أبعاد القصة

١

متى يجوز لك أن تقول عن إنسان — ربطتك به روابط الحياة — إنك «تفهمه»؟

هذا سؤال لو استطعنا الجواب عنه جوابًا دقيقًا واضحًا، استطعنا بالتالي أن نُجيب عن سؤالٍ آخر، وهو: متى نقول عن أديب القصة إنه صوَّر الشخصية الفلانية فأجاد التصوير؟

وموجَز الرأي الذي سأتناوله بشيء من التفصيل، هو أن الجانب المشاهَد من حياة الإنسان قوامُه أحداثٌ يتلو بعضها بعضًا، فهو يعمل آنًا ويلهو آنًا، ويصحو آنًا ويغفو آنًا، لكن هذه الأحداث المرئية في حياته الجارية ليست كلها سواءً في الكشف عن حقيقة نفسه، إلى الحد الذي يجعلنا نحكم أحيانًا على ضاحك بأنه وإن يكن الضحك هو ظاهره إلا أن البكاء هو ما يُخفيه؛ فلو جاز لنا أن نقول عن الحوادث الظاهرة من حياة الإنسان إنها أحد أبعادها، كانت الينابيع النفسية الداخلية التي عنها ينبثق السلوك الظاهر هي البعد الثاني.

ولو عرفت من إنسانٍ ينابيعه النفسية تلك، كنت بالبداهة أكثر فهمًا له مما لو اقتصرت على ملاحظة سلوكه الظاهر، على أن تلك الينابيع النفسية بدَورها ليست آخر المَطاف، بل تستطيع أن تحفر وراءها لترى القيمة العليا، أو إن شئت فقل المبدأ الأول الذي هو من حياة ذلك الإنسان المعيَّن بمثابة المقدمة التي عنها تتولَّد مفاتيح نفسه، وعن هذه المفاتيح تصدُر أنغام حياته المسموعة.

فقد يُصادفك رجلان مُتشابهان في سلوكهما الظاهر، كأن تراهما مثلًا يعبدان الله صلاةً وصومًا وإيتاءً للزكاة، فيكون هذا السلوك منهما هو البعد الأول في حياتَيهما، لكنك تنفُذ ببصرك خلال هذا السلوك فإذا المصدر النفسي عند أحدهما توبة وندم لما فرط منه في أيامه الماضية، على حين يكون المصدر النفسي عند الآخر تقوى خالصة لوجه الله لا يرجو بها نفعًا ولا يتَّقي ضرًّا؛ فيكون هذا المصدر النفسي عند كلٍّ منهما هو البعد الثاني من حياته، لكنك ربما حفرت وراء ذلك في نفسَيهما فوجدتهما يعودان فيلتقيان في قيمةٍ عليا هي الشعور القوي بما يُعانيه الإنسان في حياته الفردية من وحشة وعزلة، وأنه بحاجة إلى كائنٍ روحاني أسمى ليصل وجوده بوجوده.

أو ربما حفرت وراء المصدر النفسي عند كلٍّ منهما فوجدت كلًّا منهما يرتدُّ في الحقيقة إلى جذورٍ غير الجذور التي يرتدُّ إليها زميله؛ فقد يكون أحدهما صادرًا في النهاية عن اعتقاد بقيمة نفسه، وبأنه في هذه الدنيا يشرع لنفسه؛ ولذلك فهو يعمل ما يحقِّق ذاته بغضِّ النظر عن أي شيء آخر في الوجود كله، على حين يصدر الثاني عن مبدأٍ آخر، هو أنه في هذه الدنيا مخلوقٌ صغيرٌ ضعيف، يؤمَر فيُطيع، ومهما يكن من هذه القيم العليا، وهل يتفق فيها الناس أو يختلفون، فهي على كل حال بمثابة البعد الثالث من حياة الإنسان، وبمقدار ما تُدرك من إنسانٍ أبعاده تلك يكون فهمك له.

وكذلك قل في أديب القصة إنه بمقدار ما يصوِّر أشخاصه تصويرًا يكشف عن أبعادها كلها يكون توفيقه في عمله الفني، ودعواي ها هنا هي أن الكثرة الغالبة من نتاجنا القصصي إنما يقف بها أصحابها عند البعد الأول من أبعاد الحياة الإنسانية؛ إذ يقِفون بها عند مستوى الحوادث وتعاقُبها واتصالها بعضها ببعض، لكنهم يندُر جدًّا أن يحتاروا من الحوادث، وأن يسوقوا ما قد اختاروه سياقًا ينمُّ عن الينبوع الداخلي الذي انبثق منه سلوك هذا أو سلوك ذاك من أشخاصهم، ودَعْ عنك أن يُسعفهم الفن في كشف البعد الثالث ممن يتعرَّضون لتصويرهم.

ولو صحَّت هذه الدعوى التي أدَّعيها، لكان أمام الأدب القصصي عندنا شوطٌ فسيح لا مندوحة له عن السير فيه قبل أن يدنو من القمة التي تجعل منه أدبًا عاليًا.

٢

ولنبدأ الأمر من بدايته فنسأل: كيف يُتاح للإنسان أن يُدرك أي شيء يُدركه؟

كيف يُتاح لي أن أنظر إلى هذه الشجرة التي أراها من حيث أجلس إلى مكتبي، فأقول إنها شيءٌ واحد ذو كيانٍ واحد؟

ألانَّها هي في حقيقة أمرها كذلك؟

كلا، فهي ساق وفروع وأوراق، وهي تهتزُّ مع الريح يَمنةً ويَسرة، ولها في كل لحظة زمنية وضعٌ جديد، من ذا الذي يزعم أن ما أراه من هذه الشجرة حتى في هذه اللحظة الزمنية الواحدة هو شيءٌ واحد، في الوقت الذي أرى لونها وحده مؤلَّفًا — عند من يدقِّق النظر — من مئات الدرجات اللونية، بل اللون الأخضر وحده، كما أراه في أوراقها يغمق هنا ويخفُّ هنا، ويسودُّ حينًا ويصفرُّ حينًا؟

هي إذنْ آلافٌ من عناصر اللون تأتيني، وتستطيع أن تُضيف إليها حفيفها كلما اهتزَّت مع الريح، وغير ذلك من إحساساتٍ تنطبع بها حواسِّي.

لكن هذه العناصر الأشتات التي تُعَد بالآلاف ما أزال أقول عنها إنها شيءٌ واحد ذو كيانٍ واحد، فعلى أي أساس أزعم لهذه الشجرة وحدانيتها على كثرة عناصرها؟

الجواب عند «كانط» هو أن فاعلية الإنسان المُبدِعة الخلَّاقة هي التي تتصرَّف فيما يُرَد إليه هذا التصرف البارع؛ فهي التي تصبُّ الأشتات في وحدة، ولولا تلك الفاعلية الموحِّدة العجيبة، لظلَّ العالم على فوضاه التي يأتينا بها؛ إذ يظل في أعيننا وفي آذاننا خليطًا من إحساساتٍ آتية إليها من هنا وهناك.

وإني لأطلب من القارئ صفحًا عن هذه اللمحة الفلسفية التي اضطررت إلى ذكرها اضطرارًا؛ لأنتهي منها إلى ما أريد أن أنتهي إليه، وهو أن فاعلية الأديب في خلق أشخاصه هي نفسها هذه الفاعلية الفطرية التي يُدرك بها الأشياء، لولا أن هذه الفاعلية الفنية لم تُكتَب إلا لنفرٍ قليل، لكن طبيعة الفاعلية في الحالين واحدة.

فكيف «أفهم» هذا الإنسان أو ذاك ممن أُصادفهم في مجرى الحياة إذا لم أكن قادرًا على أن أضمَّ أحداثَ حياةِ كلٍّ منهم في وحدةٍ تكون هي شخصيته؟

كيف أقول — مثلًا — عن فلان إنه مُرهَف الحس، وعن آخر إنه غليظٌ فظ؟

كيف أقول عن فلان إنه ذو شهامة وهمَّة، وعن آخر إنه نذلٌ جبان؟

ألا يكون ذلك الحكم مني على هذا أو ذاك من الناس بمثابة من يلتمس خيطًا واحدًا يربط به آلاف المواقف والحوادث التي منها تتألَّف حياته؟ إن ما يُدركه الحس من فلان أو فلان هو حالة بعينها في لحظة بعينها، أما أنه مُرهَف أو غليظ، شهم أو نذل، فذلك ما لا تراه العين أو تسمعه الأذن فيما ترى وتسمع، لكنه فاعليةٌ رابطة نستخدمها من أنفسنا لنخلعها على الكثرة المبعثَرة فتصبح وحدةً واحدة.

ومع ذلك ففاعلية الأديب أمعنُ من ذلك كله في الخلق والإبداع؛ لأنه لا ينظر إلى مجموعة من الحالات صادرةٍ كلها عن مصدرٍ واحد، ثم يصبُّها في وحدةٍ تكون هذا الشخص أو ذاك ممن يعرفهم في حياته العملية.

بل هو يجمع الحالات من مصادر شتَّى، يجمعها ألوفًا ألوفًا، ثم يُمارس فيها فاعليته الموحِّدة ليخلق منها شخصًا ليس له وجود بين الناس، ولكنه من خلقه هو.

فليس بين الناس هاملت بكل ظروفه، وليس بينهم دون كيشوت بكل ظروفه، لكن شيكسبير قد جمع في تصوُّره حالاتٍ شتَّى، اختار منها مجموعةً صبَّها في هذا القالب الجديد، وكذلك فعل سيرفانتيز، وكذلك يفعل كل أديب خلَّاق.

هناك إذن حوادث جزئية وحالاتٌ مفردة، هي المادة الخامة التي يصنع منها الأديب نتاجه، وهي ما أُسميه بالبعد الأول في حياة الناس، ولو اقتصر عليها كاتب القصة لما كان من الأدب في كثير، بل هو عندئذٍ يكون أقرب إلى المرأة العجوز تظل تحكي لأبنائها تفصيلات عما قد شاهدت على مر السنين.

وهل أكون أديبًا قصصيًّا لو طفقت أذكُر لك أي عدد شئت من تفصيلات حياتي أيامَ نشأتي في القرية، وكيف انتقلت إلى القاهرة حين انتقل أبي، وفي أي مدرسة تعلَّمت، وأي الأصدقاء صادقت، وهكذا؟

إن من يستطيع سرد هذه الحوادث كلها هو على كل حال خيرٌ ممن لا يستطيع، لكن أين هو من الأدب القصصي كما يريده الفن الرفيع؟

إنه لا فن بغير اختيار، ثم لا فن بغير عَضْوَنة المادة المختارة في مخلوقاتٍ جديدة، وإنما تتحقَّق هذه العَضونة عن طريق الصورة التي أخلعها على مجموعة الحوادث المختارة، بحيث يتكوَّن منها كائنٌ واحد ذو طابعٍ نفسي خاص، وعندئذٍ يكون الأديب قد انتقل من البعد الأول إلى البعد الثاني في أشخاص قصته.

إن سؤالًا يُسأل أحيانًا عن الشخصية القصصية، ما هي؟ أهي فردٌ منفرد بخصائصه التي لا تتكرَّر في سواه، أم هي نمطٌ يتشابه فيه عددٌ كبير من الناس؟

والجواب على ذلك هو كالجواب على سؤالٍ أوجِّهه إليك عن فلان: كيف تراه؟

فتُجيب قائلًا: أراه غايةً في الذكاء، لكنه يستخدم ذكاءه في الشر.

فلو سألتك بعدئذٍ سؤالًا آخر: أيكون فلان هذا فردًا أم يكون نموذجًا للرجل الذكي حين يستخدم ذكاءه في الشر، فبماذا تُجيب؟

ألست تقول في بساطة الصدق إنه فردٌ متفرد؛ لأنه فلان الفلاني وليس سواه، لكنه في الوقت نفسه ينتمي إلى صنفٍ معيَّن من الناس؟

إن ما قد جعله فردًا مُتفردًا بصفاته، ثم جعله في الوقت نفسه مطبوعًا بطابعٍ يُلحقه بفئةٍ معيَّنة من الناس، هو «الصورة» التي جاءت حوادث حياته في إطارها؛ فالحوادث نفسها بعدٌ أول، والإطار الذي يُمسِكها بعدٌ ثانٍ، وهذا هو بعينه ما يصنعه الأديب في خلق أشخاصه، ولولا الإطار الذي يضمُّ شتيت الحوادث لما كان الشخص صاحب الحوادث «مفهومًا» لنا.

وما أكثر ما يقول الواحد منا عن شخص بعينه إنه لا يفهمه، حين يقصد بذلك أنه وإن يكن قد رأى من حياته جوانب كثيرة ومواقف كثيرة، إلا أنه لم يستطع بعد أن يجد الإطار الذي يضمُّ الكثرة المبعثَرة في وحدةٍ واحدة.

ثم لا يكتفي الأديب العبقري بهذين البعدين إزاء خلقه الأدبي، بل إنه يعلو إلى مرتبةٍ ثالثة، حين يفتح أبصارنا لا على الإطار النفسي وحده، بل يوجِّهها كذلك إلى ما هو فوق ذلك من ينابيع السلوك ومصادره كما تهديه إليها موهبته في إدراك طبائع الناس، لماذا يُقال عن الهندي والأمريكي إنهما ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين اختلافًا أصيلًا؟

إننا قد نجد غليظ القلب هنا وهناك، وقد نجد كريم النفس هنا وهناك، قد نجد من يكدح ليجمع المال هنا وهناك، ومن ينصرف عن حياة الكدح إلى حياة العلم أو الفن هنا وهناك، لكننا مع ذلك حتى حين يتشابه الرجلان في صفة بعينها، نقول — بعد تحليل — إن أحدهما مختلف عن الآخر في وجهة نظره إلى الحياة، لماذا؟ لأننا عندئذٍ نُشير إلى ما هو أعمق من الدوافع النفسية عند الرجلين؛ إذ نُشير إلى القيمة العليا المدسوسة في تفصيلات الحياة؛ فقد تكون القيمة العليا عند الهندي — مثلًا — أنه جزء لا يتجزَّأ من الكون؛ وبالتالي فليس له فرديةٌ قائمة بذاتها، على حين قد تكون القيمة العليا عند الأمريكي هي أن الفرد الإنساني له حقيقةٌ مستقلة تُجابه حقيقة الكون مجابهةَ الذات للموضوع.

قد يكون هذا وقد لا يكون، فلست هنا بصدد القول الذي أتحمَّل تبِعته عما يُميز الثقافة الهندية من الثقافة الأمريكية، ولكنني أقول إن القصَّاص في رسمه لأشخاصه إذا ما كشف خلال سلوك هؤلاء الأشخاص عن المفاتيح الدفينة لكل سلوك فإنما يبلغ بهذا بعدًا ثالثًا؛ وبذلك تتكامل لخلقه الفني أبعاده الثلاثة؛ فكثرة من حوادث أولًا، وإطارٌ نفسي يضمُّها في شخصٍ واحد ثانيًا، وأساسٌ أولي عميق تنبني عليه كل تفصيلات الحياة ثالثًا.

في هذه الدرجات الثلاث نُلاحظ أن الأعلى يفسِّر الأدنى، وأن الأدنى بغير الأعلى يظل غير مفهوم؛ فالدوافع النفسية التي نؤلِّف منها إطارًا يصبُّ الشخص الواحد في كائنٍ واحدٍ متصل، تُفسر حوادث الحياة التفصيلية، وبغيرها تظل هذه الحوادث غير مفهومة لنا.

وكذلك يظل الإطار النفسي غير مفهوم حتى تجد له ما يُفسره من العناصر الرئيسية في ثقافة البلد أو العصر الذي يعيش فيه الشخص المعيَّن.

إنني لأستعرض الآن في ذهني طائفةً من أصدقائي، فأراهم من حيث طرائق سلوكهم في الموقف الواحد مختلفين أبعد ما يكون الاختلاف؛ فهذا يستخفُّ بنفس الشيء الذي يهتمُّ له زميله، وذلك جادٌّ حيث يهزل زميله.

ثم أحاول أن أنفُذ خلال هذا السلوك الظاهر إلى حيث الدوافع النفسية، فيَهُولني — إذا لم أكن مُخطئًا في التحليل — أن أجد مزاح مازح منهم ينبثق من مَعينٍ يتدفَّق مرارةً في باطنه، على حين أجد مزاح آخر لا ينطوي في دخيلة نفسه إلا على سخرية بما في عالم الأشياء من مُتناقضات دون أن يُضمِر ما يُضمِره الأول من حقد وضغينة إزاء الناس، لكني أعلو فوق هذه الدوافع النفسية التي تختلف فيما بينهم، فأجدهم جميعًا يرتدُّون إلى أصلٍ أصيل لعله هو الذي يجعل منهم فئةً مُتشابهة من أصدقاء، وهو الطيبة التي لا تُصيب أحدًا بأذًى، ولو مسسنا في شخص ذلك الأصل الأصيل في بنائه الثقافي، فقد كشفنا فيه عما يصحُّ تسميته بفلسفة الحياة عنده.

٣

والدعوى التي أدَّعيها مُتمنيًا أن أجد من يُبين لي وجه الخطأ فيها، هي أن أدباء القصة عندنا يوشِكون ألا يُجاوزوا البعد الأول، وهو مستوى الحوادث في جريانها، ثم لا شيء بعد ذلك.

وأول قصة تَرِد إلى خاطري في هذا الصدد هي قصة «الأرض» للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، والحق أني قد قرأتها منذ حين ليس بالقصير؛ فتفصيلاتها باهتةٌ شاحبة في ذاكرتي، لكنني ما أزال أذكُر أثرها العام في نفسي ذكرًا يُبيح لي أن أتخذها مثلًا لما أقول.

فلا شك أن لهذا الأديب قدرةً فنية تستوقف النظر بالنسبة إلى مُحيطنا الأدبي؛ فله العين المُبصرة التي تقع على الخبرة الحية في تعيُّنها وتفرُّدها، وله اللمسة التي يُبرز بها الجانب الإنساني من موضوعه واضحًا جليًّا، حتى الطبيعة إذا ما مسَّها بقلمه جعل منها أداةً تزيد من إبراز الجانب الإنساني في أشخاصه؛ إذ هم ينشطون على المسرح الطبيعي الذي يكون قد أعدَّه لنشاطهم، ثم لا شك في أنه استطاع أن يجعل الحركة في حوادث القصة وفي حياة أشخاصها مُتدفقةً بحيث لا تتخلَّلها مناطق رَهْو تسكن فيها دوَّامة الحوادث، أو يقف فيها تيَّار النشاط.

كل هذا حقٌّ أعترف به، لكني أتمنَّى لو قد أشار لي إلى شخصٍ واحد من مجموعة أشخاصه يستطيع أن يقول عنه إنه قد نفَذ خلال سلوكه إلى حيث دوافعه النفسية، بحيث نجد دوافعه تلك طابعًا فريدًا مُميزًا له عن بقية الأشخاص.

إنني حين قرأت هذه القصة أحسست بنفس الدوار الذي يُصيبني وأنا مُقيم في القرية، وهو دوارٌ ينشأ من ملل التكرار؛ فأهل القرية كخلية النحل الواحدة؛ مُتفرقة الآحاد، لكن آحادها تلك متصِلة بمجموعها أوثق اتصال، وهي لا تنفكُّ تدور وهي تطنُّ، وتطنُّ وهي تدور، حتى لا يبقى في ذاكرتك منها إلا طنينٌ مُتشابه.

وقد وُفقت القصة حقًّا في أن تُحيي قارئها في قرية بكل هذه الصفات، لكنها إذ تصف كيف يلتقي الناس بعضهم ببعض، وكيف يتحدَّثون بعضهم إلى بعض، لا أظنُّها قد نجحت في أن تنفُذ بقارئها إلى ما وراء ذلك من «نفوس».

فكاتبها أقرب إلى الاجتماعي الذي يقدِّم نموذجًا من حياةٍ تجتمع فيها طائفة من الناس في ظروفٍ معيَّنة، منه إلى السيكولوجي الذي يبحث في الآلة الدائرة عن عجلاتها وتُروسها.

أحسست وأنا أقرأ القصة أنني لست إزاء أفراد، بل إزاء كل واحد، كأنما هي شجرة يتطلَّع إليها المُتطلع في مجموعها دون أن يقف بنظره عند هذه الورقة من أوراقها أو هذا الفرع من فروعها، لعله يجد فيه أو فيها ما يُميزه من سائر الفروع، ويُميزها من سائر الورق!

نعم، إن ذلك نفسه حسنةٌ تُحسَب للكاتب من إحدى وجهات النظر؛ إذ ربما كانت هذه هي الحياة القروية وما تتركه في نفس ساكنها من أثر.

ولكن هذه الحسنة لا تنفي أنها وقفت بصاحب القصة عند مستوى الحوادث لا يكاد يَعدُوها، حتى رجل الدين في القصة ترى عقيدته تنساب وكأنها هي الأخرى لغطٌ من اللغط الدائر، وسَمرٌ من السَّمر.

قصة «الأرض» مُحاكاة للطبيعة، وإلى هذا الحد قد أصابت، ثم أفلت منها بعد ذلك ما لم يكن يجوز أن يُفلت من الفنَّان الأصيل، وهو «الصورة» أو الإطار الذي يخلعه على تلك العجينة لكي تتخذ شكلًا مفهومًا، ودَعْ عنك أن يعلو فوق هذا الإطار نفسه ليُبين مفاتيح السلوك في المصري القروي الصميم. وإن شئت فقل إنها قصةٌ تُروى عما يدور في «الشعور»، لكنها تترك «اللاشعور» مُقفَل الأبواب والنوافذ، أو بعبارةٍ أخرى، إن كاتب القصة قد عرف نفرًا من الناس جيد المعرفة، وحكى عنهم، لكنه لم يستطع أن يعرف فيهم «الإنسان» في كل مكان وزمان.

هذا مَثلٌ واحد أسوقه من أدبنا القصصي؛ لا لأني أقصده لذاته، بل أسوقه لأوضِّح به ادِّعاءً أدَّعيه، وهو أن أديب القصة عندنا يأخذ حَفنةً من مجرى الحوادث، ثم لا يضرب بفأسه ليستخرج ما وراء الحوادث من عناصر تبلغ بالثمار حد النضج والكمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤