الفصل الرابع

أبقراط والمدرسة الأبقراطية١

HIPPOCRATES

أبقراط هو — بلا نزاع — من أعظم أطباء العالم في التاريخ، وقد سماه العرب «أبو الطب»، ورفعوا نسبه إلى عائلة أسقلبيوس، ولا يتردد ابن أبي أصيبعة الذي خصَّص له ترجمة طويلة في تاريخه أن يشير إلى ما كان عليه من «التأييد الإلهي».

وُلِدَ أبقراط في جزيرة «قوص» وهي جزيرة صغيرة من الجزائر اليونانية في القرن الخامس ق.م (حوالي ٤٦٠)، وكان الطب في هذا الزمن لا يزال في أيدي أناس تنقصهم الروح العلمية، كثيرًا ما يلجئون إلى السحر والشعوذة مستغلين سذاجة المرضى، وكان أبقراط متضلعًا في العلوم الطبيعية فأدخل الطب في إطار علمي، مستعملًا الفحص الإكلينيكي clinical observation والاستنتاج المنطقي السليم.
وقد بنى علاجه على بعض مبادئ يمكننا أن نحصرها في النقط الثلاث الآتية:
  • أولًا: مبدأ الحيوية vitalism: يعتقد أبقراط أن هناك عنصرًا خاصًّا غير مادي يحيا به الجسد هو النفس psyche، وهو بمثابة نسيم عابر ينقرض بانقراض الجسد، وهذا المبدأ الحيوي صدًى للآراء الروحية السائدة في ذلك الزمن.
  • ثانيًا: مبدأ الأخلاط humorism: المبني على الاعتقاد بأن الأشياء مكوَّنة من الأربع العناصر الأساسية: الحار والبارد والرطب واليابس، فالجسم الإنساني مزيج متناسب من الدم والبلغم والصفراء، فإذا امتزجت هذه العناصر امتزاجًا محكمًا في الكيفية والكمية وكان الامتزاج متناسبًا تمتَّع الجسد بصحة جيدة وهو حالة الكرازيس crasis (أي الامتزاج)، ولكن إذا زاد أحد العناصر أو نقص أو امتنع من الامتزاج بالعناصر الأخرى حدثت الأمراض dyscrasis، وأكثر الأمراض ناجمة من ازدياد في البرودة أو الحرارة.

    وهناك تماسك وتضامن في أعضاء الجسم ووظائفه، فإذا مرض عضو أثر على الجسم كله.

  • ثالثًا: المبدأ الطبيعي naturism: أي محاكاة الطبيعة في المعالجة، لقد تحقَّق أبقراط بالملاحظة أن هناك طبائع لا تتغير ذات صفات ثابتة، ولكل مرض تطور طبيعي ونضوج محدود السير والمصير، وهناك مبدأ بسيط واحد في ذاته متعدد بمفعوله هو الطبيعة، وهذا المبدأ يشرف على جميع الوظائف الحيوية ويقاوم العوامل الهدامة للجسم، وعلى الطبيب أن يساعد هذه الطبيعة لكي تقوم بعملها، فلا بد له من أن يعرف البُحْران أو الحومة crisis، وهي النقطة الفاصلة في المرض التي تؤذن بالاتجاه نحو التحسن أو التفاقم، كما أن يعرف الأيام الحاسمة، فالقوة الطبيعية الشافية vis medicatrix naturae هي حجر الزاوية في الطب الأبقراطي؛ ولذا يجب على الطبيب أن يكون حذرًا وألا يتسرع في التدخل في سير المرض خوفًا من أن يحول دون عمل الطبيعة، ولكن إذا حدث تأخر في ظهور البحران فعليه أن يساعد إزالة المواد السقيمة بواسطة الفصد أو الأدوية المقيثة أو المسهلات.
ولقد وصف أبقراط وصفًا دقيقًا بعض الأمراض مثل السل والتشنج النفاسي eclampsia والصرع والحميات المختلفة، وفي وصفه المشهور الطلعة الأبقراطية facies hippocratca أشار بدقة إلى العاملات التي تنذر بالموت المقترب، وقد وصف بدقة ٤٢ حالة مرضية و٢٥ منها مصيرها الموت.

وقد ظل علم الجراحة الأبقراطي في بعض أقسامه لا يصارع حتى أواخر القرن الثامن عشر.

ومن أنبل مميزات أبقراط سمو أخلاقه في مهنته كطبيب، فظل قسمه المشهور رمزًا للأخلاق الطبية الراقية وارتفاعها عن الاندماج في الشبهات التجارية. وها هو هذا القسم (الذي سماه العرب: عهد أبقراط):

(١) عهد أبقراط The oath of Hippocrates٢

إني أُقْسِم بالله رب الحياة والموت وواهب الصحة وخالق الشفاء وكل علاج، وأقسم بأسقلبيوس وأقسم بأولياء الله من الرجال والنساء جميعًا على أنِّي أفي بهذه اليمين وهذا الشرط، وأرى أن المعلم لي هذه الصناعة بمنزلة آبائي، وأواسيه في معاشي، وإذا احتاج إلى مال واسيته وواصلته من مالي، وأما الجنس المتناسل منه فأرى أنه مساوٍ لإخوتي، وأعلمهم هذه الصناعة إن احتاجوا إلى تعلمها بغير أجرة ولا شرط، وأُشْرك أولادي وأولاد المعلم لي والتلاميذ الذين كتب عليهم الشرط وحلفوا بالناموس الطبي في الوصايا والعلوم وسائر ما في الصناعة، وأما غير هؤلاء فلا أفعل به ذلك، وأقصد في جميع التدبير — بقدر طاقتي — منفعة المرضى.

وأما الأشياء التي تضر بهم وتدني منهم بالجور عليهم فأمنع منها بحسب رأيي.

ولا أعطي إذا طُلِبَ مني دواء قتَّال، ولا أشير أيضًا بمثل هذه المشورة، وكذلك أيضًا لا أرى أن أُدْني من النسوة فرزجة تسقط الجنين، وأحفظ نفسي في تدبيري وصناعتي على الذكاء والطهارة.

ولا أشق أيضًا عمن في مثانته حجارة، لكن أترك ذلك إلى مَنْ كانت حرفته هذا العمل.

وكل المنازل التي أدخلها إنما أدخل إليها لمنفعة المرضى وأنا بحالة خارجة عن كل جور وظلم وفساد إرادي مقصود إليه في سائر الأشياء وفي الجماع للنساء والرجال الأحرار منهم والعبيد.

وأما الأشياء التي أعاينها في أوقات علاج المرضى أو أسمعها، أو في غير أوقات علاجهم في تصرف الناس من الأشياء التي لا يُنطق بها خارجًا، فأمسك عنها وأرى أن مثالها لا يُنْطَق به.

فمن أكمل هذا اليمين ولم يفسد منه شيئًا كان له أن يكمل تدبيره وصناعته على أفضل الأحوال وأجملها، وأن يحمده جميع الناس فيما يأتي من الزمان دائمًا، ومن تجاوز ذلك كان بضده.

(٢) مؤلفات أبقراط

كتب أبقراط عددًا كبيرًا من المقالات الطبية، ونسب إليه تلاميذه عددًا أكبر من مؤلفات كتبوها بأنفسهم ولكنهم استوحوها من مبادئ أستاذهم الكبير ورئيس المدرسة الطبية التي اشتهرت باسمه، وقد كونت هذه المقالات العديدة ما سماه مؤرخو تاريخ الطب «المجموعة الأبقراطية» Cropus hippocraticum، ويتراوح عدد كتبها بين ٧٢ و٧٦ كتابًا في ٥٣ موضوعًا وقد نشرت نشرة علمية وتُرْجِمَت إلى اللغات العربية والإنجليزية والألمانية.٣

وكان لهذه المجموعة شأن كبير عند أطباء العرب، فترجموا معظمها مع تفسير جالينوس لها في الغالب: إما ترجمة مباشرة إلى العربية أو بواسطة السريانية، ويقول ابن أبي أصيبعة في هذا الصدد: «والذي انتهى إلينا ذكر ووجدناه من كتب أبقراط الصحيحة يكون نحو ثلاثين كتابًا، والذي يُدْرس من كتبه لمن يقرأ صناعة الطب إذا كان درسه على أصل صحيح وترتيب جيد اثنا عشر كتابًا، وهي المشهورة من سائر كتبه.» وسنكتفي بذكر هذه الكتب الاثني عشر مع مختصر مضمونها:

(٢-١) كتاب الأجنَّة On the fœtus

  • المقالة الأولى: تتضمن القول في كون المني.
  • المقالة الثانية: تتضمن القول في كون الجنين.
  • المقالة الثالثة: تتضمن القول في كون الأعضاء.

(٢-٢) كتاب طبيعة الإنسان On the nature of man

وهو يتضمن في طبائع الأبدان ومن أي شيء تركَّبت (مقالتان).

(٢-٣) كتاب الأهوية والمياه والبلدان On airs, waters and places

  • المقالة الأولى: كيف تتعرف أمزجة البلدان وما تولد من الأمراض البلدية؟
  • المقالة الثانية: كيف تتعرف أمزجة المياه المشروبة وفصول السنة وما تولد من الأمراض البلدية.
  • المقالة الثالثة: كيفية ما يبقى من الأشياء التي تولد الأمراض البلدية كائنة ما كانت.

(٢-٤) كتاب الفصول The Aphorisms

وهو سبع مقالات ضمنه تعريف جمل الطب لتكون قوانين في نفس الطبيب يقف بها على ما يتلقاه من أعمال الطب، وهو يحتوي على جمل ما أودعه في سائر كتبه.

(٢-٥) كتاب تقدمة المعرفة The Book of Prognostics

ثلاث مقالات وضمَّنه تعريف العلامات التي يقف بها الطبيب على أحوال مرض في الأزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل.

(٢-٦) كتاب الأمراض الحادة Regimen in acule diseases

  • المقالة الأولى: تتضمَّن القول في تدبير الغذاء والاستفراغ في الأمراض الحادة.
  • المقالة الثانية: تتضمَّن المداواة بالتكميد والفصد وتركيب الأدوية المسهلة ونحو ذلك.
  • المقالة الثالثة: تتضمن القول في التدبير بالخمر وماء العسل والسكنجبين والماء البارد والاستحمام.

(٢-٧) كتاب أوجاع النساء

مقالتان ضمنه أولًا: تعريف ما يعرض للمرأة من العلل بسبب احتباس الطمث ونزيفه، ثم ذكر ما يعرض في وقت الحمل وبعده من الأسقام التي تعرض كثيرًا.

(٢-٨) كتاب الأمراض الوافدة ويسمى أبيدمميا On the epidemics

وهو سبع مقالات ضمنه تعريف الأمراض الوافدة وتدبيرها وعلاجها.

(٢-٩) كتاب الأخلاط On the humours

وهو ثلاث مقالات ويتعرَّف فيها كمية الأخلاط وكيفيتها وتقدمة المعرفة بالأعراض اللاحقة بها والحيلة والتأنِّي في علاج كل واحد منها.

(٢-١٠) كتاب الغذاء On the nutriment

وهو أربع مقالات ويُستفاد من هذا الكتاب علل وأسباب مواد الأخلاط، أعني علل الأغذية وأسبابها التي بها تزيد في البدن وتنميه وتخلف عليه بدل ما انحلَّ منه.

(٢-١١) كتاب قاطيطريون أي حانوت الطبيب The Physician’s Establishment

وهو ثلاث مقالات، ويُستفاد من هذا الكتاب ما يحتاج إليه من أعمال الطب التي تختص بعمل اليدين دون غيرها من الربط والشد والجبر والخياطة ورد الخلع والتنطيل والتكميد وجميع ما يحتاج إليه.

(٢-١٢) كتاب الكسر والجبر On fractures

وهو ثلاث مقالات.

(٣) المادة الطبية عند أبقراط

كانت متوفرة، وعدد كبير من الأدوية أصله مصري.

  • المسهلات Purgatives: كمية كبيرة من لبن الأتان أو مغلي الشمام والكرنب وأعشاب أخرى ممزوجة بالعسل، الفرفخ أو لبينة euphorbia peplus والمشبان daphne gnidium.
    وإذا أريد فعل أشد استعمل: الخربق الأسود astrantia major أو زيت الخروع أو الحنظل colocynth.
  • مواد مدرَّة للبول Diuretics: عصير العُنصل scilla، الكرفس، البقدونس، الهليون البري، الشمار foeniculum vulgare، الثوم، الكراث.
  • معرقات Sudorifica: مشروبات ساخنة.
  • دواء نافع للدود Vermifuges: شرد = سرخس dryopteris felix mas
  • المخدرات Narcotics: ست الحسن bel adonna؛ تفاح المجانين (يبروح) mandragora سكران أفيون.
  • مقيئات Emetics: ماء ساخن، خربق أبيض veratrum album زوفا = حسل hyssopum.
  • أدوية قابضة Astringen’s: قشر السنديان أو البلوط، قشر الرمان، دم الثعبان، قاطر dracaena draco ويصف حبوب الخربق لتنظيف الرحم، وحبوب الدحادح لعلاج انسداد في الطحال.
    أعشاب أخرى مستعملة:
    • خرنة = مريمية salvia officinalis.
    • خبيزة malva.
    • جزر الرعاة = دوقس.
    • دخن = الذرة الحمراء milliaceum.
    • كاشن levisticum.
    • أثمار الآس.
    • عصير الرمان وقشره.
    • الكمون.
    • حبوب البرسيم.
    • أدوية للاستعمال الخارج: ماء، خل، زيت زيتون، ضمدات وحقن شرجية ولعلاج الجراحات.
    • مواد دهنية مختلفة في علاج أمراض العيون.
    • مواد معدنية: كبريت أسفالت والشب.
    • مستحضرات يدخل فيها كربونات الرصاص والنحاس والزرنيخ لأمراض الجلد.
    • لبخات: من مسحوق الشعير مغلي في مزيج من النبيذ والزيت من نشارة اللوتس وأوراق التوت الشامس مع ماء العنب الجاف.
    • حقن شرجية: يُغْلَى الكرنب في الماء ثم يُغْلَى في هذا الماء الحلبوب mercurialis ويُضاف بذر كتان.
    • حقن شرجية: قوامها النطرون أو الزيت أو ماء السلق المسلوق أو لبن الأتان المغلي.
    • فتائل (تحميلات suppositories) قوامها العسل ومرارة الثور والأسفلت بالعسل.
    • مرارة الثور وبوله، روث البغل والحمار والبقر.
    • دهن البقر، والإوز والخنزير.
    • قرن الإبل.

ولا تحتوي عادة المستحضرات الأبقراطية على أكثر من ٤ أو ٥ مواد طبية.

(٤) بعد أبقراط

تُوُفِّيَ أبقراط مخلفًا وراءه سلسلة من أطباء تشبَّعوا من مبادئه، ولكن شتَّان بين المعلم وتلاميذه، فعلى ممر السنين فقدت المدرسة الأبقراطية حيويتها واتخذت العناصر القليلة من الفيسيولوجيا الموجودة في مذهبها الطبي أساسًا لتفسيرات طبية منهجية لا تخلو من التصنُّع، فنهضت مدرسة الإسكندرية التجريبية empirical school ضد هذا التيار العقلي المتزمت، وقالت: إنها لا تهتم بعلل الأمراض كما تهتم بعلاجها: «ليس المهم، على قولهم، أن نعرف ماهية الهضم بل ما هو سهل الهضم.»

وقد جُمِعَت الكتب الأبقراطية ورُتِّبت في الإسكندرية، ولكن هاجر بعد ذلك الطب إلى روما التي أصبحت مركز الحضارة.

والذي حقق هذا الانتقال هو أسقلبيوس Asclepius (القرن الأول ق.م) كان طبيبًا ذا شخصية قوية متضلعًا في الطب والفلسفة، وسريعًا ما أصبح الطبيب الرسمي للطبقة الراقية في روما، وكان يعتنق الفلسفة الذرية Atomism  للوقيبوس Leucippus وديمقريطس Democritus وإبيقور Epicurus والتي كان أدخلها إلى روما الشاعر لوكريتوس Lucretius في كتابه «في طبيعة الأشياء» de Rerum Natura، وقد حاول أحد تلاميذ أسقلبيوس التوفيق بين النزعتين المتضادتين فأسَّس المدرسة المنهجية، أشهر ممثل لهذه المدرسة سورانوس الملقب بالذهبي Soranus of Ephesus (القرن الأول ق.م) وهو مؤسس فن الولادة وأمراض النساء.
وقد وُجِد — حتى قبل المدرسة الأبقراطية — أشخاص في اليونان كانوا يختصون بالأعشاب الطبية، يجمعونها في الوقت المناسب ويخزنونها ويبيعونها، وكانوا يسمون «العشابين» Rhizotomoi وكثيرًا ما كانوا يعالجون المرضى بأنفسهم، وقد واصلوا تجارتهم أثناء رواج المدرسة الأبقراطية وبعدها.
وأول مَنْ كتب عن الأعشاب — طبية كانت أم غير طبية — هو ثاوفرسطس Theophrastus «أبو علم النبات» (٣٧٢–٢٨٥ق.م) وكان تلميذ أفلاطون وصديق أرسطو، وكتاب ثاوفرسطس «البحث في النبات» لم يُتَرْجم إلى العربية قط.
وأول من اختص بالأعشاب الطبية هو ديسقوريدس Dioscorides فيجب أن ندرسه بشيء من التطويل.
١  انظر تاريخ العلم لجورج سارتون، الترجمة العربية، ج٢، القاهرة، ١٩٥٩م، الفصل الثالث عشر: الطب اليوناني في القرن الخامس وطابعه الأبقراطي، ص٢١٥–٣٤٥.
٢  منقول من عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة، ج١، ص٢٥.
٣  انظر في ثبت المصادر البيانات عن هذه الترجمات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤