الفصل الثاني

دبلوماسية الثورة الأمريكية

مع انتهاء حرب السنوات السبع عام ١٧٦٣، سيطرت بريطانيا العظمى على أكبر إمبراطورية منذ سقوط روما، غير أن انتصارها في هذه الحرب استوجب معه إعادة تنظيم السيطرة على أراضي أمريكا الشمالية الشاسعة المنتزَعة من فرنسا وإسبانيا. وسعيًا لمنع اندلاع المزيد من الحروب مع الهنود، حظر إعلان عام ١٧٦٣ إقامة المستوطنين البيض فيما وراء منطقة جبال الأبالاش الشاسعة؛ ومن ثَمَّ، نشرت الحكومة البريطانية جيشًا دائمًا لم يسبق له مثيل في منطقة البر الرئيسي للقارة الأمريكية؛ بهدف الدفاع والحفاظ على الأمن في تلك المنطقة. ولمواجهة تكلفة هذه الالتزامات، والتحرر من العبء المادي الثقيل الذي خلفته الحرب، سعت لندن إلى فرض ضرائب جديدة، وقوانين تجارية إمبريالية تَلافى المستعمرون فرضها طويلًا؛ ومن ثَمَّ، تعد نهاية الحرب الفرنسية والهندية — وهو الاسم الذي اشتُهرت به حرب السنوات السبع في أمريكا — نهاية ما يسمى «سياسة التجاهل الصحي».

اتُّخذَت إجراءات بريطانية لا تهدف فقط إلى إحلال السلام والاستقرار بأمريكا الشمالية، بل أيضًا إلى مطالبة المستعمرات بالمشاركة في تكاليف الدفاع والإدارة. غير أن المستعمرات بحلول ذلك الوقت كانت تنظر إلى نفسها بصفتها كيانًا يتمتع بالحكم الذاتي؛ أو «ذات سيادة مستقلة» بالتعبير الأحدث، ورفضت أن يفرض عليها البرلمان البريطاني وملك بريطانيا ضرائبها. من جهة أخرى، رفض الملك والبرلمان البريطاني قبول هذا المنظور الحديث لمفهوم الإمبراطوريات؛ ومن ثَمَّ وجدت بريطانيا العظمى نفسها تخوض حربًا، ليس ضد مستعمراتها فحسب، بل ضد أغلب دول أوروبا كذلك في نهاية المطاف. ورغم أن تلك الحرب لم تشكل كارثة مكتملة الأركان على الجيش البريطاني، فإنها سلبت بريطانيا العظمى أثمن ممتلكاتها الاستعمارية، وأطاحت بها من فوق عرش القوة الذي صعدت إليه بمعاهدة باريس عام ١٧٦٣.

لم يكن الهدف المبدئي للثورات المسلحة الاستقلال، بل استعادة وإقرار ما آمن أهل المستعمرات أنه حقهم بصفتهم رعايا بريطانيين. كانت المستعمرات قد أعلنت قبولها لوضعها القانوني تحت السياسة البريطانية قبل عام ١٧٦٣، ولكن تحوُّل المستعمرات إلى البحث عن الاستقلال في العام الثاني من الصراع يرجع جزئيًّا إلى رفض الحكومة البريطانية لأي حلول وسط، وتبنِّيها عوضًا عن ذلك لإجراءات قمعية، كما يرجع إلى الوعي المتنامي للمزايا التي قد تتحقق لها من الاستقلال. لم ينجح أحد في طرح الحجج المؤيدة للاستقلال بهذه الدرجة من الإقناع مثل ذلك المُهاجِر الذي وفد حديثًا من إنجلترا، والذي يدعى توماس بين. كان توماس بين قد هاجر إلى أمريكا في أواخر عام ١٧٧٤ تاركًا وراءه العديد من الوظائف التي فشل فيها، وبعد أقل من عامين، في يناير عام ١٧٧٦، نشر كتيبًا بعنوان «المنطق السليم». بيع من هذا الكتيب ما يقرب من ١٢٠ ألف نسخة في الشهور الثلاثة الأولى، وكان بمنزلة الدفاع الأكثر فعالية عن قضية الاستقلال. وقد تضمنت الحجج التي طرحها توماس بين في الكتيب حُجَتين كانت لهما أهمية كبيرة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية مستقبلًا. دفع بين بأن الاستقلال من شأنه أن يحرر المستعمرات السابقة من الوقوع في شراك الحروب الأوروبية التي لا علاقة للمستعمرات بها، وأن إعلان الاستقلال سيعزز فرصها أيضًا في الحصول على المساعدات الأجنبية.

(١) السعي للحصول على المساعدات الأجنبية

نظرًا لما كانت تعانيه المستعمرات من تدنِّي حالها كثيرًا مقارنةً بالدولة الأم التي تتبعها من حيث عدد السكان والثروة والصناعة والقوة العسكرية والبحرية، لم يكن باستطاعة المستعمرات أن تأمل في إحراز نصر عسكري حاسم إلا بمساعدة إحدى القوى الأوروبية الكبرى. كان الكونجرس قبل أشهر من اتخاذ قرار الاستقلال قد أسَّس لجنة سرية للتواصل مع أصدقاء أمريكا بالخارج، فأرسلت تلك اللجنة إلى باريس عميلًا سريًّا مُتخفِّيًا كأحد التجار طلبًا للإمدادات ولاعتمادٍ مالي. وسرعان ما وجد هذا العميل — وهو سيلاس دين من ولاية كونيتيكت، الذي بلغ باريس في يوليو عام ١٧٧٦ — أن الحكومة الفرنسية على استعداد لدعم المستعمرات المتمردة على بريطانيا سرًّا. كان وزراء فرنسا في الواقع يتحيَّنون الفرصة المناسبة منذ عام ١٧٦٣ لتقويض بريطانيا العظمى وإذلالها، غريمة فرنسا التي انتصرت عليها. وقد رأى الكاتب المسرحي الفرنسي الشهير والدبلوماسي الهاوي، كارون دو بومارشيه، الذي كان بالفعل على تواصل آنذاك مع عميل آخر من المستعمرات هو آرثر لي في لندن؛ أن الفرصة قد سنحت أمامهم لاغتنامها. وكان هذا أيضًا هو رأي وزير الخارجية الفرنسي، كونت دو فيرجين، الذي تمكَّن مع بومارشيه من إقناع ملك فرنسا لويس السادس عشر بأن تقديم المساعدات إلى المستعمرات يصب في مصلحة فرنسا.

غير أن فرنسا حتى تلك اللحظة لم تكن على استعداد لإعلان صداقتها للمستعمرات البريطانية؛ لذا أمدتها بالمساعدات المادية سرًّا فقط. وقد نجح ذلك عبر تأسيس بومارشيه لشركة تجارية وهمية، تُدعى شركة رودريج هورتاليز إيه كومباني، انتقل عبرها البارود وغيره من الإمدادات الأساسية من مخازن الأسلحة الفرنسية إلى جيوش جورج واشنطن. كما أقنعت فرنسا إسبانيا أيضًا بإمداد المستعمرات بالمساعدات بهذه الطريقة وعبر وسائل أخرى؛ فأسهمت فرنسا إجمالًا في القضية الأمريكية بمساعدات مالية تقدَّر بقرابة مليونَي دولار، وفقًا لقيمة الدولار آنذاك، وقروض تربو قيمتها على ٦ ملايين و٣٥٠ ألف دولار، فيما أسهمت إسبانيا بمساعدات مالية بلغت قيمتها ٤٠٠ ألف دولار، وقروض بلغت قيمتها ٢٥٠ ألف دولار.

(٢) التحالف الفرنسي

fig2
شكل ٢-١: بنجامين فرانكلين.1

بدأ اعتماد هذه التدابير لبرنامج المساعدات السرية قبل وصول سيلاس دين إلى باريس. وبعد صدور إعلان الاستقلال الأمريكي، أرسل الكونجرس إلى فرنسا الدبلوماسي الأمريكي الأشهر والأكثر قدرةً على الإقناع وإثارةً للإعجاب في عصره: بنجامين فرانكلين. وفي باريس، انضم فرانكلين إلى سيلاس دين، وآرثر لي، الذي قدِم من لندن ليشكل الثلاثةُ معًا لجنة أمريكية ثلاثية. وقد هدد عملاءُ بريطانيا جهودَ اللجنة على نحوٍ شديد؛ مما قاد المؤرخ جوناثان دَل إلى وصف اللجنة بأنها «بمنزلة مكتب توظيف لعملاء المخابرات البريطانية.» كان أحد أهم عملاء بريطانيا هو الدكتور إدوارد بانكروفت — وهو أحد سكان ولاية ماساتشوستس الأصليين — الذي كان يعمل سكرتيرًا لسيلاس دين. كان بانكروفت يعمل سرًّا لدى الحكومة البريطانية، وينقل إليها بإخلاص جهود اللجنة وعلاقاتها مع الوزراء الفرنسيين. وكان آرثر لي موقنًا من خيانة بانكروفت، لكنه لم يستطع زعزعة ثقة بنجامين فرانكلين ودين به. وعلاوةً على الدور الذي لعبه عملاء بريطانيا، سرَّب فرانكلين بين الحين والآخر معلومات لأسباب سياسية، فيما استغل دين معلومات سرية سعيًا لتحقيق بعض الخطط التي انطوت على مجازفة.

كان الهدف الرئيسي لمهمة فرانكلين هو ضمان اعتراف الحكومة الفرنسية الرسمي بالولايات المتحدة كدولة مستقلة؛ الأمر الذي أمكن تحقيقه بتوقيع معاهدة بين فرنسا والولايات المتحدة؛ إذ كان فرانكلين قد أحضر معه إلى باريس مسودة معاهدة صداقة وتجارة مقترحة، أعدتها لجنة تابعة للكونجرس، جسَّدت المبادئ الليبرالية التجارية التي كان الكونجرس يأمل أن تتبناها دول العالم التجارية كافة، وليس فرنسا فحسب. وقد اعتبرت خطة المعاهدات لعام ١٧٧٦ أول وثيقة وطنية هامة تتناول السياسة الخارجية الأمريكية، وتكون بمنزلة دليل إرشادي لصانعي السياسات الخارجية الأمريكية إلى ما هو أبعد من مقتضيات الثورة الأمريكية. وقد أكد جون آدامز — المسئول الرئيسي عن وضع نموذج المعاهدة — مرارًا على أن أي معاهدة فرنسية-أمريكية يجب أن تكون في شكل علاقات تجارية دون أي ارتباطات عسكرية أو سياسية، فقال عن فرنسا:

علينا ألا نعقد أي تحالف معها يورطنا مستقبلًا في أي حروب بأوروبا … وعلينا أن نرسخ هذا الأمر كمبدأ أساسي وشعار لا يُنسى؛ التمسك بمبدأ الحيادية الكاملة في جميع الحروب الأوروبية التي قد تحدث مستقبلًا.

رغم صداقته مع الولايات المتحدة، رفض كونت فيرجين أن يمنحها اعترافًا رسميًّا — وهو الذي كان من شأنه أن يعرضها للدخول في حرب مع إنجلترا — إلى أن يبرهن الأمريكيون على قدرتهم على القيام بدورهم والانتصار في الحرب. فمن المتفهم أنه لم يرغب في توريط فرنسا في حرب بسبب قضية خاسرة، إلا أن هذا البرهان لم يَلُحْ في الأفق حتى ديسمبر من عام ١٧٧٧، عندما تنامت أنباء أن جيش الجنرال بورجوين البريطاني — الذي اندفع من مونتريال إلى نيويورك — اضطُر إلى الاستسلام أمام جيش الجنرال جيتس بمقاطعة ساراتوجا؛ فكانت تلك هي الإشارة التي انتظرها فيرجين الذي حاول الاستعانة بإسبانيا لنصرة هذه القضية، فلما ماطلت إسبانيا قرر أن تمضيَ فرنسا من دونها في هذا الأمر.

أُبلغ أعضاء اللجنة الأمريكية في ١٧ ديسمبر بموافقة فرنسا على منح الولايات المتحدة الأمريكية اعترافًا رسميًّا بها، وإبرام معاهدة معها. وفي ٦ فبراير من عام ١٧٧٨، تم توقيع معاهدة صداقة وتجارة، ومعاهدة تحالف بين فرنسا وأمريكا في باريس؛ على أن تصبح معاهدة التحالف سارية حال خوض بريطانيا العظمى حربًا مع فرنسا بسبب اتفاقية الصداقة والتجارة. وهكذا، عكست معاهدة الصداقة والتجارة بوضوحٍ المبادئ التي أرساها آدامز في خطة المعاهدات التي صدرت عام ١٧٧٦، غير أن معاهدة التحالف جاءت مناقضة لدعوته إلى تجنُّب الدخول في تحالف مع فرنسا «وهو ما قد يضعنا في موقف حرج فيما بعدُ، ويورطنا في الحروب الأوروبية مستقبلًا.»

وكان الكونت فيرجين قد سارع باتخاذ هذا الإجراء خشية دخول إنجلترا في تصالح مع مستعمراتها السابقة؛ إذ كان استسلام جيش بورجوين قد أثار ضجة في إنجلترا، وقاد وزارة الخارجية البريطانية إلى عرض شروط تسوية سخية مع الأمريكيين. وفي شهر مارس من ذاك العام، أقر البرلمان البريطاني سلسلة من القوانين التي تُلغي كل التشريعات التي سُنَّت منذ عام ١٧٦٣ التي شكا منها مواطنو المستعمرات، وفي شهر أبريل، نُدبت إلى أمريكا لجنة رأسها إيرل مدينة كارلايال، خُوِّلت بالموافقة على جميع مطالب الكونجرس الأمريكي فيما عدا الاستقلال، إن توقفت المستعمرات السابقة عن القتال وظلَّت على ولائها للتاج البريطاني. ويُستدَل على مدى استعداد بريطانيا العظمى لإنقاذ إمبراطوريتها بالتمزق من الشروط التي عرضتها اللجنة؛ كحق التحكم بالضرائب، وانتخاب حكام الولايات وغيرهم من المسئولين الحكوميين الذين كانوا فيما مضى يُعيَّنون، وحق التمثيل في البرلمان البريطاني إن رغبوا في ذلك، ومواصلة انعقاد الكونجرس كهيئة تشريعية أمريكية، وإعفاء المواطنين من أجرة الإبراء (وهو إيجار يُسدد بدلًا من بعض الخدمات الإقطاعية المطلوبة)، وضمان عدم إجراء تعديلات على اتفاقيات المستعمرات إلا بموافقتها، والعفو الشامل عن جميع المشاركين بالتمرد. بعبارة أخرى، كانت هذه الشروط تمنح أمريكا فعليًّا صفة الدولة ذات السيادة.

لو أن مثل هذا العرض قد قُدِّم في أي وقتٍ سابق لإعلان الاستقلال — أو ربما في أي وقت قبل استسلام بورجوين — لكان على الأرجح سيجد القبول، وكانت الولايات الثلاث عشرة المزعجة ستشكل معًا عندئذٍ أول دولة مستقلة ذات سيادة تابعة للتاج البريطاني، غير أن العرض جاء متأخرًا. ومع اعتراف فرنسا بأمريكا، وتعهدها بالتحالف معها، وتقديم مساعدات علانية لها، بدا الاستقلال أكيدًا، ولم يعد هناك مجال للتراجع؛ ومن ثَمَّ صدَّق الكونجرس الأمريكي على المعاهدات مع فرنسا دون التوقف لحظةً للتفاوض مع لجنة كارلايل.

جعلت معاهدة الصداقة والتجارة من كلتا الدولتين «الدولة الأولى بالرعاية» لدى الأخرى، وجسدت — بلا تغيير من الناحية العملية — المبادئ الليبرالية نفسها لخطة المعاهدات التي رُسمت عام ١٧٧٦، وهي المبادئ التي ستحمي مصالح الطرفين الموقِّعَين للمعاهدة واللذين قد يتصادف أن يكون أحدهما على الحياد في حين يخوض الطرف الآخر حربًا. كانت معاهدة التحالف ستصبح سارية فقط إذا تورطت فرنسا في الحرب القائمة مع بريطانيا العظمى، وكان هدفها «الحفاظ بفعالية على حرية الولايات المتحدة الأمريكية وسيادتها واستقلالها «بشكلٍ تامٍّ ومطلق».» رفضت فرنسا تمامًا وضع أي خطط للاستيلاء على منطقة برمودا، أو أي منطقة أخرى من قارة أمريكا الشمالية التي كانت قبل إبرام معاهدة باريس في عام ١٧٦٣ — أو بموجب تلك المعاهدة — تتبع بريطانيا العظمى أو المستعمرات البريطانية السابقة، لكنها احتفظت لنفسها بحق الاستيلاء على أيٍّ من المستعمرات البريطانية بغرب الهند. أما الولايات المتحدة من جهة أخرى، فكانت لديها الحرية في غزو منطقة برمودا والاستيلاء عليها، أو على أيٍّ من مستعمرات البر الرئيسي التابعة لبريطانيا العظمى. كما قضت المعاهدة بألا يعقد أيٌّ من الطرفين معاهدة سلام منفصلة مع بريطانيا العظمى، أو يوقف القتال معها إلى أن تُحقق حرب الاستقلال الأمريكية انتصارها. وتعهد كلا الطرفين بأن يضمن «بدءًا من لحظة توقيع المعاهدة إلى الأبد، ومهما كانت القوى المضادة» الحفاظ على الأراضي الأمريكية التي تخضع لسيطرتها آنذاك، والتي قد تظفر بها من الحرب، وتعهدت فرنسا — بالإضافة إلى ذلك — بضمان حرية الولايات المتحدة الأمريكية وسيادتها واستقلالها.

شكلت المعاهدة التي أشرنا إليها توًّا «التحالف المُورِّط» الوحيد الذي شاركت به الولايات المتحدة الأمريكية حتى منتصف القرن العشرين، وكان من شأن هذا التحالف أن يسبب متاعب كبيرة قبل أن يُنبَذ عام ١٨٠٠، غير أنه كان تحالفًا ضروريًّا لتحقيق استقلال الولايات المتحدة. فأرسلت فرنسا إلى أمريكا جيشًا بقيادة الجنرال روشامبو، وكذلك بُعثت أساطيل فرنسية بقيادة الأميرال ديستان والأميرال دوجراس قبالة الساحل الأمريكي. وتتجلى أهمية المساعدات الفرنسية للولايات المتحدة في المشهد الأخير من الثورة الأمريكية في معركة يورك تاون التي حوصر فيها جيش الماركيز كورن واليس البريطاني بين أسطول فرنسي وجيش حلفاء شكَّل الفرنسيون ثلثيه.

(٣) إسبانيا والثورة الأمريكية

تأخرت إسبانيا عن المشاركة في الحرب لأكثر من عام بعد خوض فرنسا لها رغم تحالف أسرتَي الدولتين الحاكمتين (عبر الميثاق الأسري)، ورغم تقديمها المساعدات سرًّا للولايات المتحدة الأمريكية. كانت هناك مزايا يمكن لإسبانيا أن تجنيَها من الفوز في الحرب على إنجلترا، تمثلت في إمكانية استعادة منطقة جبل طارق (التي خسرتها عام ١٧١٣) وفلوريدا (التي خسرتها عام ١٧٦٣)، وقد أمل البلاط الإسباني في استعادة منطقة جبل طارق — الأكثر أهميةً بين المنطقتين — سلميًّا كمكافأة على دوره في الوساطة بين بريطانيا العظمى وفرنسا؛ ومن ثَمَّ، لم توقع إسبانيا معاهدة تحالف واضحة مع فرنسا (معاهدة آرانخويث في ١٢ أبريل عام ١٧٧٩) إلا عندما رفضت بريطانيا العظمى خدماتها في الوساطة، لتعلن بعدها الحرب على بريطانيا العظمى في ٢١ يونيو ١٧٧٩. وكانت معاهدة التحالف الفرنسية الأمريكية قد كفلت لإسبانيا الحق في الانضمام بصفتها عضوًا في التحالف، لكن إسبانيا رفضت التوقيع على المعاهدة أو إبرام أي معاهدات من أي نوع مع الولايات المتحدة؛ فبوصفها هي نفسها قوة استعمارية، ترددت إسبانيا في الاعتراف رسميًّا بالتمرد في مستعمرات بريطانيا العظمى. وقد أمضى الدبلوماسي الأمريكي، جون جاي، شهورًا عديدة مريرة في مدريد ملتمسًا الاعتراف بالولايات المتحدة دولة مستقلة، لكن بلا جدوى. ولم يكن حتى عرض التنازل عن مطالبة أمريكا بحق الملاحة عبر نهر المسيسيبي ليقنع الحكومة الإسبانية بالاعتراف بالجمهورية الوليدة. وبموجب معاهدة آرانخويث، وافقت فرنسا وإسبانيا على أنه لا يحق لإحداهما إبرام معاهدة سلام مع بريطانيا حتى استعادة إسبانيا لمنطقة جبل طارق، ونظرًا لأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد تعهدت بعدم عقد معاهدة سلام مع بريطانيا دون فرنسا، فإنها لم يعد بمقدورها — مع وضع شروط المعاهدات في الاعتبار — إبرام معاهدة سلام حتى استعادة إسبانيا لمنطقة جبل طارق.

وفي أمريكا، تعارضت مصالح إسبانيا مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت الولايات المتحدة من جهةٍ تريد أن يكون نهر المسيسيبي هو الحد الغربي لها، وأن تتمتع بحق الملاحة فيه عبر الأراضي الإسبانية حتى خليج المكسيك. غير أن إسبانيا من جهة أخرى، حرصًا على احتكار الملاحة والتجارة في نهر المسيسيبي وخليج المكسيك قدر الإمكان، رفضت التنازل للأمريكيين عن حق استخدام النهر، أو أن تترك لهم موطئ قدم على ضفته الشرقية. بعبارة أخرى، كانت الحدود الغربية للولايات المتحدة ستغدو أقرب ما يكون إلى قمة جبال الأبالاش إن كانت إسبانيا قد تعاملت مع الأمر بصورةٍ أفضل.

عزز موقف إسبانيا في المساومة جرأة وحماسة حاكم ولاية لويزيانا الشاب برناردو دي جالفيز، الذي هزم البريطانيين — بعد أقل من عامين من دخول إسبانيا في الحرب — هزيمة منكرة، وطردهم من كل أنحاء غرب فلوريدا، من مدينة ناتشيز شمالًا إلى بينساكولا شرقًا؛ ليعزز موقف إسبانيا في المطالبة بالتخلي عن فلوريدا في نهاية الحرب، والتمتع بالسيطرة الكاملة على منطقة جنوب المسيسيبي.

(٤) بيدق في لعبة الشطرنج الأوروبية

وجدت الولايات المتحدة أنه للفوز باستقلالها يتحتم عليها التورط في الصراعات الدولية والسياسات الأوروبية، غير أن هذه الصراعات والسياسات نفسها تهدد بإنهاء الحرب من دون انتزاع الاستقلال الأمريكي. فلم يمضِ وقت طويل قبل أن تكلَّ إسبانيا من الحرب بعدما خاضتها على مضض؛ فاستقبلت الحكومة الإسبانية عام ١٧٨٠ بعثة بريطانية أتت للتفاوض بشأن شروط معاهدة سلام. وفيما يتعلق بأمريكا، عرض وزراء إسبانيا عقد هدنة طويلة بين بريطانيا العظمى و«مستعمراتها» من دون الاعتراف باستقلال المستعمرات، ومع تقسيم المنطقة وفق مبدأ «الحدود الموروثة»، أو بعبارة أخرى، احتفاظ كل طرف بالأراضي التي يسيطر عليها في ذلك الوقت؛ الأمر الذي كان سيدع منطقة ماين والجبهة الشمالية ومدينة نيويورك ولونج آيلاند والموانئ البحرية الرئيسية بجنوب فيرجينيا تحت سيطرة بريطانيا.

أعرب كونت فيرجين عن استيائه من هذه المحادثات البريطانية الإسبانية التي تعد انتهاكًا لمعاهدة آرانخويث، غير أنه أبدى من جهةٍ أخرى استعدادًا للإصغاء لعروض الوساطة من قِبل إمبراطورة روسيا كاثرين الثانية، وإمبراطور النمسا جوزيف الثاني؛ وهو ما كان ستترتب عليه الآثار نفسها في أمريكا. إلا أن جون آدامز الذي عُيِّن مبعوث السلام الأمريكي — والذي قدِم من لاهاي إلى باريس بِناءً على طلب كونت فيرجين — رفض العرض تمامًا وبلا تردد عندما قدَّمه له الأخير، وصرَّح بأنه يرفض عقد أي هدنة حتى انسحاب القوات البريطانية كاملةً من الولايات المتحدة، وأنه لا سبيل لخوض أي مفاوضات مع بريطانيا من دون ضمانات باحترام سيادة الولايات المتحدة الأمريكية على أرضها واستقلالها. لكن الأمر كان مختلفًا في الولايات المتحدة؛ إذ كان إقناع الكونجرس الأمريكي أسهل من إقناع آدامز، حيث صاغ الكونجرس تحت ضغط الوزير الفرنسي لا لوزيرن (وأحيانًا بالترغيب بالمال) تعليمات جديدة لمبعوثي السلام الجدد في أوروبا في ١٥ يونيو عام ١٧٨١. لم تقتصر هذه التعليمات إلى المبعوثين على قَبول وساطة إمبراطورة روسيا والإمبراطور النمساوي فحسب، بل طلبت منهم أيضًا أن ينصاعوا لوزراء فرنسا، «فلا يتخذوا إجراءات في مفاوضات السلام أو الهدنة من دون علم هؤلاء الوزراء أو موافقتهم، وأن يمتثلوا لنصحهم وآرائهم.» لذا، لعل الحظ كان حليف الولايات المتحدة عندما رفضت الحكومة البريطانية عروض الوساطة.

(٥) بريطانيا العظمى في موقف عصيب

شكَّل استسلام كورن واليس لجورج واشنطن وروشامبو بمعركة يورك تاون في ١٩ أكتوبر عام ١٧٨١ ذروة مأساة بريطانيا التي باتت في حرب — أو على شفا حرب — مع أغلب دول العالم الغربي، وقد أضافت بريطانيا بنفسها هولندا إلى قائمة من يظاهرونها العداء بعد أن رفضت السماح لها باستمرار تجارتها المحايدة مع فرنسا. كانت دول البلطيق وروسيا والدنمارك والسويد عام ١٧٨٠ قد شكَّلت «عصبة الحياد المسلح» بهدف حماية تجارتها مما اعتبروه ابتزاز البحرية البريطانية غير المشروع لها، وانضمت إلى هذه الدول بروسيا، وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ومملكة الصقليتين، والبرتغال حليفة بريطانيا التقليدية؛ وهكذا، لم يعد لدى البريطانيين الكثير من المكاسب التي يأملون في تحقيقها بمواصلة الحرب.

في فبراير عام ١٧٨٢، قرر مجلس العموم البريطاني بعد نبأ كارثة معركة يورك تاون إنهاء الحرب. وفي مارس، استقالت وزارة اللورد فريدريك نورث التي عجَّلت سياساتها باندلاع الصراع مع الولايات المتحدة؛ لتحل محلها وزارة جديدة برئاسة ماركيز روكنجهام. وشرع إيرل مدينة شيلبورن، الذي شغل منصب وزير الخارجية لشئون دول الجنوب في عقد محادثات سلام، بإرسال ريتشارد أوزوالد الاسكتلندي للتشاور مع الممثلين الأمريكيين بباريس. شغل إيرل شيلبورن منصب رئيس الوزراء بعد وفاة ماركيز روكنجهام في يوليو عام ١٧٨٢، لكنه واصل توجيه المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ الأمر الذي كان من حسن طالع أمريكا لأنه كان مُؤيِّدًا لعرض شروط سلام سخية، وهو ما قد يؤدي إلى استعادة بريطانيا العظمى لسيطرتها على أغلب التجارة الأمريكية مستقبلًا، وقد تغري الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك بالعودة إلى الانضمام لنوع من الفيدرالية التابعة للإمبراطورية البريطانية.

انتدب الكونجرس الأمريكي خمسة ليكونوا مفوضي سلام، تولى ثلاثة منهم فعليًّا إجراء المفاوضات. كان بنجامين فرانكلين بباريس عندما بدأت المفاوضات، أما جون جاي الذي كان يسعى بلا جدوى إلى الحصول على اعتراف بالاستقلال وعقد معاهدة في مدريد، فقد وصل في يونيو عام ١٧٨٢. وجون آدامز الذي حصل على اعتراف بالاستقلال وقرض من هولندا وصل إلى باريس في أكتوبر. وكان هنري لورنز موجودًا في الوقت المناسب لتوقيع المعاهدة فيما رفض توماس جيفرسون — خامس من انتدبهم الكونجرس الأمريكي — المشاركة في المفاوضات. تولى أغلب المفاوضات بنجامين فرانكلين وجاي، ثم جون آدامز الذي قدم إسهامات ثمينة قُرابة انتهاء المفاوضات.

(٦) فرص الدبلوماسية

كان للمبعوثين الأمريكيين ثلاثة أهداف رئيسية: (١) الاعتراف باستقلال الولايات المتحدة الذي صار أكيدًا، (٢) والحصول على أقصى حدود ممكنة للولايات المتحدة، (٣) والاحتفاظ بامتيازات الصيد على سواحل المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية التي تمتع بها سكان المستعمرات بوصفهم رعايا بريطانيين. وقد كانت الحكومة البريطانية على استعداد للاعتراف بالاستقلال الأمريكي، والتعامل بسخاء مع المطالب الأمريكية الأخرى، آملة أن تحصل في المقابل من الولايات المتحدة على: (١) سداد ديون المزارعين الأمريكيين ومَن سواهم مِن قبل اندلاع الثورة إلى الدائنين البريطانيين، و(٢) الموافقة على تعويض الموالين — الأمريكيين الذين أعلنوا ولاءهم لبريطانيا العظمى في الصراع — نظير الأراضي والممتلكات الأخرى التي استولت عليها الولايات التي كانوا يعيشون فيها.

كانت أكثر المطالب الأمريكية إثارةً للجدل هي تلك المتعلقة بالحدود الأمريكية؛ إذ لم تستتبع مطالب الأمريكيين في هذا الصدد تسوية مع بريطانيا العظمى فحسب، بل استتبعت كذلك نزاعات مع إسبانيا، وهي نزاعات اختار فيها كونت فيرجين دعم حلفائه الإسبانيين لا الأمريكيين. حلم بنجامين فرانكلين وغيره من القادة الأمريكيين — في أوقات كانوا فيها أكثر تفاؤلًا — بضم كل المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية وبعض الجزر النائية إلى الاتحاد الكونفدرالي الأمريكي، غير أن تحقيق تلك الآمال كان مستحيلًا. ما طالب كونجرس الولايات المتحدة بأحقيته فيه هو إجمالي المنطقة الغربية الواقعة بين جبال الأبالاش ونهر المسيسيبي، التي تمتد — من الجنوب — من دائرة العرض التي تبعد عن خط الاستواء بمقدار ٣١ درجة إلى خطٍّ شمالي رُسم من نهر سانت لورانس عند دائرة العرض الشمالية ٤٥ درجة وحتى بحيرة نيبسينج (التي شكلت الحدود الجنوبية الغربية لمقاطعة كيبك قبل عام ١٧٧٤)، ومنها إلى منبع نهر المسيسيبي. لم تنظر الحكومة البريطانية — التي قامت سياساتها منذ عام ١٧٦٣ على اعتبار استمرار تبعية الأراضي الغربية للتاج البريطاني — بعين الجدِّ لمطالبات الكونجرس تلك، التي قامت بالأساس على الفقرات الواردة في بعض مواثيق المستعمرات، والقائلة بأحقية المستعمرة في جميع الأراضي الممتدة من حدودها الشرقية إلى المحيط الهادي.

في جنوب نهر أوهايو، منحت المستوطنات الأمريكية في وسط ولاية كنتاكي وشرق ووسط ولاية تينيسي الولايات المتحدة أساسًا قويًّا للمطالبة بهذه المناطق، لكن إلى الجنوب كان الإسبانيون — لا الأمريكيون — هم من أجلى البريطانيين؛ فقد سيطر الإسبانيون على الضفة الشرقية من نهر المسيسيبي حتى مدينة ناتشيز شمالًا، وأملوا — كما أشرنا مِنْ قَبْل — في حرمان الأمريكيين من الوصول إلى نهر المسيسيبي، ورسم الحدود بالقرب من حوض مياه جبال الأبالاش قدر الإمكان. وقد حظوا في إطار سعيهم لذلك بدعم فرنسا.

في صيف عام ١٧٧٩، اتخذ الكونجرس أولى الخطوات نحو مفاوضات السلام بتعيين جون آدامز مفوضًا لذلك الغرض، وتضمنت التعليمات التي أُعدت لآدامز في ١٤ أغسطس عام ١٧٧٩ أن تضم الحدود الأمريكية إجمالي المنطقة التي طالبت بها الولايات من جبال الأبالاش حتى نهر المسيسيبي، وأضافت أنه رغم «شدة أهمية التنازل عن كندا ونوفا سكوشا لعملية السلام ولتجارة الولايات المتحدة»، ورغم أهمية ضمان حقوق متكافئة في المصايد، فإن الرغبة في إنهاء الحرب قد دفعت الكونجرس إلى الامتناع عن جعْل تحقيق هذه الأهداف مطلبًا نهائيًّا. وعليه — تحت ضغط الضرورة العسكرية وضغط الوزير الفرنسي — فقد عدَّل الكونجرس الأمريكي مطالبه. فأصرَّ الكونجرس في التعليمات الجديدة التي صدرت في الخامس عشر من يونيو عام ١٧٨١ فقط على استقلال الولايات المتحدة، والحفاظ على المعاهدات المبرمة مع فرنسا كشروط لا غنى عنها. أما فيما يتعلق بالحدود الأمريكية، فتقرر أن يَعتبر المفوضون التعليمات السابقة على أنها تعبر عن «رغبات وتوقعات الكونجرس»، لكن دون الالتزام بها إن مثَّلت عقبة تعترض تحقيق السلام. بعبارة أخرى، كانت مهمة المفوضين هي انتزاع ما يمكنهم من الشروط التي اقتُرحَت قبل عامين، وقد وُفِّقوا إلى حدٍّ كبير في هذا الإطار.

(٧) مفاوضات السلام

وضع الإسبانيون والفرنسيون — لا البريطانيون — أولى العقبات في وجه الأمريكيين. عندما بلغ جون جاي باريس متوجسًا من إسبانيا وفرنسا بعد فشل مهمته في مدريد، وجد ما أكَّد شكوكه بصورةٍ مزعجة؛ حيث كشفت المباحثات مع السفير الإسباني بباريس، ومع متحدث باسم كونت فيرجين عن عزم الإسبانيين، بدعمٍ من فرنسا، على منع الأمريكيين من وادي المسيسيبي. كما أضرَّ الدعم الفرنسي للمطالب الإسبانية بالعلاقات الخاصة التي تجمع بين كونت فيرجين والمفوضين الأمريكيين، كان كونت فيرجين في السابق قد أيَّد تواصُل المفاوضات الفرنسية والأمريكية مع بريطانيا بصورةٍ منفصلة بعضها عن بعض، ولكن بخطًى متوازية، مع إدراك أن أيًّا من التسويتين لن تصبح سارية دون الأخرى. من ثم، واصل فرانكلين وجاي مفاوضاتهما على الشروط المبدئية مع البريطانيين، متجاهلَيْن — وكان لهما في ذلك مبررات قوية — إبلاغ الوزراء الفرنسيين — الذين فُرِضوا عليهما بموجب تعليمات الخامس عشر من يونيو ١٧٨١ — «بأكثر الاتصالات سرية ونزاهة بين الطرفين.» كما تجاهلا في التفاوض على التسوية الخاصة بهما مع بريطانيا العظمى مطالبة إسبانيا بالجزء الغربي شمال دائرة العرض التي تبعد عن خط الاستواء بمقدار ٣١ درجة، مُفترضَيْن — كما فعلت بريطانيا — استمرار تبعية هذا الجزء لبريطانيا العظمى، وحريتها في التصرف به.

كان فرانكلين في محادثاته غير الرسمية مع أوزوالد قد حدد ما اعتبره — بصفته أمريكيًّا — شروطًا «أساسية» وشروطًا أخرى «يُوصَى بها» لتحقيق سلام دائم. كان من بين الشروط التي عدَّها «أساسية»، بعد الحصول على الاستقلال وانسحاب القوات البريطانية: «قصر حدود كندا» على الحدود التي كانت عليها قبل قانون كيبك (أي عند خط سانت لورانس-بحيرة نيبسينج)، «إن لم يكن على حدود أصغر»، والاحتفاظ بامتيازات الصيد. أما الشروط التي «يُوصى بها» والتي من المتوقع أن تسهم في تحقيق تصالح دائم، فكانت تتضمن تعويض بريطانيا العظمى للمتضررين من خسائر الحرب، والاعتراف بالخطأ في مرسوم برلماني أو وثيقة رسمية أخرى، ومنح السفن والتجارة الأمريكية حق دخول الموانئ البريطانية والأيرلندية بنفس الشروط التي تتمتع بها بريطانيا، و«التخلي عن كل شبر من كندا».

عقب ذلك تأخر في المفاوضات، أولًا لعدم تمتع أوزوالد بتفويض رسمي بأنه ممثل للحكومة البريطانية، ثم بعد وصول تفويضه في ٨ أغسطس فإنه لم يخوله الاعتراف باستقلال الولايات المتحدة كشرط مبدئي للمفاوضات، بل على العكس فإنه خوَّله التفاوض مع ممثلين عن «مستعمرات» تابعة لبريطانيا العظمى، بيد أنه خوَّله بجعل قضية الاعتراف باستقلال الولايات المتحدة تحتل البند الأول من المعاهدة المقترحة. كان فرانكلين وجاي في بادئ الأمر يميلان إلى الإصرار على الاعتراف الرسمي باستقلال الولايات المتحدة كشرط لبدء المفاوضات، لكن خوفًا من انتهاز فرنسا لأي تأخر في إبرام المعاهدة للإضرار بمصالح الولايات المتحدة، اتفقا على قبول تفويض جديد يخول لأوزوالد التعامل مع مفوضي الولايات المتحدة الأمريكية كاعتراف بالاستقلال، إلا أنه بمرور الوقت ونتيجة للمكابرة والإصرار على الشكليات انقلب الموقف لما ليس في صالح الولايات المتحدة.

في الأول من سبتمبر، تلقى أوزوالد تعليمات بالموافقة على شروط معاهدة سلام تقوم على الشروط «الأساسية» التي اقترحها فرانكلين، تتنازل فيها بريطانيا للولايات المتحدة عن الجزء الغربي حتى خط بحيرة نيبسينج شمالًا، دون اشتراط سداد ديون ما قبل الحرب، أو تعويض الموالين عن الممتلكات المصادرة منهم. ووقَّع المُفوِّضُون بالفعل بالأحرف الأولى من أسمائهم على مسودة من المعاهدة تتضمن هذه البنود في ٥ أكتوبر وأُرسِلَتْ إلى لندن، غير أن النتائج المؤسفة لتأخر إبرام المعاهدة أصبحت واضحة. فقد وصلت إلى لندن أنباء عن فشل هجوم كبير على منطقة جبل طارق التي كانت تحت حصار القوات البرية والبحرية الإسبانية والفرنسية لثلاث سنوات. ومع هذا النصر بدأت نبرة إيرل شيلبورن إزاء الولايات المتحدة الأمريكية تصبح أكثر حزمًا؛ فلم يقتصر الأمر على الإصرار على سداد ديون الدائنين وتعويض الموالين فحسب، بل حاول كذلك في اللحظة الأخيرة الحفاظ على السيطرة على الجزء الشمالي الغربي، رغم أن هذا الإجراء الأخير قد لا يكون سوى محاولة تهدف للحصول على تنازلات في نقاط أخرى. وقد جاء في تقرير بنجامين فرانكلين أن البريطانيين «أرادوا أن تصل حدودهم جنوبًا إلى أوهايو، وأن يستقر الموالون في ولاية إلينوي، لكننا لم نختر هؤلاء الجيران.»

أصرَّ المبعوثون الأمريكيون — بعد أن عزز موقفهم انضمام جون آدامز إليهم — على الاحتفاظ بالجزء الشمالي الغربي، غير أنهم أبدوا استعدادًا لتقديم تنازلات في هذه النقطة ونقاط أخرى، فوافقوا على تضمين بنود لصالح الموالين والدائنين البريطانيين، وعلى أن يكون نهر سانت كروا — الذي اقترحه الكونجرس في البداية — هو الحد الشمالي الشرقي للبلاد بدلًا من نهر سانت جون، وهو ما وضع أساس جدل استغرقت تسويتُه ستين عامًا. من جهة الغرب، تخلى المفوضون الأمريكيون عن اقتراح مدِّ الحدود الأمريكية إلى بحيرة نيبسينج ووافقوا على قبول أي من بديلين: إما خط يمتد غربًا على طول دائرة العرض التي تبعد عن خط الاستواء بمقدار ٤٥ درجة من نهر سانت لورانس إلى نهر المسيسيبي، أو خط يمتد عبر منتصف نهر سانت لورانس والبحيرات العظمى، ومنهما عبر بحيرة ليك أوف ذا وودز إلى نهر المسيسيبي. قبِل البريطانيون بالخيار الثاني، ووُقِّعت معاهدة مبدئية بين الطرفين في ٣٠ نوفمبر عام ١٧٨٢ في باريس، لن تصبح سارية إلا عندما تعقد فرنسا معاهدة سلام مع إنجلترا.

fig3
شكل ٢-٢: خريطة حدود الولايات المتحدة الأمريكية بموجب معاهدة باريس.

ومن ثم، كانت المعاهدة التي وقَّعها وصدَّق عليها الطرفان ليست في صالح الولايات المتحدة الأمريكية في ثلاث نواحٍ مقارنة بالمسودة المُوقَّعة في ٥ أكتوبر؛ إذ تضمَّنت أحكامًا مزعجة فيما يتعلق بالموالين والدائنين البريطانيين، كما جاءت الحدود الشمالية للولايات المتحدة الأمريكية بموجبها تتبع خط نهر المسيسيبي وبحيرة نيبسينج بدلًا من المرور من خلال البحيرة. وبهذا التعديل الأخير خسرت الولايات المتحدة أثمن وأكبر جزء من مقاطعة أونتاريو الحديثة. ولو أبدى جاي وفرانكلين استعدادًا للتفاوض مع أوزوالد على أساس تفويضه الأول، لأمكن على الأقل الاتفاق على «الشروط الأساسية» التي طرحها فرانكلين في أوائل سبتمبر بدلًا من الاتفاق عليها بعد شهر، ولأمكن أن يقبل إيرل شيلبورن بهذه الشروط قبل أن تصله أنباء الانتصار في جبل طارق.

الأمر المميَّز بشأن المعاهدة هو أن الولايات المتحدة حصلت على كل هذا القدر الذي حصلت عليه، لا سيما مع تنازل بريطانيا عن حيازتها لجميع الأراضي شرق نهر المسيسيبي الواقعة بين البحيرات العظمى ودائرة العرض التي تبعد عن خط الاستواء بمقدار ٣١ درجة. ولتفسير هذا التنازل يجب ألا ننظر إلى الثِّقل القانوني لمواثيق المستعمرات أو الانتصارات الحربية التي أحرزها جورج روجرز كلارك، وإنما إلى سياسة إيرل شيلبورن المتفتحة المستنيرة؛ فقد دفعته رغبته في تحقيق التصالح السلمي إلى إدراك أن ثمة وسيلة لتحقيق ذلك بتكلفة زهيدة بالنسبة إلى الإمبراطورية البريطانية. بدا الجزء الشمالي الشرقي الذي طالب به الأمريكيون ذا قيمة هزيلة بالنسبة إلى بريطانيا العظمى؛ إذ تبيَّن أن تنظيم تجارة الفراء في تلك المنطقة يُكبِّد الخزانة الملكية البريطانية خسائر فادحة، وأظهرت التجربة أن المنطقة لم تكن ذات قيمة كبيرة من دون التحكم في مصب نهر المسيسيبي الذي بات يخضع لسيطرة مُحْكَمة مِنْ قِبَل إسبانيا أكثر من أي وقت مضى، فما المانع من شراء النوايا الحسنة الأمريكية بثمن بَخسٍ كهذا؟!

(٨) المعاهدة

نصَّتْ تفاصيل الأحكام الرئيسية للمعاهدة المبدئية التي وقَّعها الطرفان في ٣٠ نوفمبر عام ١٧٨٢ على التالي: تبدأ حدود الولايات المتحدة من مصب نهر سانت كروا عند حدود ماين، وتمتد على طول ذلك النهر إلى منبعه، ومنه شمالًا إلى المرتفعات التي تفصل بين نهر سانت لورانس وحوض مياه المحيط الأطلنطي، على امتداد هذه المرتفعات إلى أقصى نقطة في الشمال الغربي لنهر كونيتيكت، وعلى طوله إلى دائرة العرض التي تبعد عن خط الاستواء بمقدار ٤٥ درجة، مع امتداد هذا الخط حتى نهر سانت لورانس. ومن وسط هذا النهر ووسط بحيرات أونتاريو وإيري وهورون والتي تتصل ببحيرة سوبيريور، ومن خلال تلك البحيرة إلى بحيرة لونج ليك، ثم عبر بعض البحيرات الصغيرة والجداول إلى بحيرة ليك أوف ذا وودز والتي كانت من المفترض أن تمتد من أقصى نقطة في الشمال الغربي لها حدود البلاد الغربية حتى نهر المسيسيبي. وهو خط حدود يستحيل وضعه؛ حيث إن نهر المسيسيبي يتجه جنوبًا تمامًا. يمتد هذا الخط مع نهر المسيسيبي جنوبًا حتى دائرة العرض التي تبعد عن خط الاستواء بمقدار ٣١ درجة، ويمتد شرقًا موازيًا لدائرة العرض هذه حتى نهر تشاتاهوتشي ويتبع مجراه إلى نقطة تقاطعه مع نهر فلينت، ومنها يقفز مباشرة إلى منبع نهر سانت ماري الذي يتبعه وصولًا إلى المحيط الأطلنطي. اشترطت فقرة سرية طرَحَها البريطانيون لكن لم تنص عليها المعاهدة النهائية أنه إذا احتفظت بريطانيا العظمى بغرب فلوريدا، فستكون الحدود الشمالية لتلك المقاطعة هي الحدود ذاتها التي حدَّتها منذ عام ١٧٦٤؛ أي ليس دائرة العرض التي تبعد عن خط الاستواء بمقدار ٣١ درجة، بل خط يمتد شرقًا من نقطة التقاء نهر يازو بنهر المسيسيبي. وتقرر أن تظل الملاحة بالمسيسيبي «مجانية ومفتوحة لرعايا بريطانيا العظمى ومواطني الولايات المتحدة» إلى الأبد.

اعترفت بريطانيا العظمى باستقلال الولايات الثلاث عشرة وسيادتها، كلٌّ بصورة مستقلة، ووعدت بسحب جيوشها ومواقعها العسكرية وأساطيلها من الأراضي والمياه الإقليمية الأمريكية «بأقصى سرعة ممكنة»، وأتاحت للصيادين الأمريكيين «حرية» ممارسة عملهم في المياه الإقليمية للمستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية كما كان الوضع في الماضي. ومن جانبها، قدَّمَت الولايات المتحدة بعض الوعود التي تخدم مصالح الموالين والدائنين البريطانيين. واتفق الطرفان على أن الدائنين من كلا الجانبين يجب «ألا يواجهوا أي عقبات قانونية» في استرداد كامل مستحقاتهم من الديون الصحيحة السابقة، ووافقت الولايات المتحدة على عدم ملاحقة أي أشخاص أو مصادرة أملاكهم بسبب الدور الذي لعبوه بالحرب، ووعدت بأنها «ستقدم توصيات جدية» للمجالس التشريعية بالولايات تنصح فيها باستعادة الموالين لحقوقهم وأملاكهم، باستثناء بعض الحالات.

شكلت المعاهدة المبدئية — باستثناء الفقرة السرية منها — المعاهدة النهائية التي وقَّعها الطرفان في ٣ سبتمبر عام ١٧٨٣؛ أي في الفترة نفسها التي تصالحت فيها بريطانيا مع أعدائها الآخرين. وتنازلت بريطانيا العظمى عن مستعمرات فلوريدا — دون تحديد الحدود — لإسبانيا التي لم تكن طرفًا بالمعاهدة بين بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، ومن ثم لم تعتبر نفسها مقيدة بأحكام المعاهدة فيما يتصل بالملاحة في نهر المسيسيبي والحدود الجنوبية للولايات المتحدة. من هنا، كان على الولايات المتحدة تجاوز العديد من الصعوبات مع كلٍّ من إسبانيا وبريطانيا العظمى قبل أن تتحول شروط معاهدتها من حبر على ورق إلى حقيقة ملموسة.

(٩) مشكلات الاستقلال

سرعان ما أدرك الأمريكيون أن الطريق إلى الاستقلال ليس مفروشًا بالورود. وبنهاية الحرب رسميًّا في عام ١٧٨٣ اعترفت فرنسا وبريطانيا العظمى وهولندا والسويد بالحكومة الأمريكية الجديدة، وجاب الدبلوماسيون الأمريكيون حديثو الخبرة دول أوروبا بلا جدوى للحصول على اعتراف رسمي بالولايات المتحدة من روسيا وبروسيا والنمسا وإسبانيا ودوقية توسكانا الكبرى؛ حيث لاقوا في بلاط هذه الممالك استقبالًا فاترًا. عدد قليل فقط من الملوك كان على استعداد لتقليد تسرع الملك لويس السادس عشر ملك فرنسا بتأييد التمرد وتأسيس حكومة جمهورية بالولايات المتحدة.

تلا الاستقلال اعتراف القليل من الدول بالولايات المتحدة الأمريكية. وأخيرًا في عام ١٧٨٤ استسلمت إسبانيا وأرسلت دون دييجو دي جاردوكي بصفته أول وزير مفوض لها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ووقَّعت بروسيا معاهدة مع الولايات المتحدة عام ١٧٨٥، ووقَّعت المغرب معاهدة عام ١٧٨٦. وبحلول عام ١٧٨٧، أصبحت لدى الولايات المتحدة معاهدات تجارية مع هاتين القوتين ومع فرنسا (١٧٧٨)، ومع هولندا (١٧٨٢)، ومع السويد (١٧٨٣)، فيما لم تقم معاهدات تجارية بينها وبين بريطانيا العظمى حتى عام ١٧٩٤، ولم تربطها بإسبانيا أي معاهدات حتى عام ١٧٩٥. لم تُقِم الحكومة البريطانية وزنًا كبيرًا للولايات المتحدة حتى إنها لم تبعث وزيرًا يتمتع بصلاحيات كاملة إلى فيلادلفيا حتى عام ١٧٩١، رغم أنها استقبلت جون آدامز بصفته وزيرًا لها عام ١٧٨٥، وكان لها ممثلون قنصليون وممثلون في الموانئ الأمريكية.

كانت هناك أسباب «لضعف مكانة» الولايات المتحدة المؤقت هذا؛ فقد كانت دولة وليدة، ونتاج ثورة، وتجربة ديمقراطية، وتعداد سكانها ضئيل، وتفتقر إلى الموارد السائلة، كما أن حكومتها — بموجب بنود الاتحاد الكونفدرالي — لم تتمتع بما يدعو أي قوة أجنبية إلى احترامها؛ فهي حكومة لا تمتلك دخلًا يمكن أن تعتمد عليه، وحكومة بلا جيش أو أسطول بحري، وبلا قوة تساعدها على فرض سيطرتها على حكومات ولاياتها الثلاث عشرة. حكومة كهذه غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها بموجب معاهدة السلام مع بريطانيا، وحكومة كهذه لا تستطيع قطع وعود مع ضمان أنها ستلتزم بها، أو إصدار تهديدات مع توقع أنها ستكون قادرة على تنفيذ تهديداتها. كما لم يمكنها ضمان المساواة في المعاملة التجارية بالخارج، ولم تستطع فرض سيادتها على المنطقة التي عُهِدَتْ إليها بموجب معاهدة السلام أو إنهاء الاحتلال الأجنبي على أرضها سواء بالقوة أو بالجهود الدبلوماسية. لم تُحَل أيٌّ من المشكلات القومية المُلِحَّة إلا بعد أن حل محل هذه الحكومة حكومة أكثر فعالية بموجب دستور عام ١٧٨٧، وحتى عندئذٍ كان الفضل في الحلول التي وضعتها يعود بدرجة كبيرة إلى تورط فرنسا وإسبانيا وبريطانيا العظمى في حروب الثورة الفرنسية. وهكذا، كما قال البروفيسور صامويل إف بميس في مقولته الشهيرة: «أضحت مصائب أوروبا فوائد لأمريكا.»

هوامش

(1) © Getty Images.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤