الفصل السادس

التطعيم: إدوارد جينر وحالِبة اللبن ومرض الجُدَري

يسهم البنسلين والسلفانيلاميد وغيرهما من الأدوية المضادة للبكتيريا في إنقاذ حياة ملايين البشر كل يوم. (لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع، انظر الفصل الرابع والعشرين.) ولكن ربما لعب الأثر الوقائي للتطعيم، وهو اكتشاف عرضي آخر، دورًا مهمًّا في إنقاذ حياة المزيد من البشر من خلال وقايتهم من الإصابة بالأمراض.

حتى القرن التاسع عشر، كان مرض الجُدَري من الأمراض الخطيرة التي تُودي بحياة أعداد كبيرة من البشر، ولم يكن يتساوى معه في درجة الخطورة ونسبة الوفيات إلا مرضَا الطاعون والملاريا. عرضنا (في الفصل الثالث) كيفية مكافحة مرض الملاريا باستخدام مادة الكينين والعقاقير المُصنَّعة المضادة للملاريا، وأوضحنا أن المبيدات الحشرية مفيدة أيضًا في القضاء على أنواع البعوض التي تحمل المرض. أما عن الطاعون، فقد أُحكِمت السيطرة عليه أخيرًا في الدول المتقدمة من خلال مراعاة الأصول الصحية والوقائية بعد أن اكتُشِف أن المرض ينتقل عن طريق البراغيث الموجودة على الجرذان.

fig7
شكل ٦-١: إدوارد جينر يرى ندبات بسبب جُدَري البقر على يد سيدة تعمل في مجال حلب الألبان.
يرجع الفضل إلى إدوارد جينر في «ما قدَّمه إلى العالم من لقاحٍ أنقذ ملايين البشر من موت محقق بسبب مرض الجُدَري، وملايين أخرى من تشوُّه فظيع في شكلهم»، وذلك وفقًا لما كتبه إي إل كومبير في مقاله المنشور عام ١٩٥٧ بعنوان «البحث والسرنديبية وجراحة العظام». أضاف كومبير:

لم يكتشف جينر لقاحَه نتيجةً لعمل طويل ومجهد في المعمل. ففي سن التاسعة عشرة، قالت له سيدة كانت تعمل سابقًا في حلب الألبان إنها لا يمكن أن تصاب بالجُدَري؛ لأنها أُصِيبت من قبلُ بجُدَري البقر، فتذكَّرَ جينر تلك المقولة عندما أدرَكَ لاحقًا بعد أن صار طبيبًا عدم جدوى محاوَلَة علاج مرض الجُدَري. بحث جينر الأمر ووجد أن السيدات اللاتي يعملن في حلب الألبان لا يُصَبن تقريبًا بمرض الجُدَري، حتى عندما يساعِدن في تمريض المصابين بالمرض. وواتته فكرةُ تطعيم المرضى بمادة مستخلصة من بثور جُدَري البقر حتى يقيهم من الإصابة بمرض الجُدَري الأكثر خطورةً. وكانت هذه سرنديبية حقيقية؛ ففكرة أن الإصابة بمرض جُدَري البقر تعطي مناعةً ضد الإصابة بالجُدَري واتته دون بذل جهد من جانبه. ولكن كل ما هنالك أنه كان لديه الإدراك السليم الذي مكَّنَه من إدراك قيمة تلك الفكرة والاستفادة منها.

وُلِد إدوارد جينر في بيركلي، جلوسترشير في عام ١٧٤٩، وكان ابنًا لكاهن إنجليزي مات بينما كان جينر في السادسة من عمره. تربَّى بمساعدة أخ أكبر له، وتلقَّى تعليمه المبكر في المدارس المحلية حيث أظهر اهتمامًا كبيرًا بالتاريخ الطبيعي، وبدأ دراسته للطب على يد دانيال لودلو، وهو جرَّاح من سادبيري، بالقرب من بريستول. وفي ذلك الوقت، ألهمته سيدة تعمل في حلب الألبان بفكرة وجود علاقة بين جُدَري البقر والجُدَري.

عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره، انتقل إلى لندن ليتتلمذ على يد طبيب شهير يُدعى جون هانتر. عاش في منزل هانتر لمدة عامين، واستعان به السير جوزيف بانكس في تجهيز وتنظيم العينات الحيوانية التي كان بانكس قد جمعها في رحلة كابتن كوك البحرية الأولى في عام ١٧٧١. وعُرِضتْ عليه وظيفة اختصاصي تاريخ طبيعي في رحلة كوك الثانية، لكنه رفض ليتابع ممارسته للطب في بيركلي ولاحقًا في تشيلتنم. كان مهتمًّا بعلم الطيور والجيولوجيا والموسيقى وكتابة الشعر، ولكن بحلول عام ١٧٩٢ قرَّرَ أن يقصر اهتمامه بصفة أساسية على الطب، ومُنِح درجة الماجستير من جامعة سانت آندروز.

في تلك الأثناء، لا بد أن فكرة التطعيم كانت قد اختمرت في ذهنه؛ فبينما كان في لندن ذكر العلاقة بين جُدَري البقر والجُدَري لهانتر، لكنه لم يُبْدِ اهتمامًا كبيرًا بها. وفي عام ١٧٧٥، بدأ جينر دراسة اعتقاد أهل الريف في جلوسترشير عن جُدَري البقر، وبحلول عام ١٧٨٠ كان قد اكتشف وجود نوعين مختلفين من جُدَري البقر، ونوعًا واحدًا فقط من الجُدَري تتوافر الوقاية منه. واكتشف أيضًا أن الشكل الفعَّال من جُدَري البقر لم يكن يقي من الإصابة بالجُدَري إلا عندما يُنقَل إلى المريض في مرحلة معينة من الإصابة بالمرض.

ونظرًا لأنه لم تكن لديه حالات إصابة عديدة بجُدَري البقر في منطقته، لم تكن لديه فرصة كبيرة لاختبار نظرياته. فرسَمَ يدَ سيدة تعمل في حلب الألبان على يدها بثور (أو حويصلات أو ندوب) بسبب الإصابة بجُدَري البقر، وأخذها إلى لندن لعرضها على الأطباء هناك، ولكنهم لم يفهموا المغزى من أفكاره. لكن في مايو ١٧٩٦، حقن صبيًّا عمره ثمانية أعوام يُدعَى جيمز فيبس بمادة مستخلصة من بثور جُدَري البقر من يد سيدة تعمل في حلب اللبن. وفي شهر يوليو التالي، تم حقن الصبي بعناية بمادة خاصة بالجُدَري، وكما توقَّعَ جينر: لم يُصَبِ الصبي بالجُدَري.

إنَّ المرء ليتساءل متعجبًا كيف أقنع جينر الصبي ووالدَيْه بخوض تلك المخاطرة؟! ربما كان مرض الجُدَري متفشيًا في المنطقة في تلك الفترة. طُرح تفسيرٌ ممكن لذلك في مقال عن المناعة في موسوعة «إنسيكلوبيديا بريتانيكا» (طبعة ١٩٦٢، مجلد ١٢، صفحة ١١٦)، نصه كالتالي: «قبل اكتشاف لقاح الجُدَري في عام ١٧٩٦، كان الناس يخضعون للتطعيم ضد مرض الجُدَري عن طريق حقنهم بمادة تُؤخَذ من الطفح الجلدي لأشخاصٍ مصابين بالمرض. وكان بعض الأشخاص الذين يخضعون لهذا التطعيم يُصابون بالمرض، ولكن نظرًا للخوف الشديد من الإصابة بهذا المرض كان الكثير من الناس يفضِّلون الاحتمالَ الأقل للموت من جراء التطعيم عن الإصابة بالشكل الطبيعي المميت الأكثر احتمالًا.»

كانت النتيجة الإيجابية التي توصَّلَ إليها مع فيبس مشجِّعةً جدًّا لجينر، لكنه انتظر إلى حين إجراء تجربة ثانية قبل الإعلان عن اكتشافه. وتم هذا بعد عامين لأن مرض جُدَري البقر اختفى بصفة مؤقتة في جلوسترشير.

بعد نجاح التطعيم الثاني بمرض جُدَري البقر وما تبعه من الوقاية من الإصابة بمرض الجُدَري، أعَدَّ جينر نشرةً للإعلان عن اكتشافه، لكنه قرَّرَ الذهاب إلى لندن أولًا ثم تكرار التجربة هناك، لكن في لندن ولمدة ثلاثة أشهر لم يجد شخصًا يمكن أن يخضع للتجربة. ولكنه ما إن عاد إلى موطنه، حتى أجرى هنري كلاين — وهو أحد الأطباء البارزين في مستشفى سانت آندروز في لندن — عدة تجارب تطعيم ناجحة، وأخبر المجتمع الطبي هناك بمدى فاعلية الوقاية من مرض الجُدَري باستخدام لقاحٍ من جُدَري البقر.

مع ذلك، تأخَّرَ القبول العام لنجاح إجراء التطعيم الخاص بجينر؛ وذلك نظرًا لتحدِّيَيْن مختلفين؛ أولًا: النقد الشديد الذي تعرَّضَ له من جانب جرَّاح بارز يُدعَى جيه إنجينهاوس، وانحياز البعض ضده لفترة من الوقت. ثانيًا: سعى طبيب متهور يُدعَى جورج بيرسون إلى أن ينسب الفضل إلى نفسه في تطوير اللقاح دون معرفةٍ أو خبرة كافية، وقدَّمَ مادة تطعيم ملوَّثة تسبَّبَتْ في ظهور حالات طفح جلدي عديدة تُشبِه تلك الخاصة بمرض الجُدَري. أثبت جينر أن لقاح بيرسون كان ملوَّثًا، وانتشرت أخبار نجاح مادة لقاح جُدَري البقر النقية على مستوى العالم.

انهال التكريم في النهاية على جينر، وذلك كما يتضح من خلال القائمة التالية: تأسيس جمعية جينر الملكية في عام ١٨٠٣ للنشر الصحيح للقاح جينر في لندن، وحصول جينر على درجة الماجستير الفخرية من جامعة أكسفورد عام ١٨١٣، والاحتفال بالذكرى السنوية لأول عملية تطعيم ناجحة (التي أُجرِيت على الصبي جيمز فيبس) لعدة سنوات كعيد في ألمانيا، وحصول جينر على منحة من وزير الخزانة في إنجلترا قدرها ٢٠ ألف جنيه، ومَنْح الهند مبلغ ٧٣٨٣ جنيهًا له، وعمل تمثالٍ لجينر في جلوسترشير ولندن. كما قيل إن نابليون قد أمر بنفسه بإطلاق سراح أسيرين إنجليزيين عندما قيل له إن جينر توسَّطَ من أجل إطلاق سراحهما، وقال: «إننا لا يمكن أن نرفض أيَّ طلب لهذا الرجل.»

تعقيب

لم يستخدم جينر كلمة «تطعيم» vaccination ولكن «الحقن بالمادة المستخلصة من بثور جُدَري البقر» variolae vaccinae. ولمدة قرن تقريبًا، كان التطعيم باستخدام لقاح جينر المستخلص من بثور جُدَري البقر الإجراءَ الوحيد للتحصين ضد أي مرض.

في عام ١٨٨٠، طوَّرَ لوي باستير تطعيمًا للدواجن ضد شكل من أشكال مرض الكوليرا، الذي كان وباءً دمَّرَ ١٠٪ من الدواجن الفرنسية. فقد عزل نوعًا من البكتيريا من هذا المرض، وعن طريق زرع شكل مُوهَّن منها وتطعيم دواجن المزرعة به، حصَّنَها ضد الهجمات الشرسة للمرض. وكان هذا مُشابِهًا تمامًا، من حيث الفكرة، لتطعيم جينر المستخلص من جُدَري البقر؛ الذي يُوهَّن فيه فيروس الجُدَري في البقرة قبل نقله إلى السيدة التي تعمل في حلب اللبن في شكل جُدَري بقر.

تحوَّلَ باستير بعد ذلك إلى مرض الجَمْرة الخبيثة، وهو مرض يصيب الماشية والأغنام، وفي عام ١٨٨١ عزل باستير البكتيريا العصوية. وزرع تلك البكتيريا في درجة حرارة أعلى من درجة حرارة جسم الحيوان لإنتاج مادة تطعيم تُحدِث هجمة متوسطة من مرض الجَمْرَة الخبيثة في الحيوان وتُكسِب هذا الحيوان مناعةً لبعض الوقت ضد أية هجمة عنيفة من المرض. واقترح باستير إطلاق كلمة vaccination على الإجراء العام للتطعيم الوقائي (والمشتقة من كلمة variolae vaccinae التي استخدمها جينر) تقديرًا منه «للجهود والخدمات الجليلة التي قدَّمَها جينر الذي يُعَدُّ أحدَ أعظم العلماء الإنجليز.»

بعد ذلك بأربعة أعوام، طوَّرَ باستير لقاحًا للمرض الذي يُسمَّى داء الكلَب في الحيوانات و(أحيانًا) رُهابَ الماء في البشر. ونظرًا لعمل باستير الرائد الذي اعتمد على الاكتشاف السرنديبي الذي قام به جينر؛ أصبح التطعيم علمًا مفيدًا جدًّا، ومهَّد الطريق لإحداث ثورة في التعامل مع الأمراض المُعدية. ولا يوجد إسهام آخَر غير هذا — باستثناء اختراع المضادات الحيوية — له أثر عميق على صحة البشر. يرى دبليو آر كلارك في كتابه «الأسس التجريبية لعلم المناعة الحديث» (١٩٨٦) أن «أهم إنجازات عملية التطعيم» هو القضاء نهائيًّا على مرض الجُدَري. ففي النصف الأول من القرن العشرين، كانت حصيلة الوفيات سنويًّا من هذا المرض تتراوح ما بين مليونَيْ وثلاثة ملايين شخص، وقد سُجِّلت آخِر حالة إصابة بالجُدَري في الولايات المتحدة في عام ١٩٤٩، وكانت آخِر حالة إصابة في العالم في الصومال في عام ١٩٧٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤