الفصل السابع

اكتشاف العناصر الكيميائية

معظم الاكتشافات المبكرة في الكيمياء تقع ضمن نطاق السرنديبية الحقيقية، أو على الأقل السرنديبية الوهمية؛ لأنه لم تكن توجد أُسُس يُبنى عليها التخطيطُ لعمليات البحث.

كان أسلاف الكيميائيين، وهم الخيميائيون، يسعون إلى تحويل أشياء أخرى — على رأسها المعادن الأساسية — إلى ذهب. وجرَّبوا كلَّ طريقةٍ وإجراءٍ ومحاولةٍ ممكنة للقيام بهذا التحويل. ومع أنهم لم ينجحوا قطُّ في ذلك، فقد فعلوا ما في وسعهم لإقناع معاصريهم بأنهم نجحوا في هذا الأمر.

«العناصر»، بالنسبة إلى الخيمائيين، هي النار والهواء والأرض والماء. أما الآن، فمعلومٌ لنا أنه يوجد ما يزيد عن مائة صورة من أبسط صور المادة التي نسمِّيها «عناصر»، وأن هذه هي المكونات الأساسية للكون، وبعض تلك العناصر متاح بكثرة والبعض الآخَر نادر. تتكوَّن قشرة الأرض (حتى عُمْق ١٠ أميال تقريبًا) بصفة أساسية (٩٩٫٥٪) من ١٢ عنصرًا، وتشكِّل خمسة عناصر منها أكثر من ٩١٪، وهي حسب الترتيب التنازلي: الأكسجين، والسليكون، والألمونيوم، والحديد، والكالسيوم. إذا ضممنا المحيطات والغلاف الجوي، فسنجد أن الهيدروجين والنيتروجين ضمن أكثر العناصر وفرةً (يمثل الهيدروجين ١١٪ من تركيب الماء، ويمثل النيتروجين ٧٦٪ من تركيب الهواء).

سُمِّيت العصور التاريخية على اسم المادة الأساسية التي كانت تُصنَع منها الأدوات والمعدَّات في كل عصر، منها: العصر الحجري والعصر البرونزي والعصر الحديدي. البرونز هو مزيج (سبيكة) من النحاس والصفيح، ويحوي أحيانًا كميات صغيرة من فلزات أخرى. النحاس والصفيح متاحان على نطاق واسع، وعند صهرهما معًا، يكوِّنان مزيجًا أقوى من كلٍّ منهما على حدة. يقاوم النحاس والصفيح ومزيجهما التآكُلَ بسبب الهواء والماء؛ مما يجعلها موادَّ مفيدة لصنع الأدوات والأسلحة وأواني الطهي وغيرها من الأشياء الأخرى. أما النحاس الأصفر؛ فهو مزيج من النحاس والزنك، وهو معروف منذ عدة قرون. وأخيرًا، مزيج الحديد والصلب (وهو خليط من الحديد والكربون وبعض الفلزات الأخرى)، الذي يتم الحصول عليه بصعوبة أكبر، وبالتالي لم يظهر إلا في وقت أحدث.

يعد الألومنيوم أكثرَ الفلزات انتشارًا ووفرةً، ولكنه أقلها استخدامًا؛ نظرًا لصعوبة الحصول عليه في صورته الخام، فهو لا يوجد في حالته الحرَّة أو «العنصرية»؛ لأنه متفاعل جدًّا كيميائيًّا، فهو يرتبط بعناصر أخرى، على عكس النحاس والفضة والذهب. وفي المقابل، فإن ثبات الذهب والفضة يسمح لهما بالوجود في حالتهما العنصرية والاحتفاظ ببريقهما أكثر من معظم المعادن الأخرى.

لعبت المصادفة دورًا رئيسيًّا في اكتشاف بعض العناصر الأقل شيوعًا في الحالة العنصرية أو الموجودة فقط في حالة مركبة مع عناصر أخرى، بما في ذلك أكثر العناصر وفرةً، وهو الأكسجين.

(١) الأكسجين

يرجع الفضل في اكتشاف الأكسجين إلى كلٍّ من الإنجليزي جوزيف بريستلي، والسويدي كارل فيلهلم شيله. اكتشف شيله الأكسجين قبل بريستلي بأكثر من عام، ولكنه لم يعلن عن نتائج أبحاثه إلا بعد أن أعلن بريستلي في عام ١٧٧٤ عن تجربته ووصف خصائص «الهواء» الجديد غير العادية على حد تعبيره. وهكذا يُنسَب الفضل على نحوٍ أكبر إلى بريستلي في هذا الاكتشاف.

كان جوزيف بريستلي رجلًا غير عادي. وُلِد في عام ١٧٣٣ في فيلدهيد بالقرب من ليدز بإنجلترا، وتربَّى في كنف عائلة كلفنية متماسكة، وتأهب كي يصبح قسيسًا، لكن أفكاره الليبرالية سرعان ما جعلته يُنظَر إليه كمهرطق ليس فقط من قِبَل الكنيسة الأنجليكانية ولكن أيضًا من جانب الكلفنيين. ومع ذلك، في عام ١٧٦٧ عندما كان في الرابعة والثلاثين من عمره، أصبح بريستلي كاهنًا لرعية منشَقَّة صغيرة في ليدز. وأثناء تلك الفترة، كان أيضًا أمينَ مكتبة ومرافِقًا أدبيًّا لإيرل شيلبورن وأحد الوزراء التابعين لويليام بيت.

fig8
شكل ٧-١: جوزيف بريستلي (١٧٣٣–١٨٠٤).

في إحدى رحلاته المتكررة إلى لندن، التقى بريستلي وبنجامين فرانكلين الذي أيقظ فيه اهتمامه بالعلوم وأصبح صديق عمره. بدأ بريستلي العمل دون تركيز كبير في الكيمياء، التي أصبحت بعد ذلك هوايته التي تستحوذ على معظم وقته وجهده. وكان تجريبيًّا ذا قدرات كبيرة في الملاحظة، لكن خلفيته العلمية كانت معدومة؛ لذلك فإن النتائج التي توصَّلَ إليها في تجاربه كانت في بعض الأحيان غير صحيحة وفي الغالب غريبة.

عاش بريستلي بجانب مصنع جعة في ليدز، وأصبح شغوفًا بطريقة عمله، خاصةً الغاز الذي كان يطفو فوق السوائل المُخمَّرة. ووجد أن هذا «الهواء» — كما سمَّاه — يُطفِئ نشارة الخشب المشتعلة التي كان يضعها بجانب السائل، وأن مزيج الغاز والدخان الذي كان يتسرَّب عبر جوانب الوعاء الضخم «يهبط إلى الأرض». ومن خلال هذه الملاحظة، استنتج أن الغاز (الذي كان ثاني أكسيد الكربون) أثقل من الهواء العادي، وتعلَّمَ كيف يُحضِّر هذا الهواء الثقيل في معمل منزله، ووجد أن الماء المذاب فيه له طعم مستساغ ولاذع؛ وهذا كما هو معلوم لجميع مَنْ يستمتعون بطعم المشروبات الغازية وغيرها من أنواع ماء الصودا. وقد حصل بريستلي على ميدالية من الجمعية الملكية عام ١٧٧٣ نظير اختراعه ماء الصودا.

fig9
شكل ٧-٢: العدسة الحارقة التي استخدمها بريستلي.

إن التجارب التي أجراها بريستلي على هذا الغاز أدَّتْ به إلى دراسة غازات أخرى استطاع تحضيرها. في ذلك الوقت، حصل على عدسة مكبِّرة أو «عدسة حارقة» ضخمة، قطرها ١٢ بوصة، والتي يمكن استخدامها لتركيز ضوء الشمس من أجل تسخين مواد إلى درجات حرارة عالية. ومن ابتكارات بريستلي لدراسة الغازات (أو «الأهوية» كما كان يُطلِق عليها) جهازٌ لتجميع الغازات فوق الزئبق؛ كان يضع موادَّ على سطح الزئبق السائل في وعاء زجاجي مغلق، ثم يسخِّنها باستخدام العدسة الحارقة، كانت أية غازات متكوِّنة تتجمع فوق الزئبق الذي لا يذيبها مثلما يحدث في حالة الماء.

كان من بين المواد العديدة التي كان يسخِّنها بريستلي بهذه الطريقة أكسيد الزئبق، الذي سمَّاه «كَلَس الزئبق الأحمر». عندما كان يسخِّن تلك المادة الصلبة الحمراء، كانت تنحل وتُنتِج غازًا عديم اللون فوق الزئبق السائل. اختبر بريستلي هذا الغاز باستخدام لهب شمعة، فوجد أن أغلب الغازات التي كان يُنتجها كانت تطفئ لهب الشمعة. وفي كتابه «تجارب وملاحظات عن أنواع الهواء المختلفة» الذي نشره بعد ذلك، وصف بريستلي ما حدث مع هذا «الهواء» قائلًا:

لكن ما أدهشني على نحو كبير ولست أستطيع التعبير عنه أن الشمعة كانت تضيء في هذا الهواء وكان لهبها قويًّا على نحو ملحوظ … لا يمكنني، بعد مرور كل هذا الوقت، أن أذكر ما كنتُ أهدف إليه من قيامي بهذه التجربة، لكنني أعرف أنني لم أكن أتوقَّع ما توصَّلْتُ إليه … لكن إذا حدث، لأي سبب آخَر، ولم تكن أمامي شمعة مضاءة، فربما لم أكن لأقوم بالتجربة على الإطلاق … إن قطعةً من الخشب المشتعلة الحمراء لمعت فيه … واحترقت بسرعة بالغة … ذُهِلت بشدة لدرجة أنني لم أكن أعرف سبيلًا إلى تفسير ما حدث.

وقال بريستلي في مقدمته لهذا الكتاب:

توفِّر محتويات هذا القسم توضيحًا مُدهِشًا لحقيقة ملحوظة ذكرتها أكثر من مرة في كتاباتي الفلسفية، والتي نادرًا ما تتكرر كثيرًا، حيث إنها تميل على نحو كبير إلى تشجيع عمليات الاستكشاف الفلسفية؛ فهي ترجع أكثر إلى ما نسمِّيه المصادفة، التي تعني — إذا تحدَّثنا من الناحية الفلسفية — ملاحظةَ أحداثٍ تنشأ لأسباب غير معلومة، ولا تستند إلى أي تخطيط محدَّد أو نظرية متصوَّرة سلفًا في هذا المجال.

بالنسبة إليَّ، أعترف بصراحة أنني، في بداية التجارب التي سأعرضها في هذا القسم، كنت بعيدًا كلَّ البُعْد عن تكوين أية فرضية تؤدِّي إلى الاكتشافات التي قمتُ بها بعد أدائي لها، لدرجة أن تلك الاكتشافات كانت ستبدو غير مقبولة بالنسبة إليَّ إذا أُخبِرت بها، وعندما انهالت عليَّ الحقائق الدامغة في النهاية، استسلمتُ ببطء شديد وبتردُّدٍ بالغ للأدلة التي تقدِّمها لي حواسي.

سرعان ما اكتشف بريستلي أن هواءه الجديد كان سيُبقِي أيَّ فأر على قيد الحياة لمدة تزيد بمقدار الضِّعف عما لو استنشق كميةً مماثلةً من الهواء العادي. واستنشق هو أيضًا هذا الهواء الجديد وقال:

لم يكن شعوري به في رئتي مختلفًا عن شعوري بالهواء العادي، لكن أتصوَّر أنني شعرت تحديدًا بخفةٍ وراحةٍ في صدري، استمرت لبعض الوقت بعد ذلك. وربما يتحوَّل هذا الهواء النقي بمرور الوقت إلى نوعٍ من الرفاهية التي يُقبِل عليها الناس. وحتى الآن، فقد حصلتُ أنا وفأران على ميزة استنشاقه.

بعد شهرين، أرسل بريستلي بالنتائج التي توصَّلَ إليها إلى الكيميائي الفرنسي الشهير أنطوان لوران لافوازييه، الذي أعاد تجارب بريستلي وأجرى مزيدًا من الدراسات على الغاز الجديد، فأثبتَ أن هذا الغاز هو مكوِّن الهواء العادي الذي يتَّحد مع الفلزات عند تسخينها في الهواء. وقد اعترف به كعنصر جديد، وفي عام ١٧٧٨ اقترح له اسم «الأكسجين» (الأصل اللاتيني للمرادف الإنجليزي للكلمة الذي يعني «عامل تكوين الأحماض»؛ لأنه كان يعتقد (خطأً) أن كل الأحماض تحتوي على الأكسجين).

استخدم لافوازييه في البداية مقاييس حسَّاسة لقياس التغييراتِ الحادثة في وزن المواد ونتائج التفاعلات الكيمائية، واستطاع بهذه الطريقة أن يُثبِت أن أكسيد الزئبق عند تسخينه يقلُّ وزنه نظرًا لإطلاق الأكسجين، لكن النقص في الوزن يكون عادةً بقدر وزن الغاز المتصاعِد. وأثبت أيضًا أن العكس صحيح؛ أيْ عند تسخين أيِّ معدن في الهواء، فإن المعدن سيزيد وزنه بمقدارٍ مساوٍ لكمية الأكسجين التي يأخذها من الهواء. وقد اختصر نتائجَ مثل هذه في قانونٍ عُرِف بعد ذلك بقانون حفظ المادة أو بقائها، وهو ينصُّ على ما يلي: المادة لا تفنى ولا تُستحدَث من العدم، وإنما تتغيَّر من صورة إلى أخرى. (نعلم أن هذا القانون يجب تعديله ليتوافق مع تحوُّل المادة إلى طاقة، ويرجع الفضل في هذا إلى أينشتاين وإلى علماء معاصرين آخرين.)

كان اكتشاف الأكسجين من جانب بريستلي بمنزلة الدليل الذي مكَّن لافوازييه من تقديم تفسير صحيح لعملية الاحتراق، وقضى على نظرية «الفلوجيستون» الذي ظلَّ بريستلي يدعمها بإصرار حتى وفاته. وظلَّتْ تلك النظرية سائدة في عالم الكيمياء لمدة مائة عام تقريبًا، على الرغم من أنها على النقيض تمامًا من التفسير الصحيح لعملية الاحتراق. يعني الاحتراق اتحاد الأكسجين مع مواد أخرى وليس اتحاد مادة «الفلوجيستون» الغامضة مع «هواء لا يحتوي على الفلوجيستون»، وهو تعريف بريستلي للهواء الجديد الذي اكتشفه. يعتقد الكثير من العلماء أن الكيمياء الحديثة بدأت مع لافوازييه ونظريته الصحيحة عن الاحتراق وقانون حفظ المادة الذي وضعه.

قام بريستلي بملاحظتين عرضيتين أخريين متعلقتين بالأكسجين. ومع أنه لم يستطع أن يقدم تفسيرًا لهما، فإنه على الأقل سجَّلهما بعنايةٍ بحيث يمكن لآخَرين أن يستفيدوا منهما لاحقًا.

fig10
شكل ٧-٣: رسم كاريكاتوري بريشة جيمز جيلراي يصوِّر بريستلي وهو يطالِب برأس الملك في الاحتفال بيوم اقتحام سجن الباستيل في عام ١٧٩١. وعلى الرغم من أن بريستلي لم يحضر هذا الاحتفال في حقيقة الأمر، تعرَّضَ منزله بعد ذلك للتدمير من جانب العامة.

قبل التجربة التي أنتج فيها الغازَ عن طريق تسخين أكسيد الزئبق باستخدام عدسة مكبِّرة، لاحَظَ بريستلي وجود علاقة بين الاحتراق وتنفُّس الحيوانات وحياة النبات؛ فلاحَظَ أن الهواء الذي احترقَتْ فيه شمعة حتى انطفأت من تلقاء نفسها كان قادرًا على دعم عملية الاحتراق مرة أخرى، والحفاظ على حياة الفئران «بعد نمو نباتات خضراء في الهواء المُستنفَد لبعض الوقت.» وبالتالي، لاحَظَ عملية التنفُّس التي يقوم بها النبات، والتي يستنشق فيها النبات ثاني أكسيد الكربون ويُطلِق الأكسجين، لكن العملية لم تُفهَم وتُركِت لآخرين فسَّروها بعد ذلك بفترة طويلة.

ثمة ملاحظة أخرى قال عنها بريستلي إنها «الأغرب بين كل الاكتشافات غير المتوقَّعة التي [توصَّل] إليها.» لاحَظَ بريستلي أن «مادة خضراء» تتكوَّن على جدران الدوارق التي كان يستخدمها في تجاربه تُطلِق غازًا عند تعرُّضها لضوء الشمس. واكتشف أنه نفس الغاز الناتج عند تسخين أكسيد الزئبق، لكنه لم يكن يعرف أنه أول مَن لاحَظَ إنتاج الأكسجين بفعل عملية «التمثيل الضوئي». تستخدِم تلك العمليةُ الطاقةَ التي توفِّرها الشمس، ثم تمزج بين ثاني أكسيد الكربون والماء، وتنتج مادة عضوية (وهي المادة التي أطلق عليها بريستلي «المادة الخضراء») إلى جانب الأكسجين. وبدون عملية التمثيل الضوئي، لا يمكن أن توجد حياة على الأرض.

تعقيب

واجَهَ بريستلي مشكلات شخصية كبيرة بسبب معتقداته السياسية وآرائه الدينية الليبرالية، التي أعلنها ليس فقط على المذبح ولكن أيضًا في كتاباته. ربما نجا من اتهامات الهرطقة الدينية، ولكنه أعلن على الملأ دعمه للثورتين الفرنسية والأمريكية. ونظرًا لآرائه القوية التي أبداها تجاه هاتين الثورتين؛ أحرَقَ بعضُ العامة كنيسته ومنزله في برمينجهام. وانتقل بأسرته إلى لندن لكنه عانى من الاضطهاد لمدة ثلاث سنوات، حتى سافَرَ بحرًا في النهاية إلى الولايات المتحدة في عام ١٧٩٤.

عند وصوله إلى نيويورك، استقبله بحفاوةٍ حاكمُ الولاية كلينتون وآخرون من الشخصيات المهمة. وكان صيته كرجل دين وعالم وليبرالي قد سبقه إلى تلك المستعمرات، التي تحوَّلت فيما بعد إلى ما يُسمَّى بالولايات المتحدة الأمريكية. عرضت عليه الكنيسة التوحيدية أن يكون قَسًّا بها، كما عرضت عليه جامعة بنسلفانيا أن يصبح أستاذًا لمادة الكيمياء بها، وقد استشاره توماس جيفرسون بشأن تأسيس جامعة فيرجينيا، ودعاه الرئيس جورج واشنطن لتناول الشاي معه.

رفض أن يكون قَسًّا وأستاذًا جامعيًّا، وفضَّلَ أن يعتزل الحياة في مكان هادئ وهو قرية نورثمبرلاند، وهي من أوائل القرى في وسط بنسلفانيا. وقضى هناك آخِر عشر سنوات من حياته يزرع ويُجرِي تجارب في معمل أُنشئ من أجله. ولم يقتنع قطُّ بخطأ نظرية الفلوجيستون، لكنه كان واسِعَ الأفق بالقدر الكافي بحيث يُعلِن أنه ربما يكون مخطئًا. عاش حتى عام ١٨٠٤، ليرى صديقه جيفرسون يُنتخَب رئيسًا لأمريكا.

للأسف، أُنهيت مسيرة لافوازييه الرائعة مبكرًا بإعدامه بالمقصلة في باريس في نفس السنة التي سافَرَ فيها بريستلي إلى أمريكا. أُعدِم لافوازييه على يد الثوَّار (فهو لم يكن كيميائيًّا فقط، ولكنه كان أيضًا جامع ضرائب لأفراد الطبقة الأرستقراطية)، بينما اضطُهِد بريستلي من جانب مناهضي الثورة. لم يقدِّر الفرنسيون ولا الإنجليز هذين العالِمين الجليلين في قمة مسيرتهما العلمية، ولكنهم كرَّموهما بعد موتهما.

(٢) اليود

اليود عنصر مرتبط كيميائيًّا بالكلور، وعند وضعه في محلول كحولي (يُسمَّى «صبغة»)، فإنه يعمل كمطهر. وقد اكتشفه مصادفةً برنار كورتوا.

درس كورتوا الكيمياء، لكنه بعد بضع سنوات من الدراسة والبحث في معهد بوليتكنيك بباريس، قرَّرَ في عام ١٨٠٤ أن يحذو حذو أبيه ويُقِيم مصنعًا للملح الصخري بالقرب من باريس. وازدهر عمله لأن نابليون كان يحتاج إلى الملح الصخري (نترات البوتاسيوم) لصنع الذخيرة. وكان عنصر البوتاسيوم — أحد مكوِّنات الملح الصخري — يُستخرج عادةً من رماد الخشب، بينما تُستخرج النترات من مادة نباتية متحللة.

بينما كان كورتوا يبحث عن مصدر أرخص للبوتاسيوم، وجد مبتغاه في طحلب بحري كان يجرف على الساحل المطِلِّ على المحيط الأطلنطي لفرنسا. فمن وقت إلى آخَر، كانت تظهر رواسب في الخزانات المستخدَمة في استخلاص البوتاسيوم من رماد الطحالب البحرية مما كان يستوجب تنظيفها بالأحماض. وفي أحد الأيام من عام ١٨١١، عندما استُخدِم حمض أقوى من الأحماض العادية في تنظيف الخزانات، حدث مشهد مدهش؛ إذ تصاعدت أبخرة بنفسجية من الخزانات، وترسَّبت بلورات داكنة ذات مظهر لامع كالمعدن في الأماكن التي تلامست فيها تلك الأبخرة مع أسطح باردة. وأدرك كورتوا عندئذٍ أن شيئًا غير عادي قد حدث، فجمع بعضًا من تلك البلورات الغريبة حتى يفحصها.

وجد كورتوا أن تلك البلورات لا تتحد مع الأكسجين لكنها تتحد مع الهيدروجين والفوسفور. ومع النشادر، كوَّنت مُنتجًا قابلًا للانفجار. ونظرًا لضغط العمل ونقص الإمكانيات المعملية، لم يُجرِ كورتوا مزيدًا من الأبحاث على المادة الجديدة، لكنه عهد بالأمر إلى صديقين له في معهد بوليتكنيك بباريس وهما سي ديسورم وإن كليمنت، وقد وصف هذان الكيميائيان المادةَ الجديدة المثيرة المأخوذة من طحلب بحري في ورقة بحثية نُشِرت في ديسمبر ١٨١٣.

في ذلك الوقت، تصادف وجود السير همفري ديفي في باريس فأعطاه كليمنت بعضًا من المادة الغامضة، وعندما سمع بهذا جوزيف لوي جاي-لوساك، الذي كان أحد الكيميائيين الفرنسيين البارزين، لم يكن يرغب في أن يُنسَب إلى رجل إنجليزي الفضل في اكتشافٍ مهمٍّ كهذا؛ لذلك ذهب مباشرةً إلى كورتوا وحصل على عيِّنة من البلورات. وبعد فحص سريع ومكثَّف، أعلن جاي-لوساك عن اكتشاف عنصر جديد، واقترح له الاسم «أيود» iode، المشتق من كلمة لاتينية معناها «بنفسجي». وأكَّدَ ديفي اكتشاف عنصر جديد وأعطاه الاسم «أيودين» iodine، مفضِّلًا إضافة اللاحقة -ine ليجعل الاسم متوافقًا مع اسم عنصر قريب له كيميائيًّا وهو الكلور chlorine، الذي كان قد سُمِّي بهذا الاسم قبله.

لكي نفهم قصة اكتشاف اليود في الطحلب البحري، علينا أن نعرف أن الماء المالح يحتوي على أملاح أخرى بجانب كلوريد الصوديوم، من بينها يوديد الصوديوم ويوديد البوتاسيوم، لكن بكميات أقل كثيرًا. تصبح أملاح اليوديد مركَّزة من خلال عمليات كيميائية حيوية تتم في الطحلب البحري، وعندما يُحرَق الطحلب، يزداد تركيز تلك الأملاح على نحو أكبر. يبدو أن الحمض الذي استخدمه كورتوا في تنظيف الخزانات قد حوَّلَ أملاح اليوديد إلى عنصر اليود الأوَّلي، الذي تحوَّلَ إلى بخار بنفسجي اللون بفعل حرارة التفاعل مع الحمض؛ ثم تكثَّف البخار مباشَرةً إلى شكل بلوري عندما صادف أسطحًا باردة.

مع أن اكتشاف عنصر جديد كان حدثًا مثيرًا بما يكفي في عام ١٨١٣، فإنه لم يلبث أن تم التوصل إلى أحد استخداماته المهمة. ففي عام ١٨٢٠، خمَّنَ جون فرانسوا كوانديت، وهو طبيب في جنيف، أن العنصر الجديد المكتشَف في الطحلب البحري يجب أن يكون نفس المادة الموجودة في رماد الإسفنج، وأنه مفيد في علاج تضخُّم الغدة الدرقية. وبتحليل رماد الإسفنج وجد أنه يشتمل على اليود، واقترح كوانديت أنه يمكن استخدامُ اليود المستخرَج من الطحلب البحري في علاج مرض تضخُّم الغدة الدرقية أو فرط نشاط الغدة الدرقية.

إنَّ تضخُّمَ الغدة الدرقية مرض سببه نقص اليود في النظام الغذائي؛ إذ يحتاج التصنيع الحيوي لهرمون الثيروكسين في الغدة الدرقية إلى اليود. يتحكَّم هذا الهرمون في معدلات العديد من التفاعلات الكيميائية في الجسم؛ فبشكل عام، كلما زاد معدل هذا الهرمون، زادت سرعة الجسم في القيام بعملياته، وفي حالة وجود نقص في اليود في النظام الغذائي للفرد، ستحاول الغدة الدرقية تعويض هذا النقص بالتضخم لإنتاج المزيد من هذا الهرمون؛ ومن ثمَّ يظهر مرض تضخُّم الغدة الدرقية. لا يظهر هذا المرض غالبًا في الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من البحر؛ لأنهم يحصلون على الكمية الكافية من اليود من المصادر البحرية. ومن الشائع الآن إضافة كميات صغيرة من يوديد الصوديوم إلى الملح العادي (كلوريد الصوديوم)؛ لمنع الإصابة بهذا المرض في الأشخاص الذين يعيشون بعيدًا عن البحر.

(٣) الهليوم والغازات الخاملة

لم يُكتشَف الهليوم على الأرض وإنما على الشمس! كان هذا الاكتشاف الذي تمَّ في عام ١٨٦٨ قبل فترة طويلة من السفر عبر الفضاء، وكان اكتشافًا عرضيًّا.

اخترع عالمان ألمانيان، هما الكيميائي روبرت فيلهلم بُنسن والفيزيائي جوستاف روبرت كيرشهوف، جهازًا بصريًّا يُسمَّى منظار التحليل الطيفي في جامعة هايدلبِرج عام ١٨٥٩. يمكن لهذا الجهاز إنتاج طيف من الخطوط الضوئية (سلسلة من الخطوط اللامعة على خلفية داكنة، تكون مميزة لكل عنصر من حيث لون وعدد كل خط من هذه الخطوط والمسافة الفاصلة بينها) عندما يتم تسخين العنصر حتى درجة التوهُّج. وباستخدام هذا الجهاز، اكتُشِف عنصران جديدان في «عائلة الصوديوم» في الجدول الدوري، وهما السيزيوم والروبيديوم، في عامَيْ ١٨٦٠ و١٨٦١.

سافَرَ بيير جانسين، رئيس مرصد الفيزياء الفلكية في مودو بفرنسا، إلى الهند لرصد ظاهرة كسوف الشمس والتقاط صور لها في ١٨ أغسطس ١٨٦٨. وفي أكتوبر، سجَّلَ جيه نورمان لوكيَّر — أستاذ الفيزياء الفلكية في الكلية الملكية للعلوم بلندن — أطيافَ غازاتٍ لامعة تحيط بالشمس، باستخدام تلسكوب خاص سمح بتسجيل هذا في غياب كسوف الشمس. لاحَظَ خطوطًا طيفية تشير إلى وجود الهيدروجين ضمن المجموعة الهائلة من الغازات التي تصدر عن الشمس، ورأى أيضًا خطين أصفرين كان من المعروف عنهما أنهما خاصان بالصوديوم. لكن كان ثمة خط ثالث ليس خاصًّا بأي عنصر معروف؛ فخلص إلى أنه ربما ينتمي إلى عنصر موجود ضمن الغازات المحيطة بالشمس ولكن ليس معروفًا على الأرض. نقل هذه النتيجة إلى الجمعية الملكية في نفس اليوم الذي توصَّلَ إليها فيه، في ٢٠ أكتوبر من عام ١٨٦٨. وبعد ثلاثة أيام، نقل وارن دي لا رو ما توصَّلَ إليه لوكيَّر إلى الأكاديمية الفرنسية للعلوم.

في تلك الأثناء، درس جانسين الأطيافَ التي سجَّلَها في الهند في ١٨ أغسطس، ووجد نفس الخط الأصفر الجديد، وقد نقل ما توصَّلَ إليه إلى الأكاديمية الفرنسية عن طريق رسالة بالبريد في ٢٠ أكتوبر، بعد دقائق قليلة من وصول رسالة لوكيَّر التي أرسلها دي لا رو. أثار هذا مشكلةً في معرفة مَنْ يُنسَب إليه الفضل في هذا الاكتشاف؛ فقد كانت ملاحظة جانسين سابقة على ملاحظة لوكيَّر، لكن لوكيَّر نقلها قبل جانسين. لكن بدلًا من أن يتنازَع الفلكيان على مَن له الأسبقية في الاكتشاف، أصبحا صديقين مقرَّبين، وأصدرت الأكاديمية الفرنسية ميداليةً تحمل اسم كلا العالمين ونبذة عنهما.

استمر لوكيَّر في أبحاثه بمساعدة إدوارد فرانكلاند، أستاذ الكيمياء بجامعة مانشستر، وأصبح مقتنعًا بأن الخط الطيفي الجديد خاص بعنصر جديد، سمَّاه «الهليوم» على اسم الشمس باللغة اللاتينية «هيليوس».

بدأ بعد ذلك البحث عن دليل لوجود الهليوم على الأرض، لكن مرَّ ٢٣ عامًا قبل ظهور أي دليل على ذلك. ففي عام ١٨٩١، لاحَظَ دبليو إتش هيلبراند من هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية طيفَ غازٍ أُنتِجَ بتسخين خام اليورانيوم؛ كان بالأساس خاصًّا بالنيتروجين، لكن لم تكن بعضُ الخطوط في الطيف خاصة بالنيتروجين. وعندما قرأ السير ويليام رامزي ما توصَّلَ إليه هيلبراند، اشتبه في أن الخطوط الطيفية غير المعروفة خاصة بالأرجون، وهو عنصر غازي خامل ونادر كان قد اكتشفه هو واللورد رايلي في الهواء قبل عام واحد. وقد حصل على نوع آخَر من خام اليورانيوم وعالَجَه بالطريقة نفسها التي حصل بها هيلبراند على عينته؛ فوجده غاز الأرجون كما توقَّعَ، لكنه وجد خطًّا أصفر إضافيًّا لم يكن خاصًّا بالنيتروجين أو الأرجون.

اعتقد في البداية أن الخط خاص بالكِربتون (وذلك كما سُمِّي لاحقًا)، وهو غاز خامل آخَر توقَّعَ أنه مرتبط بالأرجون؛ لكن عندما أرسل عينات من الغاز إلى لوكيَّر والسير ويليام كروكس لإجراء مزيد من القياس الطيفي الدقيق، أكَّدَا أن طول موجة الخط الأصفر هو نفسه طول الهليوم الموجود في الغلاف الجوي للشمس؛ فأرسل رامزي مراسلات فورية إلى الجمعية الملكية البريطانية والأكاديمية الفرنسية للعلوم مُعلِنًا عن اكتشاف الهليوم على الأرض في ٢٦ مارس من عام ١٨٩٥. حصل رامزي على جائزة نوبل في الكيمياء في عام ١٩٠٤ لاكتشافه الأرجون والهليوم (على الأرض) وغيرهما من الغازات النادرة، ثم اكتشف الكربتون والزينون والنيون بين عامَيْ ١٨٩٥ و١٨٩٨، مالئًا عمودَ الصفر في الجدول الدوري بالعناصر من عائلة الهليوم.

إن عمود الصفر في الجدول الدوري هو مكان العناصر النادرة أو الخاملة في الجدول الذي تُرتَّب فيه العناصر حسب العدد الذري والتشابهات المتكررة أو «الدورية». وعادةً ما يُنسَب الفضلُ إلى الكيميائي الروسي ديميتري مندليف في تصميم الجدول الدوري للعناصر، لكنه كان يعتقد أن العناصر الموجودة في عمود الصفر غير قادرة على الاتحاد مع عناصر أخرى (أي أنها عناصر عديمة القدرة الاتحادية، أو ذات قيمة تكافؤ تساوي صفرًا)؛ إلا أنه من المعروف الآن أنه حتى هذه العناصر من الممكن أن تتحد مع عناصر أخرى، ولكن ليس بسهولة.

في عام ١٩٠٤، كان الهليوم غازًا نادرًا، لكن في عام ١٩٠٥، بدأ الوضع يتغيَّر. دخلت السرنديبية الصورةَ مرة أخرى، فاكتُشِف بئر غاز طبيعي بالقرب من ديكستر في كانساس وضُخَّ الغاز إلى مولِّد بخاري لاستخدامه كوقود. لكن ما أثار دهشة الجميع أن الغاز لم يحترق. وعند تحليله من قِبَل العلماء في جامعة كانساس، وجدوا أنه نيتروجين في المقام الأول، لكن المدهش أنه احتوى على حوالي ٢٪ هليوم. بعد ذلك، وُجِد أن الغازات المستخرَجة من العديد من الآبار الأخرى في تكساس ونيو مكسيكو ويوتا والعديد من المقاطعات الكندية تحتوي على كميات ضئيلة من الهليوم. ويوجد الآن مصدر كبير للهليوم في المنطقة التي تضم ٢٦ مقاطعة والتي توجد في شمال تكساس بالقرب من أمريلو. ومع أن نسبة الهليوم ضئيلة (حوالي ١٫٨٪)، فإن حجم الغاز في هذا الحقل كبيرٌ جدًّا، لدرجة أنه يُعَدُّ المصدر الرئيسي للهليوم في العالم.

تعقيب

fig11
شكل ٧-٤: كارثة منطاد هيندنبرج؛ اشتعل الهيدروجين بفعل البرق. وبعد استبدال الهليوم بالهيدروجين في الطائرات، لم يَعُدْ من الممكن تكرارُ مثل هذه الكوارث.

بدايةً من أوائل القرن العشرين، طوَّرَ الألمان سفنًا جوية صلبة أخف من الهواء تُسمَّى مناطيد زبلين، نسبةً إلى مَن صمَّمها وهو الكونت فرديناند فون زبلين. اعتمدت تلك السفن الجوية على الهيدروجين كقوة رافعة، وكانت تُستخدَم للاستطلاع والهجوم بالقنابل في الحرب العالمية الأولى، ولخدمة نقل الركَّاب التجارية في ثلاثينيات القرن العشرين، وقد انتهى استخدامها بكارثة الاحتراق المذهلة لمنطاد نقل الركَّاب هيندنبرج أثناء هبوطه في ليكهرست بنيو جيرسي في عام ١٩٣٦، وكان يُعتقَد أن السبب هو أن كهرباء الغلاف الجوي كانت تشعل الهيدروجين. وكان المفقودون الذين بلغوا ٣٦ شخصًا أول الخسائر البشرية في تاريخ الطيران التجاري.

تمَّ لاحقًا في ألمانيا تصميم منطاد مماثل وتعديله من أجل العمل بالهليوم، لكن الوضع الدولي المتوتِّر أدَّى بالولايات المتحدة — التي كانت تحتكر إنتاج الهليوم — إلى رفض تصدير الهليوم.

أثناء الحرب العالمية الثانية، استخدمت الولايات المتحدة «مناطيد مراقبة» غير صلبة للقيام بمهام مضادة للغوَّاصات وأخرى خاصة بمراقبة الشواطئ. وكانت القوة الرافعة يتم الحصول عليها بالكامل من الهليوم، الذي يملك ٩٣٪ من القوة الرافعة المعروفة عن الهيدروجين، ولا ينطوي على خطر اندلاع حريق؛ لأن الهليوم غاز لا يشتعل ولا يساعد على الاشتعال.

أدَّى تطوير الطائرات الحديثة التي هي أثقل من الهواء إلى اختفاء تلك التي هي أخف من الهواء والمستخدَمة في نقل الركَّاب، لكننا جميعًا نتذكَّر ذلك العنصرَ العجيب الذي اكتُشِفَ على نحو سرنديبي تمامًا على الشمس، ثم لاحقًا على الأرض، كلما رأينا منطاد «جوديير» يحوم حول استاد كرة قدم؛ حيث إنه يوفِّر منصة مدهشة للكاميرات التليفزيونية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤