الفصل الثامن

أبو بكر الرازي

ABU BAKR AL-RAZI

(١) حياته – أخلاقه

وُلِدَ أبو بكر محمد زكريا الرازي الملقَّب بجالينوس العرب حوالي عام ٨٦٤م في الري بالقرب من طهران، وكان الري من أقدم مدن إيران وقد ذكرتها الأفستا من الأرض الطيبة التي خلقها الإله أهورا مزد.

وقد شُغِفَ في بدء حياته بالموسيقى، وكان يعزف العود بمهارة، ثم انكبَّ على دراسة الفلسفة وألَّف فيها كتبًا عديدة، غير أنه ذهب مذهبًا منحرفًا عن الحقيقة فاسْتُهْدِف للنقد الشديد من بعض المؤرخين حتى قال القاضي صاعد في كتابه «التعريف بطبقات الأمم»: «إن الرازي لم يوغل في العلم الإلهي ولا فهم غرضه الأقصى، فاضطرب لذلك رأيه وتقلَّد آراء سخيفة وانتحل مذاهب خبيثة وذم أقوامًا لم يفهم عنهم ولا اهتدى سبيلهم.»١ ولا غرابة في هذا الحكم وقد اشتهر الرازي بتعصُّبه الشديد للعقل مبالغًا في قوته قاطعًا بأنه المرجع الأول والأخير في كل شيء.٢
ولحسن الحظ لم تؤثر هذه الآراء السخيفة لا في أخلاقه ولا في نشاطه العلمي، أما أخلاقه فقد شهد له معاصروه بسموها، فجاء في ترجمته في عيون الأنباء: «وكان كريمًا متفضلًا بارًّا بالناس حسن الرأفة بالفقراء والأَعِلَّاء حتى كان يُجْرِي عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم.»٣ وفي نص آخر: «كان الرازي ذكيًّا فطنًا رءوفًا بالمرضى مجتهدًا بعلاجهم وفي برئهم بكل وجه يقدر عليه.»٤
أما نشاطه العلمي فقد جعله من أعلم أطباء عصره وأمهرهم، وقد أثار اهتمامه بالطب تردده على المستشفيات (وكانت تُدْعَى حينذاك بالبمارستانات) والتحدث مع كبار صيادلتها وأطبائها ومعاينة المرضى، وقد وصف البيروني هذا النشاط خير وصف عندما قال عنه: «وكان دائم الدرس شديدًا لأتباعه، يضع سراجه في مشكاة على حائط يواجهه، مسندًا كتابه إليه؛ كيما إذا غلبه النعاس سقط الكتاب من يده فأيقظه ليعود إلى ما هو عليه.»٥ ويقول ابن أبي أصيبعة ناقلًا عن أحد معاصريه: «ولم يكن يفارق المدارج وما دخلت عليه قط إلا ورأيته ينسخ إما يسود أو يبيض.»٦ ولكثرة انكبابه على الكتب والقراءة على أنوار القناديل ضعف بصره، واختتم أمره بالعمى ونزل الماء في آخر عمره على عينيه، وقد اعتراه في آخر عمره شيء من اليأس وعدم الاكتراث من الحياة، وفي ذلك يقول البيروني: «وزاره في طبرستان منتسب إلى تلامذته ليعالجه، فسأله عن كيفية مداواته إياه فقصَّ القصة، وقال أبو بكر (الرازي): «أشهد أنك أوحد القداحين وأعلم الكحالين، ولكنك تعلم أن هذا الأمر لا يخلو من آلام تعافها النفس ومشاق طويلة المدة يملها الإنس، ولعل العمر قد قصر والأجل قد قرب، فقبيح بمثلي أن تؤثر في صبابته الآلام والمتاعب على الراحة، فانصرف مشكورًا على ما نويته وسعيت فيه».»٧ وفي رواية أخرى رواها ابن أبي أصيبعة جاء: «وعمي في آخر عمره بما نزل في عينيه، فقيل له: «لو قدحت؟» فقال: «لا، قد نظرت من الدنيا حتى مللت.» فلم يسمح بعينيه للقدح.»٨

ولم تطل أيامه بعد مرضه، وتُوُفِّيَ بالري سنة ٣١٣ﻫ/٩٢٥م وقد استوفى من السنين اثنتين وستين على وجه التقريب.

وفي أوج نشاطه أصبح كبير أطباء مستشفى الري حيث مارس المهنة محاطًا بتلاميذه وتلاميذ تلاميذه، وكان إذا قدم مريض فحصه التلاميذ، وإذا عصى عليهم تشخيص المرض قدموا إليه المريض، وكان الرازي رئيس أطباء مستشفى بغداد.

(٢) مأثور كلامه في الطب٩

وقد ذكر له ابن أبي أصيبعة بعض الكلام؛ قال:

«الحقيقة في الطب غاية لا تُدْرَك، والعلاج بما تنصه الكتب دون إعمال الماهر الحكيم برأيه خطر.»

«الاستكثار من قراءة كتب الحكماء والإشراف على أسرارهم نافع لكل حكيم عظيم الخطر.»

«العمر يقصر عن الوقوف على فعل كل نبات في الأرض، فعليك بالأشهر مما أُجْمِعَ عليه ودع الشاذ، واقتصر على ما جربت.»

«مَنْ لم يُعْنَ بالأمور الطبيعية والعلوم الفلسفية والقوانين المنطقية، وعدل إلى اللذات الدنيائية فاتهمه في علمه لا سيما في صناعة الطب.»

«متى اجتمع جالينوس وأرسطاطاليس على معنى فذلك هو الصواب، ومتى اختلف صعب على العقول صوابه جدًّا.»

«الناقهون من المرض إذا اشتهوا من الطعام ما يضرهم فيجب على الطبيب أن يحتال في تدبير ذلك الطعام وصرفه إلى كيفية موافقة ولا يمنعهم ما يشتهون بتة.»

«ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبدًا الصحة ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس.»

«الأطباء الأميون والمقلدون والأحداث الذين لا تجربة لهم ومَنْ قلَّت عنايته وكثرت شهواته قتَّالون.»

«ينبغي للطبيب أن لا يدع مسألة المريض عن كل ما يمكن أن تتولَّد عنه علته من داخل ومن خارج ثم يقضي بالأقوى.»

«ينبغي للمريض أن يقتصر على واحد ممن يوثق به من الأطباء فخطؤه في جنب صوابه يسير جدًّا.»

«من تطبب عند كثيرين من الأطباء يوشك أن يقع في خطأ كل واحد منهم.»

«متى كان اقتصار الطبيب على التجارب دون القياس وقراءة الكتب خُذِلَ.»

«ينبغي أن تكون حالة الطبيب معتدلة لا مقبلًا على الدنيا كلية ولا معرضًا عن الآخرة كلية فيكون بين الرغبة والرهبة.»

«بانتقال الكواكب الثابتة في الطول والعرض تنتقل الأخلاق والمزاجات.»

«إن استطاع الحكيم أن يعالج بالأغذية دون الأدوية فقد وافق السعادة.»

(٣) مؤلفاته

كان الرازي غزير التأليف لا في الطب وحده بل في شتى الفنون والمعارف، حتى إن البيروني صنَّف رسالة لإحصاء عناوين هذه المؤلفات مع تبويبها وسمَّاها «في فهرست كتب الرازي»، ويحتوي هذا الثبت على المؤلفات الآتية:١٠
  • ٥٦ مقالة في الطب.

  • ٣٣ في الطبيعيات.

  • ٧ في المنطق.

  • ١٠ في الرياضيات والنجوميات.

  • ٧ التفاسير والتلاخيص.

  • ١٧ في الفلسفة.

  • ٢٠ في ما وراء الطبيعة والإلهيات.

  • ٢٣ في الكيمياء.

  • ١١ في مواضيع شتى.

ونقتصر على ذكر أهم هذه الكتب وأكثرها انتشارًا.

(٣-١) كتاب في الحصبة والجدري

ومن أشهر مؤلفاته المبتكرة كتابه في الجدري variola, small-pox والحصبة measles، وهو أول كتاب من نوعه في هذا الموضوع، وقد ميَّز الرازي بين المرضين ووصف بدقة مميزاتهما وتشخيصهما، وهو يلحُّ في الإشارة إلى أهمية الفحص الدقيق للقلب والنبض والتنفس والبراز عند مراقبة تطور المرضى.
وقد لاحظ أن ارتفاع الحرارة يساعد على انتشار الطفح eruption، كما أشار إلى وسائل وقاية الوجه والفم والعين وتجنب الندوب الكبيرة big scars.
وقد تُرْجِمَ هذا الكتاب إلى اللاتينية تحت عنوان De Peste أو de Pestilentia وطُبِعَ في البندقية سنة ١٥٦٥م.
ويقول نيوبرجر Neuberger أحد مؤرخي الطب: «وهذا الكتاب — ولا ريب — أنفس الكتب الطبية التي صنَّفها العرب، وله في تاريخ علم الأوبئة أعظم منزلة من جهة أنه أقدم بحث عن الجدري، هذا إلى أنه يكشف لنا عن الرازي معالجًا دقيقًا نزيهًا يكاد يتحرَّر من الآراء التعسفية مقتفيًا في علاجه أثر أبقراط.»

وأهم كتبه جميعًا هما: الحاوي والمنصوري.

(٣-٢) كتاب الحاوي

أما كتاب الحاوي فهو أضخم مجموعة طبية موجودة عند العرب، ولم يُطْبَع هذا الكتاب في أصله العربي ويقع في ٢٤ جزءًا، ولكن لسوء الحظ لا توجد منه نسخة كاملة، والأجزاء الاثنا عشر الباقية مبعثرة في مكاتب أوروبا، ولا شك أن الكتاب — لضخامته وثمنه الباهظ — كان نادر الوجود، ومن المرجح أنه لم يكن يوجد منه في العصر الوسيط إلا نسختان في العالم الإسلامي كله.

وقد أجمع مؤرخو الرازي أنه لم يتم هذا الكتاب بنفسه، ولكن تلاميذه هم الذين أكملوه، وقد تَرْجَم الحاوي إلى اللاتينية في صقلية أو في نابولي فرج بن سالم Farraguth للملك شارل دانجو Charles d’Anjou، وقد مضى في ترجمته حياته كلها وانتهى منها سنة ١٢٧٩م، وطُبِعَ في بريشيا Brescia في شمال إيطاليا سنة ١٤٨٦م، وهو أضخم الكتب التي طُبِعَت بعد اختراع المطبعة مباشرة Incunabilia، وقد طُبِعَ مرارًا في القرن السادس عشر غير أن نسخه نادرة جدًّا، وفي الطبعة اللاتينية قُسِّم الحاوي إلى ٢٥ جزءًا أو كتابًا واسم الترجمة اللاتينية هو Continens.
وتتجلَّى في صفحات «الحاوي» مهارة الرازي ودقة ملاحظاته وغزارة علمه وقوة منطقه في استخراج النتائج من معطيات البحث الإكلينيكي، وقد ورد في كتب مثل كتاب الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي أو «جهتامقاله» لنظامي العروضي حكايات مشوقة لبعض حالات مرضية صعبة استطاع الرازي بذكائه أن يشفي المريض.١١

ونجد في كتاب الحاوي صفحات نقلت لنا بعض ما كان الرازي يدوِّنه بدقة عند فحصه للمرضى لمتابعة المرض وعوارضه والوصول إلى تشخيصه بدقة، وقد نشر الدكتور مايرهوف هذه الصفحات بعد تحقيقها، وترجمها إلى الإنجليزية مصحوبة بملاحظات قيِّمة خاصة تشخيص المرض، ونختار — على سبيل المثال — بعض هذه «الحالات» وهي خير دليل على قوة الملاحظة عند الرازي وغزارة علمه الطبي:

(1) renal abscess, perforating into the renal pelvis.

كان يأتي عبد الله بن سوادة حميات مخلطة تنوب مرة في ستة أيام ومرة غب ومرة ربع ومرة كل يوم، ويتقدَّمها نافض يسير، وكان يبول مرات كثيرة، فحكمت أنه لا يخلو أن تكون هذه الحميات تريد أن تنقلب ربعًا، وإما أن يكون به خراج في كلاه، فلم يلبث إلا مديدة حتى بال مدة، فأعلمته أنه لا تعاوده هذه الحميات وكان كذلك، وإنما صدَّني في أول الأمر على أن أبتَّ القول بأن به خرَّاجًا في كلاه أنه كان يحم قبل ذلك حمى غب وحميات أخر، فكان للظن بأن تلك الحمى المخلطة من احتراقات تريد أن تصر ربعًا موضع قوي، ولم يشكُ إليَّ أن قطنه شبه ثقل معلق منه إذا قام وأغفلت أنا أيضًا أن أسأله عنه، وقد كان كثرة البول يقوي ظني بالخراج في الكلى، إلا أني كنت أحكم أن أباه أيضًا ضعيف المثانة يعتريه هذا الداء، وهو أيضًا قد كان يعتريه في صحته فينبغي أن لا نغفل بعد ذلك غاية التقصي إن شاء الله، ولما بال المدة أكببت عليه بما يدرُّ البول حتى صفا البول من المدة ثم سقيته بعد ذلك الطين المختوم والكندر ودم الأخوين، وتخلَّص من علته وبَرَأَ برءًا تامًّا سريعًا في نحو من شهرين، وكان الخُرَّاج صغيرًا، ودلَّني على ذلك أنه لم يشكُ إليَّ ابتداء الثقل في قطنه لكن بعد أن بال مدة قلت له: «هل كنت تجد ذلك؟» قال: «نعم.» فلو كان كبيرًا لقد كان يشكو ذلك، وإن المدة نقيت سريعًا فدل على صغر الخراج، فأما غيري من الأطباء فإنهم كانوا بعد أن بال أيضًا لا يعلمون حاله البتة.

(4) Aortic Regurgitation.

جاءني رجل يشكو إليَّ خفقان فؤاده، فوضع يدي على ثديه اليسار، فأحسست بشريانه الأعظم ينبض نبضًا لم أرَ مثله قط عظمًا وهولًا، ثم مدَّ يده اليسار ليريني باسليقه فإذا شريانه ينبض في نابض العضد نبضًا أعظم ما يكون ظاهرًا للحس جدًّا يشيل اللحم حتى يعلو وينخفض دائمًا شيلًا قويًّا ظاهرًا، وزعم أنه فصد الباسليق، فلم ينتفع به، وإنه إذا أكل أشياء حارة نفعه، فتحيرت في أمره مدة، ثم أشرت عليه بعد أن بان لي بدواء المسك، وقدَّرت في هذا الرجل أن حاله في النبض حال أصحاب الربو في النفس، فإن هؤلاء على عظم انبساط صدورهم ما يدخلها من الهواء إلا قليل.

(8) An ophtalmia or acute, purulent conjunctivitis.

هاج برجل معنا في طريقنا حين قدمنا — وهو أبو داود الذي كان يقود الحمار — رمد، فلما بدأ أشرت عليه أن يفتصد، فلم يفعل واحتجم وأخذ دواءً كان معه فقطره في أذنه قدر أوقية وأسرف وأنا أنهاه على ذلك أشد النهي حتى ضجرت ولم يقبل مني، فلما كان من غد ذلك اليوم اشتدَّ الأمر به حتى لم أرَ رمدًا أشد منه قط، وخفت أن تنشقَّ طبقات عينه وتسيل؛ لأنه لم يتبين من القرني شيء إلا مقدار العدسة لعلو ورم الملتحم، فلما أجهده الأمر فصدته وأخرجت له ثلاثة أرطال من الدم وأكثر من ذلك في مرتين، ونقيت عينه من الرمض وذررته بالأبيض فنام من يومه، وسكن وجعه وَبَرَأَ من الغد البتة حتى تعجَّب الناس منه.

(21) Haemoptisis.

كان رجل ينفث بالسعال دمًا، فأكل يومًا عصافير مقلية بزيت، فنفث بعده بيوم نحو ثلاثة أرطال دم كدم المحاجم عجر كبار وخيف عليه، ورأيته بعد ذلك سليمًا إلا من السعال الدقيق الذي لم يزل به، وأشرت عليه أن يجعل غذاءه سمكًا سريًّا، فاحتبس منه ما كان ينفث.

(22) Alopecia.

جاءني رجل من أهل داراي الأقوال وبه داء الثعلب في رأسه قدر أصبعين، فأشرت عليه أن يدلكه بخرقة حتى يكاد يدمى ثم أدلكه ببصل، ففعل ذلك وأسرف في ذلك مرات كثيرة فنفط، فأمرت أن يطلى عليه شحم الدجاج فسكن اللذع، ثم تجاوز فنبت شعره في نحو شهر أحسن وأشد سوادًا وتكاثفًا من الأصل.

(٣-٣) كتاب المنصوري

أما الكتاب الثاني فهو كتاب المنصوري، وقد قدَّمه الرازي للمنصور بن إسحاق أحد المحسنين إليه، والكتاب أقل حجمًا من الحاوي لكنه ظفر بشهرة واسعة في القرون الوسطى العربية واللاتينية على السواء.

وهو يحتوي على العشرة أجزاء الآتية:
  • (١)
    المدخل في الطب وفي شكل الأعضاء Introduction, Anatomy.
  • (٢)
    في تعريف مزاج الأبدان وهيئتها والأخلاط الغالبة عليها واستدلالات وجيزة جامعة من الفراسة Temperaments and humours. Physiognomy.
  • (٣)
    في قوى الأغذية والأدوية Forces of foods and of medica-ments.
  • (٤)
    في حفظ الصحة Conservation of health.
  • (٥)
    في الزينة Preservation of beauty.

  • (٦)
    في تدبير المسافرين Hygien of travellers.
  • (٧)
    في صناعة الجبر والجراحات والقروح Surgery.
  • (٨)
    في السموم Poisons.
  • (٩)
    في الأمراض الحادثة من القرن إلى القدم Diseases à from head to foot.
  • (١٠)
    في الحميات Fevers.

(٣-٤) كتاب منافع الأغذية

من خصائص أطباء العرب في القرون الوسطى أنهم كانوا لا يخصصون مجهودهم لمعالجة المرضى فحسب، بل كانوا حريصين أيضًا على أن يبذلوا عنايتهم لحفظ الصحة التي يتمتعون بها، وقد ذكرت لنا الأخبار مرارًا أن الخلفاء كانوا يخضعون — بتواضع غريب — لطبيبهم الخاص الذي كان يلازمهم في تنقلاتهم عندما كان يحرم عليهم تناول طعام من الأطعمة، يحكم أنه ضار بصحتهم، أو عندما يبدي إليهم بنصائح لدرء المفاسد التي تتسلَّط على أجسادهم، وإننا كثيرًا ما نجد بين المؤلفات الطبية للقرون الوسطى رسائل تعرض لدراسة «منافع الأغذية ودفع مضارها» يتناول فيها المؤلف كل ما يتصل بالمأكول والمشروب، وقد ألَّف فعلًا الرازي كتابًا في هذا الموضوع وبهذا العنوان، ونحن نثبت هنا فهرست فصوله لكي يتبين القارئ المسائل الصحية التي كانت تواجه الطبيب في القرون الوسطى:
  • الفصل الأول: في سبب تأليف الكتاب.
  • الفصل الثاني: في منافع الحنطة والخبز المتخذ منها ومضارها وما يدفع به تلك المضار وصنوف الخبز والأوفق منها في حال دون حال.
  • الفصل الثالث: في منافع الماء المشروب … وفي ذكر الثلج والجمد والماء البارد والحار.
  • الفصل الرابع: في منافع الشراب المسكر ومضاره …
  • الفصل الخامس: في الأشربة غير المسكرة.
  • الفصل السادس: في منافع اللحوم ومضارها.
  • الفصل السابع: في القديد والنمكسود.١٢
  • الفصل الثامن: في السمك ومنافعه ومضاره.
  • الفصل التاسع: في أعضاء الحيوان واختلافها وطبائعها ومنافعها ومضارها.
  • الفصل العاشر: في ألوان الطبيخ والبوارد ومنافعها.
  • الفصل الحادي عشر: في الكواميخ والرواصيل والجبن العتيق والشلماب والناراب والقنبيط والزيتون والمخللات ونحوها.
  • الفصل الثاني عشر: منافع اللبن وما يكون منه ويتخذ منه وما يجري مجراه.
  • الفصل الثالث عشر: في البيض والنبرماورد.
  • الفصل الرابع عشر: في البقول التي تحضر المائدة نيئة والمستعملة منها في الطبيخ.
  • الفصل الخامس عشر: في التوابل والأبازير التي تقع في الطبيخ والتي تُسْتَعمل بها ومعها.
  • الفصل السادس عشر: في الفواكه الرطبة وما يجري مجراها.
  • الفصل السابع عشر: في الفواكه اليابسة.
  • الفصل الثامن عشر: في الحلواء.
  • الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي من أجلها يفسد الاستمراء وإن كان الطعام طعامًا جيدًا ومقاومة كل سبب منها ودفعه.

(٣-٥) الرازي والعقاقير الكيميائية: كتاب سر الأسرار

لم يكن الرازي طبيبًا ماهرًا فحسب، بل كان أيضًا كيماويًّا عظيم الشأن مولعًا بالتجارب والبحث وراء أسرار الطبيعة، وقد ورد في عيون الأنباء هذا النص العميق الدلالة في هذا الصدد: «وكان (أي الرازي) في أول أمره قد عُني بعلم السيمياء والكيمياء وما يتعلق بهذا الفن، وله تصانيف أيضًا في ذلك، وكان يقول: «أنا لا أسمِّي فيلسوفًا إلا مَنْ كان قد علم صنعة الكيمياء؛ لأنه قد استغنى عن التكسب من أوساخ الناس وتنزَّه عما في أيديهم ولم يحتج إليهم».»١٣ وذهب ستابلتون Stapelton وهو عالم إنجليزي معاصر درس كتب الرازي الكيميائية درسًا مطولًا إلى القول الآتي: «يجب أن نعتبر الرازي واحدًا من أعظم الباحثين وراء المعرفة الذين عرفهم التاريخ، وليس هو فقط «وحيد عصره وفريد زمانه»، ولكنه بقي بلا ندٍّ حتى بزوغ فجر العلم الحديث في أوروبا عند ظهور غليليو وروبرت بيل.»١٤

ودراسة هذا الجانب من شخصية الرازي تستوجب بحثًا مستفيضًا على حدة، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أهم كتبه في هذا الميدان مع ذكر فصوله ومحتوياته، وهذا الكتاب هو: سر الأسرار، ويشتمل على حد تعبير الرازي «على معان ثلاثة: معرفة العقاقير ومعرفة الآلات ومعرفة التدابير».

(أ) معرفة العقاقير

أما معرفة العقاقير فهي تنصبُّ على معرفة أنواعها الثلاث: وهي الترابية والنباتية والحيوانية، ونحن نلخص في الجدول الآتي هذه الأقسام مع ذكر الاصطلاحات التي نقابلها باللغة الإنجليزية:
  • (أ)
    العقاقير الترابية EARTHLY SUBSTANCES:
    • (١)
      الأرواح SPIRITS:
      • الزئبق Mercury.
      • النوشادر Sal-ammoniac.
      • الزرانيخ Arsenic Sulphide (Orpi-ment and realgar).
      • الكباريت Sulphur.
    • (٢)
      الأجساد BODIES:
      • الذهب Gold.
      • الفضة Silver.
      • النحاس Copper.
      • الحديد Iron.
      • الرصاص Lead.
      • الأسرب Tin.
      • الخار صيني Chinese iron.
    • (٣)
      الأحجار STONES:
      • المرقشيتا Pyrites.
      • المغنيسيا Various dark earthly minerals.
      • الدوحي Iron quenched in water or Iron oxyde.
      • التوتيا Various light-coloured minerals or sublimates in metallurgical operations.
      • اللازورد Probably the Copper ore “Azurite”.
      • الدهننج Green Malachite.
      • الفيروزج Turquoise.
      • الشاذنج Haematite.
      • الشك Arsenic Oxide.
      • الكحل Lead Sulphide.
      • الطلق Mica and Absestos.
      • الجبسين Gypsum.
      • الزجاج Glass.
    • (٤)
      الزاجات VITRIOLS:
      • الزاج الأسود Black vitriol.
      • الشبوب Alums.
      • القلقديس White vitriol.
      • القلقند Green vitriol.
      • القلقطار Yellow vitriol.
      • السوري Read vitriol.
    • (٥)
      البوارق BORACES:
      • بورق الخبز Bread Borax.
      • النطرون Natron.
      • بورق الصاغة Goldsmith’s borax.
      • التنكار Tinkar (both a borax and a salt).
      • البورق الزراوندى Zarawandi borax.
      • بورق الغرب Gum of the Willow or Acacia.
    • (٦)
      الأملاح SALTS:
      • منها ما يوجد في الطبيعة ويستعمل كما هو مثل:
        • الملح الطيب Sweet salt i.e. Common salt (ClNa).
        • الملح المر Bitter salt (possibliy some salt of magnesium).
        • الطبرزد Tabarzad.
        • الداراني Andarani (including a red variety of Rock salt).
        • النفطي Naphtic Salt.
        • الهندي Indian Salt.
        • البيضي Salt of egg (or smelling like a boiled egg).
      • ومنها ما تستخرج من مواد طبيعية مثل:
        • ملح القلي Salt ai-Qali (Sodium car-bonate).
        • ملح البول Salt of urine (NaNH, HPO4).
        • ملح النورة Salt of lime (slaked lime).
        • ملح الرماد Salt of oak ashes (K2CO3).
  • (ب)
    العقاقير النباتية VEGETABLES SUBSTANCE:

    يقول الرازي عنها وعن العقاقير الحيوانية: «وقد قلَّ خوض العلماء فيها وقلَّ استعمالهم لها.»

    وأجل ما استعمل منها: الأشنان السبنجي التي كانت تُحْرَق ويُسْتَعمل رمادها.

  • (جـ)
    العقاقير الحيوانية ANIMAL SUBSTANCES:

    (١) الشعر. (٢) القحف. (٣) الدماغ. (٤) المرارة. (٥) الدم. (٦) اللبن. (٧) البول. (٨) البيض. (٩) الصدف. (١٠) القرون.

وبين العقاقير الترابية يذكر أيضًا الرازي: العقاقير المولدة Derivative or artificial substances، وهي نوعان:
  • (أ)
    أجساد Bodies:
    • (١)
      الشبه Shabah: alloy of 4 parts of Copper and 1 of Lead .
    • (٢)
      الإسفيدروبه Isfid-ruyah: 4 parts of Copper and 1 part of Tin.
    • (٣)
      الطاليقون Taliqun: perhaps a multiple alloy of all the metals.
    • (٤)
      التبرويه Tabruyah.
    • (٥)
      المفرغ Mufragh.
  • (ب)
    غير الأجساد:
    • (١)
      الزنجار Copper acetate.
    • (٢)
      زعفران الحديد Crocus of Iron (Iron Oxide).
    • (٣)
      الإقليميا Anything that separates from metals while they are being purified.
    • (٤)
      خبث الفضة Dross of silver.
    • (٥)
      المرتك Lead Oxide (PbO).
    • (٦)
      الأسرنج Read Lead Pb3O4.
    • (٧)
      الإسفيداج Lead Carbonate.
    • (٨)
      الروسنحتج Probably Copper Oxide CuO.
    • (٩)
      المسحقونيا Probably Calcium Silicate (a refuse-product in the manufacture of glass).

(ب) معرفة الآلات

أما الآلات التي تستعمل لتحضير العقاقير فهي نوعان: نوع لتذويب الأجساد والآخر لتدبير العقاقير.

  • (أ)
    آلات لتذويب الأجساد Instruments for melting the “Bodies”:
    • (١)
      كور Blacksmith’s hearth.
    • (٢)
      منفاخ أو زق Bellows.
    • (٣)
      بوطقة Crucible.
    • (٤)
      بوط بربوط Descensory.
    • (٥)
      مغرفة أو ملعقة Ladle.
    • (٦)
      ماسك أو كلبتان Tongs.
    • (٧)
      مقطع، ج مقاطع Shears.
    • (٨)
      مكسر Hammer or pestle.
    • (٩)
      مبرد File.
    • (١٠)
      راط أو مسبكة Semi-cylindrical Iron mould.
  • (ب)
    آلات لتدبير العقاقير Instruments and apparatus used in Alchemical process:
    • (١)
      قرع وأمبيق ذو خطم The Cucurbit and Alembic with a delivery tube.
    • (٢)
      قابلة Receiving flask.
    • (٣)
      الأنبيق الأعمى Cucurbit and “BlindAlembic” (i.e. an ambie without any deluvery tube).
    • (٤)
      أثال Alidel.
    • (٥)
      قدح، ج أقداح Beakers.
    • (٦)
      قنينة، ج قناني Glass cups.
    • (٧)
      قارورة، ج قوارير Phials.
    • (٨)
      ماء وردية Rose-water phials.
    • (٩)
      مرجل أو طنجير Gauldron in which substances were dissolved.
    • (١٠)
      قدور ومكبات Earthenware Pots, glazed in-side with corresponding covers.
    • (١١)
      قدر “Bain-marie” or sand-bath.
    • (١٢)
      تنور Large Baker’s oven or Stove.
    • (١٣)
      مستوقد أو موقد A small cylindrical stove used for heating the Aludel.
    • (١٤)
      أتون A small model of the potter’s or limer’s kilon.
    • (١٥)
      كانون أو طابشدان Brasier or chafing dish.
    • (١٦)
      نافخ نفسه A stove with perforated sides.
    • (١٧)
      مهراس ونسابه Mortar and its Pestle.
    • (١٨)
      صلاية وفهر Flat stone mortar and stone Roller for use with it.
    • (١٩)
      درج Clay box in which layers or substances to be calcinated or treated were placed.
    • (٢٠)
      كرة Round Mould.
    • (٢١)
      مقلاة A covered Iron pan.
    • (٢٢)
      قمع Glass Funnel.
    • (٢٣)
      منخل Sieve or hair or silk.
    • (٢٤)
      راووق من خيش Filter of linen cloth.
    • (٢٥)
      سكرجه Dish or Platter.
    • (٢٦)
      سلة أو قفص Basket or felt-covered Cage.
    • (٢٧)
      قنديل، ج قناديل، للحصول على حرارة لطيفة Lamps.

(ﺟ) معرفة التدابير

وأما «التدابير» في العمليات الكيميائية التي كانت تُسْتَعمل لتحضير العقاقير فكانت تنحصر في الأنواع الآتية:
  • (أ)
    التنضيف purification: وله وسائل مختلفة، منها:
    • (١)
      التقطير distillation بواسطة القرعة والأنبيق وجمع ما يُقطر في القابلة.
    • (٢)
      الاستنزال باستعمال «البوط بربوط» descensory، وكانت توضع المادة في البوطقة العليا التي كان في أسفلها ثقبان، وعندما تُسخن تأخذ المادة في الذوبان وتقطر عبر الثقبين إلى البوطقة السفلى مخلفة الوسائخ من ورائها.
    • (٣)
      التشوية Assation or roasting: كانت المادة تُبل بالماء في صلابة، ثم تُنْقَل إلى قارورة تُعلق بقارورة أخرى، وهذه الأخيرة توضع على نار وتُسخن، وعندما تزول الرطوبة يُسد فم القارورة الداخلية التي تحوي المادة ويواصل التسخين، وهذا دليل على أن قدماء العرب كانوا يستعملون الهواء الساخن للتسخن air-bath.
    • (٤)
      الطبخ Coction or digestion: وهو تعبير آخر للتشوية، غير أن الطبخ كان يجري في جو مشبع بالرطوبة.
    • (٥)
      التلغيم أو الألغام amalgamation: وهي عملية مزج المعادن بالزئبق تمهيدًا لعمليتي التكليس والتصعيد.
    • (٦)
      الغسل Lavation.
    • (٧)
      التصعيد Sulbimation بواسطة الأثال، وكان الكيميائيون القدماء يعتبرون الأثال أهم آلاتهم، وهناك طريقة أبسط للتصعيد تُسمى «تخنيق» أو ترخيم incubation توضع المادة كما هي أو مصحوبة بزيت في قارورة، وتُسَخَّن على نار خفيفة لإزالة الرطوبة أو الزيوتة وأخيرًا تُسد القارورة وتُسخن بشدة حتى تصعد المادة وتتجمع في عنق القارورة.
    • (٨)
      التكليس calination: تشبه هذه العملية عملية التشوية غير أنها هناك كانت تُسخن القارورة مباشرة على النار إلى أن تصير المادة مسحوقًا دقيقًا للغاية.
    • (٩)
      التصدية rusting.
  • (ب)
    التشميع ceration: بعد تطهير المادة من وسائخها بإحدى الطرق المذكورة كانت «تُشمَّع» أي كان يضاف إليها بعض المواد بحيث تصبح سهلة الذوبان على أثر مفعول النار، ولتشميع الأرواح كانت تُسْتَعمل الأملاح والزيوت والبوارق، وكانت الأجساد تُشمَّع بواسطة الأرواح والأملاح والبوارق، والأحجار بواسطة الأملاح والبوارق، أما اليزوت فكانت تُشمَّع بالزيوت فقط.
  • (جـ)
    الحل والتحليل solution: ويشير الرازي في كتابه إلى ثمانية أنواع: تحليل بالمياه الحادة، وتحليل بالزبل، وتحليل بالرطوبة، وتحليل بالدن وتحليل بالمرجل، وتحليل «بالعميا» (الأنبيق)، وتحليل بالكرفس والجب، وتحليل بالتقطير.
  • (د)
    العقد fixation or coagulation: وهي آخر المطاف للوصول إلى الأكسير، وله أربعة أنواع: عقد بالتشويه، عقد بقارورة، عقد بدفن، وعقد بعميا (الأنبيق).
١  راجع ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ج١، ص٣١٠.
٢  راجع عبد الرحمن بدوي، من تاريخ الإلحاد في الإسلام، القاهرة، ١٩٤٥م، ص١٩٨ إلى ص٢٢٨، انظر أيضًا مقالة كراورس ويبنس في دائرة المعارف الإسلامية في كلمة رازي ومقالة MASSIGNON (L.), La légende “De tribus impostoribus” et ses origines islamiques, in R.de l’Hist. des religions, t. 82 (920) p. 73-8.
٣  ابن أبي أصيبعة، ص٣١٠.
٤  ابن أبي أصيبعة، ص٣١١.
٥  ابن أبي أصيبعة، ص٥.
٦  ص٣١٠.
٧  ص٥-٦.
٨  ص٣١٤.
٩  ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ج١، ص٣١٤.
١٠  KRAUS (P.) Epitre de Béruni contenant le répertoire des ouvrages de Muhammad b. Zakariyya ar-Razi, Paris 1936; RANKING (G.S.A.), The life and works of Rhazes London, 1914.
١١  MEYERHOF (Max), Thirty-three clinical observation by Rhazes (circa 900 A.D. In ISIS, No. 66 (vol. IIIXX, 2), Sept. 1935). وفي هذا البحث يوجد النص العربي والترجمة الإنجليزية.
١٢  النمكسود أو النمكسوذ هو اللحم القديد المجفف بالملح.
١٣  ج١، ص٣١٣.
١٤  انظر STAPELTON (H.E.) and HUSAIN (Hidayat), Chemistry in Iraq and Persia in the tenth century A.D. in Memoirs of the Asiatic soc. of Bengal, vol. VIII, No 6, p. 342.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤