سلامش

«قد تختلف الشعوب، وقد تقوم الحدود بين الدول وتثور فيها الحروب، ولكن القلب الإنساني يجمع بينها ويزيل أحقادها.»

دافع المحصورون في أنطاكية دفاع الأبطال. لم يتركوا الأسوار حتى لم يبقَ بها ركن غير مثلوم. ولم يَدَعوا الضرب حتى لم يبقَ لمجانيقهم حجر يقذفون به أو نار يلقون بها على أعدائهم. وانتصرت جنود السلطان بيبرس، ودخلت المدينة في أبهة النصر واختيال القوة. وكانوا وهم يدخلون المدينة لا ينسون أنهم فتحوا أكبر معقل بقي للنصارى في الشام، بعد أن كانوا قد بسطوا أيديهم على ذلك القطر كله.

وكان قائد الجند «سلامش» شابًّا في مقتبل العمر، لو رآه أحد في غير لباس الحرب لظنه أحد أبناء الملوك المنعمين. وجه مشرق وقوام ممشوق ورأس عالٍ وعين تنطق بالسيادة. وكان في عدة الحرب عليه اللامة والدروع وفي يده الرمح وفي منطقته السيف، راكبًا جواده الأصيل في صدر جنوده، ناظرًا إلى الأمام معبسًا جادًّا.

وكان يوم دخول أنطاكية يومًا مشهودًا، فكان نساء المدينة وصبيانها أسرى ينتظرون حكم الفاتح فيهم! وكان رجالهم وشبانها بين مقيد في الأصفاد وجريح يُعنى به في خيام العلاج، وقتيل طريح على جانب الأسوار. وبلغ القائد وجيشه ميدان المدينة الأكبر، وقد احتشد فيه الأسرى والضعفاء يتطلعون جميعًا إلى مَن في يده الحكم في مصائرهم. وهدأت الأصوات، وأومأ القائد للجيش بالوقوف حول الميدان. فوقف الجند ينظرون إلى أكوام الغنائم التي أمر السلطان الأعظم أن تُقسم بينهم، وهي من كل نفيس ونادر من تحف الأمراء والأغنياء. ووقف جماعات من سبايا الحرب بين صبية وعذارى وبين كهول وشبان ينظرون إلى قيودهم حانقين، أو يبكون ويندبون معولين.

وتقدم نحو سلامش وفدٌ من كبار المدينة وأمرائها، حتى إذا ما صاروا منه على بضع خطوات ركعوا له ووقفوا يطلبون الإذن بالكلام، فأذن لهم وهو معبس على عادته، لا تفارقه تلك النظرة الصارمة التي في عينَيْه. وجعلوا يتكلمون بلسانهم ورجلٌ منهم يترجم ما يقولون، فطلبوا أن يمنَّ عليهم القائد بالحرية وأن يهبهم نساءهم وذراريهم تقربًا إلى الله الذي نصره، بعد أن وضعت الحرب أوزارها ودانت المدينة لحكم السلطان الأعظم. وقالوا له فيما قالوا: «حسبك مَن قتلت من شبابنا وكهولنا، وما خربت من ديارنا ومعاهدنا، فلئن كانت بنا كبرياء لقد ذلت، ولئن كانت فينا عزة لقد هانت، وكفاك من الحرب النصر، فلا تضم إليه دموع المساكين ولهيب الفراق بين الأبناء والوالدين.»

غير أن سلامش بقي على تعبيسه ووجومه، ولم يجب إلا بإشارة لجنوده أن يعيدوا الأسرى إلى معسكر السلطان حتى يرى فيهم رأيه الأخير، فلم يكن للوفد إلا أن يرتدَّ كليلًا حسيرًا.

ثم أمر القائد جنوده بالمسير إلى مخيمه، وسار في الطليعة يتقدمهم، لولا أن استوقف نظره جماعة من الجند يجرون شخصًا وهو يمانع ويجاهد. وتأمل الشخص فإذا هو امرأة من الأسرى. واقترب سلامش منها فرأى شابة جميلة ممشوقة فارعة، بوجهها صفرة قد غطتها حمرة، وفي عينَيْها حلاوة قد غشيتها صرامة، وهي تنظر إلى الجنديَّيْن اللذَين يدفعانها مرفوعة الرأس كأنها تتحداهما جامدة العينَين مضمومة الشفتَين. وقد تمزق ثوبها وتلطخ من آثار الوسخ والدماء، فلا يكاد يستر من جسمها إلا ما يستر ظل أوراق الشجر من صفحة الجدول. وكان شعرها الفاحم الغزير يغطي كتفيها لامعًا في ضوء الشمس الغاربة كأنه الحرير. فرق لها قلبه، وتمهدت عبسته ولانت نظرته، وأشار إلى الجنديَّيْن أن يكفَّا عنها. ثم نزل إليها وأخذ بذراعها مترفقًا، فأسلمت له وسارت معه، حتى اقترب من شيخ فقيه من أهل المدينة كان في صحبة الجيش فأمره أن يترفق بها حتى تذهب إلى خيمته. ولما ركب جواده استعاد نظرته الصارمة وعبسته، وألقى الأمر بالمسير، وقضى سائر اليوم في شغل من أمر جيشه حتى انتصف الليل.

ولما أوى إلى خيمته تذكر الفتاة التي كانت أعمال اليوم قد أنسته ذكراها، فأمر غلامًا أن يحضرها إليه، وجلس يستعيد صورتها، ويتمثلها وهي تناضل على ضعفها، وتتكبر على ذلها.

وغاب الغلام قليلًا ثم عاد وحيدًا، وقال له بعد التحية: «إنها لا ترد بكلمة ولا ترفع إلى أحد بصرها.»

فصرفه سلامش وجلس هنيهة يفكر، ثم نهض متثاقلًا وسار إلى خيمتها، فرآها جالسة على الأرض وقد وضعت رأسها بين كفَّيْها.

فدنا منها ووضع يده على رأسها، وتبسم ابتسامة ضئيلة وقال: يحزنني أنهم أساءوا إليك.

فانتفضت الفتاة رافعة رأسها وقامت تنظر إليه والحقد مرتسم على محياها والغضب يضطرم في عينَيْها، وكانت الملابس الرثَّة التي أتت بها قد بُدلت وأُلبست حلة من الحرير جعلت وجهها المصفر وعليه آثار الدموع يبدو كالزنبقة المبللة بالندى، ودفعت يده عنها قائلةً وفي صوتها بحة: أبعد يدك عني أيها القاتل السفاك. أَدِرْ وجهك الكريه عني. فأنت قاتل أبي وأخي، وأنت سافك دماء قومي، وأنت المعتدي على وطني. ابعد عني وافعل ما شئت من عذاب أو قتل، تكمل به وحشيتك وفظاعة جندك.

وكانت في ثورتها تقذف بنظرات كالسهام وصدرها يعلو ويهبط، وشعرها الطويل الأسحم يضطرب فوق كتفَيْها وعلى صدرها.

ودُهِشَ سلامش من قولها، ولم تفته فصاحة لفظها ولا رخامة صوتها. ولكنه لم يجب بكلمة، بل رفع حاجبَيْه وانثنى راجعًا إلى خيمته يسير في بطءٍ وفي قلبه شيء يشبه الحزن.

وأرسل إلى الشيخ الفقيه يستحضره، فلما أتى جعل يسأله عن المدينة وأهلها، وعن تلك الفتاة وبيتها، فعلم منه أنها ابنة تاجر من أهل أنطاكية قرأت أدب العرب كما قرأت أدب الفرس، وكان لها أخ قُتل في أثناء الحصار ومات أبوها يوم الفتح عند أبواب المدينة تحت سنابك الجيش الظافر.

وسمع سلامش تلك القصة صامتًا وقلبه يتكلم، وبات تلك الليلة والأحلام تتخلل نومه حتى لاح الفجر، فصحا وهو مضطرب النفس قلق البال.

ولكن أعمال اليوم لم تترك له متسعًا للتفكير في الفتاة ولا في همومها، حتى إذا انقضى اليوم وعاد في المساء إلى خيمته بادر بالذهاب إليها. ولما اقترب منها هذه المرة تردد وترفق ووقف إلى جوارها هنيهة يتأملها في صمت، ثم قال بصوت خفيض: لعلك اليوم أهدأ مما كنت بالأمس.

فلم ترفع إليه بصرها، بل بقيت جالسة ورأسها بين كفَّيْها.

ورأى قريبًا منها مائدة صغيرة عليها طعام لم تمتد إليه يد، فقال وهو يتكلف الهدوء والجفاء: هل تريدين أن تموتي جوعًا؟

فلم تجبه بحرف، وجعلت تبكي وتحاول كتمان نحيبها. فقرب منها وحاول أن يضع يده على رأسها وهو محترس متلطف، ولكنه ما كاد يلمسها حتى نفرت منه وصاحت به قائلةً: أقول لك اتركني …

فأبعد يده عنها، وتراجع ناظرًا إليها لحظة، ثم خرج مسرعًا وفي قلبه حزن وقلق.

وقضى ذلك اليوم موزع القلب كئيبًا، وصرف أمور الحكم متبرمًا غاضبًا، حتى عجب الناس أن تكون تلك حاله بعد ما أحرز من النصر وما بلغ من المجد والتوفيق. وما انتهى من عمله حتى أسرع إلى سرادقه ووقف هذه المرة مترددًا وجلًا، قبل أن يذهب إلى خيمة الفتاة. وكانت ما تزال على ما كانت عليه في الصباح، والمائدة الصغيرة عليها عشاء لم تمتد إليه يد.

ونظر إليها مليًّا ثم قال برفق: أمَا تكلمينني؟ إنني أرجوك أن تنظري إليَّ وتنطقي بما يجول في نفسك ولو كان قاسيًا.

ثم مد يده إلى رأسها ومسح عليها متلطفًا، فلم تَثُرْ هذه المرة ولم تغضب ولكنها بقيت ساكنة في مكانها كئيبة.

فجلس إلى جوارها يحاول أن يحادثها، وهي لا تجيب إلا بدمعة تثور بين حين وحين في عينَيْها فتمسحها بمنديل ثم تعود إلى وجومها وسكونها، فقال لها ولسانه ينم عن مقدار عطفه وحزنه: إنني لا أريد إيلامك، بل إني لا أحب أن أراك متألمة. ولو عرفت أن ألمك يزول بإبعادك عني لفعلت. ألك أهل في عكا أو في مدينة أخرى من المدن فأرسلك إليهم؟

فهزت رأسها وقالت: ليس لي أهل. قد قتلتهم جميعًا، ويا ليتني قُتلت معهم.

ثم شهقت بالبكاء واسترسلت في هزة مرة من الحزن.

ولم يملك سلامش قلبه من أن يجيش بالحزن، وقال لها في تأثر: إنني أرحمك في حزنك الذي لا أملك دفعه. كان أهلك أعدائي، وكنا معًا في ميدان قتال يسعون فيه إلى قتلنا كما كنا نسعى إلى قتلهم. وهل للشجعان مصير إلا الموت في ميدان الحرب؟ ولو كان أهلك بين هؤلاء الأسرى لما ترددت في افتدائهم من أجلك، ولكنهم في غير حاجة إليَّ ولا إليك. إن حزنك يؤلمني وإن كانت كبرياؤك قهرت كبريائي. إذا شئت أن تبعدي إلى مكان تختارينه كان لك ما تشائين، وإن أحببت المقام هنا كنت في أعز مكان عندي.

figure

فنظرت الفتاة نحوه وقد زال من عينَيْها ذلك البريق القاسي الذي كان يلوح منهما كلما نظرت نحوه من قبل، وأطالت نظرتها إليه حينًا ثم أغضت صامتة.

ولم يذهب سلامش ذلك المساء إلى خيمته حتى كان قد قاسمها بعض الطعام الذي كان على المائدة.

وجاء بريد السلطان في الصباح يحمل إلى سلامش أمرًا بالسير إلى دمشق بمن معه من الجند، ووهب له المدينة يتصرف في غنائمها كما يشاء اعترافًا ببسالته وجزاءً على انتصاره العظيم.

وقضى سلامش يومَين كاملَين في الاستعداد للمسير إلى دمشق. وبكر في يوم الرحيل إلى خيمة الفتاة، وهو خفيف الخطوة متهلل النفس، فرآها راقدة على أريكة. فلما وقع بصرها عليه جال على وجهها طيف ابتسامة واعتدلت في مكانها. ولما حياها تحية الصباح ردَّت تحيته، ثم جلس قريبًا منها وأخذ يحدثها، وكان في حديثه خفيض الصوت مهتز النبرات.

قال لها: لقد أمرني السلطان أن أسير إلى دمشق.

فلم تجبه، بل نظرت نحوه كأنها تنتظر لحديثه تتمة، واستمر قائلًا: وقد أراد السلطان العظيم حفظه الله أن يهبَ لي هذه المدينة، فهل لك مطلب فيها؟

فصاحت الفتاة ومدت نحوه يدَيْها قائلةً: إذًا فالمدينة في يدَيْك؟

فقال لها: هي كذلك، فاطلبي ما تحبين …

فصاحت الفتاة قائلةً: ماذا تفعل بالأسرى؟

فتبسم سلامش نحوها وقال: هم لك يا … لم أعرف اسمك بعد.

فأجابت وصوتها يتهدج من الفرح: أونوريا!

فقام ومد يده نحوها وقال: هم لك يا أونوريا!

فمدت يدَيْها وأمسكت بيدَيْه الممدوتين وقالت: ما اسمك أنت؟

فقال باسمًا: سلامش …

فنظرت إلى وجهه لحظة، ثم تركت يَدَيْه وأطرقت إلى الأرض. واستمر هو قائلًا: وأحب أن أعرف أين تذهبين. لك أن ترجعي إلى دارك إذا شئت عزيزة في ظل السلطان العظيم. ولك أن تذهبي حيث شئت في دولته الفسيحة …

فنظرت الفتاة نحوه وترددت قليلًا، ثم قالت في حياء: وأنت؟ …

فقال سلامش وهو يمانع نفسه من الاضطراب: اليوم أسير إلى دمشق.

فسكتت الفتاة لحظة ثم مدت يديها بحرارة وقالت: سلامش! وأنا كذلك إلى دمشق أسير.

ثم ارتمت بين ذراعَيْه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤