نُقادٌ يعنف بعضهم مع بعض أو يتقارضون الثناء، لكني لا أذكُر قبل الآن أن قد طُرِح السؤال الذي يتناول الجذور قبل أن يُجادَل في الفروع: من هو الناقد؟

ولو كان للنقد القائم محترفون وهُواة، فأنا من هواته، أصحو له عامًا وأرقد منه أعوامًا، ولست أدري إن كان لهواة الأدب والفن ما للمحترفين من حق في أن يتصدَّوا للسؤال المطروح بجواب أو محاولة جواب، فإن وجدني القارئ على ضلالٍ رجوت المغفرة وهداية السبيل.

٢

إنني على عقيدةٍ راسخة بأنه لا نقد إلا إن كان الناقد على استعداد لتعليل رأيه، فإن قال هذا حسن وذلك رديء كانت عليه البيِّنة، فلماذا كان الحسن حسنًا والرديء رديئًا، ولا يكفينا منه أن يمصَّ شفتَيه استحسانًا وأن يمطَّهما استهجانًا؛ فلو كان يستحسن لنفسه ويستهجن لنفسه لما كانت به حاجة إلى توجيه الخطاب إلينا، ولكنه يوجِّه إلينا الخطاب، وإذن فلا بد أن يجيء كلامه مما نستطيع المشاركة فيه، ولا يكون الكلام كذلك إلا إذا أشار الناقد في القطعة الأدبية المنقودة إلى مواضع بعينها وعلَّل موقفه إزاءها بعللٍ لا ترتكز كل الارتكاز على ذوقه الخاص من حب وكراهية؛ لأنه لو كانت حجته كلها هي أنه يحب أو يكره، لجاز لغيره أن يكره ما قد أحبه هو، وأن يحب ما قد أبغضه، ولقد كان الإمام الجرجاني على حق حين قال إنه «لا بد لكلِّ كلامٍ تستحسنه ولفظٍ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك علةٌ معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادَّعيناه من ذلك دليل» (ص٣٣، دليل الإعجاز).

لا بد إذن للناقد من تعليل نقده، وإذا قلنا هذا فقد قلنا بالتالي إنه لا بد للناقد من الإشارة إلى شيء في مقوِّمات الأثر الأدبي نفسه، خارج عن حالة الناقد النفسية الذاتية؛ لأنه لو اكتفى بالتعبير عن شعوره الذاتي من استحسان أو استهجان لم يكن في الأمر تعليل ولا شِبه تعليل، واقتصر على أن يكون تقريرًا لدعوى تنتظر الإثبات.

إنه إذا ما وقف الناقد إزاء الأثر الأدبي الذي ينقده، كان هنالك أربعة أطراف؛ فهنالك أولًا الناقد وحالته النفسية إزاء الأثر الأدبي، وهنالك ثانيًا الأثر الأدبي نفسه، ثم هنالك ثالثًا الكاتب الذي أخرج الأثر، ورابعًا البيئة المكانية والزمانية التي أحاطت بالكاتب وقت إنتاجه؛ فأي هذه الأطراف الأربعة ينبغي للناقد أن يتخذ منه محور الارتكاز في نقده؟ أي هذه الأطراف الأربعة يتخذ منه الناقد هدفًا بحيث تجيء الأطراف الثلاثة الأخرى بمثابة الوسائل المحقِّقة لبلوغ الهدف؟ أتكون بيئة الكاتب وظروفه هدفنا، بحيث ندرس الأثر الأدبي مصحوبًا بنفسية الكاتب ونفسية الناقد على السواء؛ لنتخذ من هذه الجوانب كلها وسائل تُعيننا على إلقاء الضوء على تلك البيئة وهذه الظروف؛ أم نجعل نفسية الكاتب هدفنا، بحيث ندرس الأثر الأدبي مصحوبًا بدراستنا للبيئة ولنفسية الناقد؛ لنستعين بهذا كله على كشف الحجاب عن دقائق النفس عند الكاتب؟

أم يجعل الناقد نفسه وشعوره محورًا؟ فكل هاتيك العناصر لا تعني شيئًا إذا لم تكن حالةٌ نفسية أحسَّها الناقد وهو إزاء الأثر، فلا يُطلَب منه في نقده إلا أن يعبِّر عن هذه الحالة التي أحسَّها تعبيرًا صادقًا، وكان الله يحب المحسنين. ورابعًا وأخيرًا، هل يكون الأثر الأدبي نفسه هو الهدف؛ فإذا درسنا ظروف البيئة، وإذا كشفنا الحجاب عن نفسية الكاتب، وإذا عبَّر الناقد عن شعوره إزاء ما قد قرأ، فما ذلك كله إلا لنزداد فهمًا للأثر الأدبي الذي نحن بصدده، ولنزداد علمًا بعناصر تكوينه وكيفية تركيب تلك العناصر؟

هذه اتجاهاتٌ أربعة في النقد الأدبي، ولكل اتجاه منها أنصار ومؤيدون، ولقد اتخذت لنفسي موضعًا مع أنصار الاتجاه الرابع، الذي يجعل النقد الأدبي مقصورًا على دراسة الأثر نفسه، وكل ما عدا ذلك إنما يجيء بمثابة الوسيلة التي تؤدي إلى غايةٍ وراءها. إنني لا أكون ناقدًا أدبيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة إذا ما اتخذت الأثر الأدبي نافذةً أنظر خلالها إلى شيءٍ سواها، كأن أنظر إلى البيئة والظروف الاجتماعية والسياسية التي هي قائمةٌ وراء الأثر المدروس، ولو فعلت لكنت أدخل في زمرة علماء الاجتماع والسياسة، وكانت القطعة الأدبية التي أمامي بمثابة الوثيقة التاريخية لا أكثر ولا أقل، كلا، ولا أجعل من الأثر الأدبي نافذةً أنظر منها إلى دخيلة نفس الكاتب، أو إلى دخيلة نفسي أنا، ولو فعلت لكنت أشبه بعالم النفس يحلِّل لمريضه أحلامه وردود أفعاله وخواطره ومشاعره، لا حبًّا في هذه الأشياء نفسها، بل لأنها هي الوسيلة الموصلة إلى غايةٍ منشودة، وأما الناقد الأدبي فلا يكون جديرًا باسمه هذا إلا إذا كان ناقدًا أدبيًّا، فلا هو بعالم اجتماع وسياسة، ولا بعالم نفس أو طبيعة، إنما هو كما يريد لنفسه أن يُسمى، هو ناقدٌ أدبي، غايته هي دراسة قطعة أدبية يختارها للدراسة، فلا يُجاوز حدودها إلى ما ليس منها إلا إذا كانت هذه العوامل الخارجية أدوات لفهمها هي، ووسائل للإحاطة بدقائقها وتفصيلاتها.

ولكن هذا الناقد الأدبي قبل أن يهمَّ بنقده، لا بد له أولًا أن يستحسن أو يستهجن ليبدأ بعدئذٍ في الدراسة التي يكشف بها عوامل استحسانه أو استهجانه في القطعة الأدبية نفسها؛ وإذن فلا بد للناقد من قراءتين على أساسين مختلفين؛ فقراءةٌ أولى يتذوَّق بها، وإلى هنا ليس هو بالناقد؛ لأنه ربما قرأ وتذوَّق ووقف عند هذا الحد لا يتكلم ولا يكتب، أما إذا همَّ بالكلام أو الكتابة ليعلِّل تذوُّقه، فها هنا تأتي قراءةٌ ثانية يبحث خلالها عن المقوِّمات الخاصة في القطعة الأدبية التي أدَّت إلى تذوُّقه لها على النحو الذي وقع.

وإني لفي عَجب بعد ذلك أن يثور خلافٌ بين أصحاب الرأي على طبيعة النقد الأدبي، أيكون ذاتيًّا أم موضوعيًّا؟ أيكون فنًّا أم يكون علمًا؟ لأن الأمر في عيني واضح المعالم بارز القسَمات، فلو أراد الناقد بعد قراءته الأولى التي تذوَّق بها القطعة الأدبية أن يحدِّثنا عما تذوَّق، فماذا عساه أن يقول؟ أيقول كلامًا آخر يعبِّر به عن حالةٍ نفسية أخرى خاصة به، وعندئذٍ يكون أديبًا مُنتجًا للأدب، لا ناقدًا يحلِّل قطعةً أدبية؛ أم يقول كلامًا يوضِّح به «لماذا» استحسن ما استحسنه أو استهجن ما استهجنه، بحيث يجيء الكلام هنا مُشيرًا إلى شيء في القطعة الأدبية نفسها، لا إلى شيء في نفسه هو؟ عندي أن ثاني الوجهين هو وجه الصواب.

٣

لكن الناقد إذ يهمُّ بقراءته الثانية التي يحلِّل بها القطعة الأدبية تحليلًا يكشف عن مواضع سرها، مُحال عليه أن يؤدي ما يريد أداءه إذا لم يكن قادمًا وفي جُعبته «مبدأ» معيَّن على أساسه يقوم بعملية التحليل، فما هي الشروط التي يتوقَّع أن يراها متوافرة في الأثر الذي يدرسه؟

لا بد للناقد من «مبدأ» على أساسه يقوم بعملية التحليل، لا يستنبطه بادئَ ذي بدء من عقله الخالص استنباطًا، بل يستخلصه من روائع الأدب التي أبقت عليها ظروف الزمن، بحيث جاءت أعوام وانقضت أعوام وهي ما تزال هناك مرموقة في أعين النُّقاد على اختلاف الأمزجة ومر القرون، من هذه الروائع الخالدة نستخلص «المبدأ» الذي إذا ما أجريته على تلك الروائع نفسها، وجدته شاملًا للكثرة الغالبة منها إن لم يكن شاملًا لها جميعًا. إن الناقد لينطح برأسه جلمودًا أصمَّ إن هو اتخذ لنفسه مبدأً في تقدير القطعة الأدبية، لو أجراه على امرئ القيس والبحتري وعلى شيكسبير وملتن، وعلى أمثال هؤلاء جميعًا، لوجدهم مارقين على مبدئه؛ فالذي ينبغي أن يتغير في هذه الحالة هو المبدأ المختار؛ لأن الجبل الراسخ رابضٌ في مكانه ليس إلى زحزحته من سبيل.

غير أنه لحسن حظ القائمين بالدراسات الأدبية، يجوز لناقدين مختلفين أن يستخلصا من روائع الماضي مبدأين؛ لأن الأمر هنا أقرب إلى الأضواء الكاشفة، يمكنك أن تُلقبها من هذه الزاوية فتبرُز معالم وتختفي معالم، ثم تُلقيها من تلك الزاوية فيختفي البارز ويبرُز المُختفي، فكيف يكون الفصل بين ناقدين اختلفًا لأن كلًّا منهما اختار مبدأً غير المبدأ الذي اختاره زميله؟

أظن أن الأمر تفصل فيه الغاية المنشودة، فلماذا ينظم الشاعر شعره أو يكتب القاصُّ قصته؟ لو اتفق الناقدان على غاية بعينها لم يحتج الأمر إلا إلى تحليلٍ قليل ليتفقا بالتالي على مبدأٍ واحد شأنُه أن يؤدي إلى تلك الغاية الواحدة، أما إذا اختلفا، فلم يعُد سبيل بينهما إلى خصومة وجدال، أحدهما يريد السفر إلى الشمال، والآخر يريد السفر إلى الجنوب، ولكلٍّ منهما قطار، وإنما يكون الجدال مُجديًا إذا أرادا معًا أن يتَّجها نحو الشمال، ثم اختلفا على أي الوسائل تكون أنسب للسفر.

٤

ومن حق القارئ عليَّ أن يسألني أي مبدأ تختار لنفسك على أساسه يكون تحليل القطعة الأدبية للحكم عليها، وجوابي في اختصار هو أن تكون القطعة الأدبية مُكتفية بذاتها، غير معتمدة في فهمها وتقديرها على شيءٍ وراءها ولا على شيء أمامها؛ فاعتقادي هو أن الأثر الأدبي — والأثر الفني بصفةٍ عامة — يبعد جدًّا عن الفن الأصيل إذا كانت مهمته أن «يصوِّر» شيئًا، سواء كان هذا الشيء المصوَّر خارج الإنسان أو داخله. إن كل كائن مخلوق في الدنيا قيمته في نفسه، لا في غاية يؤدِّيها، فلماذا يشذُّ الخَلق الأدبي والفني عن ذلك؟ هذا الجبل بديع لذاته، لا لأنه يصدُّ الرياح الحارَّة ويلطِّف الجو، وكذلك قُل في هذا النهر وتلك الزهرة، قُلْه في الطائر الغرِد، وفي كل فرد من الإنسان تستوقفك شخصيته لأي سبب من الأسباب. لو كانت مهمة القصيدة من الشعر هي أن تصف لي نهرًا بذاته عند نقطة بعينها، ولو كانت مهمة القصة هي أن تصف لي شخصًا بذاته في حقبة من الزمن بعينها، بحيث يجوز لي أن أنظر إلى الوصف من جهة وإلى الشيء الموصوف من جهةٍ أخرى، فأقول إن الكاتب قد أجاد أو أساء، لما كان للأدب مهمة يؤديها؛ لأن النهر هناك لمن شاء أن يراه، ولأن الشخص المعيَّن هناك لمن أراد أن يلتقي به أو أن يقرأ عنه في كتب التاريخ.

كلا، ليست مهمة الفن في شتى صوره أن «يُحاكي الطبيعة» أو أن «يحكي» عن الإنسان؛ لأنه عندئذٍ يكون صورةً باهتة لأصلٍ ناصع، وفيمَ حاجتنا إلى الصورة وأصلها هناك قائم؟ ليست مهمة الفن في شتى ألوانه أن «يكشف» عن حقيقةٍ سبق وجودها وجوده؛ لأن السابق عندئذٍ يكون متبوعًا ثم يجيء الفن تابعًا، كلا، ولا مهمة الفن في شتى قوالبه وأساليبه أن «يعظ» الناس كيف ينبغي أن يسلكوا في هذا الموقف أو ذاك؛ لأن الواعظين على المنابر قائمون بأداء هذه المهمة خير الأداء، ولكن مهمة الفن هي أن «يخلق» و«يُبدع»، أن يخلق كائنًا جديدًا لم يكن له أصلٌ سابق عليه، لا في جوانب الطبيعة الخارجية، ولا في حالات النفس الداخلية. نعم، قد يتخذ الفنَّان من هذه وتلك عناصره، كما يتخذ من لغة التفاهم نفسها أدواته، لكن الكائن الذي يُبدعه من تلك العناصر وبهذه الأدوات لا بد أن يكون خلقًا وإبداعًا.

بهذا المبدأ الذي أوجزته إيجازًا شديدًا تراني أُقبِل على القصة أو القصيدة باحثًا فيها عن مَواطن سرها، وبمقدار ما أراها معتمدة على ما ليس منها وما ليس فيها يكون نقصها، فلست أريد لها أن ترتكز على حادثة أو حوادث معيَّنة، بحيث لا يكون لها معنًى مفهوم بغير تلك الحوادث، ولست أريد أن ترتكز على قيمةٍ خُلقية أو على عقيدةٍ مذهبية معيَّنة، بحيث تفقد كيانها كله لولا تلك القيمة الخلقية أو هذه العقيدة المذهبية. إنها لو فعلت شيئًا من هذا كانت — على فرض بلوغها حد الكمال في مهمتها — شيئًا يفتقر إلى ما هو أهم منها.

فإذا سألني الأستاذ السباعي قائلًا: من هو الناقد؟ أجبته بهذا الجواب الموجَز: هو رجلٌ زوَّدته تجارِبه الفنية بمبدأٍ يسري على روائع الأدب في الماضي، ويريد له أن يسري على نتاج الأدباء في الحاضر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤