تصدير
تدين البحوث الأربعة التي يتضمَّنها هذا الكتاب بالفضل في ظهورها إلى «المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي»، الذي دعاني إلى افتتاح سلسلة المحاضرات الجديدة التي نظمها بعنوان: «الإنسان والطبيعة»، وقد أُلقيت هذه البحوث أولًا بوصفها أربع محاضرات في مقر المتحف بنيويورك وذلك في أيام ٨ و١٠ و١٥ و١٧ من مارس ١٩٦٥م. ولا شك أن نشرها الآن يتيح لي فرصة الإعراب عن تقديري للشرف الذي أولاني إيَّاه المتحف، وامتناني للفرصة التي أتاحها لي، وأودُّ أن أضيف إلى ذلك شكري لمعهد «سولك»؛ إذ هيَّأ لي الجو العلمي الذي أمكنني فيه صياغة أفكاري حول هذا الموضوع، وكذلك لزملائي المتخصِّصين في البيولوجيا بهذا المعهد على ما قدَّموه من معاونة في مناقشة هذا الموضوع وتحديد معالمه.
والواقع أن هذه البحوث تتخذ نقطة بدايتها بمعنى معيَّن؛ من فكرة رئيسية كنت قد طرحتها قبل اثنَي عشر عامًا، وتعمل على توسيع هذه الفكرة، ففي عام ١٩٥٣م كان معهد ماساشوستس للتكنولوجيا قد طلب إليَّ أن أبحث المضمون الإنساني للعلم، في سلسلة من المحاضرات نُشرت منذ ذلك الحين بعنوان: «العلم والقيم الإنسانية». وفي هذه المحاضرات انتهيت إلى نتيجتَين أساسيتَين: أولاهما أن عملية الاكتشاف في العلم تقتضي من الخيال (لدى الشخص الذي يقوم بها أولًا، ثم لدى الشخص الذي يقدرها بعد ذلك) بقَدْر ما تقتضي عملية الخلق في الفنون.
والأخرى أنه برغم أن نتائج العلم هي، بطبيعة الحال، محايدة أخلاقيًّا؛ فإن النشاط العلمي ليس محايدًا، بل إنه يتطلَّب ممَّن يمارسونه تكوين مجموعة محدَّدة من القيم الإنسانية والتَّمسُّك بها.
ومنذ ذلك الحين أصبح هناك اعتراف واسع بهاتين النتيجتَين؛ ولم أجد فيهما شيئًا ينبغي لي تغييره. ومع ذلك فإن تفكيري فيهما خلال السنوات التي انقضت قد أقنعني بأن ثمَّة شيئًا ينبغي أن يضاف إلى كلٍّ منهما؛ إذ يمكن أن تُقال عن الخيال أمور أكثر من كونه متشابهًا في العلم وفى الفنون على السواء، فما هي الميادين التي يمتد إليها الذهن المتخيل في هذين المجالَين؟ وما الذي يكتسبه هذا الذهن من هذه الميادين؟ أيحق لنا أن نسمِّي ما نتعلَّمُه من الفنون معرفةً كما نسمِّي ما نتعلمه من العلم؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، فما نوعا هذه المعرفة؟
كذلك يُمكن أن تُقال عن القيم الإنسانية أمور أكثر من مجرَّد القول بأن العلم لا يمكنه البقاء دون بعض من هذه القيم، وأنه ينبغي أن يولِّد قيمًا كهذه في أي مجتمع لا يجدها فيه. فما هي القيم التي تولِّدها الفنون؟ وأين تتداخل هاتان المجموعتان من القيم؟ هذه الأسئلة هي التي حدت بي إلى أن أقول في تصديرٍ جديدٍ كتبتُه في عام ١٩٦١م لكتاب «العلم والقيم الإنسانية»: «لو كنت أعتزم اليوم أن أكتب عن العلاقة بين العلم والقيم الإنسانية للمرَّة الأولى، لتوسَّعت فيما قلته من قبل عنهما في ناحية واحدة فحسب، ذلك لأنني كنت قد تعمَّدت أن أقتصر في الكتاب كما ألفته بالفعل، على إثبات قضية واحدة رئيسية: هي أن ممارسة العلم ترغم مَن يمارسه على أن يكوِّن لنفسه مجموعة أساسية من القيم الشاملة، ولم أقُل إن هذه المجموعة تضم كل القيم الإنسانية إذ كنت على ثقة وقت تأليفي للكتاب من أنها لا تضمها. غير أنني لم أرغب عندئذٍ في تعقيد وجهة النظر التي أعرضها بمناقشة مجموعة القيم كاملة، أما الآن بعد أن أصبحت وجهة نظري مقبولة في أساسها، فإنني كنت أودُّ لو شئتُ البدء من جديد أن أخصِّص حيِّزًا معيَّنًا لمناقشة تلك القيم التي لا تولِّدها ممارسة العلم، أعني قيم الرقة، والشفقة، والتعاطف الإنساني والحب.
فهذه القيم تؤلِّف مجالًا مختلفًا عن تلك الفضائل الصارمة التي يمكن تسميتها بفضائل العهد القديم، والتي يولِّدها العلم، وإن كانت بطبيعة الحال لا تنفي قيم العلم. وإني لآمل أن تُتاح لي فرصة الكتابة عن العلاقة بين مجموعتَي القيم هاتين في وقت آخَر، وأن أُبيِّن مدى حاجتنا إلى الربط بينهما في سلوكنا.»
ولقد بدأتُ في تحقيق هذا الأمل في ١٧ من فبراير ١٩٦٣م عندما ألقيت خلاصةً للبحث الثالث، وهو «معرفة الذات»، في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، ومن هنا فإنني عندما نزلت نيويورك في أحد أيام يناير ١٩٦٤م ووجدت دعوة تنتظرني لإلقاء هذه المحاضرات، قرأت هذه الدعوة على أنها فألٌ طيِّب وبشير بالخير، لقد كان ما كتبته من قبل دفاعًا عن العلم، ومنذ ذلك الحين كسب الدفاع قضيته، أمَّا الآن فقد أصبح من الممكن — مع سنوح هذه الفرصة — أن أطل بناظري إلى ما وراء هذا الموضوع، وأنظر إلى العقل في جميع استخداماته على أنه واحد: هو تلك الوحدة الفريدة المميزة للإنسان، هذه هي الفكرة الرئيسية التي ظللتُ منذ وقت طويل أحملها معي أينما حللتُ، والتي أخذت على عاتقي أن أعرضها في هذه البحوث.
حاشية
معهد سولك للدراسات البيولوجية
سان دييجو، كاليفورنيا
١٩٦٥ و١٩٦٩م